الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أنا النّقطة (رواية)

أسماء غريب

2023 / 3 / 22
الادب والفن


(1)
مسك وياسمين


سلامُ اللهِ عليكم أحبّائي؛ أيّها المغموسون في ماء العشق والوداد والمحبّة. معكمُ هوشيتو؛ مواطنٌ من كوكب موسيكَايْنو. لمْ أولد فوق تُرابه وإنّما قدمتُ إليه من كوكب المُشتري، وأعملُ فيه حالياً رئيساً للقسم الثّقافيّ في وزارة الطّيران المدنيّ. وأنا في هذه الفترة مكلّفٌ بمهمّة رسميّةٍ في غاية الدقّة والحساسيّة؛ فقد وصَلَنا من أحد وزراء الثّقافة في كوكب الأرض ملفٌّ يحكي قصّة غريبةً عن سيّدة عاشت في إيطاليا منذ أزيد من مئة سنةٍ مضتْ. حينما توفيتْ لم يكن أحدٌ يعلم بواقعة الموت، لولا أن تآكلَ بيتُها وبدأتْ حجارتُه في الانهيار فاتّصَلَ سكّان العمارة التي كانت تقطنُها برئيس البلديّة، وما كان منهُ سوى أن أرسل فريقاً من العمّال ليفتحوا المنزل ويبدأوا على الأقلّ في ترميمه حمايةً لبقيّة قاطني العمارة من عواقب الانهيارات المتواصلة، وما إنْ دخلوا حتّى تفاجأوا بوجود جثّة صاحبة البيت مسجاة فوق السّرير ولمّا يستهلكِ الزّمنُ بعدُ منها شيئاً، وكانت غرفة نومها تفوح برائحة المسك والياسمين، ولغرابة الأمر اتّصلَ فريق العمّال بالشّرطة فقدِم السّيدُ العميد كوريانْدُلو حيث أنّه أشرفَ على القضيّة برمّتها وحرّر ملفّاً كاملاً عن السيّدة الرّاحلة وهذا بعضُ ماجاء فيه بإيجازٍ شديد: ((إنه في السّاعة العاشرة من صباح يوم الجمعة آب 2180، تمّ العثور على جثّة السيّدة العالية الجيلاني، وهي في حالة جيّدة وكاملة ولم يأكل منها أو يحلّلِ الزّمنُ فيها شيئاً، ويفوح منها عطر زكيّ كأنّما سُكبتْ فوقها للتوّ قارورة من المسك. أمّا عن أسباب الوفاة فهي عادية جدّاً، بحيث انقضى أجلُها عام 2100، ولم تُكتَشف إلّا بعد أن مرّت ثمانون سنة على رحيلها. ومن يراها الآن يظنُّ أنّها شابّة في مقتبل العُمر، في حين يقول التّقرير الطبّي إنّها توفيت وهي تبلغُ من العمر سبعين سنة. غرفتُها خالية من كلّ أثاث، إلّا أنّنا وجدنا فوق سريرها بعض الأشياء العجيبة: كُتيّبٌ أخضر سُطّرتْ حروفه باللّغة العربيّة، وعَلمٌ مغربيٌّ، ثمّ آخر إيطاليٌّ، وإلى جانبه مجلّد كبير يبدو أنّه مذكّرات خطّتها هذه السّيدة التي - على الأرجح - كانت من أهل الكتابة والأدب والفنّ التّشكيليّ، وذلكَ نظراً للّوحات التي وجدنا في الغرف الأخرى من بيتها والمُوَقَّعة باِسمها. وقد أحلناها والمذكّرات على وزارة الثّقافة الإيطاليّة لتنظر في أمرهما، وتُسَلِّمَهُما لذوي الاختصاص.)). بهذه الكلمات انتهى تقرير السيّد العميد، ولقد تمّ فعلاً جمع كلٍّ من المذكّرات واللّوحات والعَلَميْن في صندوقٍ خاصّ تمّت إحالته على وزارة الثّقافة المعنية بالأمر، لكن حدثَ أن بقي الصّندوق مركوناً هناك بين الأرشيفات ولم يأبه لشأنه أحد، إلى أن تسلّم أحد وكلائنا الجُدُد منصبَ وزير الثّقافة في إيطاليا عام 2240 بموجب الاتفاقيات التي تُبرم عادة بين الكواكب العليا وكوكب الأرض، وهناك في أرشيفات الوزارة العتيقة جدّاً عَثرَ الوكيلُ على الصندوق وضمنه مذكّراتُ السّيّدة، فاتّصل بي وطلبتُ منه إرسالهُ إليّ في كوكبنا للاطّلاع على محتوياته ودراسة ملفّاته بالطّريقة التي يستحقّها، ما دمنا ننظرُ هنا إلى الأدباء كروادٍ من أهل الطّيران الفكريّ بامتياز. فابقوا معنا أحبّاءنا، ودعونا نفحص هذا الصندوق مع المذكّرات بكلّ رويّة وحكمة.





(2)
علَمٌ مغربيّ


المذكّراتُ عبارة عن مجلّد كبير من ألف صفحة، كُتبت بلغة عربيّة فصيحة فوق ورق مقوّى رفيع أبيض اللّون، وقد غلّفتِ السيّدةُ كلّ ورقة منه بسائل شفّاف خفيف من الرّيزن، وهي نفسها المادّة التي استعملتها لتغليف واجهة لوحاتها، وهذا يدلّ على أنّها كانت تعرف بأنّ ما تركته في بيتها سيتمُّ العثور عليه بعد مضيّ فترة من الزّمن، ولكنّها بدون أدنى شكّ لم تكن تعلمُ إنّه سيصلني بعد مرور أزيد من قرنٍ على رحيلها. أفتحُ الآن أوّل فصلٍ فيه وأقرأ لكم منه كلماتها: (صباح الخير يا هوشيتو، صباح المحبّة والنّور والسّلم والسّلام على أهل الأمن والأمان في كلّ مكان، أنتَ تعتقد أنّني لا أعرفكَ، أو لا أعرف أنّ مذكّراتي ستصلكَ وإن بعد قرنٍ أو ربّما أكثر، مخطئ أنتَ أيّها المتوّج بالنّوتة والنّغم، وإلّا فلماذا برأيكَ جمعتُها والعَلَمَيْن المغربيّ والإيطاليّ ووضعتُها فوق سريري، لا لشيء سوى لتصلكَ، ولتقرأها كاملةً...))، يا إلهي اعذروني يا أصدقائي، كيف تعرفني هذه السيّدة بالاسم والصّفة، وتخاطبني وكأنّي صديق مقرّب جدّاً لها؟! دعونا نكمل القراءة، ربّما نعثر على الجواب: (أعلمُ جيّداً أنّك رئيس القسم الثقافيّ في وزارة الطّيران المدنيّ بكوكب موسيكايْنو، وكونُكَ الآن بصدد قراءة هذه المذكّرات، فهذا يعني أنّ كلّ ما تركتهُ لكَ سوف يرى النّور على يديْكَ ويكون له أكبر الأثر في تغيير طريقة الطّيران والتحليق لدى العديد من الكينونات البشريّة فوق كوكب الأرض. ربّما قبل أن يتحقّق هذا سوف تكون قد مرّت أزيد من مئة عام أو ربّما أقلّ. في الحقيقة أنا أعرف اسمكَ منذ زمنٍ بعيد يا هوشيتو، وإن كنتُ لا أعير الكثير من الاهتمام للأسماء، إذ يهمّني الجوهر قبل الإطار الخارجيّ، وإن كانَ الاسم جزءًا من هذا الإطار كما تعلم. أمّا وإذ تسألني عمّن أكون، أقُلْ لكَ لحدِّ الآن أنت لا تعرف عنّي سوى الاسم واللّقب؛ "العالية الجيلاني"، لذا دعني أكمل لكَ وللقرّاء الحاضرين معكَ بقيّة الحكاية، لكن قبل ذلك احملِ العَلَمَ المغربيّ بين يديْكَ لأنّني بلونه الأحمر سأرسمُ لكَ طريقَ البهجة والحيويّة وعشق الوطن، وكيف لا و قد فهمتُ باكراً أنّ للحريّة والاستقلال ثمنٌ باهظ جدّاً، لذا فلونُ علَمِي مَلكيٌّ شاهق، وملائكيّ سامقٌ مخضّبٌ بدماء الشّهداء، والأخضرُ فيه خصوبة وانتماء لأهل النّور الباهر، أهل بيت النّبوة، لذلك تراه متّصلاً بقلبي وقلبكَ في انسجامٍ وهدوء دافئ، وفي حِلمٍ عميق وصبر كبير وخُلقٍ عظيم، نجمتُه خماسيّة، هي نجمة الصّباح المشرقة في عتمات الأكوان، تصلُ بين عوالم المادّة والرّوح، وتجمع الماءَ بالهواء، والتراب بالنّار. آيةٌ في الجمال والكمال، بهِ رأيتُ النّور في مدينة آسفي باكراً، لم أنتظر أن تبلغَ والدتي شهرها التّاسع من الحمل، وكانَ أنْ قفزتُ من رحِمِها في الشّهر السّابع؛ كانت وصديقاتُها في نزهتها المسائيّة بقصر البحر، حينما أحسّت بوخز شديد ووجع حادّ في بطنها دام للحظات قصيرة جدّاً، فسارعتْ صديقتهُا المقرّبة جدّاً إليها وذهبتْ إلى الحيّ المقابل للقصر حيث تسكن أسرتي ولم تعد إلّا ومعها المُوَلّدة. أربعون دقيقة بالتّمام والكمال، وإذا بي في حضن والدتي، تمسكني بين ذراعيها وتمشي بخطوات وئيدة لتصل أخيراً بسلامٍ ومحبّة إلى البيت. في تلك الأمسية ظلّ حيّ الكورنيش كلّه يُردّدُ حكاية ولادتي العجيبة: كان كلّ شيء يسيراً، ووالدتي لم تتألّم كثيراً. حاروا، أيّ اسم يعطونني إيّاه؟ قال الجميع، لتكن بنتَ القصر، لكنّ والدي تدخّلَ باسماً وقال: سأسمّيها العالية، لأنّها وُلدت في الجزء الأعلى من قصر البحر، بالقرب من البرج.
في حفل العقيقة جاء لزيارتي كلّ أصدقاء عائلتي الصّغيرة، نساءُ الحيّ ورجاله الفقهاء والعلماء، وكذا أهل العمل في صناعة الخزف والنّسيج. غيّر مجيئي الكثير من الأشياء، فأنا البنتُ البِكر، وحينما كَبُرتُ وبلغتُ العاشرة من عمري، أصبحَ والدي أثناء العطلة الصيفيّة يريدني معه في معمله الصّغير بتلّ الفخّارين لأتعلّم منه صنعة الأواني الخزفيّة، أمّا أمّي فكانت تريدني معَهَا يوماً في الأسبوع لأستأنسَ بأجواء العمل في مصنع النّسيج بين النساء والفتيات الأسفيّات. والحقّ أقول لكم، لقد كنتُ أجدُ سعادتي في كلا المكانيْن، سواء عند أبي أو عند أمّي: في تلّ الفخّارين لاحظ أبي ميلي إلى فنّ زخرفة الأواني، فعلّمني إيّاها بحرفيّة عالية، وأصبح هو يصنع المادة الخام من الطّين الأصيل، وبعد تجفيفها وطهيها في الفرن كان يقدّمها لي لأتكفّل بنقشها وتزويقها بالألوان المغربيّة الزّاهية الأصيلة، سواء تعلّق الأمر بالصحون الكبيرة والقدور، أو الجرار والقلال، أو الكؤوس والطواجين، أو غيرهما من أواني المطبخ والبيت المغربيّيْن. والدي فنّان قدير، يعمل ليل نهار رغم صعوبة مهنته، لكنّه يحبّها حبّاً جمّاً. كثيراً ما كنتُ أسمعه يقول إنّه ابن الطّين، وإنّ هذه الرابطة القويّة التي تجمعه بالطّين تجعله يشعر كأنّه يتشارك في البداعة التخليقيّة للكون، لأنّها تُذَكِّرُه بصنعة الله في آدم، كيف صنعَ طينَه، وكيف منه شكّله صلصالاً فخّاراً، وكيف بطبيعته الطّينية هذه وهبه القدرة على الطّيران والتحليق في سماوات الرّوح من أجل بلوغ سدرة المنتهى. في تلّ الفخّارين، كان الطّين بالنّسبة لأبي أنثى تنبعث فيها الرّوح كلّ يوم بشكل جديد، إنّه مسحور بها، مأسور برائحتها وعطرها، وحينما تكون الآنية بين يديه ويديرها في اللّولب، يجعلها مطواعة تتشكل كما يتخيّلها هو، وكأنه في حفلة عشقيّة من نوع خاصّ، لقد كان يعرف كلّ فنون الخزف وكان يعرف تقنياته حتّى الصّعبة منه، لدرجة أنّه علّمني أيضاً حتّى كيف أصنع التسبيقة لا سيما وأنّ العمل على الفخار الأحمر كان صعباً في البدايات الأولى، إذ أنّه كان يُشكّلُ الآنية أوّلاً ثمّ يتحفها ويدخلها إلى الفرن وبعد أن تُطهى يغمسها في القصدير ثم يعطينيها لأقوم بزخرفتها، وعلى الرّغم من أن الألوان لم يكن فيها العلك اللّازم لانسجامها مع الطّين الدّاخلي، ولم تكن بتلك الكثرة والاختلاف إلّا أنّني ووالدي كنّا نصنعُ من اللون الأخضر والأصفر والأحمر العجائب، وكنّا كثيرا ما نستخدم اللون الفسياني لنعوّض به اللّون الأسود إلى أن ظهرت إحدى الشركات الفرنسية وعرضت على كبار معلّمي تلّ الفخار العمل بالطّين الأبيض، فتغيّر كلّ شيء وأصبح للعمل على الأواني طعماً آخر بخيال أكثر خصوبة وإبداعاً، وكنّا كثيراً ما نعمل باللّدون المستخدم في بطاريات السيارات وكذلك في مجال الصيد البحري بحيث كنّا نضع كلّ هذه المكونات في الفرن حتى يذوب اللدون، ويصبح عليه غبار برتقالي تتطاير منه النّجوم في الهواء، وبعد ذلك نجمعه ونضعه في رحى كبيرة لتتمّ تصفيته والعمل به، مع والدي كنتُ أعلم أنّني في مختبر الله، وكيف لا، وهو الّذي تخرّج من مدرسة الفنّان بوجمعة العملي، كان كثيراً ما يحكي لي العجائب عن هذه المدرسة التي تأسست بتعليمات من إدارة الحماية الفرنسية عام 1920 وعن أصدقائه القدامى من المعلمين الزّواقة واللّوالبيّة. أمّا حينما كنتُ أذهبُ لمكان عمل والدتي فالأمرُ كان يختلفُ تماماً: بدأتُ أعمل معها من حين لآخر حينما بلغتُ الخامسة عشر من عمري، رائحة البحر في كلّ مكان، فلقد كان معمل النّسيج بالقرب من البحر، معها كنتُ أشعر وكأنني في قِدر تتخلّقُ بداخِلِها الأكوان، لذا فإنّي لا أستغرب، كيف أنّ النّسيج الأسفيّ الّذي كان يُصَنّع في مصنعها له طابع خاصّ والفرنسيون الأوائل يعرفون هذا جيّداً، لا سيما اليهود منهم ويبحثون عن المئزر الآسفيّ المصنوع من الصّوف الأصيل في كلّ مكان، لأنّه الأرقى والأبهى. بين الطّين والصّوفِ والبحر والرّمال والأمواج والسّمك كبرتُ، وحينما حصلتُ على شهادة الباكالوريا، قضيتُ عاماً مع والدتي في عملها في انتظار أن أقرّر بأيّة جامعة ألتحق. هناك كان قد رآني ابن أحد عملاء المصنع في إحدى جولاته الصباحيّة، قال لي إنّه كثير الأسفار إلى إيطاليا بحكم أصولِ والده الإيطاليّة، قلتُ له إنّني أحبّ أن أدرس هناك، فرحّب بالأمر على الفور، وقال إنه سيساعدني في ذلك، وبالفعل ذاك ما كان بحيث في ظرف وجيز حصلتُ على منحة دراسية والتحقتُ في عام 1982 بأكاديمية الفنون الجميلة بمدينة البندقية هناك حيث كنت أحلم بأن أصل بصناعة الخزف المغربيّ إلى أرقى مجالات التقدّم والتطوّر عبر الدراسة في أرفع المؤسسات الفنّية والإبداعيّة في إيطاليا. وفي ظرف وجيز أصبحتُ أدير مركزاً لصناعة الخزف في صقليّة وأسهر على فتح مجال للوساطة والمثاقفة بينه وبين العديد من دول العالم العربيّ وعلى رأسها بلدي الحبيب المغرب. لم يكن من المُمكن أن أبقى في البندقية بعد إنهاء دراستي الجامعيّة، كان من الضّروريّ أن أستقرّ في صقلّية وذلك لأسباب عدّة، أوّلها أنّها قريبة جدّاً من التكوينة العربيّة التي ألفتُها طيلة سنوات تواجدي في المغرب، سواء من حيث الطّقس ودفء النّاس وحسن المعشر معهم، ضف إلى ذلك وهذا سبب مهمّ للغاية، عراقة حضارتها وعمق خبرتها في مجال صناعة الخزف، فهي إلى جانب تأثرها بالعديد من الحضارات الأوروبيّة الإغريقيّة منها أو البزنطيّة، فإنّ الحضارة العربيّة الإسلاميّة كان لها أكبر تأثير عليها في هذا المجال، وذلك لأن العرب أثناء الفترة التي حكموا فيها صقليّة حوّلوا الجزيرة إلى مجموعة من الأفران والتلال الخزفيّة التي تُصَنّع فيها الأواني الفخاريّة والزّليج وما إليهما بشكل فيه الكثير من ملامح وسمات الفنّ العربيّ والزّخرفة الإسلاميّة، وقد كانت تلك الفترة العربيّة في تاريخ الجزيرة عهد ازدهار وتطوّر كبيريْن، استمرّ حتّى بعد النورمانديّين والأرغونيّين. ومن المناطق التي انتشرت فيها صناعة الخزف بشكل كبير هناك مدينتَيْ شاكَّة، وَكَالتاجيرونِه، وهما عاصمتي الفخّار بامتياز في الجزيرة بأكملها، كما هناك مقاطعات أخرى صغيرة لا تقلّ أهمّية في هذا المجال عن سابقتيْها وأعني بها كلّاً من مقاطعة سانتو ستيفانو دي كاماسترا، وبورْدْجو. ومن الحكايات الطّريفة التي تؤرّخ لتأثُّر الصقلّيين بالحضور العربيّ في مجال الفخّار تحضرني قصّة ذاك الفتى العربيّ الّذي كان في جولة بأحياء مدينة باليرمو حينما وقعت عيناه على شابّة بالرميّة فاتنة الجمال منهمكة في شرفتها بسقي نباتات الأصص وأزهارها المرصوصة أمامها، فسُحِرَ بها، ووقع في غرامها، وعاد بعد أيّام وطلب يدها من أهلها وتزوّج بها وأصبحت هي الأخرى مجنونة بهواه، وحينما مضت بضع سنواتٍ على زواجهما وبدأ يُفكّرُ في الرجوع إلى موطنه الأصليّ حيث ترك هناك زوجته الأولى وأبناءه، عمدت الحبيبة الصقلّية إلى قتله ليلاً حينما كان غاطّاً في سباته العميق، حيثُ قطعت رأسه، وأخذتها إلى شرفة البيت وحفرت الجمجمة وملأتها بالتراب وزرعت فيها بذور الرّيحان ثمّ باتت تسقيها كلّ يوم بدموع بكائها على حبيبها، إلى أن كبرت سوق الرّيحان وأوراقه، وأصبح عطرها يملأ كلّ مكان بشكل حفّز العديد من الشّابّات على الذّهاب إلى أهل صنعة الخزف والفخّار، وطلبن منهم صناعة أصص جديدة على شكل وجه آدميّ بملامح عربيّة، وبرأس تغطّيها عمامة كبيرة، وحملنها إلى شرفاتهن وبدأن يملأنها بالتراب، ويزرعنها بالأزهار والورود والريحان، ومنذ ذلك الحين إلى اليوم لا يخلو بيتٌ صقلّي من أصيص يُطلق عليه اسم (رأس العاشقِ العربيّ الأسمر)، تملؤه الأزهار، أو يوضع هكذا فقط للزّينة فوق الموائد، أو عند مداخل البيوت.
قد تكون الحكاية مرّوعة في تفاصيلها المرعبة لقصّة عشق مستحيل، لكنّها في الوقت ذاته، لا تخلو من إشارات إلى صعوبة العلاقة بين الغرب والشرّق، وما يتخلّلها من انعطافات تاريخيّة تتفاوت بين القبول والرفض مرّة، وبين المحبّة والعداوة مرّتان، وبين السّلم والحرب مرّات عدّة.
لا يُمكنني إلّا أن أغوص في التاريخ عزيزي هوشيتو، مغرمة أنا بحكاياته، لا سيما تلك التي تبحرُ في الذّاكرة الكونيّة، وهذا يحدثُ لأنّني بغوصي هذا أجدني أبحث عن جذوري وجذوركَ، أعود بذاكرتي إلى أيّام حاضرة المحيط آسفي، هناك حيث وُلِدْتُ في قصر البحر، ابنة قصر لا ككلّ القصور، تحفة معماريّة فريدة من نوعها تجمع بين التاريخ والفنّ والهندسة العسكريّة التي تؤرّخ للوجود البرتغاليّ في العديد من المدن المغربيّة، عبر هذه القلعة العسكريّة التي كان من خلالها يتحكّمُ في مرور السفن والطريق الساحلية وميناء المدينة القديم وفي حركة التنقّل بمصب واد الشّعبة. نعم، وُلدتُ في قلعة عسكريّة، لقومٍ ليسوا من بلدي، دخلوها مستعمرين، وكان هذا أوّل درسٍ فتحتُ عليه عينيّ منذ أن قدمتُ إلى الوجود: النّعمة تجلبُ اللّصوص! قصرُ البحر، يا قلعتي الشّامخة، أعرفُ حكاية كلّ صخرة فيكِ، كلّ قوسٍ، كلّ قبوٍ، وكلّ ركنٍ، أصواتُكِ مازالتْ بداخلي منذ مئات السّنين، صراخ الجنود، بكاء الأسرى، دويّ المدافع، أنين النّساء الأبيّات، وعويل الأمواج الهادرة وهي تتكسّرُ فوق صخوركِ. ماذا كان يريد منّا الملك إيمانويل، ولماذا أتى بجنوده إلينا في أربع سفن عسكريّة كبيرة؟ آآآه منكَ يا أزمبودجا ما الذي فعلتَه بعَلي بن وشمان ويحيى أوتعفوفت؟! الأمواج تعرفُ كلّ الحكايات، والبحرُ رأى كلّ شيء؛ رأى مئات الجنود المشاة والرّماة، ورأى الثورات التي اندلعت في قصر السّلطان قادمة من قبائل الهبط والشّاوة. البحر يعرفُ كلّ شيء، يعرفُ هارون وشاويل وكلّ يهود المدينة الّذين لم يعد الملك إيمانويل يُضيّق عليهم الخناق بالشّكل الذي كان يفعله معهم وهم في البرتغال، فقد منحهم حقّ الإقامة في آسفي وتعهّد بألّا يطردهم أحد، كما كفل لهم حريّة التديّن وعدم إجبارهم على الدّخول في المسيحيّة، ولم يكتف بهذا فحسب وإنّما عيّن اليهوديّ أبراهام بن زميرو حاخاماً على كلّ يهود المدينة الأصليّين وكذا القادمين والنّازحين إليها من اسبانيا وغيرها من الدّول الأخرى مقابل ما قدّمه للتاج البرتغاليّ من خدمات على قدر عالٍ من الأهميّة.
يقول البحرُ إنّ كلّ هذه الأحداث كانت تُعلنُ نهاية الحكم المرينيّ في المغرب وسقوط آسفي مثلها في هذا مثل العديد من المدن الساحليّة في قبضة العرش البرتغاليّ. لكن ما كلّ النهايات تتشابه، بعض النهايات تكون فيها ولادات مشعشعة بالأنوار والخيرات والبركات، هذا ما يبوحُ بهِ البحرُ، وهو يأخذني الآن عبر أسفار الذّاكرة الكونيّة الحيّة من القلعة العسكريّة الأسفيّة إلى جبل البرانس القريب موقعه من مدينة تازة، ويا لعجيب ما أرى فيه: رجال ذوو قوّة ويُسر وثراء، وأرض فيها من وفرة الحبوب والفواكه والأعناب ما لم أر في أرض أخرى، وضريح فوقه بناية أنيقة تحوي مسجداً وبيتاً للإمام، أسأل لمن الضّريح فيقولُ البحرُ: إنّه لوالد الشّيخ محمّد زرّوق!
ومن جبل البرانس أجدني في مصراتة، من ضريح الأب أحمد في المغرب أدخل إلى زاوية الابن محمّد زرّوق في ليبيا، وأتذكّرُ على الفورِ رجلَ قلعتي العسكريّة الأوّل، الإمام الجزوليّ، فلقد كان الزرّوق صاحبه في الطّريق إلى الله، آآه أيّها البحر، كيف لِمَن وُلِدَتْ في قصركَ وقلعتكَ ألّا تعرف من يكون الشّيخ الجزوليّ؟ قلبي الآن يرتعشُ، وعيني اليُسرى ترفُّ، وستار الحجب يرتفعُ، وذاكرتي تتوهّجُ أكثر فأكثر، لتعود بي إلى سنوات الطّفولة البعيدة، هناكَ حيثُ كان ذاك المنديل الأخضر الصّغير المعلّق في الجرف الموجود على حافة القصر يجذبني كلّ يومٍ أكثر فأكثر،لا سيما أنّني كنتُ أعرف لمن كان ذاك المنديل، لكنّي ما كنتُ أعرف كيف كان صاحبه يدخلُ إلى الغار الّذي في الجرف بالرغم من ارتفاعه الشّاهق وخطورة الأمواج المتكسّرة عليه، فهل كان ياترى يأتيه من قصر البحر، أمْ كان ينتظر إلى أن ينحسرَ البحرُ ويأتيه في الفجر؟ كثيرة هي الأسئلة التي كانت تدور في قلبي بشأن صاحب تلك الخرقة أو المنديل الأخضر، وعلى الرّغم من أنّني كنتُ أتردّدُ في طرحها عليه مباشرة بحكم إقامته في الحيّ الّذي وُلدتُ فيه، إلّا أنّني كنتُ دائماً أعدُ نفسي وأقول لها: ذات يومٍ ستدخلين أنتِ أيضاً إلى ذاك الغار، وذات يومٍ لا شكَّ ستعلّقين عند مدخله منديلكِ أنت أيضاً.
لمْ تمضِ الكثيرُ من الأعوام على أمنيتي تلكَ، وبدل أن أدخل إلى الغار التقيتُ صاحبهُ ضمنَ فرقة للأمداح النبوية كانت قد جاءت لإحياء حفل زفافي في بيتِ والديّ الحبيبيْن، وحينما انتهى الحفل وعدتُه أنا وزوجي بأنّني لا حتم سآتي يوماً لزيارته في خلوة الإمام الجزوليّ. وذاك ماكان بالفعل، حيث قدِمتُ إليه من إيطاليا بعد سنواتٍ على لقائنا الأوّل، ووجدته ينتظرني هناك في الخلوة. وما إن رآني وزوجي حتّى تذكّرني وعرفني، ودون مقدّمات قال لي: "الخلوة تعرفكِ جيّداً، فقد كنتِ تأتينها صغيرةً لتخلدين إلى الرّاحة كلّما أتعبكِ الرّكضُ واللّعب في قصر البحر. وقد حدّثتني عنكِ كثيراً، وأخبرتني بأمنيتكِ الدّفينة: أمازلتِ تريدين الدّخول إلى الغار؟ لا مانع لديّ يا صغيرتي، سأكون سعيداً بذلك أيّما سعادة، وسأعرّفُكِ بصديقي الغراب، عارفاً باللّه يملكُ الكثير من الأسرار عن البحر وقصره وعن أئمّة المكان وأوليائه الصّالحين من الجنّ والإنس. لكن هناك شرطٌ واحدٌ لكي تتحقّق لكِ أمنيتُكِ؛ الخلوةُ كما ترين أضحتْ خراباً بعد سنين عدّة من الإهمال والنّسيان، وباتت مأوى للمشرّدين والمتسكّعين والسكّيرين وقطّاع الطّرق، ولكيْ تعود إليها الحياة هي في حاجة ماسّة إلى سيّدةٍ قيّمة جديدة عليها، ترعى شؤونها وتحتضن أطفالها الزائرين، وتكسِر البيضَ لهم، وتداوي عللهم وأمراضهم بإذن الله، وأنا قد اخترتُكِ لهذه المهمّة، فماذا تقولين؟".
سقطتْ كلماته على رأسي كالصّاعقة فألجمتني، لكنّي تداركتُ الأمر بسرعة وقلتُ مُجيبةً:
– الدّوامُ لله يا صاحب الغار وصديق الغراب، والخلوة أضحتْ لشاربي خمرة العربدة اليوم، بعدما كانت ملجأ لشاربي خمرة الله، أهل حانة العشق الربّانيّ، أمّا عن كوني كنتُ آتي إلى الخلوة طفلة، فأنت محقّ في هذا الأمر، ولقد كانت توجد بها سيّدة كنّا نطلق عليها اسمَ لالّة لْحْفيظَة، وها قد دارت السّنون والأيّام، وتريدني الآن أن أصبح حفيظة المكان الجديدة وحارسته. ربّما أنت لا تعلمُ أنّ والدتي هي من كانتْ تأتي بي إلى هنا كلّما اشتد صراخي في اللّيل أو جافاني النّوم، كنتُ أجِدُ هذه المرأة لْحْفيظَة، وكانت تأخذني من تحت إبطيّ وتُدَلّي جسمي الصّغير في الحفرة الموجودة تحت الخلوة مباشرة ثمّ تكسِرُ لي البيض، وبعد ذلك ترفعني إلى غرفة الخلوة نفسها وتكوي رأسي وجبهتي وَتُشَرِّطُ معصميّ وكاحليّ بشفرة الحلاقة، فيهدأ صراخي، ويعود النّوم ليداعب عينيّ فأنام في الخلوة لساعات طوال، ثمّ تأخذني والدتي قريرة العين وقد شُفيتُ من كلّ ما كان يؤذيني، وماكنتُ أعلمُ بأيّ سرٍّ كنتُ أشفى، لكنّي مازلتُ لليوم أحمل في معصميّ وكاحليّ ندوبَ التشريطِ بالشّفرة، وكلّما نظرتُ إليها تذكّرتُ الخلوة، وها أنتَ اليوم تريدني فيها بعد كلّ هذه السّنين من الغيبة عن مدينتي، لكأنّك نسيتَ من أكون اليوم وكيف تغيّرتْ حياتي في بلاد الغربة الغربيّة، أنا لستُ تلك الطّفلة الصّغيرة التي كانت تركضُ وتلعبُ أمام الخلوة، وداخل قصر البحر، وتغازل بيديها الصّغيرتين طين تلّ الخزف وصوفَ المصنع، لقد حلّقتُ بعيداً أيّها الشّيخ الجليل، وأنا الآن زوجة ولديّ وظيفة راقية، وشهادات عالية، ألا يبدو لك أنّ الأمر فيه نوع من الجنون. أأتركُ كلّ هذا، وأتنازل عن كلّ ألقابي العلميّة، لأصبح حفيظة الخلوة والقيّمة عليها؟!
– أعرفُ من أنتِ الآن؟ ولأجل هذا أقول بأنّه لن تكون في الكون امرأة أخرى أصلح لتولّي شؤون هذا المكان منكِ، هذا ما يقوله الغراب.
– صديقُكَ الوفيُّ، سمعتُ عنهُ هذا الغرابُ المثير للدّهشة، لكنّني مازلتُ لم ألتقه.
– لأنّ ما يشغلكِ الآن، لن يُمكّنكِ من رؤيته: ثمنُ الرّؤيا هو التجرّد. انظري إلى نفسكِ، مازلتِ مثقلةً بالأساور والمحابس، والماكياج والأحذية ذات الكعب العالي، وبنطلونات الدجينز وما إليها من حليّ الذّهب والجواهر، والحفيظة عليها أن تتخلّص من كلّ هذا.
– أنت تنسى أنّ المفاهيم تغيّرت الآن، وأنّ الأجيال تتعاقب، وعلى كلّ إنسان أن يكون ممثّلاً لعصره وجيله، وإنّي لأجدني مختلفة معك فيما تذهب إليه منذ البداية، وغير قادرة على أن أكون المرأة لْحفيظَة التي تريد للخلوة.
– لسانُكِ يقول هذا، وروحكِ تعرفُ كلّ شيء، وإنّنا لا شكّ سنلتقي مرّة أخرى، إن لم يكن في هذا الزّمان ففي زمانٍ آخر، الكلمة والقرار الأخير، لم يصدرا بعد، هذا ما يقوله الغراب.
أفهمتَ يا هوشيتو، إنّه يريدني حفيظة الخلوة الجديدة، تخيّل معي هذا، حتّى أنّني مازلتُ لليوم أذكر كيف خرجتُ من الخلوة وتركتُ الشّيخ صاحب الغراب وكلماتهُ تتبعني إلى كلّ مكان في مدينتي، مشيتُ والدّموع غلالة تسترُ عينيّ، فقد اخترق الرّجل أعماقي بما قاله، وأيقظ بداخلي دوّامة من الأفكار، ولا أعرف كيف وأنا أمشي وجدتُ نفسي أمام دكّان الحاجّ عمر، مسحتُ عينيّ ودخلتُ، منظر التّحف الفنّية المرصوصة فوق الرفوف وعلى الأرض أعادني إلى الماضي البعيد، هذه الدّكان فيها تاريخ عريق، كنوز قادمة من الصّين ومن كلّ بلدان المعمورة، بلّور إنجليزي، كؤوس من الفضّة والنّحاس، وساعات سويسرية فاخرة، وعطور وخناجر قديمة، ولوحات فنّية فريدة من نوعها، لم أنبس ببنت شفة، رأيتُ الحاجّ منهمكاً في عمله، كان يمسح بعض كؤوس البلّار بين يديه، فلم أشأ إزعاجه، اكتفيتُ بالنّظر، وغبتُ في عوالم ثانية، وقلتُ لنفسي، أينكَ ياصاحب الغراب لترى معي هذه الكنوز، طبعاً أنتَ تريديني أن أبعث معك الحياة في كنوز أخرى، لكنّك لم تحسبها جيّداً، إنّني صوفيّة وطريقي جديد، أنتَ من عليكَ أن تنضمّ إليّ ولستُ أنا، اسألِ الغرابَ فهو يعرفُ السرّ، اسألهُ يقُلْ لكَ إنّني أنا النقطة وأنتَ الحرف، والحرف لا يستقيم بدون نقطة، شيء كالوتد والخيمة، لا بدّ للخيمة من وتدها، وأنت لكَ خيمة هي خلوة تبحث لها عن وتد جديد، وأنا هذا الوتد ولكي أصبح قيّمة على الخلوة فلذلك شروط عدّة، فهل ستستطيعُ تحمّلها؟ لقد اطّلعتُ على ديانات أخرى، وشاركت شعوباً أخرى في الحياة، ورأيتُ كيف يرعون أماكن الأولياء والقدّيسين هناك في الغرب، فلماذا لا تفيدون من تجارب الآخرين في هذا المجال، فبدل الكيّ والحجامة وما إليهما هناك شيء اسمه الطبّ بمختلف علومه...آهٍ أخذتني الأفكار حتّى بتُّ لا أرى شيئاً أمامي يا صاحب الغراب، وهاهو الحاجّ عمر يفيقني من سفري وقد كدتُ أُسْقِطُ من الرفّ كأساً من البلّار، أتعلم قصّتها يا رجل، يقول الحاجّ عمر إنّ الملك الحسن الثاني رحمه الله شرب منها... آآآه يا صاحب الغراب ذكّرتني بأمجاد كانت، من أينَ لنا بجزوليّ آخر يكتب لنا كتاباً مثل دلائل الخيرات، نحتاج إلى ثورة جديدة، وصحوة أجدّ، لا بدّ للنّاس من الاستيقاظ...) عفواً أصدقائي، دعوني أتوقّف بعض الشيء، فالسيّدة العالية تتحدّث كثيراً عن الخلوة وعن الإمام الجزوليّ وعن دلائل الخيرات، وإنّ كلّ هذا ليس بالغريب عليّ، لقد سبق وقرأتُ هذه الأسماء في الكتيّب الأخضر الّذي وجده العميد كورياندلو فوق السّرير، بل إنّ الكتيّب الأخضر هو نفسه دلائل الخيرات، يا إله الفرح والحبّ، دعونا نقرأ منه هذا الدّعاء والصّلاة على النبيّ المصطفى المختار والتي يقول فيها الجزوليّ نفسه: ((اللهمَّ صلِّ على سيّدنا محمّدٍ نُورِ الأنوارِ وسِرِّ الأسرارِ، وسيدِ الأبرارِ، وزَيْنِ المُرْسَلِينَ الأخيارِ، وأكرَمِ مَنْ أظلمَ عليهِ الليلُ وأشرقَ عليهِ النهارُ، عددَ ما نـزلَ مِنْ أوّلِ الدّنيا إلى آخرها مِنْ قطرِ الأمطارِ، وعددَ ما نبتَ مِنْ أوّلِ الدنيا إلى آخرها مِنَ النباتِ والأشجارِ، صلاةً دائِمَةً بدوامِ ملكِ اللهِ الواحدِ القهارِ، اللهمَّ صلِّ على سيدنا محمدٍ صلاةً تُكْرِمُ بها مَثْواهُ وتُشَرِّفُ بها عقباهُ وتبلغُ بها يومَ القيامةِ مُنَاهُ ورِضَاهُ...اللهمَّ صلِّ على سيدنا محمدٍ حاءِ الرحمةِ وميمَيِ الملكِ ودالِ الدوامِ ، السيدِ الكاملِ الفاتحِ الخاتمِ، عددَ ما في علمِكَ كائِنٌ أو قد كانَ، كلّما ذكركَ وذكرهُ الذاكِرونَ وكلما غَفَلَ عَنْ ذكرِك وذكره الغافِلونَ، صلاةً دَائِمَةً بدوامِكَ باقيةً ببقائِكَ، لا مُنْتَهَى لها دونَ عِلْمِـكَ إنَّكَ على كـل شيءٍ قـديرٌ، اللهمَّ صلِّ على سيدنا محمدٍ النبيِّ الأميِّ وعلى آلِ سيدنا محمدٍ الذي هو أبهى شموسِ الهُدى نُوراً وأبهرها، وأسْيَرُ الأنبياءِ فخراً وأشهرها، ونُورُهُ أزهرُ أنوارِ الأنبياءِ وأشْرَفُها وأوضَحُها، وأزكى الخليقةِ أخلاقاً وأطْهَرُها، وأكرَمُها خُلُقاً وأعدَلُها، اللهمَّ صلِّ على سيدنا محمدٍ النبيِّ الأميِّ وعلى آلِ سيدنا محمدٍ الذي هو أبهى مِنَ القمرِ التَّامِّ، وأكرَم مِنَ السحابِ المُرْسَلَةِ والبحرِ الخِطمِّ، اللهمَّ صلِّ على سيدنا محمدٍ النبيِّ الأميِّ وعلى آلِ سيدنا محمدٍ الذي قُرِنَتِ البَرَكَةُ بِذاتِهِ ومُحَيَّاهُ، وتَعَطَّرَتِ العوالِمُ بطيبِ ذكرِهِ ورَيَّاهُ...)). يا إلهي، قلبي يرفرف في الملكوت، وأبواب الحضرة مفتوحة الآن، لكأنّي أسمع لأوّل مرّة هذه الأدعية المباركة، لكنّ السيّدة العالية تقول لي إنّني أعرفُ جيّداً هذه الصلوات على خير البريّة، لقد كنتُ في حياتي الأولى على المشتري أردّدها كثيراً، لكنّني الآن نسيتُها، وأنّها بكتاباتها هذه تريدني أن أتذكّر كلّ شيء عشتُه في كوكبي الأوّل، أي في عام 2020 حسب تقويم أهل الأرض، تقول العالية إنّها في هذا العام عرفتني حينما ضربت جائحة كورونا أو الكوفيد 19 الأرض. يا سيّدتي العالية، لقد مرّت قرون عديدة على حيواتي الأولى، ولا شيء أريده الآن سوى أن تدلّيني على محمّد صاحب الخُلُق العظيم، ذكّريني به يا مولاتي إن أنا نسيتُ، فهل أجد في مذكّراتكِ ما يحدّثني عنه؟!




(3)
السّراجُ المُنيرُ





كيف تسألني ياهوشيتو عن محمّد وأنت تحمله في قلبك؟ وهل يا تراك تحتاجُ إلى أوراقي التي بين يديْكَ الآن لكي تتذكّر الزّمن وماكان فيه من أحداث عظام، وحتّى وإن مضت قرون عدّة كما تقول، فإنّ محمّداً هو كما هُو، لم يتغيّر ولم يتبدّل أبداً، سراجاً منيراً كان وسيظلُّ، رحمةً للعالمين هو في الدّنيا وفي الآخرة. لكن ما عساني أقول لكَ؛ افتح يومياتي إذا شئتَ وتذكّر. تذكّر ذاك الطّفل اليتيم الّذي وُلد في أعماق الصّحراء، ففاح عطر مسكه في كلّ مكان، تذكّر كيفَ ذهب إلى الغار وفيه وجد اللهَ، فخاطبه بالوحي والنّور والنّار، دعني أكلّمكَ إذن كما لم يكلّمكَ عنه كتابٌ بعد، فمحمّد قلبي وقلبُكَ وقلبُ كلّ إنسانِ، هو نبيّ لكلّ زمان ومكانٍ، وله اسم في كلّ عهد وأوان، لكن صفة المصطفى لا تغادره أبداً. ألم يخطر ببالك أن تنظر إلى نفسك وتمعنَ التّفكير فيها، ألستَ أنتَ هذا الغار، وقلبُكَ فيه هو النبيّ الذي يحمل في كلّ عهد اِسماً، ويأتي في كلّ زمان بوحي؟ اسأل قلبكَ فهو يعرفُ الحقائق والأسرار كلّها، يعرفُ الجنّ والإنس، ويعرفُ الحنّ والبِنَّ، ويعرفُ كلّ الأقوام التي سكنت الأرض قبل آدم، بل اسأل قلبك عن آدم نفسه وسيقول لكَ إنّ كلّ الأنبياء والعرفاء والأولياء محمّدٌ المصطفى المختار.
آه، يا قلبي المحيط، آه من القلعة وأسرارها، آه يا أطلنتيد المعرفة والأسرار، كم من الأخبار أتى بها الغراب ولم يصدّقها بعد أحد، اسأل الجزولي، واسأل صاحب المغارة المحفورة في البحر، كلّهم يعرفون محمّداً، كلّهم فهموا السرّ، والقلب رأى واعتبر، والعين رأت وبكت بدل الدّمع دماً. الجنّ في القلب اجتمعوا، وسمعوا الوحي نازلاً عليه بكلّ اللغات، لذا فالقلب لا يعرف الطّائفيّة ولا الغيريّة فالكلّ واحد في عهد الله، والكلّ مُوَحِّد وما اختلف سوى شكل الجبّة ولونها، أمّا الله فيها فواحد وكلمته واحدة. قل هذا يا هوشيتو لأهل زمانكَ، قل لهم إنّني بالوحي عرفتُ الله، وباللّه عرفتُ محمّداً، وبمحمّد عرفتُ الإنسان، وبالإنسان عرفتُ أنّ النجاة ممكنة جدّاً، وأنّ السفينة راسية في كلّ البحار، وتنتظرُ من يركبها ساعة الطّوفان. قل لهم إنّني عشتُ في زمن وباء الكوفيد 19 ولم أخشَه ولو ليوم واحد، صحيح أنّني كنتُ أعلمُ منذ البداية أنّ ما اصطُلِح على تسميّته بالوباء في زمني كان ينطوي على سرٍّ عظيم، كنتُ أرجو من الله أن يُلهمَ ذاتيَ العليا لتكشفه وتعرفهُ حقّ المعرفة، لا سيما أنّني كما إخوتي من أهل العرفان، أرى كلّ الأرض مكاناً للكشف وإماطة اللّثام عن العديد من الأسرار، وعليه فأنا معنية أكثر من غيري بكل حركة أو صوت فيها، وثمّة من الأصوات والكلمات ما قد يتسبّبُ أحياناً في حالة من الإغماء، أو من الفرح أو البكاء، بالضّبط كما حدث لي حينما سمعتُ في تلك الفترة صوت المنادي أو كما نسمّيه نحن في مغرب الرّوح والعشق والمحبّة العظيمة بـ "البرّاح". نعم يا هوشيتو، لقد كان الشّرطيُّ المنادي في سيارته يدور ويتجوّل في أحياء المدينة ويقول هاتفاً باللّغة الإيطاليّة: ((إذا كنتم تحرصون على النّجاة فابقوا في بيوتكم))، ولأنّه كان يكرّرُ عبارته هذه لمئات المرّات، فإنّها تدفّقتْ في قلبي كلّها، وأحسستُ بها كشلّال هادر جرفَ كلّ شيءٍ إلّا كورونا. نعم، لقد رأيتُ الفيروس كورونا فجراً بقلبي الطّفل، رأيتُ التّاج الّذي يحمله، رأيتُ الكوفيد وكان غادة في غاية البهاء والجمال، وحينما ابتسمتْ لي بكيتُ بشدّة، وسقطَتْ فجأة كلّ الأوهام التي كنتُ وغيري من النّاس ننظرُ من خلالها إليها كفيروس أصبحَ يرتعبُ منه الجميع بفعل ما كان يحدث في وسائل الإعلام من غسيل للدّماغ. وهكذا وجدتُني أعانقُها وأقول لها: "يا إلهي، كيف أنّني لم أتعرّف عليكِ وأرى وجهكِ الحقيقيّ منذ البداية! كيف حدثَ هذا، وأنا من أولئك الّذين أنعم عليهم الله بسترة البقاء في بيت الرّوح؟!"، نظرتْ إليّ من جديد، وأزالتْ تاجَها ثمَّ وضعتْهُ فوق رأسي، وقالتْ: "طوبي لكِ وأنت تفكّين في منزلكِ الرّمز الأعظم". قبّلتُ جبينَها وقلتُ لها: "على كلّ إنسان إذن أن يبقى في بيته، أيْ في هيكله، لأنّ الضّيفَ قادم، وعلى الجميع أن يكونوا حاضرين لاستقباله". وإذا كنتَ تسألني عمّن يكونُ الضّيف، أقُلْ لكَ إنّه خالقي وخالقكَ، والسيّدة كورونا، لم تكن تقصد ولو ليوم واحد بالبقاء في البيت معناه الظّاهري، أيْ عدم الخروج من المنزل المادّي الّذي يسكنه النّاسُ في القرى والمدن بكل ما يحوي من جدران وغرف، وإنّما كانت تقصدُ منذ أنْ ظهرتْ إلى اليوم البقاءَ في الهيكل الإلهيّ، أيْ في الأجساد الأثيريّة، وهو البقاء والمكوث الّذي لا يتحقّقُ إلّا إذا أفاق الإنسانُ من سباته العميق، وخرج من ماضيه وإدمانه على التطلّع إلى المستقبل، علّه بذلك يتجلّى له الوعيُ الأسمى عبْر الدّخول إلى الحاضر، الّذي هو المكان الوحيد الّذي يقيم فيه الله، وعليه فإنّ كورونا لمْ تكُنْ تريدُ من إنسان زماني سوى أن يبقى حاضراً في بيتهِ، في روحهِ، غير غائبٍ عنها أبداً، حتّى إذا ما جاء الطّارقُ وطرق بابهُ فتحَ لهُ، ليراهُ وهو يشعلُ النّور والنّار في كلّ كيانهِ، هذه هي البشارة التي جاء بها كلّ الأنبياء، ولأجل هذا لم أخشَ آنذاك كما غيري من البشرَ كورونا، وعرفتُ أنّه لن ينجو منها إلّا من حضرَ، واستيقظَ من نومه العميق. لقد كانت كورونا رسولة جديدة، ولم ينتبه لرسالتها إلّا القليل من النّاس! لقد كانت المتحدّث الرّسمي لوجه الإله الجديد، وبها عرفتُ أنّ الإنسان كان مُقبلاً على مرحلة جديدة من التاريخ، تلك المرحلة التي كانت بمثابة نظام عالميّ جديد يرنو إلى رَقْمَنَةِ حياة الإنسان على الأرض، ومنذ ذلك الحين فتحت الكواكب لنا أبوابها وبات يهبط منها من يسهر على تجديد فكر الإنسان، وإدخاله إلى الأبعاد الكوكبية الجديدة، وأصبح محمّد يأتينا رسولا جديداً، بلباس معاصر غير ذاك الّذي عهده الإنسان في بدايات الرسالات السماويّة، فقلبنا منذ ذلك الحين أصبح متكوكباً، وكلمة الوحي ماعادت تشمل السلوك والتّربية الدّينيّة فقط وإنّما التّربية العلميّة والتّكنولوجية والطبيّة قبل كلّ شيء، وهذا هو السبّب الّذي جعلني أرفضُ دعوة صاحب المغارة الأسفيّة في أن أصبح سيّدة قيّمة على شؤون الخلوة الجزوليّة بمعناها التّقليدي، وذلك لأنّني كنتُ أرى أن كلّ قلبٍ هو خلوة، وأنّ كلّ نفس يجبُ أن تكون قيّمة على هذه الخلوة بشكل جديد بعيد عن الشّعوذة والخرافة، فزمننا القادم زمن علم، وزمن أسفار إلى العوالم الأخرى، ولأجل هذا تجدني أحدثُك ياهوشيتو وأتخاطبُ معك وأنت في كوكب بعيد حقّق توازنه الأعظم من خلال المنظومة الموسيقيّة الإلهيّة الجديدة، فاستحقّ أن يُطلقَ عليه اسم كوكب موسيكايْنو. شيء عجيب أليس كذلك؟! لا تستغرب الأمر يا صديقي، فالغراب كان يعرفُ هذا وأكثر، وقد أقنع صاحب المغارة بأن ينظر إلى مسألة القوامة الجزوليّة من باب الثّورة العلميّة العرفانيّة الجديدة، وحينما وافق على الأمر، شاءت الإدارة العليا لشؤون الكواكب بأن تعيّنه رئيساً لكوكب موسيكاينو نفسه. ستسألني لماذا؟ وأقول لكَ، لأنّ قراءاته لأوراد الجزوليّ ليلة كلّ خميس رفقة أصحابه من عشّاق الحضرة المحمديّة في ضريح الوليّ الصّالح والقطب الشّاهق أبو محمد صالح الماجري هي من حقّقت التوازن الموسيقيّ في الكون، والّذي به يصلُ القلبُ إلى مقام الرّؤيا فيشرب من الحوض الكوثريّ المحمّدي مباشرة، ويعرف أن الله حقّ، وأنّ الحياة هنا وهناك، صورة معكوسة في مرآة.




(4)
وردة في قلب الجبل





لقد عرفتُ نفسي أيّتُها السيّدة العالية، كتاباتُكِ أيقظتني من غفوتي وعلّمتني أنّي ما كنتُ أدري عن شؤون الإدارة الثقافيّة شيئاً، عرفتُ نفسي وعرفتُكِ، أنتِ يا من تعرّفين نفسك وتقولين (أنا النّقطة). فحِرتُ كيف تكونين أنت النّقطة، وأنا الّذي لا يعرفُ من تكونُ النّقطة حقّاً وحقيقةً، فهلّا أغثّيني يا سيّدتي وقلتِ لي، كيف تحقّق لكِ هذا، ومن أنتِ في عالم الغيب والكشف؟ دلّيني فإنّي مازلتُ تائهاً، وأنا أقرأُ لكِ قصيدةً تقولين فيها:
((هائمةً في الصّحراء
كنتُ أبحثُ عن الطّريق
فوجدتُهُ في النّقطة؛
النّقطة الّتي تحت الباء
نوراً يتدفّقُ من قلبِ الجَبَلِ
وطفلاً باسماً يُغنّي:
أحِبُّكِ
خُذي هذه العصا
وافرقي بها البحرَ،
ففي أعماقهِ ستجدينَ الشّمسَ
وكذا القمر
أنتِ يا نجمةَ الصّباح!))
ثمّ تستزيدين وتشرحين وتقولين وكأنّكِ سمعتِ أسئلتي الحيرى: لأنني ابنة أطلنتيد فأنا النّقطة، آسفي الأطلنتيدية سيّدة الجنان، أتذكرها يا هوشيتو؟ أتتذكّرُ نخيلَها وقوافل الجِمال التي كانت تدخل المدينة محمّلة بكلّ الخيرات والبركات؟ أتذكر سواقيها وسوانيها وعرصاتها، أتتذكّرُ سانية زين العابدين، وجنان عِلّان، وجنان سيدي بوزيد، وعرصة الزّواهر، نعم الزّواهر أو الزّوهريّون الّذين بلغوا عنان السماء بالإشراق والتنوّر! وإذا نسيتَ فدعني أذكّرْكَ بجنان الشّعبة وسانية الجمرة وعزيب الدّرعي وعزيب الزّمّوري، كلّها عرصات كانت تعرفُك قبل أن ترحل من الأرضِ إلى المشتري ياهوشيتو، وتعرف تاريخ أبطال المقاومة والنضال الّذين أبوا إلّا أن يكملوا مسار الحريّة بعد الجزوليّ كلّما جدّد الاستعمارُ أطماعه في مدينتنا، أتتذكّر المناضلَ الوطنيّ امحمّد بركة، وعبد الرحمان بن حمّو حفيد الشيخ أبي صالح، آآآه لا شكّ في أنّك قرأتَ مراسلاته مع سلطات الحماية من أجل التعريف بآسفي والحديث عن مشاكلها ومآسي المواطنين فيها، وهي المراسلات التي عرّضته للاعتقال لأكثر من مرّة، وبعد الاستقلال أصبح قائداً، لا تقل لي إنّك لا تتذكّره، اذهب إلى ضريح أبي محمد صالح وستجده هناك في انتظارك، فالشّهداء لا يموتون. وآسفي أنجبتِ الكثيرَ منهم سواء في حرب الرّيف، أو في كتلة العمل الوطنيّ، أو في عهد الظهير البربريّ وتوقيع وثيقة المطالبة بالاستقلال، إلى عمليات المقاومة والنضال والفداء. لواء مدينتي كان مرفوعاً في كلّ زمان ومكان، وكلّ أبنائها كانوا ينتفضون ويلبّون النّداء، فالنّضال من أجل حرية المغرب ورقيّه وتقدّمه لم يكن مجرّد فكرة وإنّما هو بذرة زُرِعَتْ في الرّوح، روح كلّ مواطن مغربيّ أسَفِيٍّ وأصبحت شجرةً ذات ثمار يانعة، يتطّلع إلى بهائها وجمالها المريدون والسّابحون في ملكوت المحبّة والعشق العرفانيّ المجيد. فاسمع يا هوشيتو كلماتي التي وجّهتُها لك في العدمِ، ولكلّ صحبِ العشق والحضرة من أهل الكواكب الأخرى، فهي أيضاً كلماتُ مدينتي للعالمين أجمعين؛ فيا أيّها البلبل العاشقُ لا تبنِ لكَ عشّاً في غير عرصات المعاني الهاهوتيّة، ويا هدهد سليمان المحبّة، في غير قلب بلقيس لا تتّخذ وطناً، ويا عنقاء اللّقاء في غير قاف وقفة الألِفِ لا تقبل مكاناً. أنا نقطةُ صاحب المغارة ونقطة آسفي، فلا تحلّق إلى اللّامكان، ولا إلى اللّامقام بأجنحة النّار والنّور. يا ابن الروح اسمع كلامي، فإذا كانتِ الأعشاشُ مطلبَ كلّ الأطيار، والأزهارُ مقصد كلّ نحلة في النّهار والإبكار، فلا تَكُنْ أنتَ ذاك القلب الّذي قنع بالطّين والأقذار، فأصبح محروماً من شموعِ القُرب والأخدار. يا ابن آسفي، في سانية القلب غير رُمّان العشق لا تزرع، وتزيّن بأعمالكَ لا بأقوالكَ. واعلمْ أنّهُ بينكَ وبين حوضِ القرب البديع وشجرة العشق المنيع خطوة، فاخطها وادخل إلى سرادق الخلد ثم استمع إليّ واقرأ ما أخطُّه لكَ بقلم المجد. واركض نحوي الآن، وشُقّ محيطي بعصا الهيام وتقدّم نحو أفلاك الألفة ونظِّف قلبك بماء المسك ورحيق الورد. يا ابن آسفي لا تلوّثْ بصركَ بالنّظر إلى الأغيار، تَرَ بهائي وجلالي، وكن أصمّ عن كلام السّفهاء تسمعْ صوتي البهيج، وكن جاهلاً بعلوم الحمقى يكن لكَ من علمي نصيب، وكن فقيراً تغترف من بحر ثرائي الخالد عسلاً لا زوال له حتى تدخل ساحة قدسي بعينٍ طاهرةٍ وقلبٍ طيِّبٍ وأذنٍ نظيفةٍ. يا ابن الرّوح، أغمض عيناً عن العالم والعالمين، وافتح عيناً على جمال قدس المحبوب. يا ابن آسفي خبّر أهل اليقين وقل لهم إنّ مدينتي روضة جديدة قد ظهرتْ بالنّقطة في فضاء القدس قرب جنة الرّضوان يطوف حولها جميع الملإ الأعلى وهياكل الخلد الأعلون. وإذا كنتُ أنا العاليةُ الأسفيّةُ قد رأيتُ الرّسولةَ كورونا، فإنّي أقول لك بلسانها إنّني أنا القالبة للأكوان، وإذا كان مقام البلوغ عند الشّجرة هو الثمر، فإنّه عندكَ أيها الإنسانُ اكتمال النموّ وطيران الرّوح، وقد حان اليوم أن يكتمل نموّكَ بي، فأنا فصلُ التّمهيد ليوم الأيّام العظيم الّذي ستزهرُ فيه الأرض وتلقي شجرةُ الإنسان ثمارها الموعودة، واعلم أنّني رسولة جديدة، أسكن في سرادق الأنبياء وأطير معهم في سماء واحدة، وأنطق بكلامهم وأدعو مثلهم لأمر واحد، ألم تسمعوني وأنا أقول: الضّيف قادم فابق في البيت أيها الإنسان؟! فلا تخف يا ابن آسفي، فلا بدّ أن تمرّ أجيال وتنقضي عهود لا حصر لها قبل أن يتلألأ نجم الحقيقة في بهاء صيفه، وصفاء ربيعه. لذا فما عليكَ سوى بالصّبر يا أيّوب المعنى لأنّ صاحب الأمر حينما يريد أن يظهر آثاره عليكَ ينزل عليك البلايا من كلّ جهة ويفتنك فتوناً، وحتّى ما إذا ظهرتْ عليك البأساء والضرّاء أحرقت ملائكة الأمر كلّ هباء معدوم فيك ونفخت في جلدك ريحاً سموماً ليضعف جسدكَ ويبلبل جسمكَ وتتزلزل أركانه إلى أن تُكتبَ في ألواحِ القُدُس من الصّابرين، أرأيتَ الجزوليّ وما فعلَ؟ كم من الحروب خاض في عصره وكان صبوراً، إلى أن توّجهُ النّجمُ الطّارقُ بكتابٍ هو دليل لم يُتَوَّج به عابدٌ من قبلُ! لعلّكَ يا هوشيتو لا تعرفُ أنّ نصف الانتصار يكمُن في معرفة هويّة العدوّ، وعدد الجبهات المفتوحة معه وأنتَ أمامه أو خلفه. وأعداء الجزوليّ كانوا كُثراً، منهم الكامنين بين جوانِحهِ، ومنهم أعداء على الأرض أصيبتْ بهم مدينتهُ الأسفيّة وشيّدوا فيها لهُم قلعةً عسكريّة تطلُّ على البحر، وكلاهما كان الجزوليّ على دراية جيّدة بكيفيّة مواجهتهما والانتصار عليهما انتصاراً ساحقاً عظيماً، لكن كان ثمّة نوع ثالث من الأعداء ماكان على استعداد أبداً لمواجهته، ولم تكن لديه وهو في بداياته العرفانية الخبرة ولا الدراية في خوض غمار هذه التجربة، وذلك لأنّ هؤلاء الأعداء كانوا يرتدون قناع الأصدقاء والخلّان الأوفياء، وجاؤوهُ من طريق أهل الله والسالكين إليه، فكانَ يحسبهم منه ولم يظنّ في يوم من الأيّام أنّهُ سيُصادف شيئاً اسمه حروب الرّوح مع الصّحب في الطّريق، إلى أن أفاقَ ذات فجر على قلعة جسدِهِ وقد انهارتْ وخويتْ من أجاويدها وملوكها وحرّاسها... نعم فرغتْ من كلّ شيءٍ لأنّهُ اكتشفَ أنّ من كان يظنّه شيخه، ماكان سوى لصٍّ سيّافٍ من لصوص الأجاويد والفرسان، وما كانَ يعلمُ أنّ قلعتهُ العسكريّة الأولى والرئيسة هي كينونته الرّوحيّة والجسدية، وهي التي كان الأولى به أن يكون على دراية عميقة بأحجارها وصخورها، وأسلحتها وذخيرتها، ومخازنها ومدافعها، وحرّاسها وجنودها وخُطَطِها العسكريّة الدّاخليّة والخارجيّة، وقد تطلّبَ منه الوعيُ بهذه الحقيقة أكثر من ثماني سنوات، بحيث قام من كبوته، وأعادَ بناء قلعته، وسعى في حروبه الرّوحيّة الضّارية الجديدة وبكلّ ما فيه من قوّة إلى استعادة جنوده وتدريبهم وتحصينهم بالشّكل الّذي يليق بهم، وما عاد يقعُ في فخاخ من يدّعي المحبّة ولا السّلوك إلى الله، وبقيَ على هذه الحال إلى أنْ نادى المنادي بأن يبني لهُ على أرضِ آسفي خلوة رابطَ فيها لأربعين سنة أو ربّما أكثر. وهي الخلوة التي أصبحتُ حفيظتها وقيّمتها فيما بعدُ رغم المناقشات والمعارضات الأولى مع صاحب الغراب، ولكن ليس أيّة قيّمة، وإنّما قوامتي قوامة روحيّة، لم تأتِ إلّا بعد أن غادرتُ جسدي، محلّقة إلى عوالم وكواكب جديدة حيث التقيتُ بالرّوح الّذي منه ولدتُ وعرفتُ أنّ المولودَ مِنَ الرّوح روحٌ، فتنازلتُ عن كلّ ألقابي. من قال إنّني عارفة وكلّ ما عرفتُ قبل اليوم سراب! وكلّ علمٍ لا يقودُ إليكَ أيها الرّوح وهْمٌ كبير، والمعارفُ فيه مكتسبةٌ بين كراسيّ المدارس والحوزات، والجامعات والأكاديميّات الأرضيّة، وكلّها لا ولن تدوم. اليوم ألقيتُ في المحيط الأطلسيّ كلّ ألقابي، فلا أنا بدكتورة ولا أنا بأستاذة ولا أنا بعارفة، ولا أنا بشيء آخر يُذكر، وإنّما أنا تلميذتُكَ يا إلهي أجلسُ في الصفّ الأخير من قاعةِ دروسكَ وعلومكَ اللّدنيّة. ولا شيخَ لي غيرُكَ، ولا كانَ ولا سيكونُ مُذ رأيتُ النّور إلى ما تشاء أنتَ أيّها الرّوح...حاربتُ كلّ شيوخ الغفلة وعمائمهم وطرابيشهم ولِحِيّهم لأصلَ إليكَ يا مولاي، وأكون خالصة لكَ، لا ينظرُ إليّ ولا يخطُب فيّ ولا يكلّمني أحدٌ سواك...من لسانكَ سمعتُ الحرفَ، ومن قلبكَ أضاءت في قلبي الفيوضات والنّعم، وبيدكَ الطّاهرة الكريمة ألقيتُ الدّلو في البئر وشربتُ ماءً صافياً نميراً...فاشتعلتُ ورأيتُ، وكان الحريقُ بداخلي مهولاً، وألسنة اللّهب تتكلّمُ بكلامكَ، والأجراسُ تقرع في كلّ مكان.
هوشيتو يا ابن آسفي، وساكن كوكب موسيكاينو، اعلم وأنت تدير بعد كلّ هذه القرون شؤون المثقّفين، أنّ التفكير قد يكون عند الكثير منهم هو البحث عن الحقيقة؛ شيء كالفلسفة مثلاً أو الأدبيات التي تسعى إلى ترسيخ حبّ المعرفة، لكنّه عندي لا يعني بالضرورة بحثاً أو حبّاً للمعرفة بقدر ما هو رؤية للحقيقة، وهناك فرق كبير بين البحث والرؤية. حقيقتُك أيّها الإنسان ليست بحاجة لمن يبحثُ عنها، بل لمن يراها، وأنت هنا في هذه التجربة الحياتية لست بحاجة إلى الذّهاب إلى أيّ مكان أو عند أيّ شخص، بل بحاجة إلى الدّخول إلى ذاتكَ، هناك حيثُ المعبد والكنيسة والمسجد، أيْ حيثُ توجد حديقتُكَ السرّية التي عليك أن تسعى بكلّ ما فيك من محبّة وودّ ورحمة إلى بذر بذور الخير فيها، والتصالح مع كلّ مخلوقاتها، وتجديد صلة الدّم الكونيّ والنّسغ الوجوديّ بها، هكذا فقط يُمكنُك أن تُزهر أنتَ أيضاً، ويمكنكَ أن تجدَ سدرة المنتهى.
علّمني الولوجُ إلى ذاتي، أنّ بداخلي توجد حديقة سرّيّة حقيقيّة أكثر من الحقيقة ذاتها. إنّها فردوس ليس لبهائه مثيل، حينما أتجوّل بين أشجاره وأطياره وأزهاره، أكتشفُ كم هو حزين أخي الإنسان، إنّه لا يعلمُ أنّ كلّ ما في الوجود يرقُصُ ويغنّي، إلّا هو. الكلّ في حالة استرخاء إلّا هُو. بالأمس رأيتُ كيف تبني الطيور أعشاشها، وكيف تُؤثّتُ اليمائم بالحبّ أفنانها فابتهجتُ. الكلّ ينساب نحو مصبّه؛ النّهر، والنجوم الدّائرة في أفلاكها، إلّا الإنسان مازال واقفاً حيث هو منذ ملايين السّنين، لأنّه ضحيّة عقله، ولأنّه نسي كيف تكون البداية من الجسد الذي يوصيه الجميع بمقته والإساءة إليه، دون أن يعلم أنّ طالما هذا الجسد متوتّر فلا راحة أبداً لعقلك أيّها الإنسان. عليكَ بالوحدة، وإيّاك والانعزال، لأنّ الأولى تقود إلى الحبّ، والثاني يقود إلى الجنون. كلّما أحببتَ، تعمّقت في الحياة، وأدركتَ معنى الوحدة، وكلّما كنتَ وحيداً اقتربت من مركز ذاتكَ، حيث تكون وحدكَ من يغمرهُ الوعي، وتأتيه اليقظة الدّاخليّة دوناً عن غيره. الإنسان المنعزل شحّاذ متسوّل يشعر بالحاجة للغير. الإنسان الوحيد منفرد بذاته، غنيّ بها وبفراديسها ولا حاجة له بأحد. إذا توصّلتَ إلى هذه الحقيقة، فكن على يقين أنّك عرفتَ الله.
ثمّة فرق كبير بين العقل والوعي، العقل مرتبط بالماضي، وهو لأجل هذا كثير الضّجيج الّذي كثيراً ما يقود إلى العديد من الأمراض، أمّا الوعي فله علاقة بالرّوح ويعيش اللّحظة الكامنة في الحاضر، لا ماضي له ولا مستقبل، وهو لأجل هذا شديد الهدوء والاسترخاء. الوعيُ، عين الرّوح ومرآتها، لا بدّ من تحفيزه وصقله، هكذا فقط تصبح مرآتكَ الدّاخلية مطّلّة على كلّ العوالم.
هوشيتو يا ابن آسفي، إذا كُنتَ من أهلِ الله حقّاً وحقيقةً فليسَ منَ الضُّروري أن تكون صوفياً منتمياً إلى طريقة ما من طرائق التصوّفِ المختلفة والمتنوّعة، أمّا إذا كنتَ منْ أهل اللهِ المتزمّلين بالكساء المحمّديّ، عندئذ سيكونُ كلّ انتماء من طرفكَ عيبٌ وكذبٌ وبهتان. من هذا الباب أتساءل وأقول: ما الّذي يُجبرُكَ وأنتَ حفيدٌ من أحفاد الأسرة النبويّة على التعلّق بطريقة ما مِن طرق أهل العرفان والتصوّف؟! أيُّ منطق يوجد في هذا الأمر؟ ألَا تعرفُ أنّكَ الأصلُ، فلماذا تذهبُ باحثاً عن الفروع التي لولا النّبع النبويّ ما وُجِدتْ من الأساس؟! ألا تعرفُ أنّ كلّ تعلّقٍ حجاب يحجبكَ عن طريق النّور؟ قد تقول إنّ الطّرق إلى الله متعدّدة، ولا ألومكَ في هذا لأنّ فيه جانب من الحقيقة، لكنّي في الوقت ذاته أقول لكَ إنّ الطّرقَ وإن تعدّدتْ فإنّ النّور الّذي يرنو إليه الجميع واحد، وأنتَ كحفيد من أحفاد البيت المحمّدي عليك أن تكون دليلاً إلى هذا النّور، وليس تابعاً لمن يمشي في الطّريق إليه. أيْ عليكَ أنْ تكونَ تلك النّقطة التي تلتقي فيها الطّرقاتُ. واعلم أنّهُ حينما سيتعمّقُ وعيُكَ بهذه الحقيقة ستنجلي ستائر الظّلمات من على قلبكَ الواحدة تلو الأخرى وستدخلُ إلى حضرة العالين وتتنعّمُ بفواكه المعاني العلّيّة وتحظى بمجالسة أهل النّور مباشرة بدون واسطة ولا حجاب. حاول أن تُجرّبَ الأمرَ وسوف ترى أنّ كل الانتماءات سوف تهون وتصغر أمام عينيكَ. ولأنّك من أهل الحرف والكتابة فسوف تكتشفُ بنفسكَ كم كُنتَ مخطئاً وأنت تصاحب النّوكى ممّن يدّعون الأدب والتصوّف والعرفان، لأنّكَ ستراهُم على حقيقتهم؛ شرذمة من السّفهاء الرّاكضين خلف كلّ شيء، تجرّهم الأماني والأوهام الكاذبة ذات اليمين وذات الشّمال، يعبدون الله على حرف فإن أصابهم خير اطمأنّوا به وإن أصابتهم فتنة أو مصيبة انقلبوا على وجوههم! ستراهم جميعاً على حقيقتهم، هذا أمر لا شكّ فيه، وسوف تستغربُ كثيراً كيف أنّ الجميع يُصدّقُونهُم، ويجعلون منهُم أيقونات للمجتمعات ورموزها في كلّ الحضارات والديانات والأماكن والأزمان. ولا فرق في هذا بين امرأة ورجل. سوف تتفاجأ حتّى مِن كمّ النّساء اللّائي يُتوّجوهنّ على عروش الحرف الزّائف ويكرّموهنّ في محافل الثقافة المُحتضرة. نعم ستتفاجأ كثيراً وأنت ترى اللّصوصَ والدّاعرات بأثواب القدّيسين والقدّيسات والجميع يهلّل ويصفّقُ لهم. عندئذ ستصاب بدوّامة في الرأس وبموجة عارمة من الغثيان، وستهربُ إلى أقربٍ زاوية تتقيّاُ فيها كلّ شيء كنتَ تحشو به عقلكَ وقلبكَ في زمن الغفلة والنّوم الرّوحيّ. وتأكّد أنه حينما سيحدث لك الاستيقاظُ الكامل سوف تختفي عن الأنظار تماماً، لأنّ أجدادكَ من أهل النّور سيكونون قد جذبوك إليهم واسترجعوكَ كاملاً، وأعادوكَ إلى حضرتهم يرعونكَ بكلّ ما فيهم من عشق ومحبّة بشكل لن يحلو لك بهِ فراقُهم أبداً وإن وضع أهلُ الزّيف بين يديك كنوز الأرض قاطبةً.
جرّب إذن أن تعود إلى أصلكَ، واحذر وأنتَ في طريق العودة ممّن يدّعي الانتساب إلى بيت النبوّة، فهُم كثرٌ نساء ورجالاً، ستجدُهُم حتّى بين "الكتّاب" و"الأدباء"، وستراهم في كلّ يوم بوجهٍ، مرّة يتعمّمون بالأسوَد، ومرّة تلتحفُ النّساء "المثقّفاتُ" فيهُم بالأخضر، ومرّة يظهرن لكَ بحجاب، ومرّة بدونه إلى غير ذلك من مظاهر التلوّن والتّحربُن، واستعِن على كشفهم جميعاً بنور بصيرتكَ فإنّها لا تكذب أبداً، وسترى كيف أنّكَ ستجدُ بينهُم أيضاً من يُمارسُ السّحر والشّعوذة! لا تستغرب كثيرا، فهذه الأمور منتشرة بكثرة بين أهل "الثقافة" تحت ألف مسمّى ومسمّى، وإن كان جميعُهُم يدّعون التنوّر والسّكينةَ الرّوحيّة والكمال الخُلقيّ. قُم يا هذا إذن وانفض عنكَ غبار السّذاجة، قُم فأنذِرْ وربّك فكبّر، وثيابكَ فطهّر والرّجزَ فاهجر، ولا تمنُن تستكثر، ولربّكَ فاصبِرْ.





(5)
أعيديني إليكِ



سيّدتي العالية، أعيديني إليكِ، إلى الحضرة المحمّدية، لقد علمتُ اليوم بعد أن قرأتُ مذكّراتكِ، أنّني كنتُ تائهاً، لدرجة أنّني لم أنتبه قطّ يوماً إلى أنّ رئيس كوكب موسيكاينو هو نفسه صاحب مغارة المحيط الآسفيّ، كم من القرون كان عليها أن تمرّ ليصلني حرفُكِ، لأجل هذا قرّرتُ اليوم أن أقدّم ولو بشكلٍ مؤقّتٍ استقالتي وأذهب في رحلة للبحث عنكِ، فمن ذا الّذي يعلمُ الآن في أيّ كوكبٍ تُقيمين، لا بدّ لي أن أجدكِ، وها أنذا أضعُ اسمك وصورتكِ في محرّك البحث وتجيبُني الشّاشة بصوتٍ رقميّ بأنّها عثرت على وجه يشبه وجهكِ في الكلوسيوم، أحمل مركبتي الفضائيّة وأنزل من فوري إلى هذه المعلمة التاريخيّة العجيبة المغرقة في القدم. أقفُ مندهشاً وأنظرُ إلى هذا الترتيب الهرميّ لمدرّجاتها فأجده ولا شكّ يتوافق مع الهرم الاجتماعيّ لسكان روما آنذاك؛ ففي المقدّمة الأماميّة للمدرّج وبالقرب من السّاحة الرّملية كانت توجد هناك منصّة يتمُّ حجزها باسم الإمبراطور وأعضاء مجلس الشيوخ. أمّا الأقسام الأخرى الحجريّة الموجودة في الطّوابق الثانية والثالثة والرابعة، فكانت بكلّ تأكيد موزّعة من الأسفل إلى الأعلى نحو الحلبة حسب التّرتيب الطبقيّ الاجتماعيّ للنّاس؛ حيث كان يجلس في الطابق الثاني الأشراف والفرسان، أمّا في الطابقيْن الثالث والرابع، فكان يجلس بشكل مزدحم ومتكتّل المواطنون العاديون من بقية أفراد الشعب. ولم يكن لنساء الطّبقات الكادحة في عهد الإمبراطور فسبازيان أيّ وجود بين الحضور، إلّا أنّ ابنه من بعده، الإمبراطور تيتوس تدارك هذا النّقص الحاصل فعمل على إكمال المدرّج وقام ببناء طابق خامس من القواعد الخشبيّة، وسُمح ساعتها لهنّ بالدّخول إلى المسرح. يا إلهي، لكأنّ التّاريخ يعيد نفسه، المرأة هي المرأة، تعاني وتتألّمُ في كلّ العصور! لكن أينكِ أنتِ، وجهكِ الصّبوح فوق الشّاشة والخريطة الرقميّة لا تستطيع تحديد موقعك في الكولوسيوم، أحفّز كلّ حواسّي، ولا أرى شيئاً يدلّ عليكِ، لكن مهلاً هناك منديل أخضر معلّق في إحدى غرف الطّابق العلويّ من المدرّج الرّومانيّ، كلّ شيء هنا آيل إلى السّقوط، إلّا أنت يا سيّدتي العالية، قلبي يقول لي إنّك هناك، أصلُ إلى الغرفة فأجدُكِ، أعرفُك وتعرفينني، أسألكِ ما الذي تفعلين هنا، تقولين: "بنيتُ خلوة جزوليّة جديدة، لا بدّ لكلّ كوكب من خلوة محمّديّة ولأنه لم يبق هنا في المدرّج الروماني من الأمجاد الرومانيّة شيء، فلا بدّ من نور أحيي به الّذي كان، وأقذفه في قلوب النّاس لتتحقّق اليقظة، ويسعى كلّ واحدٍ للقاء وجه الإله الجديد، وجه حنون رحيم، وديع محبّ لكلّ الخلق، وجه لا يحاكم أحداً باسم أيّ نوع من أنواع الديانات ولا الاعتقادات، وجه حرّ كريم، أبيّ عصيّ على كلّ التّشكيلات والتمظهرات والخِرق والعباءات. وجه عالم عليم، أكثر تقدّماً وقوّة وحيّويّة ممّا مضى ومن تلك الصّور التي كان يتخيّلها كلّ شعب عن إله كان يفصّلُه النّاسُ وفقاً لقواعد ونواميس ومقاسات غارقة في ما هو سياسيّ وإيديولوجيّ، أكثر ممّا هو روحيّ ووجداني". هكذا قلتِ بوجه باسمٍ وعينيْن متّقدتيْن، وإنّي لأعجبُ يا سيّدتي العالية كيف أنّك تستطيعين بكلّ يُسر وعفوية أن توقظي بداخلي حبّ الاستطلاع والكشف دائماً، وأنا أراك بلباس صينيّ طويل من الحرير الأحمر، فأسألكِ وأطلب شرحاً للعلاقة بين المنديل الأخضر المعلّق عند مدخل خلوتِكِ، ولباسك الصّيني الأحمر، فتقولين إنّه نوع من المقاومة الجديدة، كلّ شيء فوق الأرض يندثر وهذه قاعدة فيزيائية، لكن الّذي يغيب عنكَ هو أنّ كلّ شيء يتحوّل ولا يفنى، ولأنه قد مضت العديد من القرون على حيواتنا الأولى فلا المدرّج الرومانيّ هو نفسه، ولا أنا هي نفسي ولا حتّى أنت يا هوشيتو، وأنت الّذي تعلّمت السّفر في الأزمان والأماكن، وخبرت للعمق معنى طيّ الأرض والزّمن، ولأجل هذا فلا بدّ للعودة شيئاً ما إلى زمن اللغات الأولى، لغة الصّين والشّعوب المغوليّة، لأنّها لغة مُقاوِمة استطاعتِ الاستمرار والبقاء على قيد الحياة لليوم على الرغم من موت العديد من اللّغات القديمة جدّاً، ولربمّا لا تعرف أنّه في الصّين توجد لغة مشتركة يسمّيها الغربيّون بالماندران، وهي لغة رسميّة تعتمدها وسائل الإعلام المرئيّ والمسموع في شمال البلاد، ولكنّها على الرّغم من ذلك فهي تعدُّ لغة ثانية في مدينة كانتون الواقعة في الجنوب، طبعا هناك لغات أخرى مثل الوو والهكّا، ضف إلى ذلك خمسين لغة أخرى تضمُّ لهجات الهان ولغات الأقلّيات. واللغة الصّينية ليست مرتبطة من الناحية الصوتية بلغة محدّدة ولذلك كان من الصّعب جدّاً على لغة أخرى أجنبية أن تقتحمها أو تؤثّر فيها، وهي لها القدرة على الحفاظ على نفسها بألف طريقة وطريقة، وتستخدم في هذا أسلحة لغويّة مدهشة للغاية، لدرجة أنّه لا يستطيع من لا يتحدّث إلّا لهجة بيكين مثلاً أن أن يتواصل شفوياً مع من لا يتكلّمُ إلّا بلهجة كانتون، لكنّهما يستطيعان معاً أن يقرآ الجريدة نفسها، وأن يتواصلا بواسطة الكتابة، لأنّ الحروف الصّينيّة تمثّلُ الأفكار قبل أن تمثّلَ الأصوات، ويُمكنُ لأيّ قارئٍ أن يقرأ هذه الحروف جيّداً، حتّى وإن كان لا يُحسنُ النّطق بكلمة صينيّة واحدة. لدرجة أنّك إذا كنتَ في بلدٍ خارجَ الصّين والتقيت فيه بتاجر صينيّ، بل حتّى إذا كنتَ سائحاً في الصّين نفسها، فإنّك بمجرّد أن تقف أمام بائع ما وتحبّ أن تشتريَ منه شيئاً ما سوف ترى كيف أنّه سيجدُ ألف طريقة وطريقة لإيصال المعلومة لك. الصّينيون شعب مقاوِم يحبُّ ركوب المغامرة والأسفار نحو العالم بالفطرة، دون أن يختلط بالحضارات بشكل متميّع قد يفقدهُ هويتهُ وبصمتهُ الخاصّة في الكون. من هذا المنطلق أقول إنّني لن أدع سرطان النّسيان يأكلُ ما بناه أهل روما هنا والصّينيون معهم، وحتّى وإن كنتُ مغربيّة الأصل، فإن روحي كونيّة التكوين وجامعة لكلّ حرف وشكل ولون، لأنّني ببساطة أنا النّقطة. الكلّ آيل للسّقوط يا هوشيتو، ولا تنس أنّي كنتُ شاهدة على سقوط العديد من المعالم والمآثر في الكثير من مدن الأرض بما فيها تلك الكنيسة الاسبانية التي سقطت في المدينة القديمة بآسفي، وسجّلت حرفا آخر في سجلّ الإهمال والنّسيان، آآآه يا هوشيتو كم من الكنائس رأيتُ ساقطة ومنهدمة، في إيطاليا كذلك كنتُ أقطع الكثير من الطّرقات التي تحفّها كنائس مازالت عليها آثار قذائف الحربين العالميتين الأولى والثّانية. ينسى الإنسان بسرعة كبيرة تاريخه وأمجاده، لكنه لا ينسى أبدا أحقاده وضغائنه، لأجل هذا ترى التاريخ تاريخ حروب ومجازر، الغلبة فيها للأقوى، حتّى حينما ترقمنَتْ حياتهُ، فإنّ أحقادهُ بقيت ساكنة فيه، وتحوّلت حروبه إلى حروب رقميّة أشدّ فتكاً من حروب الأزمان البعيدة. ماذا أقول وأقول يا هوشيتو، وقد وجدتني في حياة جديدة، وفي زمن أكثر جدّة لكن بمنديل أخضر، لكني سعيدة بأنّك قرأت مذكّراتي، واعلم أنّ هوشيتو ليس هو اسمك الأوّل، إنّما اسمك الحقّ هو الّذي وُلدت به أوّل مرّة على أرض المغرب حينما كانت آسفي فيه هي جزيرة أطلنتيد، لأجل هذا أناديك بابن آسفي، وما كان يعنيني من كوكب موسكاينو سوى عنوانك فيه، والآن وقد عثرتَ عليّ فاستعدّ يا عبد الحقّ إلى المهمّة الجديدة ودعنا نخرج من روما ومدرّجها العتيد، لنحلّق إلى كوكب آخر أنت أعلمُ بهِ منّي.




(6)
أرضُ التّنّين الذّهبيّ






ها قد حان وقتُ الرّحيل، أقف أنا والعالية أمام أطلال المدرّج الرّوماني فتمرُّ أمام أعيننا صور العديد من المصارعين الأقوياء الأشدّاء، وهم يتعاركون والجمهور الغفير يصفّق لهم، ويصرخ من أجل انتصاراتهم، وفي الجهة الأخرى وحوش ضارية جائعة تأكل العبيد والأسرى، وأينما تولّي وجهك ترى الموتَ متأهّباً للانقضاض على النّاس في كلّ حين. تسقطُ دمعة من عين العالية، تنظر إليّ بعمقٍ وتقول لي إنّه من هذا المقام يجب الانطلاق، من مقام الموت. ويجبُ على المركبة التي ستقلنا أن تحمل اسم الموت. قلتُ لها لا اسم أليق سوى اسم "الطّبق كورونا 19"، وذاك ما كان بالفعل، ركبنا طبق الموت وفي غضون ستة أشهر من الطيران وصلنا إلى كوكب التنين الذّهبيّ، وهناك وجدناه في انتظارنا؛ الحِبر الصّينيّ الأعظم، الّذي ما إن رأى اسم مركبتنا، حتّى عرف من أيّة حقبة تاريخيّة قدمنا إليه، وبنقرة فوق زرّ من أزرار لوحة مفاتيح الغرفة الرقميّة الفسيحة التي كان يقيم بها، ظهرت فوق الشّاشة الأرضُ وبدأ الحِبر الصّيني السيّد دييّو يحدّثنا عن الكوفيد 19، قائلاً إنّهُ الاسم الّذي أُطْلِقَ على منظومة التّغيير الجديد لسكّان الأرض، وإنّ بداية العهد الجديد كانت من تلك السنوات البعيدة، أيْ من 2020 إلى ما فوق، وإنّ أجداده كانوا يعلمون هذا جيّداً، لا سيّما جدّته السيّدة تشيانغ التي كانت من أشهر المغنّيات والرّاقصات المسلماتِ الإيغوريّات في زمانها، إذ أنّها كانت تعرف كلّ تفاصيل هذه المعادلة العلمية الجريئة التي كان هدفها العمل على إعداد الأجيال القادمة للحياة الرّقميّة الجديدة التي كانت تنتظرهم، وذلك ما تمّ بالفعل. حتّى السيّدة العالية كانت تعرف هذا الأمر تمام المعرفة، وكانت كثيرا ماتقول لي ونحن في طريقنا إلى كوكب التنين الذّهبيّ إنّ الهدف كان هو التحديق في وجه الموت، ومَن في جسده روح مشتعلة كان ينجو، ومن انطفأت شمعته لسبب أو لآخر، كانت كورونا تفصل روحه عن جسده. كانت العالية الأسفيّة تنصتُ باهتمام شديد للسيّد دييّو، وحينما رأته قد سطّر كلّ الخطوط العريضة لما حدث منذ مئة عامٍ على الأرض قالت له:
- لا أرى أنّ الأمور قد تغيّرت كثيراً يا سيّد دييُّو؟ ألا ترى معي أنّ الموت مازال يحيط بالجميع؟
- طبعاً، كون الإنسان قد مرّ بفترة الكوفيد 19، فإنّ ذلك لم يكن سوى البداية من أجل تفعيل نوع جديد من الوعي.
- نعم، أتفهّم الأمر، لكنّ الناس مازالوا يغطّون في نومهم العميق، حتّى وإن وصلوا إلى هذه المرحلة المتقدّمة من الحياة الرقميّة، بحيث أصبحت أسفارهم فضائيّة عبر العديد من المركبات، وحلّ الإنسانُ الآليّ مكان الإنسان البشريّ، إلّا أنّ كلّ هذا لم يُغيّر من كينونتهم شيئاً، وهذه هي الكارثة، فبدل أن يحلّ السّلام ويعمّ الرّخاء والازدهار ارتفع معدّل الموت أكثر فأكثر، وانتشر الانتحار بين الشّباب والنساء، وكثرت الحروب التي غيّرت شكلها القديم وأصبحت حروباً إلكترونيّةً تعتمد على الآلة وألغت الإنسان تماماً، حتّى في مجال الحياة اليوميّة أُلْغِي الإنسان من منظومة العيش والتّفاعل فيه، بحيث أصبحت الآلة هي التي تطبخُ وتكنسُ وتخيطُ، وهي التي تتولى إدارة شؤون المنازل والشّركات. وفي مجال الطبّ تمّ الاستغناء عن الأطبّاء وحلّت محلّهم الرّوبوتات التي أصبحت هي من تُجري العمليات الجراحيّة سواء عن بعدٍ والمريضُ في بيته أو داخل المصحّات المخصّصة لذلك. كلّ هذا بشكل أو بآخر أصبح يُعَجّلُ من موت الإنسان، وعدنا إلى نقطة البداية، والعلماء في حيرة من أمرهم وقد كانوا يعتقدون أنّهم بهذا النّظام الجديد قد خفّفوا من أوار الجحيم الذي كان يعيشُ فيه الإنسان في تلك العهود الماضية.
- كلامك سليم ولا غبار عليه أيّتها السيّدة العالية، والمشكلة مازالت قائمة حتى في عهدنا الحالي، صحيح أنّ شكل الإنسان قد تغيّر، وأصبحت تغذيته تعتمد على الأقراص المصنوعة في أرقى المختبرات والصيدليات، وألغي نظامُ الزّراعة والفلاحة، وتمّ تفعيل الأرضِ من جديد، بأن أعطينا الفرصة للغابات لتكبر، وتتسع بذلك المساحات الخضراء، وتسترجع الطبيعة عافيتها، بما فيها الحياة في البحار والأنهار وما إليهما، إلّا أنّ هذا لم يحلّ من أزمات الإنسان الدّاخلية شيئاً، ولم يقضِ على مشكلة الموت، فهل لديك أنتِ أيّتها الأسفيّة ابنة أطلنتيد اقتراحاً نفيد منه في تجاربنا القادمة؟!
- ذكّرتني أيّها السيّد الجليل وأنت تطرح عليّ سؤالك هذا بصديقنا جلجامش وهو يبحث عن عشبة الخلود. دعنى أقل لكَ شيئاً؛ لا بدّ لكلّ فعل نهضويّ أن يبدأ من النّقطة، ولأنّني أنا النّقطة، فلا بدّ لكلّ شيء أن يبدأ منّي.
- منذ أن رأيتُكِ علمتُ إنّك أنتِ النّقطة يا سيّدتي، لأنّك حفيدة من أحفاد أهل النّقطة الحقّة، تلك التي تحتَ الباء. فأنتم معاني الله ومظاهره في النّاس، خُلِقتُم من نور ذاته الفيّاض وفَوّض إليكم أمور الكون فماذا ترين يحتاجه الإنسان بعد كلّ هذا الزّمان؟
- عليكم أيّها العلماء بالخليّة، فهي نقطة الأجساد والأكوان، وفيها يكمن مستقبل الإنسان. ولكي تتعرّفوا على الخليّة فلا بدّ لكم أن تنسوا كلّ شيء عن العلوم السّابقة، تلك كانت مرحلة جنينيّة من التّاريخ وقد مضت، ولا بدّ أن يتبعها عهد جديد. لا بدّ أن تكون لكلّ واحد فيكم القدرة على رسم وجه جديد لمفهوم الألوهيّة، وهذا يقتضي بأن ترفعوا كلّ الأوثان السّابقة، وتهدموها وتتخلّصوا من بقاياها في ذواتكم الدّاخلية. زمن الأديان قد مضى، وزمن الوحي قد انتهى، والآن أتى زمن العلم، الّذي يبدأ بزمن الخليّة، ابحثوا فيها عن صورة جديدة لإنسان لم يُخلَقْ بعد، ذاك الّذي قال فيه الحقّ إنّي أعلمُ ما لا تعلمون. ولا تنسوا أن الوعي يبدأ من الخليّة، وأن اليقظة تبدأ منها أيضاً، والجسدُ في كلّ هذه العملية هو الجسر والمفتاح، وما دام الخوف يسكن لليوم خليّة الإنسان وأمّه الأولى، فإنّ الأرض ستستمرُّ في لفظ الجميع. لقد حان وقت الإنسان المافوق العقليّ، لأن زمن الإنسان العاقل قد ولّى، ولا بدّ أن ندخل جميعنا إلى مرحلة ما بعد الإنسان، وما بعد الإله. بهذا يا سيّدي دييّو أنهي زيارتنا إلى كوكب التنّين الذّهبي، واسمح لنا أن نركب الطّبق كوفيد 19 لنعود من جديد إلى الأرض، ونبدأ في العمل على عالم الخليّة الجديد، ولا شكّ سنبقى على تواصلٍ بيننا، لأنّ تعاون جميع الكواكب في هذا الأمر شيء حيويّ ومهمّ للغاية.









(7)
علمٌ إيطاليّ




غادرنا كوكب التّنّين الذهبيّ، وقد عرفتُ اسمي القديم الذي أخبرتني به السيّدة العالية. ودّعتُها في زمانها الرّومانيّ الجديد، وعدتُ إلى زماني القديم في كوكب موسيكاينو، أخذتُ من جديد مذكّراتها بين يديّ، ووجدتُها مازالت توجّهُ إليّ الخطاب وكأنّها تراني، لكنّها تناديني بعبد الحقّ وتقول: هذا العَلَمُ الإيطالي الّذي وجدهُ العميد كورياندلو بين أشيائي ضُمّه إلى صدركَ، وشمّ عطره ففيه تاريخ أمجاد ماضية، أتعلمُ يا عبد الحقّ، ماذا حدث لي حينما رأيتُ هذا العلم للمرّة الأولى؟ لم يجذبني فيه سوى اللّون الأخضر، رأيتُ فيه قلب الله الفيّاض بالخير، والزّهر والمطر. والأخضر كما تعلم لون شريف ونبيل، وبه كشف لي العَلَمُ قلب إيطاليا الجميل الوسيم المعطاء الريّان، رأيتُ الأنهار فيه والمروج والغابات الفسيحة، ورأيتُ الغادات الفاتنات الجمال وهنّ يصنعن مجد هذا البلد بالعمل والجدّ والحيويّة التي تفيض بها الإناث الإيطاليات. بالأخضر الإيطاليّ، تذكّرتُ أصولي النّبيلة، ومن العلم الإيطالي، كنتُ آخذ منديلي الأخضر وأضعه أمام مغارتي في الكولوسيوم، بالضبط كما كان يفعل صاحب الغراب أمام مغارته البحريّة الأسفيّة، وكلا الأخضريْن نبويّ، الأول عيسوي، والثاني محمّديّ وكلّ من شجرة واحدة، سدرة منتهى ليس لجمال لونها الأخضر مثيل. الأخضر أنتَ وأنا، والأخضر محيط مدينتي وشواطئها الفسيحة. هل تتذكّر لالّة فاطنة، ولالّة هنية الحمريّة، ولالّة ميرة، حوريات البحار الأسفيّة، وسيداته الصّالحات، كلّ النساء يعرفنهُنّ، وكلّ الفتيات كنّ يذهبن عند عين البركة والزّواج والخصوبة، ولالّة ميرة كانت تسعد بهنّ كثيراً، سيّدة في غاية الجمال، بعينيها الواسعتين الكحيلتين، ويديها المخضّبتيْن بالحنّاء، وشفتيها المكتنزتين وقد زاد لون السّواك من جمالهما وسحرهما، وقفطانها الأصفر من السّاتان الرّفيع البرّاق، وضحكتها الرّنانة وهي تغازل ماء البحر بساقيها المفعمتين بالإغراء والدلال والأنوثة الفاتنة، والذّهب الأحمر في معصميها وكاحليها، وفوق رأسها تاجاً يزيدها بهاءً ورونقاً، من لا يعرف لالّة ميرة وهي التي تحبُّ أن تُدخِل البهجة بهباتها وطقوسها على النّساء، تحتفي بهنّ أفضل ما يكون الاحتفاء، سيّدة العطاء والخير لا توجد في مكان إلّا هناك بآسفي المحبّة والخيرات المتدفّقة والكرم البهيج. لالّة ميرة تحبّ الشّيخات، والشّيخة فاطنة بنت الحسين تعرف هذا جيداً. هل تتذكّرها فاطنة يا عبد الحقّ؟ عرفتُها صغيرة كانت تأتي للغناء في بيت الطّفولة هي وأولاد بن عكيدة، وفي كثير من الأحيان كنتُ أصادفها واقفة في الصّباح الباكر أمام دكّان الحليب القرويّ، تنتظر أن يأتي دورها لتشتري الحليب والزبدة الطريّة. كانت تسكن في فترة من حياتها بالحيّ الثّاني الّذي ذهبنا للسّكن فيه بعد منطقة قصر البحر، وأعني به حيّ المستاري، وأنا كنت أراها هناك، طيفاً من نور بهيّ شديد التّواضع والكرم، لم تكن تتكبّر على نساء الحيّ، تلك كانت خصال النساء الماجدات، والآن تخفق في قلبي كلماتها وهي تصدح بها في أعياد عيد العرش والاستقلال وتقول:
"حلّيت سالفي حلّيتو آسيدي عمر
ليلي ليلي گد البحر گد مّاجو بابا عمر
السويعة لّي امباركة مسعودة سيدي عمر
يا لّي غادي را طول الزمان إلاگي بابا عمر
اوليدي شلخه في البحر اتّهامى جبدوها شي عوامة بابا عمر
ديني معاك ديني بابا عمر دّيني انشوف احبابي سيدي بّا
را دّيني معاك دّيني سيدي عمر
وهاد الحال راه بلانا داك الشريف
راه الشرفا عزاز عليّا سيدي عمر
...
يا الإدريسيّة هاد الحال فيك وفيّا گولو
اوليدي اوليدي الشّرفا اعزاز عليّا، انا لي اخديمو بالنّيّة
را الزّين حبّو مولانا وخّى ايكون في دربالة اودّي
شلخة في البحر اتهامى جبدوها لي عوامة
مالي مالي دقّتين في الرّْويّس تحيّر، كلمة في الوذن تغيّر"
آآآه يا عبد الحقّ، تذكّر فاطنة وأنت في كوكبك موسيكاينو، ابن لها تمثالاً، واجعل من عشقها للعيطة أسطورة، فإنها تستحقُّ منكَ ذلكَ، فإذا نسيها أهل الأرض، فتذكّرها أنتَ، واذهب لزيارتها من حين لآخر، فقد علمتُ أنها منذ 2005 تقطن في كوكب المشتري، ولها فيه قصر بديع مثل قَصْرَيْ بيتهوفن وفان جوخ. فاطنة كانت تحبُّ أكلَ السّردين المشويّ فوق الفحم، وكانت تعشق رياح البحر وملوحتها، جمعت في قلبها بحار دكّالة ومحيطات عبدة، وكانت تجيد الإصغاء لكلمات الحوريات في كلّ البحار، لأجل هذا كانت تحبّ الغناء، شعرها المخضّب بالحنّاء، أحمر غجريّ يطير في الهواء، وقفطانها المغربيّ كان يدلّ عليها أينما كانتْ، بالموسيقى داوت جراحها، وبالعيطة نسيتْ ظُلمَ أهلها لها. تذكّرها يا عبد الحقّ، وبلّغها سلام أهل المحبّة وهي هناك في المشتري وقد اكتشفت أنّ الإنسان على الأرض كان عاجزاً، لأنّه كان يعتقدُ في إله يتخيّله عاجزاً أو ميتاً، أو غادر الأرض منذ زمن بعيد كما كان يقول العديد من الفلاسفة، وأنا أقول وقد عشتُ بعد فاطنة لسنوات عدّة، إنّ الإله أنت من تخلق صورته في حياتك أيّها الإنسان، فإذا كنت تراه قويّاً، مفعما بالحياة والحيويّة والرّحمة والمجد والخلود، كانت حياتك مفعمة بكل صفات الله الإيجابية والبانية لروح سليمة معافاة بداخلكَ، أمّا إذا كنت لا ترى من الإله سوى العجز والمرض والنّقمة والغضب، فإنّ حياتكَ ستكون هي الجحيم بعينها، فاختر أيّ إله تريد أن تؤمن به، واختر أيّة حياة تريد أن تعيش، كلّ ذلك بيدك، واعلم أنّ الله لا يغيّر ما بقوم حتّى يغيّروا ما بأنفسهم. هكذا فقط تعلّمتُ أنا أيضاً ألّا أكون يا عزيزي عبد الحقّ كالعديد من الفلاسفة يتساءلون من أين أتوا، ويضيعون في عدميات الوجود، فأنا غيرهم تماماً، لأنّي أعرف من أنا، ومن أين أتيتُ وإلى أين سأمضي، أوطان جديدة في انتظاري لا وطناً واحداً، وغابات من الأنوار، لا سدرة واحدة، فأنا قيّوميّة أزليّة مثل خالقي، روحي لا تموتُ وأبداً تسبح في ماهيات الملكوت التي لا أوّل ولا حصر لها.





(8)
النّقطة ترسمُ وتغنّي




تقول السيّدة العالية في مذكّراتها، إنّ الإنسان لا يمكنه أن تتحقّق له كينونته مالم يرَ النّقطة في كلّ شيء، وتقول أيضاً إنّ النّقطة ترسمُ وتغنّي، وهذا ذكّرني بلوحاتها التي قرأتُ عنها في تقرير العميد كورياندلو، ها هي الآن أمامي، ثلاثمائة لوحة بكلّ الألوان والأشكال، كلّها تحتفلُ وتمجّد النّقطة، شيئٌ يفوق الخيال، لا سيما وأنّ العالية لم يسبق لها أن خضعت لرسميّات ما يُدَرّسُ في أكاديميات الفنون التشكيليّة أو غيرها من الفنون الجميلة بشكل عامّ. وتبرّر ذلك قائلة: "كيف للنّقطة أن تؤطّرهَا المؤسّساتُ وكلّ ما فيَّ نقطة تتحرّكُ بفطرة البداءة الأولى، منّي تولد وتتدفّقُ كلّ الأشكال والصّور منذ الأزل؟ إنّني فيّاضة بالوجوه والأجنحة، بالأشجار والأعشاش، والوديان والأنهار، والبحار والأقمار...وحينما لا ألوّنُ أو لا أرسمُ، فإنّي أغنّي، إنني سوبرانو الحضرة الملكيّة...". أقرأ كلماتها هذه وأجد في كيس خاصّ بها العديد من وحدات الفلاش ميموري وقد سجّلت فيها معزوفاتها الهائلة وأغانيها الملائكيّة الرّائعة التي ما بدأتُ في الاستماع إليها حتّى علمتُ أنّها هي من أسّستْ كوكب موسيكاينو وضخّت فيه الحياة بهذا الكمّ الهائل من الموسيقى الكونيّة، واتّضح لي الآن لماذا كانت مذكّراتها موجّهة لي دوناً عن غيري، وكيف أنّ حتّى صاحب الغراب الأسفيّ كان مقدّراً له أن يصبحَ مسؤولاً عن الكوكب فقط بما كان يقرأ على الأرض من أوراد جزوليّة كلّ يوم خميس. شيء لا يمكنه أن يقع إلّا في عالم الرّؤية العرفانيّة، لكنّ العالية تعلّمني وتقول أنّ كلّ شيء يبدأ من هناك، من غابات الرّؤى والمشاهدات وحدائقها السريّة، إنها هي المختبر الكيميائيّ التي تنقع فيه أولى الصّور قبل أن تصير خلقاً جديداً، ومن هذا المختبر كانت ولم تزل النّقطة تعمل على النّفس البشريّة فمن كان بحاجة إلى حلمٍ يبني به توازنه العقليّ شكّلتهُ له وأرسلته، ومن كان يريد رؤية شخص عزيز عليه فقده بالموت، أرته إيّاه في حلم أو رؤيا، ومن كان يحتاج إلى نصيحة كلّمته في قلبه بها، ومن كان مؤهّلاً للسّماع الرّوحيّ، عزفت له أنبل وأنقى المعزوفات وأرسلتها له إلهاماً في فكره يشعره بالدّفء والحنان، إنّها أمّ كلّ المبدعين، من كان رسّاماً صاحبته وصارت ملهمته، ومن كان موسيقيّاً رعته بألحانها منذ بداية السّلم إلى سابع درجة فيه، ومن كان يبحث عن لحن على سلّم الأكتافو زرعته في قلبه وردة تورق وتزهرُ ما إن يبلغ سنّ الرّشد الرّوحيّ، فهل هي ملاك يا صحبي وخلّاني هذه العالية؟ لا، إنّها أمّ الملائكة، أمّ القوى الخلّاقة، إنّها نقطة وكفى، تكتبُ الأشعار، وترسمُ الأنهار، وتنثرُ الأزهار، إنّها شمس العرفاء والأولياء والصّدّيقين النّجباء. تكون حاضرة في كلّ الأكوان وبشتّى الصّور والأزمان، ولا يعنيها من يتشبّه بها من الأوغاد، ولا من يسرقُ كلماتها وينسبها إليه، ولا من يسعى إلى تدمير عرشها من عتاة الضّالّين، الرّاكضين وراء جنون الدّجل والشّعوذة، ملكة متوّجة بيد الرّحمان، ويدها بيضاء لا شيّة فيها، وعصاها ثعبان يلتهم كلّ حبال السّحرة الفجرة الفاسقين في ساحات الفراعنة الغاوين والمضلّين. إنّها العالية وكفى، قرأتُ لها والتقيتهُا في بُعدٍ غير الأبعاد، وسعيتُ باحثاً عنها في أطلنتيد المحبّة والرّحمة، وحينما وجدتُها وجدتُ نفسي، فعرفتُ أنّ كلّ كائن في الوجود بدون نقطة عدم محقّق وضياع كامل وأبديّ، بالضّبط كما هذه الحروف التي أسطّرُ لكم بها المعاني الآن وأنثر من خلالها لآلئ المحبّة، لا تستقيم بدون نقطة هي الأخرى، فسبحان من خطّ بالنّقطة حروف الوجود وجعل منها ريشته وقلمه يرقمُ بها اللّوح في كلّ مكان وزمان!

انتهت











المحتويات

1) مسك وياسمين؛
2) عَلَمٌ مغربيّ؛
3) السِّراجُ المُنيرُ؛
4) وردة في قلب الجبل؛
5) أعيدينِي إليكِ؛
6) أرضُ التنّين الذّهبيّ؛
7) عَلَم إيطاليّ؛
8) النّقطةُ ترسمُ وتُغنّي.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كلمة أخيرة - كواليس مشهد رقص دينا الشربيني في مسلسل كامل الع


.. دينا الشربيني: السينما دلوقتي مش بتكتب للنساء.. بيكون عندنا




.. كلمة أخيرة - سلمى أبو ضيف ومنى زكي.. شوف دينا الشربيني بتحب


.. طنجة المغربية تحتضن اليوم العالمي لموسيقى الجاز




.. فرح يوسف مهرجان الإسكندرية للفيلم القصير خرج بشكل عالمى وقدم