الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الكتابة بدون هدف...

عباس علي العلي
باحث في علم الأديان ومفكر يساري علماني

(Abbas Ali Al Ali)

2023 / 3 / 25
الادب والفن


قرأت مذكرات أحد عمالقة الأدب السردي الحديث وبالمناسبة هو أيضا رجل قانون قبل أن يكون أديبا وله أطلاع واسع بالتأريخ وحصل على شهادة عليا في فلسفة الفن، يقول هذا الأديب أن أجمل ما كتبه في تاريخه ليست تلك الإبداعات التي حصلت على الشهرة الواسعة، ولا تلك الكتابات التي قلد من أجلها بأعظم الجوائز، إنه يشير إلى كتاباته الغير منشورة والتي ينتظر أن تصدر بعد رحيله من الدنيا، في ما كتب أشار إلى أن هذه الكتابات المؤجلة للنشر تمتع بصفة أنها كتابات بلا هدف، كتابات سرح فيها عقله في عالم الأسترخاء وبقت يده تمارس الكتابة بحرية بالغة، يقول الكاتب هذه بالنسبة لي تمثلني تماما تعبر عن وعي ولا وعي، تمثل حالاتي وأنفعالاتي دون أن أضع في حسابي رأي القراء والنقاد وسطوة الناشرين الذين يطلبون طرزا من الكتابة فيه روح التجارة أكثر من روح الكاتب أو سمة الأدب الذاتية، قد يبدو هذا الكلام صادما بعض الشيء خصوصا لكاتب أمريكي بخلفية أكاديمية وهو نتاج مجتمع إبداعي، ولأنه مجتمع تحرري ليس كما نعيش نحن في عالمنا المأزوم بكل شيء فالظن أنه كتب ما فوق الحرية، ومع ذلك سأجرب أن أكتب بلا هدف كما فعل الكاتب لأجرب طعم وميزة هذه الكتابة التي تعكس شيئا من العمق الروحي لي، وهذا لا يعني فوضى في الكتابة وعبثية في الهدف ولكنها ستكون كتابات لا أجبر فيها نفسي أن تخاطب رضا أحد.
في بدايات النشأة وفي مراحل الدراسة المتوسطة ونحن نتهيأ للأنتقال للمرحلة الثانوية حاولت أن أكتب ما يجول في خاطري، خاصة عندما أبدا في النوم محاولا أسترجاع ما مر في النهار من أحداث أو ما قرأت في الصحف والمجلات التي في الغالب تأتي متأخرة أو قديمة، وأحيانا ما يثيرني من كتابات أطلع عليها من بعض الكتب التي نحصل عليها أيضا بالصدفة من مكتبة المدرسة أو المكتبة العامة في المدينة، كنت أحاور شخصية تأملية أصنعها في بالي وأعطيها الحق في أن تكون قاسية، حتى أعرف قوة ما أفكر فيه أو يدور في خلدي من أثار القراءة، وأبدأ أولا في أستعراض ما قرأت ثم أحاول أن أعارض كل ما قرأت من خلال فكرة "أن ما كتب لنا ليس هو الحقيقة أو المطلوب"، هنا ينهض الشخص التأملي ليرد لي الحجة بأقوى منها فهو معجب بما هو مكتوب، وليس هذا فقط بل يحاول أن يثيرني بأسئلة من النوع الذي تجعل الفرد محشورا في زاوية حرجة، المهم مع كثرة الأسئلة وأشتداد المعارك الفكرية بيني وبين ظلي ينقضي معظم الليل وأنا مع كل إحراج أو أنتصار عليه أقلب جسدي من جهة لجهة، حتى أن أهلي يعرفون أن نومي الحقيقي يبدأ عندما أتوقف عن التقلب في الفراش.
غالبا في أصر هذه النقاشات أقرر أن أدونها في دفاتري التي تحوي بعضا مما أكتب في أي موضوع، لا يهمني أن أبوب أو أختار تخصصا معينا لأصهر فيه عقليتي، دفاتري كانت خليطا من أراء في الدين في السياسة وعلم النفس وشيئا من النقد السفسطائي التي كانت تتملكني طبيعة الجدل فيه، والقدرة على تقليب الأمور من وجهة لأخرى، لم يكن لي متوفرا الوقت الكافي أو الوسائل التي نمتلكها الآن في ان نكتب كلما كان يدور من أفكار وصراعات بين الذات والوعي الذي في داخلنا، أحيانا أتذكر شيئا منها وأدون القليل الذي قد يبدو منقطعا أو متقطعا، فالذاكرة لا تحفظ ما دار أو يدور جيدا، المهم في هذا الأمر كانت جهودي في الكتابة منصبة على الإبهار والتميز، الذي أشعر به من خلال قراءات البعض وخاصة بعض مدرسينا ومن الأصدقاء على قلة ما يقرأون.
في المرحلة الجامعية ومع تطور الأفكار وأتساع قاعدة تناول المعارف وتنوع مصادر التفكير الفردي والجمعي ونحن ضمن شريحة طلاب المعرفة، وأيضا التعرف على أنشطة ثقافية وفكرية واسعة وملونة ومتعددة، ظهر لي أن الحاجة لمزيد من القراءة والتطلع لأكتشاف عوالم كتابية جديدة أنا في أمس حاجتها حتى من الضروريات بما فيها دراستي الأكاديمية، خلال هذه السنوات الأربعة صنعت من نفسي قارئا نهما، وتركت الكتابة إلا فيما ندر ولظروف خاصة، عرفت من خلال القراءة الحرفية أن الكتابة ليست تجربة لابد منها، الكتابة تبقى رسالة وهدف لا بد أن يضع الإنسان أمام ذاته المسئولة عن إدراك الحقيقة، حتى لو كانت هذه الحقيقة تتمثل في أن نصمت أو نجول في عالم الخيال والتأمل، لنقارب ونقارن بين المشهد والمتخيل في الواقع والحلم، كانت فكرة الكتابة في ظروف الثمانينات في بلد يحكم بالحديد والنار يمثل نوعا من الأنتحار العبثي وهو أعلى من درجة الجنون المطبق، بالتأكيد لم يكن مانعي الخوف فقط بقدر ما كانت العيون لا يمكنها أن تقرأ المفيد ولا تسمع الأذان ما ينقذها من التيه، كان عصرا بلا معنى بالنسبة لي إلا معنى واحد، هو أن لا تحاول عبور نهر أختلط فيه النار والماء بشكل سريالي مضحك.
في نهاية التسعينات وبعد الخروج من أرض الوطن بحثا عن شيء كنت أعتقد أني أفقده كالسلام مثلا أو التحرر من إطار الواقع، شعرت بالحاجة للتعبير عن نفسي مرة أخرى بكل حرية وبالمباشر دون أن أجعل هدفي في الكتابة أن أضع ما أكتب مصفوفات في ذهن القارئ وعقله بقدر ما كان يهمني أن أتكلم، بقدر ما كنت عطشان للكلام للحديث للكتابة وقد بلغت الأربعين من العمر وخانة ما أكتب لا يكاد لها وجود جنب خانة ما قرأت وأقرأ، هوسي الأول وتركيزي وحتى دراستي الأكاديمية كانت تتجه مع ميلي الصوفي نحو السماء وقيمها، الدين الأخلاق المثل السلوكيات موما بعد هذه العناوين من ميتافيزيقيات وروحانيات عليا، هذا الثقل المعرفي لا يتركني ولا أنا أستطيع تخطيه بأي حال، لقد وقعت كما قال لي أحد أصدقائي من الموحدين الدروز يوما، إنك أسير التوحيد بمعناه الروحي فالحياة واحدة والمصير واحد والمعرفة واحدة، هذا طبعا في عقل الإنسان لأنه في الأصل واحد ويعبد واحد لذا أختيارك التعدد الجامع لمضمون واحد ينصب على توحيد الواحد في النهاية.
عندما أنهيت كتاب الرجل الذي أراد أن يكتب بلا هدف أعدت في عقلي شريط تجربتي في الكتابة على تواضعها، مع الكم الكبير مما كتبت في مختلف مجالات المعرفة بتنوعها المعروف، قررت أن أجرب هذا الطراز من الكتابة وكتبت الكثير، النتيجة أن كل ما كتبته لا يمكن أن يكون بلا هدف ولا يمكن أن أكتب حرفا دون أن أمارس عليه قوانين عقلي ورؤيتي الواحدة، الكتابة بلا هدف وهم ربما هكذا أستخلصت من النتيجة، ولكن يبقى الهدف الأساس الذي يجعل من الكتابة ذات قيمة أنها وظيفة وجودية لا علاقة لها بغيري ولا علاقة لها بقبول الأخر أو رضاه، الكتابة الحقيقية بصمة شخصية يمكن من خلالها قراءتي بل حتى التسلل إلى عقلي والإطلاع على محتوياته المتراكمة، أما الكتابة بلا هدف قد تكون بمفهوم الكاتب ومن خلال تجربته مجرد ترف معنوي أكثر منه حقيقة معرفية، لأنه يعيش عالم مترف وغني ويملك رصيدا من القوة، أما أنا فالهامش الذي أعيش فيه لن يترك لي حرية ولا يمنحني نعمة الترف ولا يشعرني بالقوة، قوة التحدي التي واجه بها الإنسان قدره منذ القدم.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الشباب الإيراني يطالب بمعالجة القضايا الاقتصادية والثقافية و


.. كاظم الساهر يفتتح حفله الغنائي بالقاهرة الجديدة بأغنية عيد ا




.. حفل خطوبة هايا كتكت بنت الفنانة أمل رزق علي أدم العربي في ف


.. فرحة الفنانة أمل رزق بخطوبة ابنتها هايا كتكت وأدم العربي داخ




.. أون سيت - الأسطى حسن .. نقطة التحول في حياة الفنان فريد شوقي