الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


(مدار السرطان دائماً وأبداً): إعادة زيارة هنري ميللر

أحمد ماجلوار
كاتب

(Magloire)

2023 / 3 / 21
الادب والفن


شتاء 2011.
مخزن الذخيرة بالهيئة الهندسية للقوات المسلحة. البندقية نصف الآلية معلقة في رقبتي وقدماي تتجمدان داخل البيادة. غطاء الرأس يغطي أذناي وأنفاس السجارة المشتعلة تفشل كالعادة في بث الدفء في جسدي. أما عيناي فكانتا تحدقان بدهشة في النص الإنجليزي المطبوع بحروف صغيرة علي ورقة الطباعة البيضاء A4.
(( في الليلة الفائتة اكتشف بوريس أنه قمل، وتوجب قص شعر تحت إبطه، لكن الحك لم يتوقف حتى بعد القص. كيف يمكن للمرء أن يقمل في مكان جميل كهذا؟))
كنت في الثانية والعشرين من العمر. تخرجت حديثاً في جامعة القاهرة، وأقضي عام التجنيد الإجباري مع مجموعة من الخريجين الجدد أغلبهم من أصحاب الحظوة الاجتماعية. في المكتب نهاراً حمّلت نص (مدار السرطان) الإنجليزي بصيغة HTML، ونسقته علي برنامج WORD بأصغر خط مقروء ممكن، وقمت بطباعة ما يقرب من ربع الكتاب الأول علي عدد قليل من الأوراق علي الوجهين.
أحاول تذكر المرة الأولى التي سمعت فيها اسم ميللر. من الصعب التحديد بدقة. قد تكون في أفلام نواه بومباخ أدبية الطابع. علي الأرجح من المنتدى الأدبي لتشاك بالانيك علي الإنترنت، المنتدى الذي كان لنادي الكتاب الشهري الخاص به الفضل في تعريفي وإطلاقي في الأدب الأمريكي بشكل خاص.
في إجازتي العسكرية التالية، شاهدت فيلم Miller & June الذي أبهرني وقتها، لكنني أعرف الآن أنه لا يفي ميللر حقه كاملاً. وركز الفيلم من صورة ميللر في خيالي على أنه الشخص الفج الذي يقتص لنفسه النصف الأعلي من الكعكة في حفل طعام. فكانت الرسالة الميللرية (1) حسب فهمي آنذاك هي أنه من المقبول أن تكون تلقائياً طبيعياً أنانياً صريحاً فاحشاً، ولكن دون أن تكون وغداً أو مجرماً أو مؤذياً جسدياً.
ولازلت أذكر تأثير الجمل البارزة في صدر مدار السرطان في تلك القراءة الأولى علي غرار (قمل إبط بوريس): ((إنني لا أملك أي نقود، وليست لدي آمال، أنا أسعد إنسان على قيد الحياة. )) و (( فما هذا إذن؟ هذا ليس كتاباً، إنه تشهير، افتراء، تشويه سمعة، هذا ليس كتاباً، ليس بالمعني العادي للكلمة. كلا، بل هو إهانة مطولة، بصقة علي وجه الفن، رفسة علي قفا الله، والإنسان، والقدر، والزمن، والحب، والجمال...)).
كنت مفتوناً بهذا الكلام. تلك الفتنة الشبابية العصبية الصادقة. ذلك الاستعداد الحماسي للانضمام إلى عصابة ميللر. كانت القوات المسلحة تجند جسدي، وكان ميللر بكلماته يجند قلبي في نفس الوقت. وأما مصدر هذه الفتنة فهي تلك السهولة/ السيولة التي تنساب بها الكلمات بطريقة حررتني فور تعرضي لها من مثاقل الالتزام والتحرير الأدبيين. كنت أتصور أنها مجرد مذكرات حرة تلقائية جامحة لا قيود لها، وأن كل كاتب من العصابة الميللرية لقادر على الإتيان بمثلها بقليل من التحرك في المجتمع والخوض في المغامرات (دفع النفس). لم أحس في قراءتي الأولى بالخدمة الليلية، بعمق قاع جبل الجليد، بل كنت مأخوذاً بهذه الحرية في السباحة وتلك القدرة علي الطفو:
(( ولا يزال السائل ينز من بين ساقيها، وعبق سنوري دافئ يفوح وشعرها في فمي. عيناي مغمضتان. كل منا يتنفس من فم الآخر. ملتصقان بإحكام، وأميركا تبعد ثلاثة آلاف ميل.. (..) الوقت بعيد انبلاج الفجر بقليل، نحزم أغراضنا علي عجل، ونتسلل خارجين من الفندق. لا تزال المقاهي مغلقة. نمشي، وبينما نحن سائران نهرش بعضنا، ينبلج النهار ببياض حليبي، السماء مخططة بخطوط قرمزية بلون السلمون، والحلازين تغادر أصدافها. باريس. باريس. كل شيء يحدث هنا. ))
في الصباح التالي، غيرت ملابس الخدمة الليلية إلي الملابس المريحة زيتية اللون. القبعة العسكرية علي رأسي، أؤدي التحية العسكرية للضباط في الممرات. تجمعت وزملاء خدمة الأمس عند السلم نستعد للخروج من الوحدة في إجازة جديدة، عندما مر بناء (صول) أمن الوحدة. ويعرف كل من خدم بالجيش معني كلمة (صول أمن الوحدة) جيداً. لم نؤدي التحية العسكرية لأنها لا تؤدى لما دون الضابط، لكن الرجل بادرنا في حبور غريب عليه: "سلام عليكم يا رجالة." رددنا السلام. وكان قد مضى عدة خطوات بالفعل في نزول السلم عندما عاد أدراجه إليّ من بين زملائي، مركزاً عينيه الضبعيتين، ومشيراً بإصبعه السبابة إلى الجيب الأيسر العلوي من سترتي الزيتية قائلاً: "ايه ده؟"
سنتيمتراً واحداً بارزاً من الورق الأبيض خارج عن حد الجيب العلوي.
واستخرج (الصول) الأوراق من جيبي، فردها بين يديه وتأمل النص الإنجليزي المكدس بلا فواصل أو مساحات فارغة. رفع عينين متذاكيتين إليّ منتظراً التفسير.
كنت في (الفاول مود) كما يقول الإنجليز بسبب هذا الاعتداء اللصوصي علي خصوصيتي. وقصدت توكيد الفروق الثقافية بيننا عندما أجبته بأن هذه الأوراق هي جزء من دراستي للماجستير، فأنا مهندس. قلب الرجل الأوراق مرة أخري بين يديه متفحصاً، حتى ملاحظاتي المكتوبة علي الهوامش الجانبية للورقة كانت باللغة الإنجليزية. قال بصوت لا يزال يرن في أذنيّ عبر الزمن: "مش قلنا ممنوع الورق؟"
ويالها من مفاجأة، في إعادة زيارة هذا الكتاب الآن في منتصف الثلاثينات من العمر، اكتشاف أنه لا يزال يهدر بالطاقة!
ويالها من مفاجأة أخرى، العلم بأنه مكتوب ومُعاش عندما كان المؤلف في أواخر ثلاثينياته! أي أن كل هذه الطاقة المتدفقة بين ضفتي الكتاب ثلاثينية وليست عشرينية؟ أي نوع من الطاقات الهادرة هذا الذي يتدفق في أواخر الثلاثينيات؟ وكان هذا هو "الإلهام الثاني" لو صح التعبير. حيث أعدت اكتشاف الكتاب، وأعدت اكتشاف الربع الأخير، أجمل أرباع الكتاب، ووجدت الإشارة بليغة بالفعل في النص نفسه قرب أواخره، يقول المؤلف: (( إنني أحب كل ما يتدفق (..). الأنهر. المجاري. حمم البراكين. المني. الدم. الصفراء. الكلمات. الجمل. أحب الدفق النخطي amniotic fluidحين يقذف من الكيس. أحب الكلية بحصياتها المؤلمة، وأحجارها وكل شيء، أحب البول الذي يتدفق، والسيلان الذي لا يتوقف)). ويستمر الوصف والتدفق فيما يُعد حقاً "رسالة في السيولة". سيولة متأخرة. حيث لا يمكنك ألا تلاحظ شيئاً من التأخر الخصيب –بقصدية أدورنو- في مغامرات ميللر بوصفه رجلاً ثلاثينياً متبطلاً يجول بين مقاهي وفنادق باريس، يصاحب الكُتّاب ويرافق العاهرات، بينما زوجته في أمريكا. ومع ذلك، وبشكل مضاد لكل الرؤي السياسية الحديثة، لا تزال دفقاته تهدر في خصوبة مدهشة.
يمكن بسهولة في القراءة الأولى اعتبار مغامرات ميللر كنزوات رجل في منتصف عمره. ما الذي يدفع رجلاً متزوجاً لعبور المحيط الأطلنطي، ولعب لعبة الكاتب البوهيمي مع صعاليك باريس، سوى ذلك. ولكن في ربعه الأخير أثناء القراءة الثانية المتأخرة، بدا لي الكتاب علي حقيقته. هذا ليس كتاب مغامرات. بل هذه هي كتابة فلسفية راقية المستوى. والسبب في كشفي لقاع الجبل الجليدي العملاق ذاك هو عملاق آخر. عملاق ماروسي (2). تحفة ميللر الخالدة وأفضل كتبه باختياره واعترافه. الكتاب الذي يحتاج لدراسة منفصلة توفيه حق قدره، لكنني استخدمه هنا كمفتاح فك شفرة النفاذ إلي روح نص (مدار السرطان): خلف كل هذه المغامرات السرطانية في باريس، تقبع كل مفاتيح الرسالة الميللرية كامنة. لم تفتحها القراءة الأولي المندهشة في الخدمة الليلية. بطبيعة الحال لم تكن قادرة علي فتحها لأنها نائمة هناك خلف النص كخلية سرطانية. لكن الآن بعد الانفجار في عملاق ماروسي، أستطيع أن أرى بوضوح كل ما فاتني. حتى أستطيع ان أرى في الربع الأخير من مدار السرطان فتحاً ماروسياً مبكراً. كأنها رسالة مستقبلية مدسوسة دساً في برقية من الماضي.
في عملاق ماروسي، ميللر في الأربعينيات من عمره، يزور لورانس داريل الشاب في بيته في جزيرة كورفو باليونان. يتكلم النقاد عن الكيفية التي تحدثت بها البيئة الطبيعية في اليونان إلي ميللر، مجسدة له المجال الطبيعي للتعبير عن ذروة رحلته البحثية عن روحه. هراء! كل شيء كامن هنا منذ البداية في (مدار السرطان). ما اليونان سوى انفجار. لكن الغليان كله كان هنا في باريس. ازدراء الحضارة المادية. التخلي. كراهية القوميات الزائفة. نبذ فنون الحضارة الأوروبية المعيارية كلها. التبول علي الكتاب والشعراء المكرسين. جوتة! بعد قراءة آلام فرتر، كنت أميل شخصياً إلي تقديس جوتة. لكن ميللر ازدراه بما يكفي في (مدار السرطان). حتى نيتشة لم يفعل ذلك، ونيتشة يزدري الجميع. أيضاً تقريظ ميللر النادر لوايتمان في عملاق ماروسي، موجود هنا أيضاً بشكل ما في صورته المبكرة.
يتكلم ميللر في (مدار السرطان) كطبيعي حقيقي(3). تجرد من كل أقنعته. كأنه لا يريد الكلام عن شيء لم يحس به. يخاطر بلمس قاع الحياة الإنسانية بما يجلبه ذلك من حضيض بائس ومرارة جارحة، كأنه أراد هزيمة الحياة عن طريق المرور عبرها. ما لا تكشفه المغامرات المتتالية في (مدار السرطان) هو الجهد الكتابي المرفق. القلم الذي صاحب هذه المغامرات، والدفاتر، والتحرير، وأوقات الكتابة، إلخ. هذا يظهر أكثر في عملاق ماروسي. تشعر أن هناك قلماً أنضج، عقلاً أهدأ، في كل سطر. صياغة حقيقية محررة للأفكار الكامنة كلها في مدار السرطان. كأن التقاطاً قد جرى هناك، وعملية تحرير رفيعة المستوى قد تمت لإتمام المهمة التي بدأت بفوران فوضوي في مدار السرطان. لا بد وأن نوفي اليونان كبيئة طبيعية عذراء حق دورها في هذه المهمة أيضاً. كريت كذلك. لم يدرك ميللر قط مقدار كراهيته لباريس إلا عندما رأي اليونان. لهذا أصنف ميللر كطبيعي. حسن، ليس عمرانياً مثل زولا. لكنه روحاني أكثر. ارتباطه الدامغ بالأرض، التراب، الصخور، البحر، السموات في اليونان. ثم بناسها الأصليين –نقطة ضعف زولا-: كاتسمباليس (يحتاج بحثاً مستقلاً) وسيفرس والآخرون من غير الأدبيين من أهل اليونان، وسلاسته في الحديث عنهم، ونفوره من المستغربين منهم.
يتكامل الكتابان ويتطابقا بصورة مذهلة، حتي يكاد عملاق ماروسي يكون هو مدار السرطان ولكن بدون كل الجنس الهيستيري. إلا أن عملاق ماروسي يبقى أسهل في القراءة، وأكثر قابلية للكسر والنفاذ، من الفوضى الدافقة المدهشة والمبدعة في مدار السرطان.



المراجع
مدار السرطان-هنري ميللر، ترجمة أسامة منزلجي، دار المدي، 2014.
عملاق ماروسي-هنري ميللر، ترجمة أسامة منزلجي، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، 1983.
اعترافات هنري ميللر في الثمانين، ترجمة خالد النجار، كتاب الهلال، 2000.

الهوامش
1- "الرسالة الميللرية" عنوان مقابلة للصحفي كريستيان دي بارتيا مع هنري ميللر وهو في الثمانين من عمره.
2- "عملاق ماروسي" اسم أفضل كتب هنري ميللر علي الإطلاق، والصادر عام 1941، والعنوان يشير إلي الكاتب اليوناني جورج كاتسمباليس.
3- استخدم كلمة "طبيعي" هنا بمعني الناشط والناقد المعني بالبيئة الطبيعية والتفاعل معها، وهي إشارة للمدرسة الطبيعية في الأدب.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تكريم إلهام شاهين في مهرجان هوليود للفيلم العربي


.. رسميًا.. طرح فيلم السرب فى دور العرض يوم 1 مايو المقبل




.. كل الزوايا - -شرق 12- فيلم مصري يشارك في مسابقة أسبوع المخرج


.. الفيلم اللبنانى المصرى أرزة يشارك فى مهرجان ترايبيكا السينما




.. حلقة #زمن لهذا الأسبوع مليئة بالحكايات والمواضيع المهمة مع ا