الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الحسناء والإنتحار

دلور ميقري

2023 / 3 / 25
الادب والفن


ما أكتبه هنا ليسَ واقعاً، بقدر ما هوَ ذكرى. ولأن حياة الإنسان لا تتحدد في الواقع، حَسْب، فإن حكايتي يُمكن أن تسقط فيما وراء الواقع. ربما كُتِبَ لعُمري، في تلك الليلة تحديداً، أن يتجاوزَ مسألة الزمن لكي يُبرهن على عبث الحياة. على ذلك، لا أرى أهمية كبيرة لتحديد سنة الواقعة ( الملفقة بصفة الذكرى )، مكتفياً بالتأكيد أنها جرت في النصف الثاني من القرن المنصرم. ويا له من مثير، نصفُ القرن ذاك! وأعني، خصوصاً، ما يخصّ الفن السابع، الذي أدينُ له بالمتعة أكثرَ من قراءاتي الأدبية، بحيث وجدتني أتماهى معه في فترة نضوجي ـ ككاتب ـ من خلال المقالات النقدية والسيَر البيوغرافية.
تكلمتُ عن الزمن، بما هوَ ضروريّ وبما هوَ غير ضروريّ؛ ولكن ماذا عن المكان؟ إنه مدينة هوليوود، وقد رأيتني فيها هذه المرة كروائيّ، يبحثُ عن فرصةٍ لتحويل عمله الأدبيّ إلى نَصّ سيناريو. هذا بالرغم من يأسي المسبق، آنذاك، من إمكانية " تسويق " عملي، وذلك بناءً على تجارب كتّاب آخرين، مثل هنري ميلر وماركيز، فضلاً عن تشديد بورخيس على موضوعة فصل الأدب تماماً عن السينما. على أية حال، لن يكون ثمة استطراد آخر، كيلا ينتقل شعورُ اليأس من الكاتب إلى القارئ.
وساوسي المعلومة، بشأن التسويق، جازَ لها أن تهدأ قليلاً حينَ انتقلتُ تلك الليلة من بهو الفندق، المزيّن بنوافير على شكل أسودٍ حجرية، إلى الكازينو الكبير، الكائن في القبو. ولا ريبَ أن المكانَ أبهرني، سواءً بأناسه الفائقي الأناقة، رجالاً ونساءً، أو بموجوداته؛ وبالأخص الثريات الهائلة الحجم، المتدلية من السقف كرؤوس كائنات خرافية ذات أقراط من قطع الكريستال والمصابيح المذهّبة. التجمّع الأكبر، كان ثمة عند طاولة الروليت، وغالبيته من المتفرجين مثلما حقّ لي ملاحظته عندما انضممت إليهم. بمجرد أن مرّ نظري على المقامرين، أدركتُ سببَ هذا الازدحام: عمر الشريف، الممثل العالمي المعروف، كان نجمَ تلك الحلقة من لاعبي الروليت، السعداء والمحبطين على حد سواء. وكالعادة ( وكما نقرأ في المجلات الفنية )، أحاط بنجمنا عدّةُ نساءٍ فاتنات ومن أعراق شتى.
" ولكن، أليست هيَ مارلين مونرو، تلك المرأة الحسناء؟ "، قلتُ لنفسي بشيءٍ من الدهشة. بلى، لقد كانت أشهر ممثلة في هوليوود تقفُ هناك عند طاولة الروليت، بتسريحة شعرها الذهبيّ ( الأشبه بالجزّة الأسطورية )، المنسدلة على وجهها الجميل، المنحوت من نفس المعدن الثمين. وكان جسدها الرشيق، المثير، يكتسي بعباءة بيضاء مطرزة بخيوط ذهبية وفضية، تكشف ساعديها العاجيين. لكن حليّها كانت بسيطة، ولعلها من اللآلئ غير الأصلية. لحظتُ أنها متوترة، تراقب بقلق نجمَ طاولة الروليت، الذي كان يخسرُ الجولة بأثر الأخرى. ربما تعلُّق بصري بها مطولاً، جعلها تنقل عينيها الآسرتين نحوي. كنتُ أقف بمقابلها تقريباً، يفصل بيننا طاولة القمار. ابتسمت لي برقة، وما لبثت أن تحركت من مكانها وهيَ تومئ برأسها إلى ناحية البار. هناك، حالما لحقت بها ( جرأةٌ تملكتني مع إثارةٍ لا توصف )، خاطبتني برجاء: " قل له أن يكتفي هذه الليلة بما خسره، لعلك تقنعه كونك من مواطنيه ". أحسستُ بالخيبة، طالما أنها جعلتني بمثابة " الجسر " إلى رجل آخر. مع ذلك، كنتُ ما أفتأ أتأملُ حُسنها بشغف، لما شعرتُ بيدٍ توضع على كتفي. لقد كان نجمنا نفسه، وما لبثَ أن طلبَ من البارمان كأساً من الويسكي.
" يبدو أنك جريءٌ مع النساء لا مع القمار؟ "، قال لي بنبرةٍ تجمعُ بين الود والسخرية. كنتُ أهمّ بإجابته، وإذا به يتحوّل إلى الحسناء كي يهمس شيئاً في أذنها. ردة فعلها، اتسمت بالعصبية: " لقد ضجرتُ من خياناتكم، معشرَ الرجال، فإنكم سواءُ من هذه الناحية ". فيما كانت تقرّعه، أطلق ضحكة مقتضبة وسرعان ما عاد إلى حلقة الروليت. حوّلت نظرها إليّ لبرهةٍ، ثم إذا بها بدَورها تضحك بفتور. أكملت شربَ كأسها، وبعدئذٍ دست يدها في حقيبتها لتخرج منها إصبعَ أحمر الشفاه. مدت يدها اليسرى، لترسم على الرسغ بالأحمر ما يُشبه الإسورة. تمتمت بغموض دونَ أن تنظر في عينيّ: " إنها الليلة الأخيرة ". هذه الجملة، سببت لي الهلع. قلت لها برجاء: " انتظريني هنا قليلاً وسوف أعود به ". هُرعت إلى طاولة الروليت، وأخذت أزاحم الجموع وصولاً لموقفه: " إنها ستقدم الليلة على الإنتحار، بقطع شريان يدها اليسرى! "، أسررتُ له بلهوجة. ثم حدثته بأمر الرسم، فلم يزد عن الايتسام بتهكّم. عند ذلك هززته من كتفه، هاتفاً بمزيد من الجزع: " يقيناً إنها في سبيلها للإنتحار، وأنت وحدك من بوسعه منعها ". في اللخظة التالية، عندما ألقيت نظرةً على البار وكان خالٍ من حضورها، فإنني همستُ بصوتٍ مخنوق: " هيا إلحق بها! ". على حين فجأة، اتجهت أنظارُ الجميع إليّ وما لبثوا أن رددوا جملتي بطريقة هازئة وهم يقهقهون. وكنتُ قبلئذٍ أهم بالتحرك لفعل شيءٍ ما، لكن قدميّ ثقلتا على أثر ردة فعل الحضور غير المتوقعة. الدوار، جعلني أرى الثريات كرؤوس الغورغونات، اللواتي تُحوّلن كل ما يقع نظرهن عليه إلى حجر.
بلى، لقد كانت ذكرى أكثر منها واقعة. ينبغي أخيراً تذكير القارئ، بأن عمر الشريف حل في هوليوود بعد وفاة مارلين مونرو ببضعة أعوام. من ناحيتي، فإنني لم أسافر أبداً إلى القارة الأمريكية.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أمسيات شعرية- الشاعر فتحي النصري


.. فيلم السرب يقترب من حصد 7 ملايين جنيه خلال 3 أيام عرض




.. تقنيات الرواية- العتبات


.. نون النضال | جنان شحادة ودانا الشاعر وسنين أبو زيد | 2024-05




.. علي بن تميم: لجنة جائزة -البوكر- مستقلة...وللذكاء الاصطناعي