الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


بيكر وتمحيص الاحتلال: هل العود أحمد للعراقيين؟

صبحي حديدي

2006 / 10 / 21
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي


ليس مفاجئاً أن تحذوا معظم الصحف الأمريكية، وبينها الكبرى الأساسية، حذو الكثير من الصحف العربية التي عزت ازدياد الخسائر الأمريكية في العراق إلى عامل مركزي واحد راهن: شهر رمضان، حيث أجر الشهادة أجزى للشهيد كما عبّرت صحيفة "لوس انجليس تايمز"، في نقلة مفهومية دراماتيكية تكاد تتبنى مفردات الخطاب العقائدي للمنظمات الإسلامية الجهادية المتشددة. الخسائر البشرية الأمريكية في العراق بلغت اليوم الرقم 2783، ولعلّ هذا ما أجبر الرئيس الأمريكي جورج بوش على الإقرار بأنّ الحال الراهنة في العراق تشبه وضع القوّات الأمريكية في فييتنام عشية "هجوم تيت"، أي المعركة التي وقعت سنة 1968 وكانت نقطة انقلاب الرأي العام الأمريكي ضدّ الحرب وضدّ الرئيس لندون جونسون شخصياً.
وإذا كانت هذه خسائر بشرية ـ عسكرية في التسمية الأولى، فإنّ تسمياتها الأخرى ذات الطابع السياسي والأخلاقي والنفسي والثقافي لا تعدّ ولا تحصى، ومثلها استطالات الحال العسكرية إلى مواقف ولجان استقصاء وقوانين وتشريعات جديدة كانت الديمقراطية الأمريكية تظنّ أنها لن تسنّها في أيّ يوم وتحت أيّ ظرف. وهكذا وقّع بوش قراراً رئاسياً جديداً يحصّن عملاء المخابرات المركزية الأمريكية من المساءلة القانونية جرّاء قيامهم بعملهم في ما يسمى "الحرب على الإرهاب"، كما يجيز استخدام تقنيات أكثر شدّة في التحقيق (وهو التعبير المهذّب الذي يصف التعذيب، في نهاية المطاف). وفي المقابل، نشرت "مستهلكون من أجل السلام" Consumers for Peace، وهي منظمة أهلية مناهضة لاحتلال العراق، تقريراً يحصي مختلف أنساق ما ترتكبه قوّات الاحتلال الأمريكية من انتهاك لحقوق الإنسان في العراق: مجازر جماعية، هجمات مباشرة على المشافي والمستوصفات، وحصيلة قتلى تتجاوز 655 ألف ضحية. وأمّا على جبهة لجان البحث والتقصي والتمحيص والدراسة، فإنّ الأشهر اليوم هي "مجموعة دراسة العراق" التي تتألف من خمسة جمهوريين وخمسة ديمقراطيين، والتي يقودها وزير الخارجية الأسبق جيمس بيكر الثالث، مناصفة مع السناتور الديمقراطي لي هاملتون الذي ترأس لجنة تحقيق 11/9، وتهدف إلى إيجاد حلّ للمشكلة العراقية.
مشكلة؟ ولكن... أهي مشكلة، أم مسألة، أم قضية، أم مستنقع؟ والحلول التي ستُقترح، هل تخدم عراقاً ديمقراطياً، أم عراقاً منقسماً إلى طوائف وإثنيات، أم تخدم مصالح إيران وتركيا قبل خدمة طموحات العراقيين؟ أم أنّ غرض المجموعة هذه لا يكاد يتجاوز العثور على "منافذ خروج"، حتى لو اتخذت صفة إجراءات تكتيكية محضة لا صلة تجمعها بالاستراتيجيات الكبرى، من هذا المأزق العسكري والسياسي والأمني، وتتفادى بذلك ـ او تقلّص كثيراً آلام ـ احتراب داخلي شبيه بما جرى خلال حرب فييتنام؟ وهل تنوي اللجنة مساعدة البيت الأبيض، كما ألمح بيكر في سلسلة تصريحات، أم إحراجه الإدارة وكشف أخطائها كما يريد الشارع الأمريكي؟
هذه أسئلة لا مجال للإجابة عنها قبل انتخابات الكونغرس الشهر القادم، فضلاً عن اللافتة العريضة التي رفعها بيكر منذ الساعات الأولى لإعلان تشكيل المجموعة: لا عصا سحرية أيها السيدات والسادة! وفي الانتظار، من المشروع أن يتوقف المرء ملياً عند دلالة خاصة في وجود بيكر على رأس المجموعة، هي انّ إدارة بوش الابن عادت (ريثما يتضح أنّ العود أحمد أو أسوأ!) إلى واحد من أخلص خلصاء آل بوش، في إشارة لا تخفى إلى أنّ الإفلاس ضارب أطنابه في صفوف غلاة أهل اليمين الجمهوري، من محافظين قدماء ومحافظين جدد على حدّ سواء. ولا مناص، استطراداً، من ارتدادٍ (البعض يعتبرها ردّة) إلى هذا المخضرم الذي يخطو نحو الثمانين، والذي خدم ستة رؤساء أمريكيين، ولم يكن شديد الحماس لاحتلال العراق، وآخر أعماله كتاب عجيب العنوان: "إكدحْ، إدرسْ، وابتعدْ عن السياسة"!
والحال أنّ هذا المؤلف الأخير، حتى وإنْ تنطح لاستعراض "مغامرات ودروس حياة في العمل العامّ غير متوقعة" كما يقول العنوان الفرعي، لا يختصر على أي نحو أفكار الرجل وعقيدته وخطوط تفكيره في السياسة والاجتماع، وبصدد أمريكا والعالم ما وراء المحيط. هذه نجدها، في أفضل تجلياتها على الأرجح، طيّ صفحات كتاب سابق أصدره بيكر أواخر العام 1995، بعنوان "سياسة الدبلوماسية: الثورة، الحرب، والسلام". وضمن معايير متعددة، بينها دون ريب تلك المتصلة بحكمة قديمة حول قيام "صانعي التاريخ" بتسجيل بعض قراءاتهم في ما يزمعون صناعته، يعدّ هذا المجلد االضخم (687 صفحة) الوثيقة الأغنى التي تملكها الإنسانية حول الأطوار التي سبقت وأعقبت الولادة الأولى لطبعة جورج بوش ممّا سُمي في حينه بـ "النظام الدولي الجديد".
وثمة، هنا أيضاً دلالة خاصة مفادها أنّ بيكر أصدر الكتاب بعد أن أُجبر على الهبوط من هرم الدبلوماسية العليا، ومغادرة سدّة اتخاذ القرار حتى قبل أن يغادر سيّده ورئيسه وصديقه بوش الأب المكتب البيضاوي في البيت الأبيض. ولهذا فإنّ أفضل ما يعثر عليه المرء بين دفتي الكتاب يدور حول سلسلة الأولويات التي اتضح أنها كانت تهيمن على أدمغة رجال مثل بوش وبيكر وبرنت سكوكروفت (مستشار الأمن القومي الأمريكي الأسبق)، وكيف تبدو اليوم غارقة في إشكاليات معقدة تمّ تجاهلها طيلة عهد الإدارة. وثمة جدول الأعمال الأمريكي الداخلي المتعلق بالاقتصاد والأعمال والمجتمع، ونقاط الاحتقان الدائمة حول مواصلة العمّ سام نزعته العتيقة في المرابطة وراء المحيط والانعزال عن انسانية منخرطة في هدم جدار برلين وإعادة اكتشاف السوق والليبرالية (أين أمريكا اليوم من أمريكا الأمس القريب!)، وتكوين وإعادة تكوين لخرائط التوازنات الجديدة الجيو ـ استراتيجية والجيو ـ اقتصادية بين أمريكا واليابان وأوروبا الغربية والشرق الباسفيكي...
وبين الكثيرين الذي راجعوا الكتاب في حينه، كان لنا نحن العرب حظّ إدلاء البروفيسور فؤاد عجمي بدلوه، حيث تميّز غيظاً لأن بيكر وضع السلام العربي ـ الإسرائيلي على رأس أولويات جهازه الدبلوماسي، وأهمل متابعة عمليات «عاصفة الصحراء» إلى خواتيمها المنطقية المتمثلة في إسقاط نظام صدام حسين، كما تجاهل «انتفاضة الشيعة» ـ والتعبير للبروفيسور ـ في جنوب العراق، وغضّ الطرف عن حرائق البلقان. وغضب عجمي كان شديداً في الواقع، وإلى درجة تجعل المرء يتعاطف مع ذلك البائس بيكر، الذي واصل جهله الفاضح بـ«التواريخ الدفينة لقبائلية أوروبا» ولكنه اجتهد كثيراً (أي أكثر من اللزوم، حسب محاججة عجمي) لتعلّم المزيد عن منطقة رجيمة تدعى الشرق الأوسط، ثمّ أعلن مع سيّده الرئيس أن أمريكا دفنت عقدة فييتنام في رمال الخليج، ولكنه أعاد إحياءها في البلقان.
فوق ذلك، وجّه البروفيسور العديد من أصابع الاتهام إلى كامل الآلة السياسية ـ الاستراتيجية التي تولّت تحريك عجلات إدارة بوش، بدءاً من بيكر وسكوكروفت وانتهاء بكولن باول (رئيس الأركان آنذاك) ودنيس روس (منسّق سلام الشرق الأوسط). هذا، في يقين عجمي، هو الفريق الرثّ الذي حاول إسقاط ثلاث حكومات (ليبيا، العراق، وزارة اسحق شامير) فلم ينجح سوى في مكان واحد: إسرائيل! وهذا هو الفريق الذي حجب الدعم عن التيارات الديمقراطية والليبرالية الروسية المناهضة لغورباتشوف، وأغمض العين عن عذابات شعوب البلقان، واكتفى بتوظيف كامل طاقات الآلة الدبلوماسية لصناعة السلام في أزقة غزّة ونابلس والخليل... يا للعار!
ويا للعار في موقع آخر، أكثر طرافة هذه المرة: كيف تجرأ بيكر، أثناء واحدة من جولاته المكوكية «المحمومة» في التحضير لمؤتمر مدريد، على أداء ممارستين متناقضتين فظيعتين في عين البروفيسور: الأولى حصر إسحق شامير في الزاوية الصعبة، والثانية احتساء الليمونادة مع حافظ الأسد... مرّتين، لا مرّة واحدة؟ ومن أعطى بيكر الحق في اختيار مدريد بالذات عاصمة لهذا المؤتمر، عشية الذكرى الخمسمئة لطرد اليهود والمغاربة (وليس العرب، لأن البروفيسور حريص على عواقب اللفظ والتلفظ)؟ ولهذا فهو يسخر من إشارة بيكر إلى أن الإسبان سارعوا إلى إزالة لوحة جدارية ضخمة كانت تتصدّر قاعة القصر الملكي حيث انعقد المؤتمر، لأنّ اللوحة كانت تمثّل الملك شارل الخامس وهو «يسفك دماء المغاربة».
المهمّ في الأمر أنّ عجمي عكس آنذاك ما يعيبه رهط المحافظين الجدد على بيكر ومدرسته، خصوصاً وأنّ الأخير صرّح مؤخراً بأنه يستغرب إصرار الإدارة على رفض التحادث مع إيران وسورية: "في عهدي زرت دمشق 15 مرّة من اجل السلام، والمرء يتباحث مع عدوّه لا مع صديقه". بيد أنّ الباطل الذي يريده أمثال عجمي في انتقادهم خيارات بيكر، يبدو اليوم كلام حقّ بسيط إذا سار المرء خطوة حذر واحدة وراء تشكيل مجموعة الدراسة هذه، ونظر بعين الشكّ الديكارتي إلى أغراضها البعيدة لا القريبة. ذلك لأنّ تاريخ «العقائد» التي اعتمدها رؤساء الولايات المتحدة، بصرف النظر عن انتمائهم إلى الحزب الجمهوري أو الديمقراطي، وكان بيكر أحد مهندسيها في طور ما بعد انهيار جدار برلين وتفكيك المعسكر الإشتراكي وتقويض نظام القطبين، لا تترك لأيّ رئيس أمريكي هامش مناورة واسعاً في التملّص من «التزامات» الولايات المتحدة الخارجية.
بين هذه، مثلاً:
ـ الرئيس هاري ترومان في عقيدته المسماة باسمه، في الخمسينيات، والتي هدفت إلى حماية المصالح الأمريكية شرقي المتوسط وتأسيس دولة يهودية في فلسطين؛ ودوايت أيزنهاور في استخدامه حرب السويس عام 1956 من أجل محق النفوذ الإمبراطوري لكلّ من بريطانيا وفرنسا، وإحلال الإمبراطورية الأمريكية محلّ الجميع، مرّة وإلى الأبد. وفي الستينيات، ليندون جونسون في تكوين تحالف استراتيجي أمريكي ـ إسرائيلي ضدّ التحالف السوفييتي ـ العربي الذي حاول الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر هندسته، فتلقى ضربة قاصمة في حرب الأيام الستة عام 1967. وفي السبعينيات ريشارد نكسون وتوظيف حرب تشرين (أكتوبر) 1973 من أجل فرط التحالف أعلاه، وإعادة مصر إلى الحظيرة؛ والرئيسان جيرالد فورد وجيمي كارتر في ترجمة هذا الخط على الأرض (اتفاقيات كامب دافيد) ومحاولة توسيعه لكي يشمل صيغة تحالف أمريكي ـ إسرائيلي ـ عربي غير معلن، تنخرط فيه الدول العربية «المعتدلة» وتسكت عنه الدول العربية «الراديكالية» التي أخذت تتحسس ارتباك السياسة الخارجية السوفييتية. وفي الثمانينيات رونالد ريغان وحقن هذا المشروع التحالفي بأسباب الحياة كلما ساورته عوامل الضعف أو اختلاط الأوراق والمعادلات، خصوصاً بعد الثورة الإسلامية في إيران، وإندلاع الحرب العراقية ـ الإيرانية...
وليست تراثات جورج بوش الأب وبيل كلينتون وجورج بوش الأب سوى تنويعات على هذا النحو أو ذاك، تستكمل تلك العقائد في مبدأ "النظام الدولي الجديد" أو «الإحتواء المزدوج» أو "الضربة الاستباقية" أو... "الشرق الأوسط الجديد"! وما يفعله بيكر اليوم ليس سوى نزهة قصيرة في الوقت الضائع، تمكّن البيت الأبيض من التقاط الأنفاس بين عواقب عقيدة ومتاعب أخرى، وسط رمال عراقية متحركة أخذت تغرق فيها الجيوش والقوى والتحالفات والطوائف، في مشهد زاخر متفجر بات أشدّ احتشاداً بالمخاطر من أن تعالجه مجموعة دراسية، أياً كانت هوية فرسانها. والأرجح، من جديد، أنّ هذا العود لهذا المخضرم جيمس بيكر لن تكون حميدة لشعب العراق، بل لعلها لن تخدم إلا الذين صرف الرجل ردحاً طويلاً من الزمن في خدمتهم: آل بوش!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فرنسا.. مظاهرة في ذكرى النكبة الفلسطينية تندد بالحرب الإسرائ


.. مسيرة تجوب شوارع العاصمة البريطانية لندن تطالب بوقف بيع الأس




.. تشييع جثمان مقاوم فلسطيني قتل في غارة إسرائيلية على مخيم جني


.. بثلاث رصاصات.. أخ يقتل شقيقته في جريمة بشعة تهز #العراق #سوش




.. الجيش الإسرائيلي: دخول أول شحنة مساعدات إنسانية عبر الرصيف ا