الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


كتاب شمس الرجاء (9) --- الفصل السابع --- القصة السابعة: رجاء اليائسين

توماس برنابا

2023 / 3 / 23
الصحة والسلامة الجسدية والنفسية


"أنا انتهيت.. ضاع كل شيء.. ضاع مُستقبلي.. بل ضاعت سُمعتي.. قد دَمرت بيدي مستقبل زوجتي وأولادي."

واصل حامد بكائه المر المرير، وكان نشيجه من العلو للدرجة التي سمعها أبناؤه؛ منعم وخالد، الذين كانا بخارج الغرفة، فناديا على أُمهما التي أتت مُسرعة لترى ماذا أصاب أبيهما..

- ماذا بك يا حامد يا عزيزي؟ ما الأمر؟

لم يرد عليها حامد.. فجلست بجانبه تَربُت على ظهره.. فهدأ وقال لها:

- أَتتذكرين صفقة استيراد الأجهزة الكهربائية من الصين؟

- نعم، لقد حدثتني عن هذه الصفقة من ثلاث أشهر على ما أذكر.. ماذا حدث؟

- لقد وضعت كل ما أملك في هذه الصفقة بل أقترضت أيضًا من البنك مبلغ كبير من المال لاستيراد أكبر عدد من هذه الأجهزة المطلوبة في السوق، والمضمون مكسبها السريع.. فعائد الربح قد يصل إلى ثلاث أضعاف ما دفعته في هذه الصفقة!

- هذا شيء رائع.. لكن ما ذا حدث لهذه الصفقة؟ إن ضاعت منك، يمكنك تعويضها و"خيرها في غيرها!"

- لقد غرقت الباخرة حاملة البضائع في البحر.. لقد أفلست! حتى بيتنا هذا سيحجز عليه البنك بالإضافة إلى الشركة والسيارة في مقابل القرض.. لقد ضاع كل شيء! كيف يُمكنني أن أعيش فقيرًا؟ لم أعهد الفقر أبدًا في حياتي..!

- لا عليك.. يُمكننا الانتقال إلى شقة صغيرة في بيت أبي. ويمكنك فيما بعد تعويض كل ذلك بإذن الواحد الأحد..


ضمت حنان زوجها إلى صدرها.. فبكى، ثم قال لزوجته؛

- أَيؤول بي الحال أن أسكن في شقة على سطح منزل؟! وكيف لي أن أتدبر أحوالكم، أنتِ ومنعم وخالد؟ لقد دمرت مُستقبلكم.. أنا أستحق الموت!

- إياك أن تقول هذا الأمر ثانيةً يا عزيزي.. كل شيء يمكن تعويضه.. وحري بك أن تحمد الله أننا جميعًا بصحة جيدة..

- يا حنان.. كيف سأتدبر مصاريف مدرسة الولدين الدولية؟ كيف أسمح لنفسي أن أحولهما لمدارس حكومية؟! كيف سينظرا إليَّ بعدئذ حينما أحرمهما من مَدرستِهما الراقية وزُملائهما وزميلاتهما لأُلحقهما في مدرسة حكومية في حي فقير؟ أنا بائس ويائس.. أرحمني يا الله!

- أنسيت يا حامد أني خريجة تجارة وإدارة أعمال بتقدير إمتياز؟ يمكنني مساعدتك على النهوض ثانيةً يا زوجي العزيز.. لا عليك!

- لكن كيف؟!

- يمكننا البدأ في أي عمل جديد.. لا عليك! أسترح الآن.. وسنفكر غدًا طويلًا حتى نستقر على مشروع بسيط نصعد به مرة ثانية إلى ما كنا عليه، بل إلى ما هو أعظم بإذن الله! فلدينا عقلنا وصحتنا ومن خلالهما سنقوىّ على هذه الضائقة..

تركته حنان وذهبت لِتُعِد مجوهراتها ومصاغها للبيع في الصباح لتأتي بثمنهم لزوجها، ثم ذهبت للولدين تطمئنهما بأن أبيهما بخير فكل ما في الأمر أنه قد تذكر أمرًا مُحزنًا فقط! ثم أخذتهما لغرفة نومهما التي سينامان فيها لأيامًا قليلة قادمة فقط، ثم سيبدأوا حياة من التقشف وشظف العيش، قد تطول أو تقصر، وقد تستمر وقد تستديم.. والأقدار بيد الله!

*****

قرأ مدحت هذه الرسالة التي تحكي عن هذا العزيز الذليل.. وبالطبع من الصعب على الإنسان أن ينزل من علياء أعتاد عليها طوال حياته لأسافل لم يعتدها أو يعهدها من قبل..


ولم يعلم لماذا شعر مدحت برابطة نفسية تجاه بطل هذه القصة.. فحاله يختلف عنه.. فهو قد ولد في عائلة متوسطة الحال.. لم يعهد أي رفاهية من قبل! ولكنه يمكنه مواجهة والتعايش مع شظف العيش أيّ كان نوعه!

أغلق مدحت جهاز الكومبيوتر، وخرج من غرفته ليساعد زوجته مرفت في إعداد الطعام وتجهيز وترتيب الشقة لاستقبال الأستاذ نشأت الصافي الزائر المرتقب الساعة السادسة مساءً..


- أين باسم يا مرفت؟

جاءه صوت زوجته مرفت من المطبخ خفيضًا وديعًا:

- ستجده في غرفته يلعب على "البلاي ستيشن"..

دخل مدحت غرفة أبنه الوحيد باسم ذو الخمس أعوام، وجلس بجانبه على غير العادة.. وقال له:

- ماذا تلعب يا باسم؟

- لعبة جميلة جدًا يا بابا.. أَتُريد أن تشاركني اللعب؟

الأب، الذي لم يلعب مُسبقًا مع أبنه، ضم أبنه إلى صدره وقال له:

- نعم، يا حبيبي، سألعب معك..

- أمي هي من كانت تلعب معي دائمًا.. سأعلمك يا أبي كيفية اللعب..

اندمج الأب مع الابن طويلًا في اللعب إلى أن نادته زوجته ليساعدها في الإعداد والتجهيز للعزومة..

- متأسف يا باسم.. سأتركك الآن!

- لا عليك يا أبي.. إني فرح جدًا لمشاركتك اللعب معي.. وسأتي معك حتى أساعد أمي أنا أيضًا.. هل سيزورنا ضيوف اليوم؟

- نعم يا باسم، وأريد منك أن ترتدي ملابس نظيفة أنيقة.. وأن تُحسن التصرف أمام الضيف.. هل نحن على إتفاق؟

- أتفقنا يا أبي!

دخل مدحت إلى المطبخ وضم زوجته إلى صدره على غير العادة وقال لها:

- شكرًا لكِ يا أجمل وأرق زوجة في الدنيا.. أنا أعرف أن مبلغ المال الذي أعطيتك لتجهيز هذه العزومة قليل ويكاد لا يكفي أبدًا لها.. ولكن يا عزيزتي الضيف المرتقب كما قلت لك سابقًا من أعز الناس على قلبي.. وأنا على علم تام بأنك ستشرفينني أمامه..

- يا عزيزي أوامرك كلها مُجابة..

- أنا أعلم أنك تُدَبِرين موارد المنزل بحكمة شديدة.. وأنا أشكرك على كُل شيء..

- يبدو عليك تحسن غريب يا مدحت.. وأنا في غاية الفرح والغبطة لذلك.. أهناك شيء جديد؟

- نعم هناك أشياء وأشياء.. لا عليكِ.. كيف تودين أن أساعدك؟

- يمكنك تنظيف وترتيب غرفة الجلوس وأنا سأجهز مائدة الطعام للعزومة..

*****


اللقاء الأول وحوار الليلة الثامنة


دق جرس الباب في تمام الساعة السادسة لتفتحه السيدة ميرفت التي رحبت بالأستاذ نشأت الصافي بوجه بشوش وهي في أبهى صورة، قائلة له:


- تفضل يا أستاذ نشأت.. يا ألف مرحبا بك..


دخل الأستاذ نشأت الى الداخل ليلقاه صديقه مدحت بترحاب شديد، ولقد ضم مدحت صديقه العزيز إلى صدره وقبّله. لم يرى الصديقان بعضهما البعض منذ أمد بعيد..


- اشتقت إليك كثيرًا يا نشأت.. لقد تغيرت كثيرًا.. وانتشر الشيب في رأسك.. هل طالتك الشيخوخة يا رجل، أم ماذا؟


جلس الأستاذ نشأت على أقرب كرسي له في غرفة الجلوس البسيطة، وقال لمدحت، الذي جلس هو وزوجته ومعهما ابنهما باسم مقابله:


- من كثرة الهم والإهتمام يا أستاذ مدحت..

- لكنك ما زلت في بداية الأربعينات من عمرك يا صديقي..

- أحيانًا يا صديقي حينما ينضج العقل ويمتلأ بالخبرات والمعارف أن يسرع على الأغلب من شيخوخة باقي أعضاء الجسم..

- يا رجل.. أنت لا زلت شابًا! لماذا تتحدث وكأنك شيخًا؟

- لم أعد أشعر بمباهج الشباب يا مدحت.. وبالفعل كثيرًا ما أشعر أني في الثمانين من عمري، وكأن عمري قد تضاعفت سنواته!

- أتشكو من خطب ما في جسمك يا نشأت؟

- أبدًا يا صديقي.. هذا مجرد شعور فقط! أهذا ابنك؟! تعال يا حبيبي.. ما اسمك؟

- اسمي باسم مدحت كمال..

- أحسنت يا باسم.. وماذا تعرف أيضًا؟

- أعرف الأبجدية العربية والأبجدية الإنجليزية.. وأعرف كتابة اسمي باللغة العربية وأيضًا باللغة الإنجليزية..

- رائع وماذا تحب أن تكون حينما تكبر؟

- أريد أن أصبح طيار.. فو فو فووو...

وانفجر الجميع في الضحك، ثم استأذنتهما السيدة ميرفت وانصرفت لتعود سريعًا بصينية عليها كأسين من العصير الطازج والمثلج، وقدمتهما للأستاذ نشأت ومدحت، ثم تركتهما لإعداد مائدة العشاء..

- أَلنْ تفكر في الزواج يا نشأت؟

- يا صديقي العزيز، أنا قد أحببت مرة واحدة فقط! وقلبي يأبي أن يعاود الكَرَة..

- لكنها رفضتك لفقرك يا صديقي.. ورفضت أن تعيش في شقتك البسيطة في الحي الفقير.. وها هي قد تزوجت في إحدى المدن الحديثة ولها من الأولاد أربعة الآن.. وربما قد نسيتك تمامًا!

- لتسعد هي في حياتها.. لكن صدقًا لم تستهويني أي امرأة بعدها..

- أتمنى يا صديقي أن تغير من وجهة نظرك قريبًا..

- رُبما!

دخلت السيدة مرفت الغرفة لتدعو الصديقان للمائدة التي كانت تبدو متواضعة التكاليف لكنها كانت ممتلئة من مختلف الأصناف والأطياف! إنجذب الأستاذ نشأت لتلك الأطباق وجعلته يَحِنْ إلى طعام أمه منذ أكثر من عشرين عامًا مضت! والتي قد توفت وهو في الخامسة والعشرين من عمره..

- ما أطيب هذا الطعام يا سيدة مرفت! صدقًا ذكرني هذا الطعام بطعام أمي..

- شكرًا يا أستاذ نشأت، ومرحبا بك في أي وقت.. فقط قُلْ لي ماذا تُحب أن تأكل من الأصناف وسأعدها لك فورًا!

- سأتناول أي شيء.. فلا شيء مُفضل عندي.. أعتدت أن أكل أي شيء! لكن هذا الطعام يبدو شهيًا جدًا..

قال مدحت مخاطبًا صديقه:

- أنا سعيد جدًا إذ أعجبك الطعام يا أستاذ نشأت..

- إذا كنت أعلم أن الطعام بهذه الجودة، لكنت أتفقت معك على زيارتك أكثر من مجرد أربع مرات كما أتفقنا يا صديقي..

ضحكوا جميعًا، وغسلوا أياديهم، ثم رجعوا إلى غرفة الجلوس. جلس الأستاذ نشأت في رفقة مدحت في غرفة الجلوس.. واصطحبت السيدة مرفت باسم الصغير إلى غرفته، وأغلقت الباب خلفهما، وتركا الضيف والأب بمفردهما إحترامًا لخصوصيتهما.


*****

حوار الليلة الثامنة


- هل قرأت قصة اليوم يا مدحت؟

- نعم، ولقد أعجبتني كثيرًا! قصصك يا نشأت تتسم بواقعية شديدة لدرجة أني موقن بأني قد رأيت الكثير من الأشخاص يشبهون أبطال قصصك..

- لا أحب الخيال المفرط في رسمي للشخصيات يا مدحت.. ولا أكتب أبدًا عن أي شخصية لم أرها بالفعل في حياتي، ولم أعش معها بعض الوقت..

- لقد سمعت عن أغنياء كُثر، مثل حامد بطل هذه القصة، حينما أفلسوا، انتحروا إذ لم يتصوروا أبدًا أنفسهم فقراء ومُعوزين!

- نعم قد يحدث ذلك وهو يحدث بالفعل في كل وقت وكل مكان.. لكن لكل يأس رجاءً.. وحامد محظوظ أن بجانبه زوجة مثل حنان التي شجعته على المُضي قُدمًا في الحياة، فقد دعمته نفسيًا بالحب والحنان، وذلك كافي جدًا ليقيم حامد من سقطته، وليستثير ملكات عقله وذكائه ومخيلته لخلق حلول لمشكلته، أو أي مشاكل قد يصادفها في حياته فيما بعد..

- هل تظن أن حامد سيفشل في مسعاه؟

- هذا الاحتمال وارد إن لم تكن بجانبه زوجة مثل حنان، فحامد مع هذه الزوجة يمكنه شق الجبال، وسيسعد وسيتحسن حاله بالتأكيد..

- هل تظن أن الزوجة يمكنها ذلك يا نشأت؟

- الزوجة رزق يا مدحت! ويمكن للزوجة أن تجعل من الرجل عظيمًا أو تعيسًا مدى الحياة..

- تجعلني أشعر أن بطل القصة ليس حامد بل حنان زوجته..

- المرأة الحكيمة هي التي لا تَظهر في الصورة يا مدحت وتقدم زوجها أمامها في كل شيء.. وفي دعمها ومساندتها لزوجها، حتى يعلو شأنه، عظمةً لها هي شخصيًا! فقد تكون الزوجة هي الأذكى والأحكم، لكن يُفضل أن تبقى في ظل زوجها! ولا يُمكن أن يَنصلح حال بيت ما، يصيح فيه اثنان من الديوك، يا صديقي! سيخرب بالتأكيد ذلك البيت الذي تمارس فيه الدجاجة عمل الديك!

- حكيم يا صديقي دائمًا.. وأنا محظوظ بصداقتك وأُخُوتك لي..

- وأنا سعيد بذلك يا صديقي العزيز.. لكن ينبغي أن أذهب الآن يا مدحت.. أرسل سلامي وامتناني للسيدة مرفت، وقَبِلَ الصغير باسم بدلًا عني.. وعُمت مساءً!

رافق مدحت صديقه إلى الخارج إلى أن وصل إلى الطريق العام وأوقف له سيارة أجرة، وودعه بحب جم..








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ريبورتاج: تحت دوي الاشتباكات...تلاميذ فلسطينيون يستعيدون متع


.. 70 زوبعة قوية تضرب وسط الولايات المتحدة #سوشال_سكاي




.. تضرر ناقلة نفط إثر تعرضها لهجوم صاروخي بالبحر الأحمر| #الظهي


.. مفاوضات القاهرة تنشُد «صيغة نهائية» للتهدئة رغم المصاعب| #ال




.. حزب الله يعلن مقتل اثنين من عناصره في غارة إسرائيلية بجنوب ل