الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الثقافة السائدة من أخطر مشاكلنا

محمود يوسف بكير

2023 / 3 / 24
مواضيع وابحاث سياسية


يهدف المقال إلى الكشف عن أحد المكونات الثقافية السلبية والآخذة في الانتشار في معظم الدول العربية وأصبحت تهدد مستقبل هذه الأمة، وعلى ما يبدو فإن أولي الأمر يعيشون في عالم آخر ولا يرون ما يحيط بدولهم من أخطار لا حصر لها بينما هم يتنافسون بين بعضهم البعض على من يبني أعلى ناطحة سحاب وأسرع قطار وأكبر جامع في العالم العربي. كما سيعرض المقال في عجالة لما حدث في آسيا ولجدوى البحث عن حل لمشاكلنا.
وبداية نقول بإننا كما لا نختار جنسنا، أو ملامحنا أو لون بشرتنا أو أسرتنا أو وطننا…الخ فإننا أيضا نرث الكثير من المعطيات الثقافية التي تستمر معنا حتى رحيلنا عن هذا العالم. وهذه المعطيات تشمل المعتقدات الدينية والعادات والتقاليد الاجتماعية والقيم الأخلاقية وطريقة الملبس والمأكل والحس الثقافي والفني….الخ وكل ما سبق يشكل الوعي والوجدان الإنساني.وكما نعلم جميعًا فأن للثقافة أثر بالغ على سلوكيات الانسان وردود أفعاله والطريقة التي يتعامل بها مع كل ما حوله من ظروف وتحديات، وهو ما يعني بالضرورة أن للثقافة الجمعية تأثيرمباشر وكبير على المجتمع كلل وعلى العملية التنموية ومستوى التحضر والتقدم به سواء سلبًيا أم إيجابيا ، فقد تؤدي الثقافة السائدة إلى تشكيل مجتمع خلاق ومتحرك وينظر دائما إلى الأمام، كما قد تؤدي إلى نشأة مجتمع مقلد وساكن وينظر دائما الى الخلف. وعلى سبيل المثال فإن الدول الآسيوية وعلى رأسها الصين لديها إرث ثقافي ميتافيزيقي وتراثي ضخم كان لهم دائما دور كبير في تشكيل الوعي المجتمعي والنشاط الفكري للنظم الحاكمة ولشعوب المنطقة عبر قرون طويلة. ولذلك لم يكن متصورا أن ينجح النظام الرأسمالي في اختراق المنطقة الأسيوية من خلال مستوييه الفكري أو التنويري، والمادي أو الإنتاجي ولكن هذا ما حدث وجعل من الصين واليابان وكوريا الجنوبية من أكبر اقتصاديات العالم خلال فترة قصيرة، وهذا دليل على المرونة الثقافية والبراجماتية للمنطقة ألآسيوية كما رأيناها. أما في أفريقيا والعالم العربي فإن ميراثها الثقافي والديني لا يتسم بالمرونة الكافية على أقل تقدير وهو غير قابل للتطور لأنه محاط بسياج من التقديس الذي لا يقبل أي نقاش من قبل مؤسسات دينية كبيرة وذات نفوذ كبير وما يتم من تغبير حاليا لا يزيد عن كونه تغييرا ماديا وليس فكريا أو ثقافيًا. ففي أسيا كان التوافق "ولا أقول الانتصار" واضحا بين الحياة الدنيا والحياة الأخرى، أما لدينا فإن هذا التوافق يواجه مقاومة كبيرة من جانب العقل الجمعي للجماهير العريضة الواقعة تحت سيطرة رجال الدين، وهؤلاء هم أحد الأسباب الرئيسية وراء انتشار ثقافة القبول التي سوف نتحدث عنها حالا، كما أن لهم دور كبير في تشجيع عقلية الخلاص الفردي أو أنا ومن بعدي الطوفان.
أضف إلى ما سبق أن الخلافات والانقسامات الثقافية والعقائدية في المنطقة العربية أدت إلى حالة من عدم الاستقرار والصراعات المريرة والتي تحول بعضها إلى حروب أهلية مدمرة كان السبب الرئيس لها ضعف قيم حرية الاعتقاد وتقبل الآخر والعيش المشترك، بالإضافة إلى حالة الهزال التي تعاني منها الأحزاب السياسية ومنظمات المجتمع المدني في العالم العربي، ولهذه الأحزاب والمنظمات دور هام وكبير في توعية الجماهير وحمياتها من تغول السلطات التنفيذية والدينية من خلال تحقيق نوع من التوازن معها بغرض أساسي وهو حماية الأقليات والضعفاء ومن لا صوت لهم من أجل خلق مجتمع أفضل للجميع كما هو الحال في المجتمعات الغربية.
غير أن أخطر ما في ثقافتنا العربية هو ما أسميه "بثقافة القبول" وأعني بهذا تقبل المجتمع لما حوله من ظلم وفساد واستبداد وهدر للموارد المحدودة التي هي إصلا ملك للشعوب وغياب دولة القانون وانعدام العدالة …إلخ دون تبرم أو أدنى احتجاج وكأن هذه الآفات المجتمعية شيء حتمي وقدر لا يمكن الفرار منه، ومع الوقت تصبح هذه القيم منهج حياة ويبدأ الناس في سرقة وظلم بعضهم البعض بدعوى أن تعميم الظلم هو نوع من العدل، كما يزيد الطلب على الغش في كل شيءٍ وحتى طلاب العلم لدينا في الجامعات والمدارس أصبحوا يتفننون في الغش حتى قبل مجيء تطبيق Chat GPT الذي سيزيد الأمور سؤا في مجال الدراسات العليا. وفي هذا ومنذ عدة أشهر قرأت خبرا على النت يتحدث عن معلمة في أحد المدارس بالقاهرة قامت بمنع أحد التلميذات من الغش في الامتحانات، فما كان من بعض افراد أسرتها أن قاموا في اليوم التالي بالاعتداء على المدرسة وهي في طريقها لمنزلها! وهكذا لم يعد للتعليم أو المعلم أي قيمة أو احترام. ولازلت أتذكر وأنا تلميذ في المرحلة الإعدادية في القاهرة كيف كنت أنا وزملائي نختبئ من المدرس إذا ما مر صدفة في الشارع الذي نلعب فيه الكرة.
وتتمثل الخطورة في انتشار ثقافة القبول لأمراض المجتمع والاعتياد عليها في انتشار روح اللامبالاة وضياع الشعور بالانتماء وإعلاء مبدأ الخلاص الفردي والعزلة وعدم الاهتمام بقضايا الشأن العام. ومما يساعد على سرعة انتشار هذه السلوكيات السلبية وسط الجميع خاصةً الشباب والمفترض فيهم أنهم صناع المستقبل، هو وجود العديد من وسائل تشتيت أهتمام الشباب واستهلاك وقتهم مثل شبكات التواصل الاجتماعي التي لا حصر لها وانتشار التطبيقات الإباحية دون إي قيود والتي جلعت شباب المراهقين من الجنسين مدمنين وغير محبين للقرأة. وفي تناقض صارخ مع هذا الوضع نجد وبحسب ما أسمع من إصدقائي في الدول العربية وجود العديد من المحطات والبرامج الدينية التي تساهم في تغييب وعي الشباب من خلال بث مواد دينية لا علاقة لها بالواقع الحياتي للشباب ولا بمشاكلهم ومشاكل أوطانهم. وعادة ما يتواكب مع هذا النوع من الضياع حالة من الاستهزاء بالقيم والإزمات التي تعيشها دولهم، بل وجعلها مادة للضحك والتريقة. وكل هذه مؤشرات على ضياع هوية المجتمع وأن مستقبله على المحك وأنه في طريقه للمجهول. وللأسف فإن هذا يحدث في وقت حرج في تاريخ هذه الأمة البائسة التي يجري العمل بهمة في الغرب على مسح هويتها كما نلاحظ هنا، بل وإخراجها من التاريخ تماما.
وللتعامل مع ثقافة القبول فإنه يلزم أولا البحث عن جزور المشكلة وليس التعامل مع أعراضها، فمثلا لا يمكن أن نطالب الناس بعدم الخوف والتعبير عن آرائهم بشكل علني وهم يعانون من الاستبداد والقهر ويعرفون عاقبة معارضة النظام؟ وكيف يمكن أن ندعو الناس إلى التخلص من التسلط الديني والتسامح مع الآخر وشيوخهم وأئمتهم يرفضون أن يعلمونهم أن هناك نصوصًا صريحة في القرأن تقول: أن لا إكراه في الدين، وأن من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر. وكيف ندعو الشباب إلى الكف عن الهروب إلى الواقع الافتراضي والسوشيال ميديا والعودة إلى الواقع الحقيقي والقراءة والإبداع وهم يعانون من البطالة والعنوسة وما ينتظرهم من مستقبل غامض وغير مبشر بإي أمل وهم لا يجرؤن على التعبير عن مشاكلهم وأحلامهم وأصبح كل ما يتمنونه هو الهجرة من أوطانهم التي تحولت إلى سجون كبيرة.
في نقاشي مع الزملاء في الجامعات العربية، دائما مع أطالبهم بالاهتمام بتحفيز الشباب وبزيادة وعيهم بقضايا أوطانهم، ولكن رد الزملاء دائمآ ما يكون نحن كمن يحرث في الماء والشباب لهم كل العذر لكل ما يحيطهم من استبداد وظروف قاسية وغياب القدوة.
والخلاصة أن الطريق الوحيد لحل كل مشاكلنا هو القضاء على جذور الاستبداد واسترداد الناس لحرياتهم وكرامتهم وأمنهم، عندها سيعود للناس الإحساس بانتمائهم وتلقائيا سوف يهتمون بقضايا الشأن العام والبحث الجاد عن الحلول لكل ما يواجهون من تحديات، ولكن هل هذا ممكن أم أننا نحلم ونرفع شعارات جوفاء؟
مستشار اقتصادي








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - ثقافة الرفض تقطع الطريق على تحضر مجتمعاتنا
د. لبيب سلطان ( 2023 / 3 / 23 - 22:36 )
عزيزي دكتور محمود
اثمن مقالتك انها تفتح الطريق لمناقشة الوضع المتردي لمجتمعاتنا العربية وضرورة اعادة طرحها من خلال عين متفتحة وعقول متحررة . والمسألة برأيي لاتقتصر على نقد الفكر الديني او تراث المنطقة الذي اغلبه ديني، وكما تشيرون صوابا فجميع المجتمعات الاسيوية مثل الصين واليابان وكوريا والهند لها مثل هذا التراث ولكنها استطاعت شق طريقها للتطور والتحضر وحتى التطور السريع ومنه يمكننا البناء ان التراث ربما هو احد المشاكل ولكن ليس كلها ، بل اجده في الفكر العربي الحداثي عموما في جميع مدارسه كونها مؤدلجة وانتجت ثقافة احادية الطابع والبعد الفكري في فهم العالم المعاصر، عكس الاسيوية الحداثية التي انفتحت على العالم واستفادت من تجاربه ومعطياته ، ومنه ارى طرحكم لثقافة التقبل هو مفهوم اساس لتطور مجتمعاتنا مقابل ثقافة الرفض التي تبنتها جميع المدارس في مجتمعنا العربي الدينية و الفكرية ،فهي عكس الاسيوية وقفت دوما ضد حضارة الغرب وتصفها بشتى الاوصاف وكأن مهمتها قطع طريق مجتمعاتنا عن العالم المتحضر .ومنه ثقافة الرفض اي عكس ثقافة التقبل والانفتاح التي تنادون بها
مع التقدير


2 - أخي العزيز دكتور لبيب سلطان
محمود يوسف بكير ( 2023 / 3 / 24 - 10:38 )
أشكرك على تعليقك القيم كالمعتاد وأكيد أن التراث ليس هو مشكلتنا الوحيدة فمشاكلنا عديدة ومعقدة ولكن وكما كتبت في تعليقي للصديق عامر سليم أنني أردت في هذا المقال أن أركز على ما أسميه بثقافة القبول لأنها تمثل تطورا خطيرا في حياتنا وهي نابعة من اليأس الذي ملأ النفوس وضياع الأمل في الإصلاح خاصة ‏وسط الشباب ولذلك عبرت عن قلقي على مستقبل هذه الأمة. كما سوف تلاحظ إنني لم اتعرض للتراث كثيرا ولكنني ذكرت أنه من عوامل تخلفنا لعدم مرونته مع التطور السريع والمتلاحق في العالم من حولنا ، ولكن هناك ما هو أخطر منه وهو الاستبداد. ‏والحقيقة المرة ان الاستبداد السياسي والتصلت الديني المسيطر على العقول يقودان هذه الأمة إلى الهاوية ولا أمل في أي إصلاح حقيقي دون القضاء على جذورهما. مع الشكر والتقدير


3 - بين الثابت و المتحول 1
محمد بن زكري ( 2023 / 3 / 24 - 12:45 )
تحية طيبة
المقال يطرح قضايا فكرية عدة ومتداخلة . وسأتوقف عند بعضها باختصار :
فأولا : في اليابان والصين وكوريا الجنوبية ، تم القطع مع التراث الميتافيزقي (البوذي) . ففي اليابان مثلا ينص الدستور على منع التعليم الديني ، ومنع تقديم أي دعم حكومي للأنشطة الدينية (مع إتاحة حرية التدين للأفراد) ، وذلك بالرغم من أن البوذية ديانة إنسانية ليس فيها إله ولا جنة ونار ، على النقيض من الديانات الابراهيمية وربها الدكتاتوري . ولذلك سهل على تلك الدول استيعاب ثقافة الانفتاح العقلاني باتجاه التطور والتجدد .
وثانيا : في بلادنا المثقلة بميراث ميتافيزقي إلغائي ، يجرّف العقل ، ويقولب التفكير ، ويصادر الضمير ، وينفي حرية الاختيار (تحت طائلة التكفير) . ومع التحالف العضوي ، المكرس بالمقدس ، بين مؤسسة الحكم والمؤسسة الدينية ؛ فإنه لا مكان للحرية ، وبالتالي فلا مكان لثقافة الانفتاح والتجدد ، ولا مكان للإبداع والارتقاء . وكل ما يجري هنا أوهناك من (تحديث) لا يخرج عن كونه تزويقا لتجميل الصورة القبيحة أو بناء فوق رمال متحركة ، كما حاول القذافي .. حينا (ثم عاد فتاب) وكما يحاول محمد بن سلمان الآن (سطحيا وشكلانيا) .


4 - بين الثابت و المتحول 2
محمد بن زكري ( 2023 / 3 / 24 - 12:46 )
وثالثا : عندما يتوقف المثقف عن الرفض ، يتوقف - معنويا - عن الحياة ، ويصبح بوقا . والمسألة تتلخص في المقابلة بين : ثقافة القبول الاستلابية (الخنوع والخضوع والاستكانة) من جهة .. وثقافة الرفض التحررية (التمرد والانتفاض والثورة) من الجهة المقابلة . وبصيغة أخرى ، المقابلة بين : ثقافة العقل .. وثقافة النقل ، أو ثقافة الثبات والجمود والتقوقع (الماضوية) .. وثقافة التغير والتجدد والانفتاح (المستقبلية) . كما نظّره أدونيس بعمق في كتابه (( الثابت والمتحول)) .
ورابعا : في كلمات قليلة ، وقولا واحدا : لن يتغير واقع التخلف ، في بلاد شمال أفريقيا والشرق الأوسط الناطقة بالعربية ؛ إلا أخذا بخيارين متلازمين هما : 1) إلغاء تدريس مادة الدين (التربية الدينية) من مناهج التعليم الرسمي ، وخاصة مرحلة التعليم الأساسي . 2) عدم النص في الدساتير ، على أن دين الدولة (الإسلام) وأن الشريعة هي مصدر القوانين .
ولقد كتبتُ مرارا أن الدولة لا دين لها (فالدولة لا تصلي ولا تصوم) ، وأن وظيفة الدولة هي خدمة الشعب ، وليست إجبار الناس على دخول الجنة (على افتراض وجودها أصلا) . ومن هنا نبدأ . هذا .. وإلا فلا أمل .
كل التقدير


5 - الأستاذ محمد بن زكري
محمود يوسف بكير ( 2023 / 3 / 24 - 13:45 )
أشكرك على تعليقك و إضافتك للمقال. الدين فعلا لابد أن يكون فضاءا خاصا بكل إنسان وليس فضاءا عاما يفرض الناس فيه معتقداتهم على الآخرين ويتعاركون كما يحدث في بلادنا دون بلاد الدنيا كلها. ولا ادري متى سندرك أن علاقتي بربي هي علاقة بيني وبينه فقط ولا مكان فيها لأي إنسان آخر. ولو أن لرجال الدين دور فاعل في حياتنا يبرر تدخلهم في شؤوننا و ‏الإملاء علينا لكنا قبلنا بالامر، ولكنهم يعيشون في انسجام وسلام مع كل ما حولهم من استبداد وفساد وظلم دون أن يحركوا ساكنا. مع تحياتي

اخر الافلام

.. نتنياهو بين إرضاء حلفائه في الحكومة وقبول -صفقة الهدنة-؟| ال


.. فورين أفارز: لهذه الأسباب، على إسرائيل إعلان وقف إطلاق النار




.. حزب الله يرفض المبادرة الفرنسية و-فصل المسارات- بين غزة ولبن


.. السعودية.. المدينة المنورة تشهد أمطارا غير مسبوقة




.. وزير الخارجية الفرنسي في القاهرة، مقاربة مشتركة حول غزة