الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


رواية للفتيان كوجافاسوك والحوت طلال حسن

طلال حسن عبد الرحمن

2023 / 3 / 25
الادب والفن


رواية للفتيان









كوجافاسوك والحوت









طلال حسن

شخصيات الرواية
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 ـ كوجافارسوك

2 ـ الأم

3 ـ كونفسك ـ الأب

4 ـ توبيلاك ـ الشيخ

5 ـ توغتو ـ صديق الأب

6 ـ ميسانا ـ ابنة توغتو

7 ـ أم ميسانا







" 1 "
ــــــــــــــــــ
ابتعد كوجافارسوك بقاربه " الكاياك " ، المصنوع من الجلد ، عن الشاطىء ، مجذفاً بقوة في مياه البحر الهادئة
، لعله يرى فقمة سوداء ، فيتسلل إليها خلسة ، ويفاجئها بحربته القوية ، التي لا تخطىء الفريسة .
وتراءت له أمه ، التي بدت آثار السنين العجاف عليها ، وهي تودعه صباحاً عند باب البيت ، وهي تقول له : لا تتأخر ، يا بنيّ ، سيزورنا صديق أبيك الراحل .. توغتو ، قادماً من قريته في الشمال .
لكن أمامه مهمة ، وعليه أن ينجزها ، لأن أفواهاً عديدة تنتظر ، وليس له أن يدير ظهره لها ، لابد له أن يصطاد ، ليس فقمة واحدة فقط ، وإنما فقمتين ، وخاصة اليوم ، فصديق أبيه الراحل ، سيكون ضيفاً عليهم .
وحوالي منتصف النهار ، لمح من بعيد ، فقمة ضخمة سوداء ، تشق مياه البحر الهادئة ، دون أن تنتبه إلى قاربه " الكايك " وهو يشق بدوره مياه البحر .
وعلى الفور ، راح يجذف بقوة ، وقد وجه قاربه " الكايك " نحو الفقمة ، وما إن اقترب منها ، حتى رفع حربته ، وغرزها عميقاً في صدرها .
وقطر كوجافارسوك الفقمة الضخمة النافقة إلى قاربه الكاياك ، وصوت أمه يتردد في أعماقه " لا تتأخر ، يا بنيّ ، سيزورنا صديق أبيك الراحل .. توغتو " ، لكنه لم يجذف عائداً إلى البيت ، حتى اصطاد فقمة سوداء أخرى ، وإن لم تكن بضخامة الفقمة الأولى .
وعلى الشاطىء الرملي ، سحب قارب " الكاياك " من الماء ، وحمل الفقمتين بشيء من الصعوبة ، ومضى بهما إلى البيت ، ربما ستقول له أمه ، لقد تأخرت ، وخاصة إذا كان الضيف قد حضر .
ودفع باب البيت ، ودخل حاملاً الفقمتين ، ويبدو أن أمه كانت تنتظره في الفناء ، فأسرعت إليه ، وهي تقول : لقد تأخرت اليوم ، يا بنيّ .
فوضع كوفارسوك الفقمتين أمامها ، وهو يتلفت حوله ، فنظرت أمه إلى الفقمتين السوداوين اللتين أمامها على الأرض ، وقالت : لا داعي لأن تصطاد فقمتين ، كلما خرجت إلى الصيد ، يا بنيّ .
فردّ كوجافارسوك قائلاً ، وهو مازال يتلفت حوله : هناك من لا يستطيع صيد الفقمات من البحر ، يا أمي ، ولهم أن يأكلوا كما نأكل نحن .
ومدت الأم يدها ، وسحبت الفقمة الصغيرة ، وقالت : ليتعلموا صيد الفقمات ، كما يصطادون السمك ، هذا ليس أمراً مستحيلا .
وبدل أن يردّ كوجافارسوك عليها ، حدق فيها ملياً ، وقال بصوت خافت : يبدو أن صديق أبي ، الصياد توغتو ، لم يأتِ بعد ، يا أمي .
وردت أمه قائلة ، وهي تعاين الفقمة الصغيرة ، : بل أتى منذ الصباح ، وذهب لزيارة أحد أصدقائه في القرية ، وسيأتي قبيل المساء .
وصمتت لحظة ، ثم قالت : سيقضي توغتو بعض الليل عندنا ، ثم يعود لينام عند صديقه ، الذي اتفق معه للذهاب إلى الشمال معاً .
ثم رفعت عينيها إليه ، وقالت بصوتها الهادىء : اذهب الآن ، واغتسل ، وبدل ثيابك ، وارتح قليلاً في فراشك ، ريثما يأتي صديق أبيك توغتو .
وذهب كوجافارسوك ، واغتسل ، ثم دخل الغرفة ، وبدل ثيابه بثياب نظيفة ، وبدل أن يرتاح في فراشه ، كما طلبت منه أمه ، خرج إلى الفناء ، ورأى أمه تقطع الفقمة الصغيرة ، فقال لها : أمي ، خذي الصدر ، واسلقيه للضيف ، فهو ألذّ جزء من الفقمة .
وهزت أمه رأسها ، ثم قالت : لم تتمدد في فراشك ، وترتح قليلاً ، أنت متعب ، ثمّ إن صديق أبيك توغتو قد يأتي في أية لحظة .
فمدّ كوجافارسوك يده ، وحمل الفقمة ، وهو يقول : لا عليكِ ، يا أمي ..
وسكت لحظة ، ثم قال : أنتِ تتعبين نفسك كثيراً ، في تقطيع لحم الفقمة ، هذه ليست مهمتك وأنتِ في هذا العمر ، وإنما مهمة أختي .
وتوقفت الأم عن تقطيع الفقمة ، وقالت مبتسمة : آه .. أختك الجميلة .. الساحرة .
فقال كوجافاراسوك مازحاً : آه منكِ أنتِ ، يا أمي ، لقد تعجلت بتزويجها ، وهي طفلة صغيرة ، وكأن الزوج سيهرب منها مع الطيور المهاجرة .
ونظرت أمه إليه ، وقالت : عندما رآني أبوك ، وتزوجني ، لم أكن في عمرها ، وإنما كنت أصغر منها بسنة أو سنتين .
وهزت رأسها له ، وأضافت قائلة : وسأزوجك أنت أيضاً ، في أسرع وقت ممكن ، ومن جميلة أصغر من أختك الجميلة .. الساحرة .
ومضى كوجافاراسوك بالفقمة نحو الخارج ، وهو يقول : سآخذ هذه الفقمة إلى الشيخ توبيلاك ، ليقطعها ويوزعها على من يحتاج إلى طعام .
وقبل أن يغلق الباب ، ويمضي نحو بيت الشيخ ، سمع أمه تهتف به : كوجافاراسوك ، لا تتأخر يا بنيّ ، الشمس تكاد تغرب ، وصديق أبيك قد يأتي في أية لحظة .




" 2 "
ـــــــــــــــــــ
طرق كوجافارسوك باب بيت الشيخ توبيلاك ، وعلى الفور جاءه صوت الشيخ ، الذي شرخته الشيخوخة ، قائلاً : كوجافارسوك ، ادخل يا بنيّ .
ودفع كوجافارسوك الباب ، ودخل حاملاً الفقمة السوداء ، ووضعها أمام الشيخ توبيلاك ، وقال محيياً : طاب مساؤك ، أرجو أن تكون بخير .
ونظر توبيلاك إليه بعينيه الشائختين المحبتين ، وقال : طاب مساؤك ، يا بنيّ ، مادمتَ بخير ، فنحن بألف خير ، وآمنين من الجوع .
وابتسم كوجافارسوك ، وقال : عفواّ ، أخشى أن أكون قد تأخرت اليوم بعض الشيء ، لقد تأخرت في البحر ، ولم أشأ أن أعود إلا ومعي فقمتين كالعادة .
وهزّ الشيخ توبيلاك رأسه ، وقال : لم تتأخر ، يا بنيّ ، وحتى لو تأخرت ، لسبب أو لآخر ، فإننا على ثقة عالية بأنك ستأتي ، ويأتي معك الخير .
وصمت لحظة ، نظر خلالها إلى كوجافارسوك ، ثم قال : قبل أن تأتي أنت وأمك ، إلى قريتنا هذه في الجنوب ، كنا نصطاد سمكة التوسة ، ونقتات عليها .
وابتسم كوجافارسوك ، وقال : إننا نأكل الآن ، لحم الفقمة السوداء معظم الأحيان ، لكني أصارحك ، إن سمك التوسة لذيذ أيضاً .
وابتسم الشيخ توبيلاك ، وقال : لكنه ليس ألذّ من لحم الفقمة السوداء ، التي تصطادها من البحر ، إنه لحم دسم ، يناسب منطقتنا الباردة جداً .
واتسعت ابتسامة كوجافارسوك ، وقال بنبرة مرحة : هذا ما تقوله أمي أيضاً ، رغم أنها عاشت مع أبي صياد الحيتنان فترة من الزمن .
وأطرق الشيخ توبيلاك رأسه ، ثم قال بصوته المشروخ : نحن مدينون لك بالكثير ، يا بنيّ كوجافارسوك ، فبمجيئك ، توفر لنا لأول مرة ، هذا القدر من لحم الفقمات السود .
وصمت لحظة ، ثم حدق في كوجافارسوك ، وقد بدا الذهول في عينيه ، وقال : نحن لا ندري إلى الآن ، كيف لا يصطاد صيادونا إلا القليل من الفقمات السوداء ، رغم وجودها في البحر ، وعلى الشاطىء ، بينما تصطاد أنت فقمتين كلّ يوم .
ولاذ كوجافارسوك بالصمت ، فتابع الشيخ توبيلاك قائلاً : وقد حاول أكثر من صياد من القرية الصيد ، ومعظمهم من الصيادين المعروف عنهم الذكاء والشجاعة وقوة الملاحظة ، لكنهم عادوا كلهم محبطين ، وقالوا ، إننا لا نرى إلا القليل من الفقمات في منطقتنا اميردلوغ في الجنوب ، وسرعان ما تلوذ بالفرار ، وتختفي تحت الماء ، حين نقبل عليها لاصطيادها .
وصمت الشيخ لحظة ، ثم قال : بل إن أحد الصيادين ، خرج اليوم في إثرك ، وقد اصطدت أنت فقمتين ، أما هو فقد عاد عند المساء ، دون أن يصطاد فقمة واحدة ، في نفس المكان الذي كنت فيه .
ونهض كوجافارسوك ، وهو يقول : لا عليك ، أيها الشيخ ، هذا الصياد نفسه ، سآخذه غداً معي بوماً ، وسنصطاد معاً أكثر من فقمة سوداء .
ونهض الشيخ توبيلاك بدوره ، وقال وقد غمره الارتياح : سآخذ بعض اللحم إلى هذا الصياد ، وأبلغه بالأمر ، وسيفرح جداً .
واستدار كوجافارسوك ، واتجه إلى الخارج ، وهو يقول : عن إذنك ، أيها الشيخ توبيلاك ، لابدّ أن أذهب الآن ، فلدي ضيف في البيت .
ورافقه الشيخ توبيلاك إلى الخارج ، وقال له بصوته المشروخ : رافقتك السلامة ، يا بنيّ .





" 3 "
ــــــــــــــــــــ
عاد كوجافارسوك إلى البيت ، متشوقاً للقاء الضيف توغتو ، صديق أبيه الراحل ، الذي طالما ذكرته أمه ، كلما حدثته عن أبيه الراحل .
ووصل البيت ، ودخل الفناء ، وتناهى إليه من الغرفة صوت أجش لرجل يتحدث ، وأسرع إلى الغرفة ، وإذا أمه ورجل تجاوز منتصف العمر ، موفور الصحة ، بادي القوة ، يتبادلان الحديث .
وأشارت أمه إليه ، وقالت : ابني كوجافارسوك .
ونهض الرجل مبتسماً ، فتقدم كوجافارسوك منه ، وصافحه بقوة ، وهو يحييه قائلاً : طاب مساؤك ، وأهلاً ومرحباً بك في بيتنا .
وأشارت الأم إلى الرجل ، وقالت : بنيّ ، هذا صديق العمر لوالدك الراحل ، توغتو .
ونظر توغتو إلى كوجافارسوك ملياً ، ثم مدّ يديه وعانقه بشدة ، وقال : كوجافارسوك ، آه كأنما أعانق صديقي العزيز الراحل أباك كونفسك .
وردّ كوجافارسوك قائلاً : أمي تتحدث كثيراً عنك ، وطالما تمنيت أن أراك .
وعاد توغو للجلوس ، حيث كان يجلس ، وهو يقول : قريتنا الشمالية ، ليست بعيدة كثيراً عن قريتكم ، تعال لزيارتنا أنت والوالدة ، نحن عائلة واحدة .
وقبل أن يجيب كوجافارسوك بشيء ، قالت الأم : قريباً سنأتي لزيارتكم ، أنا وابني كوجافارسوك ، إنني مشتاقة جداً لرؤية طفلتك الجميلة ميسانا .
وضحك توغتو ، وقال : ميساما لم تعد طفلة ، البنت تنمو بسرعة كبيرة كأشجار الغابة .
وضحكت الأم بدورها ، وقالت : شوقتني ، يا توغتو ، إلى رؤية شجرتك الفتية ، وسنأتي قريباً جداً لزيارتكم ، ورؤية الشجرة .. ميسانا .
وتوقف توغتو عن الضحك ، وقال : أهلاً ومرحباً ، ستفرح ميسانا بكما كثيراً .
واستدارت الأم ، ومضت إلى الخارج ، وهي تقول : لابدّ أنكما جائعان ، الطعام جاهز ، سآتي به حالاً ، أرجو أن يعجبك ، يا توغتو .
ونظر توغتو إليها ، وردّ قائلاً : سيعجبني بالتأكيد ، أنت طباخة ماهرة ، هذا ما كان يقوله دائماً ، صديقي الراحل أبو كوجافارسوك .
وبعد قليل ، جاءت الأم بالطعام ، ووضعته على السفرة ، ثم نظرت إلى توغتو ، وقالت : هذا اللحم هو صدر الفقمة ، وهو ألذّ جزء منها ، تفضل .
واستغرقوا في تناول الطعام صامتين ، ثم نظر توغتو إلى كوجافارسوك وقال : يبدو أن الطعام وفير هنا ، في منطقة أميردلوغ .
فردّ كوجافارسوك قائلاً ، دون أن يتوقف عن تناول الطعام : نعم ، فلأسماك متوفرة بكثرة ، وكذلك الفقمات السوداء والطيور .
وصمت كوجافارسوك ، فقالت أمه : لكن الطعام يشحّ في الشتاء ، وذلك للبرد الشديد ، وتساقط الثلوج بكثرة ، وتجمد حتى أجزاء كبيرة من مياه البحر .
ورمق كوجافارسوك أمه بنظرة سريعة ، وقال : يخرج البعض ، وخاصة في الأيام المشمسة ، إلى المناطق المتجلدة من البحر ، ويحدثون فتحات في الجليد ، حتى يصلوا إلى ماء البحر ، ويصيدوا السمك منها .
ورفع توغتو رأسه ، ونظر إلى كوجافارسوك وأمه ، ثم قال : على العكس من منطقتنا ، إذ يزداد الطعام في الشتاء ، بوصول الحيتان .
وتساءل كوجافارسوك : الحيتان !
وتوقفت الأم عن تناول الطعام ، وقالت بشيء من الانفعال : الحيتان كائنات بحرية ملعونة ، شرسة ، قاتلة ، لا يجب أن يقربها أحد .
ولاذ توغتو بالصمت ، وعلى الفور نهضت الأم من مكانها ، ومضت خارج الغرفة ، وهمّ كوجافارسوك أن ينهض ، ويلحق بها ، وهو يقول : أمي ..
لكن توغتو مدّ يده ، وأمسك يد كوجافارسوك ، وقال بصوت خافت : دعها ، يا بنيّ .
وعاد كوجافارسوك إلى مكانه ، فنظر توغتو إليه ملياً ، ثمّ قال : أمك لا تلام ، يا بنيّ ، فما فقدته بسبب الحيتان ليس قليلاً ، فقدت أباك كونفسك .
وحدق كوجافارسوك فيه متسائلاً ، دون أن يتفوه بكلمة ، فتابع توغتو قائلاً : خرجنا لصيد الحيتان يوماً ، وكان أبوك معنا ، وتصدينا لحوت ضخم ، وقد طعنه أبوك بحربته طعنة قوية قاتلة ، لكن الحوت ، رفع زعنفته الخلفية عالياً ، وأهوى بها علينا ، ورأيت أباك يغوص إلى الأعماق ، ولم يخرج أبداً .









" 4 "
ــــــــــــــــــ
في صباح اليوم التالي ، أفاقت الأم كالعادة مبكرة ، واعتدلت في فراشها ، وألقت نظرة سريعة على كوجافارسوك ، الذي يرقد في فراشه ، في الطرف الثاني من الغرفة ، وبدا لها أنه أفاق من النوم هو الآخر ، رغم أن عينيه مازالتا مغمضتين .
ونهضت من فراشها ، لتعد طعام الفطور ، فابنها كوجافارسوك يذهب إلى الصيد ، بعد أن يتناول فطوره مباشرة ، لكنها فوجئت بكوجافارسوك يخاطبها من فراشه قائلاً : طاب صباحكِ ، يا أمي .
والتفتت أمه إليه مبتسمة ، وقالت : طاب صباحكَ ، يا بنيّ ، سأعد طعام الفطور حالاً .
وقبل أن تبدأ بإعداد طعام الفطور ، اعتدل كوجافارسوك في فراشه ، وقال : لا داعي ، يا أمي ، لأن تعدي منذ الآن ، طعام الفطور .
وتوقفت الأم ، ونظرت إليه مندهشة ، ثم قالت : لكن هذا هو الوقت ، الذي أعد لك فيه طعام الفطور كلَ يوم ، لتأكل ثم تذهب إلى البحر للصيد .
وتمدد كوجافارسوك في فراشه ثانية ، وقال : لن أذهب هذا اليوم للصيد .
ونظرت أمه إليه مندهشة ، فتابع كوجافارسوك قائلاً : عند منتصف الليل أفقت ، وسمعت الريح تعوي بشدة ، إنّ أمواج البحر ستكون اليوم مرتفعة ، وهذا يجعل الصيد ، وخاصة صيد الفقمات صعباً للغاية .
وعادت الأم إلى فراشها ، وتمددت فيه ، وهي تتمتم بصوت خافت ، وكأنها تحدث نفسها : يا للعجب ، لم أسمع الريح تعوي هذه الليلة ، من يدري ، ربما كنتُ مستغرقة في نوم عميق .
ونظرت إلى كوجافارسوك ، وقالت : لا بأس ، ارتح اليوم ، فقد تهدأ الأمواج غداً ، وتذهب للصيد .
وعند شروق الشمس نهضت الأم ، وراحت تعد طعام الفطور ، لم تنم حين تمددت في فراشها ، رغم أنها أغمضت عينيها المهمومتين ، فقد كان يشغلها ابنها كوجافارسوك وصديق زوجها الراحل توغتو ، وتفكر فيما دار بينهما من حديث .
وحين أتمت إعداد طعام الفطور ، جلست هي وابنها كوجافارسوك إلى السفرة ، يتناولان الطعام ، دون أن يتفوه أحدهما بكلمة واحدة .
ولم يأكل كوجافارسوك سوى لقيمات قليلة ، نهض بعدها عن السفرة ، ووقف عند النافذة لحظات ، ثم استدار ، واتجه إلى الخارج ، وهو يقول : سأذهب وأزور الشيخ توبيلاك ، وأعود بعد انتصاف النهار .
وخاطبته أمه قائلة : أرجو أن لا تتأخر ، يا بنيّ ، سأنتظرك لنتناول طعام الغداء معاً .
وخرج كوجافارسوك من البيت ، وظلت الأم وحيدة ، بين الجدران الأربعة ـ كما تقول ـ وهذا ما يشق جداً عليها ، وتحاول أن تتجنبه ، وخاصة بعد أن غيب ذلك الحوت اللعين ، زوجها الشاب في أعماق البحر .
وتراءى لها توغتو ، صديق زوجها الراحل ، وبقدر ما كانت تتمنى ، أن يلقاه ابنها كوجافارسوك ، تمنت في أعماقها ، أن لا يكون قد سمع منه ، في غيابها خاصة ، ما يُؤثر فيه ، ويشده إلى عالم أبيه .
وعلى عجل ، راحت الأم تلملم بقايا الطعام ، وترفع السفرة ، وتقلب خلال ذلك ما يمكن أن يواجهه كوجافارسوك ، بعد لقائه بصديق أبيه الراحل كونفسك ، وفكرت أن عليها أن تبحث له عن فتاة صغيرة ، وجميلة ، وتزوجه إياها ، في أسرع وقت ممكن ، وصممت على تنفيذه وإلا .. آه .
وتوقف كوجافارسوك على مبعدة من البيت ، وقد تملكته الحيرة ، إلى أين ؟ لقد قال لأمه بأنه سيذهب إلى الشيخ توبيلاك ، لكنه بدل ذلك ، اتجه نحو البحر ، وراح يسير ببطء على الشاطىء الرملي .
كانت الريح ، التي تهب من البحر ، هادئة منعشة ، هل سمع الريح ، تعوي في منتصف الليل ؟ هذا ما قاله لأمه ، لكن أكان هذا حقيقة ؟
إنه يوم مثالي للصيد ، وصيد الفقمات السوداء على وجه التحديد ، لكن الصيد لا يشغله هذا اليوم ، وإنما يشغله ما حدثه به الضيف ، صديق أبيه ، توغتو ، عما لا يعرفه عن أبيه ، ولاسيما ، نهايته المأساوية القاسية ، بعد أن طعن الحوت الضخم بحربته ، وتهاويه إلى الأعماق ، التي لم يخرج منها أبداً .
وبعد غياب الشمس ، في أعماق البحر ، عاد كوجافارسوك إلى البيت ، ووجد أمه تنتظره في الفناء على أحرّ من الصبر ، وخاطبته قائلة بنوع من العتاب : لقد انتظرتك على الغداء .
لم يتوقف كوجافارسوك ، وإنما توجه نحو الغرفة ، وهو يقول : سخني لي الطعام ، إنني جائع .
وقدمت أمه له الطعام ، بعد أن سخنته على عجل ، وجلست تأكل معه ، دون أن يتبادلا الحديث ، ولو بكلمة واحدة ، وسرعان ما نهض ، وغسل يديه ووجهه ، ثم تمدد في فراشه ، وغرق في نوم عميق .




" 5 "
ـــــــــــــــــــ
بعد أيام قليلة ، من اليوم الذي لم يذهب فيه إلى الصيد ، الأمر الذي حير أمه ، ولم تعرف له سبباً ، عاد كوجافارسوك إلى عهده الأول ، إذ راح يفيق في وقت مبكر ، ويتناول طعام الإفطار مع أمه ، ثم يمضي إلى البحر ، ليقوم باصطياد فقمتين سوداوين .
وقبيل مغيب الشمس ، في أعماق البحر ، يقفل عائداً إلى البيت ، ومعه الفقمتان السوداوان ، فيدفع إحداهما لأمه ، وعادة ما تكون الفقمة الصغيرة ، ويأخذ الثانية إلى الشيخ توبيلاك ، ليقطعها ، ويوزعها على المحتاجين .
وعقب المساء ، قلما يبقى مع أمه في البيت ، فكان يذهب أحياناً عند الشيخ توبيلاك ، وأحياناً يزور صديق من أصدقائه ، وإن كان أغلب الأحيان ، يتمشى على شاطىء البحر ، أو يجلس صامتاً على الرمال ، يبدو لمن يراه ، مستغرقاً في تفكير عميق .
ترى فيمَ يفكر ؟
ويعود إلى البيت متأخراً ، ويأوي إلى فراشه ، وأمه تنظر إليه صامتة ، مهمومة ، وتدرك أنه لم ينم ، كما كان ينام في السابق ، ويبقى ساكناً ، مغمض العينين ، فترة ليست قصيرة ، ثم يستغرق في النوم .
ترى بماذا يفكر ؟ فتاة !
هذا ما تتمناه أمه ، لكن ليس كلّ ما نتمناه يكون ، وتمنت على الإله ، وقلبها يخفق تضرعاً ، أن يكون هذا حقيقة ، ومن جهتها فإنها لن تألو جهداً ، مهما كان ، لتجعل هذه الأمنية حقيقة واقعة .
وذات ليلة ، عاد كوجافارسوك متأخراً ، وكان قد جلس على رمال الشاطىء ، يحدق في السماء ، المليئة بالنجوم المتغامزة ، يفكر فيما قاله توغتو ، عن أبيه الراحل ، ونهايته في أعماق البحر .
وتمدد في فراشه بادي التعب ، وقبل أن يغمض عينيه ، بادرته أمه قائلة : بنيّ كوجافارسوك ..
ونظر كوجافارسوك إليها ، وقال : نعم أمي .
فقالت له أمه : صديق أبيك توغتو ، أرسل مع رجل من قريته ، جاء يزور صديقاً له من قريتنا ، يدعونا لزيارته في يوم قريب .
ولاذ كوجافارسوك بالصمت ، فتابعت أمه قائلة : إنه يقول ، إن الشتاء قد حلّ في منطقتهم .
وهمهم كوجافارسوك ، وقال : الأمر لكِ ، يا أمي .
فقالت الأم : لابد أن نذهب ، فحين كان عندنا ، وعدناه أن نزوره قريباً .
وتهيأ كوجافارسوك للنوم ، وهو يقول : لنزره إذن في بيته ، في أقرب فرصة .
وقالت الأم : ليكن ذلك بعد غد ، إن لم تكن مشغولاً بشيء ، يا بنيّ .
وأغمض كوجافارسوك عينيه ، وقال بصوت لا أثر فيه للنعاس : ليكن بعد غدٍ ، ولننطلق منذ الفجر .
ومذ الفجر ، بعد يوم واحد ، انطلق كوجافارسوك ومعه أمه ، نحو القرية الشمالية ، التي يقيم فيها صديق أبيه الراحل توغتو ، وراحت الأم تسحب الزلاجة الصغيرة ، التي وضعت فيها كلّ ما يلزم للسفر .
وحين ابتعدا قليلاً عن القرية ، قالت الأم ، وهي تسحب الزلاجة الصغيرة : الجو مشمس اليوم ، وقد نصل قرية توغتو قبيل غروب الشمس .
وسار كوجافارسوك إلى جانب أمه ، وقال : يبدو أن المسافة ليست قصيرة .
فردت أمه قائلة : نعم ، لكن الطريق ممتع .
والتفت كوجافارسوك إلى أمه ، وقال لها : لا أريدك أن تتعبي ، دعيني أسحب الزلاجة بدلاً منكِ .
لم تتوقف الأم ، ولم تلتفت إليه ، وقالت وهي تسحب الزلاجة الصغيرة على الطريق : لم أتعب بعد ، سأدعوك إلى معاونتي في سحب الزلاجة إذا تعبت .
وواصلا سيرهما صامتين ، على الطريق الذي تغمره الثلوج ، وهما يتناوبان سحب الزلاجة الصغيرة ، وعند منتصف النهار ، توقفا على طرف غابة ، تغطي الثلوج أشجارها العالية ، ليرتاحا بعض الوقت ، ويتناولاً شيئاً من الطعام ، الذي جلبته الأم من البيت .
ومن مكان ما وسط الغابة ، التي تكلل الثلوج أشجارها العالية ، تناهى إليهما عواء ممطوط ، كأنه عواء عاصفة في منتصف ليل شتائي مثلج : عووووو .
وتوقفت الأم عن تناول الطعام ، وتمتمت بشيء من الخوف : ذئب !
وهزّ كوجافارسوك رأسه ، وقال وهو ينظر إلى مصدر العواء : لا عليكِ ، يا أمي ، إنه بعيد جداً .
ورمقته أمه بنظرة سريعة ، خائفة ، وقالت : الذئاب تكون جائعة جداً ، في هذا الوقت من الشتاء .
ولكي يطمئنها ، قال لها كوجافارسوك بصوت يشي بقلقه : لكنها قلما تهاجم البشر .
ولملمت الأم بقايا الطعام ، ودسته في الزلاجة ، وقالت : الجوع كافر ، ولن تتورع الذئاب عن شيء ، إذا لم تجد ما تسد به جوعها .
وسحبت الزلاجة بقوة على الثلوج ، وهي تقول بصوت متحشرج بالخوف : هيا يا بنيّ ، لنبتعد عن هذا المكان الخطر ، ونواصل الطريق .
وواصلا معاً السير على الطريق ، الذي تغمره الثلوج ، ويزيد من صعوبته ، عواء الذئب ، الذي يتناهى من وسط الغابة ، وكأنه عاصفة ثلجية : عووووو .

" 6 "
ـــــــــــــــــــ
طرق الباب ، والشمس تميل للغروب ، ورفعت ميسانا رأسها ، ونظرت إلى أبيها توغتو ، فالتمعت عيناه اللتان لم تشيخا بعد ، وقال : لم أسمع مثل هذا الطرق ، منذ فترة طويلة جداً .
ونهضت ميسانا من مكانها ، وهي تقول : وأنا لم أسمع مثلها من قبل ، يا أبي .
ونهض توغتو من مكانه ، وقال : هذه الطرقات ، إن لم تخني الذاكرة ، طرقات أم كوجافارسوك .
واتجهت ميسانا إلى الباب ، وقالت متشوقة : سأفتح الباب لأرى العمة أم كوجافارسوك ، ولابدّ أن كوجافارسوك جاء معها .
وأسرع توغتو إلى الباب ، وسبق ميسانا إليه ، وهو يقول : مهلاً ، يا ميسانا ، أنا سأفتح الباب .
وفتح توغتو الباب ، ووقف مذهولاً فرحاً ، وميسانا تقف وراءه ، وهي تتمتم فرحة : أبي ، إنها عمتي ، أم كوجافارسوك .
وصاح توغتو فرحاً : أهلاً ومرحباً .
وحدقت الأم في ميسانا ، بعينين فرحتين دامعتين ، وقالت : لا تقل لي ، يا توغتو ، أن هذه العروسة ، هي الطفلة الدمية ميسانا .
وضحك توغتو فرحاً ، ودفع ميسانا إليها ، وهو يقول : بل هي ميسانا نفسها ، يا أم كوجافارسوك ، انظري ، ما أسرع أن تمرً الأيام .
وأخذت الأم ميسانا بين ذراعيها ، وضمتها إلى صدرها ، وهي تمطرها بالقبل ، وهي تقول : لا أصدق أنّ هذه هي ميسانا ، لا أصدق ، لا أصدق .
وواصل توغتو ضحكه الفرح ، وهو يقول : بل صدقي ، إنها تلك الدمية الصغيرة ، التي كنتِ لا تملين من اللعب معها ، وترقيصها ، وتغنين لها الأغاني .
ثم وكأنه أفاق إلى نفسه ، التفت إلى كوجافارسوك ، وهتف مرحباً : أهلاً بك ، يا كاجافارسوك ، أهلاً بك يا بنيّ في قريتنا .
وحدق فيه ملياً بعينيه ، اللتين لم تشيخا بعد ، وقال : أنت صديقي الراحل أبوك كونفسك ، وستكون أباك الرجل الجريء الشجاع ، الذي لا يخاف شيئاً ، أهلاً ومرحباً بك ، وبالسيدة والدتك .
وصمت توغتو لحظة ، ثم قال وهو يشير بيديه : تفضلا ، الجو هنا بارد ، وأنتما تعبان من الطريق ، خاصة ونحن في فصل الشتاء .
وقادهما إلى الغرفة ، التي كان يجلس فيها هو وابنته ميسانا ، والنار تطقطق مشتعلة في الموقد ، وتشيع الدفء والراحة والأمان في النفوس .
ونظر توغتو إلى الأم ، وقال : اليوم ذهبت إلى الغابة ، واصطدت طير تلمجان ..
وابتسمت الأم ، وقالت : أنت كنت دائماً صياداً ماهراً ، في البر والبحر .
وضحكت ميسانا ، وقالت : كان وما زال .
والتفت توغتو إليها ، وهتف بها : ميسانا ..
وأدركت ميسانا ما يريده أبوها ، فردت قائلة وهي تستدير ، وتتجه إلى الخارج : حالاً ، يا أبي ، ارتاحوا أنتم قرب النار .
وقبل أن تخرج ميسانا ، هتف بها أبوها قائلاً : اشوي الترمجان جيداً ، ليرى ضيفانا العزيزان ، أنك طباخة ماهرة ، لا يشق لك غبار .
وانهمكت ميسانا في إعداد الترمجان للعشاء ، بينما كان توغتو يتبادل الحديث مع كوجافارسوك وأمه ، وجاءت ميسانا ، ومدت السفرة ، ووضعت عليها الطعام ، وقالت : التلمجان جاهز ، تفضلوا .
والتف الجميع حول التلمجان المشوي ، وراحوا يلتهمونه ، وهم يتبادلون الحديث ، ومن بعيد ، تناهى ما يشبه عواء العاصفة ، وابتسم كوجافارسوك ، وقال : في منتصف الطريق ، من منتصف الغابة ، تناهى إلينا ، أنا وأمي ، ما يشبه هذا العواء .
ونظرت إليه أمه مبتسمة ، وقالت : كوجافارسوك ..
وكتم كوجافارسوك ضحكته ، وقال : لن أقول أنكِ خفتِ ، يا أمي ، فأنتِ .. أمي .
ورمقت الأم ميسانا ، وقالت : كان ذئباً جائعاً .
وضحك توغتو ، وقال : ذات مرة ، أخذت ميسانا معي إلى الغابة ، وكانت صغيرة ، فرأت ذئبا ، يتطلع إلينا من بعيد ، فقالت لي ، بابا أريد هذا الكلب .
وهزت ميسانا رأسها ، وقالت : لقد أردته لأنه يشبه كلبي ، لكني كرهته حين هاجم كلبي ذات يوم ، وقتله .
انتهى التلمجان ، نعم ، كان لذيذاً ، هذا ما قالته الأم ، وأيدها في ذلك كوجافارسوك ، وهو يرمق ميسانا بنظرة سريعة ، وتملكها الفرح ، أهو من المديح ، أم من نظرة كوجافارسوك ؟ هذا ما حير ميسانا .
ونهض توغتو ، وقال : أنتما متعبان الآن ، والأفضل أن ترتاحا في فراشيكما .
والتفت إلى ميسانا ، وقال لها : بنيتي ، خذي ضيفينا إلى الغرفة ، التي أعددتها لهما .
فنهضت ميسانا ، وقالت : نعم بابا .



" 7 "
ــــــــــــــــــ
في ساعة متأخرة من الليل ، ربما قبيل الفجر ، تناهى إلى كوجافارسوك ، من جهة البحر على ما يبدو ، صوت تنفس غريب عميق .
وكما لو كان يحلم ، تناهى إليه مع التنفس العميق ، وقع أقدام متسارعة ، وارتفع صوت أحدهم يهتف بصوت مكتوم : توغتو ، أفق يا توغتو .
وردّ توغتو من الظلام : نعم ، لقد أفقت .
وتابع الصوت قائلاً : سمعت قبل قليل ، صوت تنفس عميق ، صادر من البحر .
وقال توغتو : أنا أيضاً سمعته .
وقال الصوت : تعال ، يا توغتو ، إنه حوت .
وكما تناهت الأصوات ، وكأنها كانت في حلم ، تلاشت تماماً كما يتلاشى الحلم ، وانقلب كوجافارسوك في فراشه ، واستغرق في نوم خال من الأحلام ، حتى هزته أمه صباحاً هاتفة : كوجافارسوك ..
وفتح كوجافارسوك عينيه ، واعتدل في فراشه الدافىء ، وقال لأمه : طاب صباحكِ ، يا أمي .
وردت أمه عليه : وصباحك أطيب ..
ثم أزاحت عنه الغطاء ، وتابعت قائلة : انهض ، يا كوجافارسوك ، الشمس أشرقت ، وميسانا أعدت لك فطوراً لذيذاً ، هيا انهض .
وأطلت ميسانا من باب الغرفة ، وقالت بصوت مرح : طاب صباحكما ..
وقبل أن يردا على تحيتها ، تابعت قائلة : الفطور جاهز في الغرفة الأخرى ، تفضلا قبل أن يبرد .
وقفلت ميسانا عائدة ، فلحقت الأم بها إلى الغرفة الأخرى ، وفي أعقابها سار كوجافارسوك ، وإذا السفرة مليئة بما لذّ وطاب ، وجلست الأم ، وقالت : ميسانا ، هذه وليمة ، يا عزيزتي ، ونحن لسنا ضيوفاً .
وجلس كوجافارسوك إلى جانب أمه صامتاً ، وقالت ميسانا ، وهي تجلس قبالتهما : أنتما تستحقان أكثر ، تفضلا وإلا برد الطعام .
ورمقت ميسانا كوجافارسوك بنظرة خاطفة ، وقالت : أرجو أن يعجبك طعامي .
ثم ضحكت ، وأضافت قائلة : لكن لا تقارن طعامي بطعام أمك ، فأنا تلميذة مبتدئة بالنسبة لها .
وابتسمت الأم فرحة ، وقالت وهي تأكل : بل أنتِ أستاذة ، يا ميسانا ، عاشت يدكِ .
ورمق كوجافارسوك ميسانا ثانية ، وقال : كنت أتمنى أن يكون والدك معنا ، يبدو أنه مشغول .
فردت ميسانا قائلة ، وهي تنظر إليه : جاء أحد الصيادين إلى أبي ، في الصباح الباكر ، وذهبا مع صيادين آخرين إلى عرض البحر .
ونظرت إليها الأم متوجسة ، فتابعت قائلة : لقد ظهر حوت في منطقة قريبة من البحر ، إنه الشتاء ، وهذا هو موسم صيد الحيتان في منطقتنا .
وتوقفت الأم عن تناول الطعام ، وبصعوبة بالغة ابتلعت ما في فمها ، فنظرت ميسانا إليها ، وقالت : لا تتوقفي ، أنتِ لم تأكلي شيئاً يذكر .
فنهضت الأم من أمام السفرة ، وقالت : أشكركِ ، يا عزيزتي ، لقد اكتفيت .
ثم توجهت إلى الفناء ، وهي تتمتم بصوت مختنق : تناولا الطعام أنتما ، سأخرج وأغسل يديّ .
ونظرت ميسانا إلى كوجافارسوك مذهولة ، فقال وهو يبتعد عن السفرة : أبي كما تعرفين ، كان صياداً مثل أبيك ، وكانا يصيدان الحيتان معاً ، وذات مرة طعن أبي حوتاً ضخما ، فانقض عليه وقلب قاربه ، فغاص إلى أعماق البحر ، ولم يخرج أبداً ..
وصمت كوجافارسوك لحظة ، ثمّ نظر إلى ميسانا ، وأضاف قائلاً بصوت حزين : هذا ما رواه لي أبوك ، وكان في القارب الآخر .
وأطرقت ميسانا رأسها ، وقالت بصوت دامع : يا للأسف ..
وصمتت لحظة ، ثم قالت : لو كنت أعرف هذا ، ما تكلمت عن الحيتان أمام والدتك .
وعند الضحى ، نهضت ميسانا ، وهمت بإعداد طعام الغداء ، فنهضت الأم ، وبادرتها قائلة : بنيتي ، أنا سأعد طعام الغداء هذا اليوم .
وحاولت ميسانا أن تثنيها عن عزمها ، لكنها أصرت على ذلك قائلة : لا أستطيع الجلوس بدون عمل ، دعيني أشغل نفس بالطبخ .
وصمتت لحظة ، ثم أشارت إلى كوجافارسوك ، وقالت : خذي ابني كوجافارسوك ، وتجولي به في القرية ، ليعرف المكان الذي عاش فيها أبوه .
وتملك كوجافارسوك الكثير من الارتياح ، لكنه لم ينبس بكلمة ، فقالت له أمه : هيا يا بنيّ ، وتجول في القرية ، ولا تعودا إلا بعد منتصف النهار .
وخرج كوجافارسوك ومسانا من البيت ، وبدل أن يتجها إلى القرية ، اتجه كوجافارسوك بها إلى البحر ، وقال لها : تعالي ، يا ميسانا ، وحدثيني عن كلّ ما تعرفينه عن صيد الحيتان في هذه المنطقة .



" 8 "
ــــــــــــــــــــــ
أشعلت ميسانا النار في الموقد ، وجلسوا حولها جميعاً يتدفأون ، ثمّ ألقت نظرة عبر النافذة ، وقالت : سيعود أبي بعد قليل ، من البحر والبرد الشديد ، وسيفرح حين يجد النار مشتعلة ، والغرفة دافئة .
ورمقت الأم كوجافارسوك بنظرة سريعة ، وقالت : لم تحدثني عن جولتك في القرية ، مع ميسانا .
ونظر كوجافارسوك إليها ، وقال : لم نذهب إلى القرية ، وإنما ذهبنا إلى البحر .
ونظرت الأم إلى ميسانا ، التي ابتسمت ، وقالت : هذا ما أراده كوجافارسوك .
وأنصتت الأم ملياً ، ثم قالت : ميسانا جاء أبوك ، اذهبي إليه ، واستقبليه .
وقبل أن تخرج ميسانا ، دخل أبوها متعباً إلى الغرفة ، وقال وهو ينزع قمصلته السميكة المصنوعة من جلد الدب : آه ما أطيب الدفء ، طاب مساؤكم .
ولم ينتظر أن يردوا عليه ، وإنما واصل قائلاً : هذه هي الجنة نفسها .
ونظر ضاحكاً إلى الأم ، وتابع قائلاً : الجنة في الشتاء هي النار ، والنار فقط .
وصمت لحظة ، ثم خاطب ميسانا قائلاً : بنيتي ، أبوكِ يكاد يموت من الجوع .
وعلى الفور ، أسرعت ميسانا إلى الخارج ، وهي تقول : دقائق ويحضر الطعام عندك .
وجلس توغتو قريباً من النار ، ونظر إلى كوجافارسوك ، وقال : لابد أن ميساما أخذتك اليوم في جولة بقريتنا ، أرجو أن تكون قد أعجبتك .
وقبل يردّ كوجافارسوك عليه ، قالت الأم : ميسانا لم تأخذه إلى القرية ، وإنما أخذته إلى البحر .
ونظر توغتو إلى كوجفارسوك مبتسماً ، فقال كوجافارسوك : عفواً ، أنا طلبت منها أن تأخذني إلى البحر ، أردت أن أرى البحر في منطقتكم .
ودخلت ميسانا ، والابتسامة تظيء عينيها السوداوين ، ووضعت الطعام أمام أبيها ، ونظر توغتو إلى الأم وكوجافارسوك ، وقال : تفضلا ، شاركاني الطعام .
وردّ كوجافارسوك قائلاً : شكراً ، لقد تناولنا الطعام ، قبل عودتك من البحر بقليل .
وانهمك توغتو في تناول طعامه ، ويبدو أنه كان جائعاً جداً ، فنظرت الأم إليه ، وقالت : لابدّ أنك جئت بقطعة لحم ، من الحوت الذي اصطدتموه هذا اليوم .
ورفع توغتو عينيه ، ونظر إليها صامتاً ، وقد بدا محرجاً بعض الشيء ، فسارع كوجافارسوك قائلاً : قالت لنا ميسانا ، أنكم ذهبتم منذ الفجر إلى البحر ، لاصطياد حوت اقترب من مياهكم .
وحدق توغتو في النار الملتهبة ، التي كانت تطقطق في الموقد ، وقال بصوت متردد : كان الحوت على ما يبدو فتياً ، حذراً ، سريع الحركة ، وكلما حاولنا الاقتراب منه غاص إلى الأعماق ، ثم لا يظهر إلا بعد أن يكون قد ابتعد مسافة طويلة .
ورمقته الأم بنظرة سريعة ، وقالت : أنتم الآن أكثر حذراً ، مما كنتم عليه في الماضي .
ولاذ توغتو بالصمت لحظة ، ثم عاد إلى تناول طعامه ، ولكن بشهية أقل ، ثم قال وهو يأكل : معي الآن صيادون شباب ، وهذه تجاربهم الأولى ، ولا أريد أن أزجهم في معركة ، قد أفقد فيها واحداً منهم .
وبعد أن فرغ توغتو من تناول الطعام ، خرج إلى الفناء ، ووقف تحت السماء المرصعة بالنجوم ، وتراءى له صديقه الراحل كونفسك ، أبو كوجافارسوك ، وهو يطعن الحوت الضخم بحربته القوية ، ثم وهو يتهاوى مضرجاً بدمائه ، ويغوص مع القارب إلى أعماق البحر ، ويختفي في العتمة تماماً ، ولا يخرج منها أبداً .
وعاد توغتو إلى الغرفة ، بعد أن اغتسل ، وجلس ثانية إلى جانب الموقد ، فالتفتت الأم إلى ابنها كوجافارسوك ، وقالت له : بنيّ ، أبو ميسانا متعب ، ولابد أن يرتاح ، بعد هذا اليوم الطويل ، الذي قضاه في البحر ، ولقد تأخر الوقت ، فلنذهب إلى غرفتنا .
وحاول توغتو عبثاً أن يستبقيهما ، وقال : الليل في أوله ، أنا لا أنام في هذا الوقت .
ونهضت الأم ، ونهض كوجافارسوك معها ، وخاطب توغتو قائلاً : نحن أيضاً نريد أن نرتاح .
وتوجه مع أمه نحو الباب ، وهو يرمق ميسانا بنظرة سريعة ، وقال : تصبحان على خير .
ونهض توغتو من مكانه قرب الموقد ، وقال : كما تشاءان ، تصبحان على خير .
وهمت ميسانا أن تخرج مع كوجافارسوك وأمه ، وتأخذهما إلى غرفتهما ، إلا أن الأم التفتت إليها ، وقالت : ابقي مع أبيك ، يا ميسانا ، تصبحين على خير .
وتوقفت ميسانا عند الباب ، ورمقت كوجافارسوك بنظرة سريعة ، وقالت : تصبحان على خير .
والتفت كوجافارسوك إلى ميسانا ، وقال لها : تصبحين على خير .






" 9 "
ــــــــــــــــــــ
في اليوم التالي ، قبيل الفجر ، وهذا ليس حلماً ، تناهى لكوجافارسوك أصوات تنفس عميق ، يأتي من مكن ما من البحر ، وعلى الفور ، جاءه صوت منفعل من الخارج ، يهتف : توغتو ..
وفي الحال ، جاءه ردّ توغتو قائلاً : نعم ، أنا مستيقظ ، وأسمع التنفس العميق ، إنني قادم .
واعتدل كوجافارسوك في فراشه ، ثم نهض بهدوء شديد ، وتسلل في العتمة إلى الخارج ، وفتحت الأم عينيها ، وأنصتت إلى وقع أقدام كوجافارسوك ، وهو يسير مسرعاً في الفناء ، متجهاً إلى الباب الخارجي ، ولم تتمالك نفسها ، فراحت دموعها تسيل على خديها ، اللذين أذبلتهما السنون العجاف .
وعند الباب من الخارج ، قي غبش الفجر ، فوجىء توغتو بكوجافارسوك ، يبرز من عتمة الفناء ، فتمتم بصوت يشي بذهوله : كوجافارسوك !
فاقترب كوجافارسوك منه ، وقال : أنا كما تعرفني ، ماهر جداً في صيد الفقمات .
وحدق توغتو فيه ، وقال : لكننا لا نصيد الفقمات ، يا كوجافارسوك ، وإنما الحيتان .
وردّ كوجافارسوك قائلاً : أبي كان صياداً للحيتان معك ، وأنا .. كما تعرف .. ابنه .
ورفع توغتو عينيه ، ولمح ابنته ميسانا ، تقف في فرجة الباب ، وترمقه بنظرة رجاء ، فنظر إلى كوجافارسوك مبتسماً ، وقال : تعال ، سآخذك في قاربي .
وسار توغتو ومعه كوجافارسوك ، في مقدمة الصيادين ، متجهين نحو البحر ، وظلت ميسانا تتبعهم بعينيها السوداوين المحبتين ، حتى غابوا في الظلام .
وما إن وصلوا إلى الشاطىء ، حتى دفعوا القاربين الكبيرين ، المخصصين لصيد الحيتان ، إلى ماء البحر ، وصعدوا فيهما الواحد بعد الآخر ، وراحوا يجذفون بقوة ، ويتجهون بالقاربين إلى عرض البحر .
في القارب الأول ، صعد توغتو ، ومعه صعد كوجافارسوك ، وثلاثة من الصيادين الشباب ، وصعد في القارب الثاني ، نفس العدد من الصيادين الشباب الأشداء ، ومهمتهم الأساسية التجذيف ، وقطر ما يصطادونه ، وسحبه إلى الشاطىء .
والتفت توغتو إلى كوجافارسوك ، وربت على كتفه أمام الصيادين الثلاثة الشباب ، وخاطبهم قائلاً : انظروا ، أنتم لا تعرفون من هو هذا الشاب العزيز ..
وحدق الصيادون الشباب فيه ، وقال أحدهم : ما نعرفه أنه ضيفك من قرية من قرى الجنوب .
وقال صياد شاب آخر مخاطباً كوجافارسوك : أهلاً بكَ ، أنت ضيفنا جميعاً .
فابتسم كوجافارسوك له ، وقال : أشكرك .
وربت توغتو على كتف كوجافارسوك ثانية ، وقال : إنه ليس ضيفي فقط ، وإنما ابن صديقي الراحل ، صياد الحيتان المشهور كونفسك .
وقال الصياد الشاب الآخر : آه إنني أذكره جيداً ، لقد رأيته عندما كنت طفلاً ، وابنه يشبهه تماماً .
وقال الصياد الشاب الأول : حسناً ، ليرينا إذن أنه ابن ذلك الصياد العظيم ، عند ظهور الحوت .
ومن القارب الآخر ، صاح صياد شاب ، وهو يشير بيده إلى مكان بعيد في عرض البحر : انظروا .. انظروا هناك .. إنه حوت .
ونظر الجميع إلى حيث يشير الصياد الشاب ، وإذا نافورة الماء ، التي يطلقها الحوت عادة ، عندما يصعد من الأعماق ، تلمع تحت أشعة الشمس ، وصاح صياد شاب من قارب توغتو : لعله نفس الحوت ، الذي طاردناه البارحة ، وأفلت منّا .
وصاح صياد شاب آخر : هذا ما نرجوه ، وهذه المرة لن يفلت منا ، مهما كانت الظروف .
واقترب صياد شاب من كوجافارسوك ، وقال له : أيها الصياد ، أرنا بطولتك ، وكن ابن أبيك .
ووقف توغتو في مقدمة القارب الكبير ، والحربة في يده ، وصاح بمن في القاربين : انتبهوا جميعاً ، فلنتوجه كلنا إلى ذلك الحوت ، ونصطاده .
وعلى الفور ، وبكل ما يملك الصيادون الشباب من قوة وعزيمة ، راحوا يجذفون دافعين القاربين بقوة وسرعة إلى حيث يطفو الحوت فوق سطح البحر .
وحين اقتربوا من الحوت ، حدق توغتو فيه ملياً ، ويده تشدّ بقوة على الحربة ، وقال : انظروا ، أنه الحوت الفتيّ نفسه ، الذي أفلت منّا البارحة .
وصاح أكثر من صياد ، من كِلا القاربين الكبيرين : لن يفلت تاحوت منّا هذا اليوم .
والتفت توغتو إلى كوجافارسوك ، وقال له : تعال ، يا بنيّ ، الضربة الأولى كانت دوماً لأبيك ، واليوم أريد أن تضربه أنت أولاً ، وسأضربه أنا بعدك مباشرة .
وتقدم كوجافارسوك ، ووقف في مقدمة المركب ، ورفع الرمح ، وقد شدّ يده عليه بقوة ، ورمقه توغتو بنظرة سريعة ، وقال له : تهيأ ، يا بنيّ ، لكن لا تضربه برمحك ، حتى أطلب منك ذلك .
واقترب القارب أكثر ، حتى كاد يحاذي الحوت ، الذي بدا فوق الماء بجسمه الهائل الجميل ، وهنا صاح توغتو : الآن .. اطعنه بالحربة .
وبكل ما يملك من قوة وعزيمة ، أطلق كوجافارسوك حربته نحو الحوت ، فنفذ في جسمه عميقاً ، وعلى الأثر ، انبثقت نافورة من الدماء الحارة ، وانتفض الحوت صارخاً ، وقبل أن يغوص إلى الأعماق ، أطلق عليه توغتو رمحه المربوط إليه حبل قويّ ، فنفذ عميقاً في جسمه ، الذي صبغت دماؤه ما حوله من ماء البحر .
وحين ظهر الحوت من الأعماق ، وهو يتلوى من الألم ، وينزف المزيد من الدماء ، بدا الوهن عليه ، وغاص ثانية .. وثالثة .. ورابعة .. و .. وأخيراً طفا فوق سطح البحر ، جثة هامدة .. والدماء مازالت تنزف من جراحه العميقة ، فصاح توغتو بالبحارة : لنقطره إلى أحد المركبين ، ونسحبه إلى الشاطىء .











" 10 "
ــــــــــــــــــــــ
في ضحى اليوم التالي ، وبعد خروج توغتو من البيت ، نظرت الأم إلى ميسانا وكوجافارسوك ، وقالت لهما بصوت مرح : أنتما شابان ، لا تبقيا كالعجائز في البيت ، اليوم دافىء ومشمس ، ومثل هذا الجو لا يتكرر دائماً ، اذهبا وتجولا حيثما تشاءان .
ونظرت ميسانا مبتسمة إلى كوجافارسوك ، وقالت : أمك على حق ، فلنخرج من البيت .
وردّ كوجافارسوك على ابتسامته بابتسامة مشجعة ، وقال لها : أنا موافق ، هيّا .
وخرجا من البيت ، والأم تشيعهما بنظرها الفرح ، وهي تهتف بهما : لا تتأخرا ، سأطبخ لكما طعاماً لذيذاً من لحم الحوت ، الذي أصطيد البارحة .
وسار كوجافارسوك وميسانا جنباً إلى جنب ، تحت أشعة الشمس الدافئة ، رغم أن الثلوج كانت في كلّ مكان ، ونظرت ميسانا إلى كوجافارسوك ، وقالت : أول أمس أخذتني إلى البحر ، وهذا اليوم سآخذك أنا ، ونتجول في القرية ، لتعرف القرية التي ولدت فيها .
وابتسم كوجافارسوك فرحاً ، وقال : إنني رهن إرادتك الطيبة ، كما كنت أول أمس رهن إرادتي ، خذيني حيث تشائين ، يا ميسانا ، هيا .
وواصلا سيرهما ، وسارا جنباً إلى جنب ، عبر بيوت القرية ، التي دبت الحياة اليومية فيها ، وارتفع الدخان من بعض بيوتها ، التي راحت تطبخ قطعاً دسمة من لحم الحوت ، الذي تم اصطياده يوم أمس .
ورمقت ميسانا كوجافارسوك بنظرة سريعة ، دون أن تتوقف أو تبطىء في سيرها ، وقالت : حدثني أبي ليلة البارحة ، عن دورك في صيد الحوت ، وقال إنك تذكره بأبيك صياد الحيتان الكبير .
ولاذ كوجافارسوك بالصمت لحظة ، ثم نظر بعيداً ، ربما إلى ماض لم يره إلا في خياله ، ثم قال : حين ذهبت مع أبيك لصيد الحوت ، أردتُ أن أثبت لنفسي أنني أبي ، صياد الحيتان ، وأكسر في نفس الوقت ، حاجز الخوف الذي استبد بأمي ، بعد مقتل أبي عند تصديه لذلك الكوخ الضخم القاتل .
وسكت لحظة ، ثم أضاف قائلاً بمرارة : لقد أثبتّ لنفسي ما أردته ، لكني لم أكسر حاجز الخوف ، الذي استبد بأمي ، عرفت ذلك عندما نظرت إليها البارحة ، بعد عودتي من البحر .
وسكت مرة ثانية ، ونظر إلى ميسانا ، ثم قال : ميسانا ، أنا صائد فقمات ، فقمات سوداء .
وردت ميسانا قائلة : لك أن تكون ما تريد .
وتابع كوجافارسوك قائلاً : أمي لم تعد صغيرة ، لقد فقدت أبي وهي في مقتبل العمر ، وأريد أن أجعلها تعيش بقية حياتها ، التي كرستها لي ، مطمئنة سعيدة .
وقالت ميسانا : وهذا ما تستحقه أمك .
وواصلا سيرهما بين بيوت القرية صامتين ، وإن استمر الحوار بينهما بصمت تام ، وتوقفت ميسانا أمام بيت مقفل ، يقع بعيداً بعض الشيء عن البيوت الأخرى ، ورمقت كوجافارسوك بنظرة سريعة ، ثم قالت : كوجافارسوك ، انظر جيداً إلى هذا البيت ..
وسكتت لحظة ، ثم قالت : عد إلى أعماقك ، لعلك تعثر على أثر قديم له ، بين ثنايا أغوارك .
ونظر كوجافارسوك إلى البيت المغبر المغلق ، وقد التمعت عيناه ربما بذكرى بعيدة جداً ، ثم حدق في ميسانا ، وقال : ميسانا ..
وبدت في عينيها السوداوين ابتسامة حزينة ، وقالت : هذا بيتكم ، يا كوجافارسوك .
وتمتم كوجافارسوك : بيتنا !
وهزت ميسانا رأسها ، وقالت : أبي لم يسمح لأحد أن يسكنه ، منذ أن غادرته أمك ، وكنت طفلاً صغيراً ، بعد أن غاب أبوك في أعماق البحر .
وسار كوجافارسوك كالمسرنم ، يطوف حول البيت ، وفي أثره تسير ميسانا ، وأخيراً توقف أمام البوابة المغلقة ، وقال : نعم ، إنه بيتنا ، أحسه في أعماقي ، رغم أنني وأمي غادرناه ، وأنا طفل صغير .
وصمت كوجافارسوك ، وقد علا وجهه الحزن ، فنظرت ميسانا إليه ، وقالت : كوجافارسوك ، لابد أن أمك تنتظرنا ، فلنعد إلى البيت .
ورفع كوجافارسوك عينيه إليها ، وحدق فيها ملياً ، ثم قال : ميسانا ..
وخفق قلب ميسانا بشدة ، وردت قائلة : نعم .
وقال كوجافارسوك ، وعيناه متعلقتين بعينيها السوداوين : لنا بيت في منطقة اميردلوغ الجنوبية ، لعله أصغر من هذا البيت ، لكنه يقع على البحر ، وفوقه سماء الليل المرصعة بالنجوم والقمر ، عشت فيه وأمي و ..
وصمت لحظة ، ثم قال : المهم أن أمي تعيش فيه مطمئنة وسعيدة ، و ..
ومدّ كوجافارسوك يديه ، وضمّ فيهما يد ميسانا ، وقال لها : ميسانا ، أريد أن تضيئي لي حياتي ، طول العمر ، في دارنا الجنوبي ..
وتمتمت ميسانا بصوت فرح : كوجافارسوك ..
وهتف كوجافارسوك : ميسانا ..
فقالت ميسان بصوت فرح : سأكون معك حيثما تكون ، يا كوجافارسوك .


24 / 8 / 2021








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. خلال مشهد من -نيللى وشريهان-.. ظهور خاص للفنانة هند صبرى واب


.. حزن على مواقع التواصل بعد رحيل الأمير الشاعر بدر بن عبدالمحس




.. بحضور شيوخ الأزهر والفنانين.. احتفال الكنيسة الإنجيليّة بعيد


.. مهندس الكلمة.. محطات في حياة الأمير الشاعر الراحل بدر بن عبد




.. كيف نجح الأمير الشاعر بدر بن عبدالمحسن طوال نصف قرن في تخليد