الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


هل كان غزو العراق كارثة أمريكية أسوأ من فيتنام؟

عبد المجيد إسماعيل الشهاوي

2023 / 3 / 26
مواضيع وابحاث سياسية


بمناسبة مرور عشرون عاماً على ذكرى الغزو الأمريكي للعراق، والتي تصادف ذكرى وصول أول دفعة من القوات القتالية عائدة إلى أرض الوطن قادمة من فيتنام في 1985، أو بعد عشرين عاماً أخرى من إرسالها إلى هناك في 1965، ربما تطرح الذكرتان المتماثلتان في المدة نفسيهما للمقارنة والتمعن في تداعياتهما وتقدير أي منهما المؤهلة بحق للقب القرار الأكثر كارثية في تاريخ السياسة الخارجية الأمريكية.

لفترة من الزمن، حتى بعدما انطفأت جذوة حماستي المبدئية للحرب وتأكد لي رويداً رويداً حجم ما اقترفناه من حماقة، ما كنت أتخيل أبداً أن يتجاوز إخفاقنا في العراق كارثتنا في فيتنام على سلم ترتيب المصائب الأمريكية. في الحرب الفيتنامية قُتل من القوات الأمريكية أكثر من 12 ضعف من قتلوا في حرب تحرير العراق وتبعاتها. وصحيح أن سفك الدماء وسط العراقيين كان مروِّعاً، لكن كذلك كانت أيضاً الحصيلة المدنية في جنوب شرق آسيا. هناك، خسرت الولايات المتحدة الحرب الفيتنامية بالكامل؛ بينما في العراق تركنا خلفنا جمهورية هشة وفاسدة أكثر منها ديكتاتورية جديدة، مع حكومة لا تزال تسمح بتواجد عسكري أمريكي.

على الصعيد الداخلي، كانت الفترة المحيطة بالحرب الفيتنامية بشعة بحق- موجة من الإرهاب الداخلي، أزمة سلطة، استفحال أمراض الستينات وتفاقمها خلال السبعينات. في المقابل، كانت التبعات الفورية للحرب العراقية مفجعة ومخيفة بطريقتها الخاصة، لكن حتى مع الركود الكبير لم ينشأ نفس النوع من التطرف والتفسخ الاجتماعي. عندما انتخب باراك أوباما رئيساً للولايات المتحدة، بدت كتلة المحافظين الأمريكيين مفتتة بسبب العراق، كما سبق وتناثرت كتلة الليبراليين الأمريكيين بسبب فيتنام، لكن بحلول ولايته الثانية كان هناك عودة إلى حالة الجمود الأيديولوجي.

في مرات عديدة، إذن- بعد مرور 10 سنوات من الغزو، وربما حتى بعد 15 سنة- كان بالإمكان تخيل مستقبلاً في المدى البعيد حيث نتذكر العرق في نهاية المطاف أكثر شبهاً بحملتنا الدموية لإخماد التمرد في الفلبين مطلع القرن العشرين منه بعقدتنا الفيتنامية. نتذكره كحرب خاطئة، لكن ليس كحرب فارقة ومؤذنة بحقبة جديدة. كإهدار للدماء والأموال والمصداقية الأخلاقية، لكن تظل تكاليفها الاستراتيجية المجملة ليست بتلك الضخامة.

لكن اليوم هناك دلائل أكثر إقناعاً تستدعي منّا رؤية العراق ككارثة أكثر مِفْصَّلية. في الحياة الداخلية الأمريكية كان الأثر الفيتنامي أشبه بنوبة حُمى، بينما يبدو الأثر العراقي مثل مرضٍ عضال نازف ومنتكس. لقد تغلغل تأثير هذه الحرب في مفاصل أزمات اجتماعية أخرى، كما انتشار وباء الأفيون، أخذت تستحكم وتنخر في الجسد الأمريكي بمرور الزمن. وكان من آثارها المزمنة أن أصبح الجسد السياسي أكثر عرضة لتطرف الجناح اليساري وديماجوجية الجناح اليمني، وأسهمت في الوقت ذاته في حالة قاتمة من التشاؤم والإحباط فاقمت منها بعدئذٍ عوامل أخرى (وسائل التواصل الاجتماعي، وباء فيروس كورونا).

في تحالفاتنا السياسية، تبدو هذه الآثار المخيبة للآمال حتى أكثر عمقاً وديمومة مما بدت عليه في 2010 و2015. فمنذ ذلك الحين نزع غزو العراق المصداقة عن صقور يسار الوسط وأودى بهم إلى الزوال، فلم ينجو منهم من يعيد توحيد صفوف فصيلاً وسطياً قوياً داخل الليبرالية، ما تسبب في انجرف المؤسسات الليبرالية باستمرار جهة اليسار منذ عام 2004. ومنذ ذلك الحين نزع الغزو المصداقية عن كل من المحافظين الجدد على وجه التحديد والمؤسسة الجمهورية بوجه عام، فلم يُفلح أحدُ في المحافظة على توازن ناجح مع أشكال من شعبوية الجناح اليميني المختلفة مثل حركة حفل الشاي والترامبيين، التي جعلت من الحزب الجمهوري كياناً مبعثراً لا أحدُ قادرُ على أن يحكمه ولا هو قادرُ على أن يحكم أحداً.

وهناك مفارقة خاصة أنه حتى رغم الصحوة الفكرية على يمين حقبة ترامب، كانت المساعي لتشكيل "تيار محافظ قومي" أو شعبوية محافظة اجتماعياً، تبدو أحياناً أشبه بجهود للنكوص عودة إلى برنامج جورج دبليو بوش في 2000، قبل أن يضحي بسياسته الخارجية المتواضعة من أجل حملة جهادية كبرى.

لكن في الأثر على السمعة الأمريكية عالمياً على وجه التحديد كانت تكاليف حرب العراق تتفاقم حقاً باستمرار. ويتضح جلياً الآن أنها ليست الحرب وحدها فحسب بل عواقبها الثانوية دائمة الانتشار- التي تضمنت استثمارنا المفرط والعقيم في أفغانستان، ذلك الذي نعته نفر كثير من الديمقراطيين المعارضين لغزو العراق باسم "الحرب الصحيحة"- أمسكت بنا من رقابنا أسرى لها طيلة سنوات بالغة الأهمية من إعادة الاصطفاف الجيوسياسي، ما جعل من الصعب علينا حتى التفكير حول، ناهيك عن التعاطي مع إحياء القوة الروسية وصعود الصين إلى مكانة القوة العظمى.

كان الأثر الوحيد لكن الأكيد لهزيمتنا النهائية في أفغانستان على قرار فلاديمير بوتين لغزو أوكرانيا مجرد حلقة واحدة في سلسلة طويلة من العواقب التي خلَّفتها الحرب العراقية. وبالمثل، وقفتنا العدائية المستجدة تجاه النظام الصيني هي محاولة لاهثة متأخرة ومحفوفة بالمخاطر لكي نلحق بتحولات كان يجدر بنا الاستعداد لها قبل عقد مضى.

ورغم إغراء المبالغة في التضخيم من آثار الحرب العراقية على توجهات العالم النامي تجاه الولايات المتحدة، فمن الواضح أن غزونا المبدئي جعلنا نبدو كقوة غير جديرة بالثقة، متهورة وهدامة أكثر منها حكيمة وجديرة بالاعتماد عليها. إذن الطريقة التي أسهمت بها الحرب العراقية في انقساماتنا واختلالاتنا الداخلية جعلت أيضاً الثقافة الأمريكية تبدو أقل جاذبية ومشروع الديمقراطية الليبرالية الأشمل أقل رواجاً وقبولاً. ومن ثم دفع كل ما تلاها ليس بروسيا والصين فحسب بل بمراكز قوة أخرى، من الهند إلى تركيا، باتجاه مسارات ما بعد أمريكية وما بعد غربية.

نعود الآن إلى المقارنة بين 2023 ووضعنا في حقبة رونالد ريجان، بعد نحو عقد من مغادرة آخر طائرة هليكوبتر مدينة سايجون الفيتنامية. بحلول 1985، كنا قد نجحنا من فصل الصين عن روسيا، وكان الاقتصاد السوفيتي يتداعى وكان ميخائيل جورباتشوف قد انتخب للتو أميناً عاماً للحزب الشيوعي، مع سياسة الانفتاح (جلاسنوست) وسقوط جدار برلين على الأبواب. اليوم، مع انحياز روسيا والصين معاً ضدنا على نحو متزايد وتعاظم النفوذ الصيني، يبدو أننا ننكص عودة إلى ظلال الصراع الذي في 1985 كان مقدراً لنا أن نتخطاه في النهاية منتصرين. هكذا إذا كانت حرب فيتنام بعد 20 سنة من وقوعها بدت مثل كارثة كان بمقدورنا أن نتجاوزها، عقبة عابرة على طريق الصعود الأمريكي، تبدو حرب العراق اليوم بعد 20 سنة أكثر شبهاً بعزرائيل إمبراطوريتنا، من سيقبض روحها.

بالطبع، المظاهر قد تخدع. فما من أحد في 1985 كان يتوقع أن ينهار الاتحاد السوفيتي بهذه السرعة، وربما اليوم قد تكون عودة الروح الأمريكية في بداية ميلاد جديد. نحن نملك من الموارد وأشكال الشرعية ما يفتقر إليه خصومنا الأكثر استبدادية؛ وأنظمتهم معرضة باستمرار لحماقات صنع القرار الاستبدادي. وقد يرى البعض في الحرب الأوكرانية بوابة محتملة للنهوض ولملمة شتات الغرب مثلما حدث ذات يوم إبان رونالد ريجان ومارجريت تاتشر وجون بول الثاني، عبر جر بوتين إلى نفس المستنقع الذي أتاحته أفغانستان للسوفييت، ومساعدتنا على التبرؤ من مرضنا العراقي المبرح وفقاً لجدول زمني مختلف عن عقدتنا الفيتنامية، لكن بنتائج مماثلة.

وليس مصادفة أن من بين الأكثر استثماراً في هذا الأمل بعض من أعلى المدافعين صوتاً عن الحرب العراقية. فمما لا شك فيه أنهم يريدون، ولهم عذرهم، أن يكفروا عن خطيئتهم بحق هيبة أمريكا، إن لم يكن عن قرارهم بغزو العراق في حد ذاته.

أنا من جهتي لا أشاركهم تفاؤلهم هذا، لكني غير متفاجئ من ديمومته. خاصة عندما تكون الاحتمالية البديلة، أن اختياراً وحيداً اتُخذ بثقة عمياء قبل 20 سنة مضت لا زال يدفع بشمس امبراطوريتنا إلى جهة الغروب حتى يومنا هذا اليوم، مرعبة بما لا يمكن تحمله.
_____________________
ترجمة: عبد المجيد الشهاوي
رابط المقال الأصلي:
https://www.nytimes.com/2023/03/24/opinion/iraq-vietnam.html








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - صعود وهبوط القوى العظمى
منير كريم ( 2023 / 3 / 26 - 20:56 )
شكرا للاستاذ الفاضل عبد المجيد الشهاوي
على مقالاته المفيدة
صعود وهبوط الدول العظمى كتاب مرجع من تاليف المؤرخ الامريكي بول كندي في الثمانينات من القرن الماضي وفيه يدرس موضوع القوى العظمى مابين عام 1500 والعام 2000
دراسته على اساس التغيرات الاقتصادية ومقتضيات الصدامات العسكرية
وفي هذا المؤلف توقع هبوط الاتحاد السوفيتي وبعده بعقود هبوط امريكا الى دول اعتيادية
تحققت رؤيته بالنسبة للاتحاد السوفيتي
اضافتي ان حكم المؤرخ قد لايكون حتميا فنحن لانستطيع ان نعرف ماتاتي به الانجازات العلمية والتكنلوجيا لتغيير مسار التطور , ونقطة اخرى ان المقالة والكتاب يغفلان الصراع بين الديمقراطية والديكتاتتورية بمكوناتهما الدولية وان التطور يسير نحو انتصار الديمقراطية بغض النظر عن اية دول عظمى وهذا هو تاريخ الغرب
شكرا لك

اخر الافلام

.. كيليان مبابي يودع باريس • فرانس 24 / FRANCE 24


.. ويليام بيرنز.. من مبعوث إلى لاعب رئيسي في ملف مفاوضات غزة




.. حرب السودان.. لماذا يستميت الخصمان للسيطرة على الفاشر؟


.. تهدد شبكات الطاقة و-GPS-.. أقوى عاصفة شمسية منذ عقدين تضرب ا




.. مراسلة الجزيرة: صفارات الإنذار تدوي في مدينة عسقلان ومحيطها