الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


رواية للفتيان طائر الرعد طلال حسن

طلال حسن عبد الرحمن

2023 / 3 / 28
الادب والفن


شخصيات الرواية
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 ـ اهاتاني الفتاة

2 ـ سامو الفتى

3 ـ الأم أم سامو

4 ـ النسر طائر الرعد











" 1 "
ـــــــــــــــــــ

منذ صغره ، والجبل الأبيض ، الذي تجثو بيوت القرية عند سفحه ، يذهل سامو ويجذبه إليه ، كما لو كان قوة سحرية لا تقاوم .
وكلما خلت السماء من الضباب أو الغيوم ، تبدو قمة الجبل ، التي يعلوها الثلج صيفاً وشتاء ، تلوح له من بعيد ، ويتراءى له وكأنها تناديه بصوت هامس ، ساحر كالأنسام : تعال .. تعال ..تعال .
وعبثاً حذرته أمه من الجبل ، وقمته البيضاء ، والنداء الساحر ، فقد كان ، ولسبب لا يدريه ، يزداد قلقاً ، وتوقاً
للاستجابة للنداء الآسر .
لم يعرف في البداية ، سرّ خوف أمه ، وقلقها من تعلقه الدائم بالجبل وقمته البيضاء ، وإن سمع هنا وهناك ، ما يشبه الخرافات عن هذا الجبل ، وقمته البيضاء ، التي لا يفارقها الثلج ، لا في الصيف ولا في الشتاء ، ولا في أي فصل آخر من فصول السنة .
حتى كانت ليلة ..
ليلة مقمرة ، وقف فيها سامو بين أشجار حديقة بيتهم الصغيرة ، يتطلع كالعادة إلى الجبل الملفع بالضباب والغموض ، وقمته البيضاء ، التي يلمع ثلجها تحت أشعة القمر الفضية .
ورغم استغراقه في أحلامه ، انتبه إلى أمه تقترب منه ، فقال دون أن يلتفت إليها : ماما .
وتوقفت أمه على مقربة منه ، وقالت : بني ، نحن في أوائل الربيع ، والطقس بارد الليلة .
وقال سامو متابعاً أفكاره : أنظري ، يا ماما .
واستطردت أمه قائلة : لقد أشعلت النار في الموقد ، تعال إلى الداخل ، أخشى أن تمرض .
وقال سامو ، دون أن يحول عينيه المسحورتين عن القمة البيضاء ، المكللة بالثلج : آه ، يا ماما ، ما أدفأ تلك القمة ، التي تلمع تحت أشعة القمر .
واقتربت منه أمه ، وقالت وكأنها تريد إيقاظه من أحلامه : إي دفء هذا ، يا بنيّ ، إن الثلج لا يذوب في تلك القمة لا صيفاً ولا شتاء .
وقال سامو دون أن يلتفت إليها : تلك القمة الدافئة ، يا ماما ، تناديني ، وتقول لي تعال .
وصمت لحظة ، وأمه تحملق فيه مصدومة ، ثم قال بصوت مسحور : ولابد أن أستجيب قريباً لندائها ، مهما كلفني الأمر .
وردت أمه ، وهي تجهش في البكاء : لا ، لا يا بنيّ ، لن تكرر ما فعله أبوك .
والتفت إليها مذهولاً ، وتساءل قائلاً : أبي ! ماذا فعل ؟ ماذا فعل أبي ؟
وتراجعت الأم باكية ، ومضت إلى الداخل ، وهي تقول من بين دموعها : لا .. لا .. لا .
ولبث في مكانه مذهولاً ، لقد تناهى إليه نتفاً عن أبيه ، وعلاقته بالجبل ، وطائر الرعد ، و .. لكنه لم يعرف الحقيقة أبداً ، وهذا ما يجب أن يعرفه الآن ، ومن أمه بالذات .
وأسرع إلى الداخل ، وإذا أمه تتشاغل بإعداد طعام العشاء ، والقنديل الخافت يضيء عينيها الغائمتين بالدمع ، فاقترب منها ، وقال : ماما .
سمعها تنشج باكية ، فربت عل كتفها ، وقال : أريد أن أعرف الحقيقة .
كفت الأم عن النشيج ، لكنها لم تتفوه بكلمة واحدة ، فقال : الجبل .. وأبي .. و ..
وتراجعت الأم قليلاً ، وقاطعته قائلة : بنيّ ، هذا الجبل ملعون ، لا يسلم من يحاول ارتقاءه ، فلا تقربه ، لا تقربه أبداً .
ونظر سامو إليها ، وقال : ماما ..
واستمرت الأم في كلامها قائلة : أنا لا أريد أن أفقدك ، يا بنيّ ، كما فقدت أباك .
وقال : أريد الحقيقة ، يا ماما .
ومرة ثانية استمرت الأم قائلة : أنت ابني الوحيد ، وليس لي في هذه الحياة غيرك .
وقاطعها قائلاً : ماما ، حدثيني عن أبي .
وصمتت الأم لحظة ، ونظرت إليه بعينين تغرقهما الدموع ، وقالت بصوت مختنق : أبوك .. ذهب إلى الجبل .. .
وتطلع سامو إليها ، وتساءل : الجبل ، كما تقولين ، تنين خطر ، فلماذا ذهب أبي إليه ؟
ومسحت الأم دموعها بأناملها المرتعشة ، وقالت : طفلة من القرية ، اختطفها طائر الرعد ، كانت وحيدة أمها ، ولم يجرؤ أحد من رجال القرية ، أن يطارده إلى وكره في أعلى الجبل ، ورغم تحذير الجميع ، وتوسلي به ، أخذ قوسه وجعبة سهامه ، ومضى إلى الجبل .
وصمتت لحظة ، ثم استدارت عنه ، وقالت بصوت باك : ولم يعد حتى الآن .







" 2 "
ــــــــــــــــــــ

كما أن الأم لم تستطع ، قبل سنوات عديدة ، منع زوجها من التوجه إلى أعلى الجبل ، فإنها لم تستطع ، ورغم دموعها وتوسلاتها ، منع سامو من السير على طريق أبيه ، والتوجه إلى أعلى الجبل .
ورأته من خلال دموعها ، وقد أخذ قوسه وجعبة سهامه ، ومضى مبتعداً ، حتى غاب في الأحراش ، التي تغطي سفح الجبل ذي القمة الثلجية البيضاء .
وبدل أن تدخل البيت ، بعد أن اختفى سامو ، جثت منهارة على الأرض ، وراحت تنوس باكية بصمت ، فلسنوات طويلة كانت تنتظر زوجها ، الذي ذهب إلى الجبل ، ولم يعد ، ولن يعود ، فأمامها الآن ما هو أسوأ .. أن تنتظر وحيدها سامو .
وشدّ سامو قبضته الفتية على قوسه ، وهو يصعد السفح بخطوات قوية ، متجهاً نحو الأعلى ، ورفع رأسه ، فلاحت له القمة ، المغطاة بالثلج ، تلمع تحت أشعة الشمس ، وبدا وكأنها تناديه ، متحدية هذه المرة : تعال .. تعال .. تعال .
وصعد سامو بهمة .. صعد .. وصعد .. وسيظل يصعد ، حتى يحقق ما عزم عليه ، ولن تردعه عن عزمه ، أية صعوبة يمكن أن يواجهها ، وهو في طريقه إلى القمة المكللة بالثلوج صيفاً وشتاء .
لقد صعد أبوه الجبل ، لعله ينقذ تلك الطفل من براثن طائر الرعد ، أما هو ، فإنه يصعد ، رغم توسلات أمه ودموعها ، لا لينقذ الطفلة ، التي لا يعرف عنها وعن مصيرها أي شيء ، وإنما ليعرف مصير أبيه ، ولينتقم من طائر الرعد ، مهما كلف الأمر .
لقد كان طفلاً صغيراً ، عندما سمع من أمه ، ومن الآخرين ، أن طائر الرعد ، الذي قلما يغادر وكره ، قرب القمة الثلجية البيضاء ، انقض على طفلة ، كانت تلهو أمام باب بيتهم ، واختطفها ، وطار بها ، عائداً إلى القمة البيضاء ، التي تغطيها الثلوج على الدوام .
وجنت أم الطفلة ، وراحت تصرخ وتصرخ ، وهي ترى طائر الرعد ، يمسك بمخالبه القوية طفلتها ، ويبتعد طائراً ، صوب القمة الثلجية البيضاء البعيدة .
وراحت الأم تركض هنا وهناك ، وتصرخ في الجميع : طفلتي .. أنقذوا طفلتي .. أنقذوها .
ورغم حزن الجميع ، وغضبهم الشديد لما حدث ، لكن أحداً لم يستطع أن يفعل شيئاً ، لا للأم المنكوبة ، ولا للطفلة ، التي اختطفها طائر الرعد ، وطار بها بعيداً ، نحو القمة البيضاء ، التي لا يغيب الثلج عنها ، لا في الشتاء ولا في الصيف .
وبعد أيام ، لم يعد الأب يحتمل صرخات تلك الأم ، وهي تجوب القرية ليل نهار ، وتصرخ : طفلتي .. أريد طفلتي .. أليس في القرية رجال .. أريد طفلتي .
فأخذ قوسه وجعبة سهامه ، ومضى صوب القمة الثلجية البيضاء ، لعله ينقذ الطفلة ، لكن لا الأب عاد ، ولا عُرف أي شيء عن الطفلة ، وما هو مصيرها .
ولسنين عديدة ، وهذا ما يذكره سامو جيداً ، ظلت أم الطفلة تجوب أزقة القرية ، بملابسها الرثه ، وشعرها الأشعث ، وهي تتحدث عن طفلتها .. : بيضاء كالثلج .. وعينان زرقاوان كسماء الصيف .. وكأشعة الشمس الذهبية ، كان شعرها .









" 3 "
ـــــــــــــــــــ

عند غروب الشمس ، رأى سامو، وقد أنهكه التعب ، أن يخلد إلى الراحة ، ويقضي ليلته في مكان دافىء آمن ، يستعيد فيه بعض قواه ونشاطه .
وأوى إلى جذع شجرة جوز عملاقة ، تطل على واد عميق من جهة ، ومن الجهة الأخرى تحرسها ، صخرة ضخمة عصية على التسلق ، من أي كائن مهما كان ، وثوى في منخفض أسفل الشجرة ، والتف بردائه الدافىء ، واستسلم لنوم عميق .
وفي منامه ، تراءت له أمه ، تنظر إليه من بعيد ، دامعة العينين ، وتدعوه بإشارات من يديها ، أن لا يصعد إلى قمة الجبل ، وأن يعود إليها .
وتململ سامو في منامه ، كأنه يريد أن يبعد عنه أمه ، التي جاءته في المنام ، وتريد أن تحول بينه وبين رغبته الملحة في الاستجابة لنداء ذلك الجبل .
ابتعدت أمه ، بل اختفت تماماً ، وكاد يهب من مكانه ، عندما لمح على ضوء القمر ـ أهو في المنام ؟ ـ لمح شبح فتى ـ أم إنها فتاة ؟ ـ يطل عليه من أعلى الصخرة ، التي تحرس شجرة الجوز العملاقة .
وفتح عينيه على سعتهما ، وتطلع جيداً إلى أعلى الصخرة ، لكنه لم يرَ شيئاً فوقها ، سوى أشعة القمر الفضية ، فأغمض عينيه ثانية ، وسرعان ما استغرق في نوم عميق .
وقبل شروق الشمس ، أفاق سامو ، وكأن أحدهم أيقظه ، وإذا فتاة في عمره ـ أهي فتاة الحلم ؟ ـ تطل عليه من أعلى الصخرة ، وقد تهدل حول وجهها الناصع البياض ، شعر في لون أشعة الشمس .
يا لله ، إنها فتاة الحلم نفسها ، لكن هل ما رآه ، على ضوء القمر ، في أعلى الصخرة ، ليلة البارحة ، حلم ؟ مجرد حلم ؟ من يدري ، مهما يكن ، فإن الفتاة تكاد تكون هي نفسها ، عينان زرقاوان ، وبشرة كالثلج ، وشعر بلون أشعة الشمس .
ونهض سامو في هدوء ، وعيناه تجوسان في بحر عينيها الأزرق ، ثم قال : طاب صباحك .
لم ترد الفتاة ، وبدا شيء من الدهشة والفضول في عينيها ، فقال سامو : من أنت ؟
ومرة ثانية لم ترد الفتاة ، فأشار لها قائلاً : تعالي ، انزلي إلى هنا .
تراجعت الفتاة قليلاً ، دون أن ترفع عينيه عنه ، فتقدم من الصخرة ، وقال : تعالي ، لا تخافي .
وهنا انسحبت الفتاة بسرعة ، واختفت وراء الصخرة ، وأسرع سامو ، ودار من وراء الصخرة ، لعله يلحق بها ، ويتحدث إليها ، ليعرف من هي ، وما الذي جاء بها إلى هذا المكان المنعزل الخطر ؟
وحين التف وراء الصخرة ، رآها تركض على البعد ، تتسلق صخور الجبل ، وكأنها وعلة جبلية متمرسة على الحياة في هذه المنطقة .
وصاح سامو ، وهو يركض متعثراً في أثرها : مهلاً أيتها الفتاة ، توقفي .
لم تتوقف الفتاة ، حتى ارتقت صخرة ضخمة بعيدة عنه ، ثم التفتت تنظر إليه ، وكأنه كائن جاء من السماء ، تراه ربما لأول مرة في حياتها .
واقترب سامو من الصخرة الضخمة ، التي وقفت فوقها الفتاة ، وتوقف على مبعدة منها ، خشية أن تجفل كوعلة من وعول الجبل ، وتلوذ بالفرار .
ورفع سامو رأسه إليها ، وقال بصوت هادىء يطمئنها : لا تخافي ، تعالي .
لم تتحرك الفتاة من مكانها ، فتابع سامو قائلاً : أنا سامو ، ما اسمك أنت ِ ؟
وظلت الفتاة تتطلع إليه ، دون أن تجيبه ، فتابع سامو قائلاً : أنا من تلك القرية ..
وأشار بيده إلى أسفل الجبل ، وقال : أعيش في بيت صغير مع أمي .
وصمت قليلاً ، لعلها تتكلم ، لكنها ظلت صامتة ، فتساءل سامو : وأنتِ ، ما اسمك ؟
ولأول مرة ، منذ أن رآها فوق الصخرة الضخمة ، سمع صوتها ، طفولياً رقيقاً عذباً تقول : اهاتاني .
واتسعت عينا سامو متمتماً : اهاتاني !
وهزت الفتاة رأسها ، فقال سامو : اهاتاني ، تعالي نتحدث ، أريد أن أعرفك أكثر .
ولبثت اهاتاني في مكانها برهة ، وبدل أن تنزل من على الصخرة ، استدارت ، ومضت مسرعة ، حتى توارت بين الصخور .











" 4 "
ـــــــــــــــــــ

من عين ماء ، تنبثق من بين الصخور ، رأى سامر وعلاً صغيراً ، ربما لم يُفطم بعد ، يمد شفتيه ، ويرشف الماء ، بشفتين مترددتين حذرتين وكأنه يقرب العين للمرة الأولى في حياته .
وكما لو أنه مازال طفلاً صغيراً ، ابتسم سامر ، وهو يتأمل الوعل الصغير ، وتمنى لو يحضنه ، ويضمها إلى صدره ، كما كان يفعل في طفولته ، عندما اشترت له أمه مرة حملاً صغيراً .
وتقدم سامر من الوعل الصغير ، بخطوات هادئة حذرة ، لئلا يجفل ، ويلوذ بالفرار ، وما إن اقترب منه ، وأخذه بين ذراعيه ، حتى برزت اهاتاني من بين الصخور ، وهي تصيح : دعه .. دعه .
وأقبلت الوعلة الأم مسرعة ، وراحت تحوم حول سامو والوعل الصغير واهاتاني ، وهي تمأميء غاضبة مرعوبة : ماع .. ماع .. ماع .
وانقضت اهاتاني على سامو ، وانتزعت الوعل الصغير من بين ذراعيه ، وهي تقول بصوتها الطفولي الغاضب : دعه لأمه .. دعه .. دعه .
وأطلقت اهاتاني الوعل الصغير ، فأسرع إلى أمه ممأمئاً ، فتشممته أمه متلفتة ، ثم دفعته أمامها ، ومضيا معاً ، يتقافزان بين الصخور بسهولة ويسر .
ووقفت اهاتاني حذرة ، تحدق في سامو ، دون أن تتفوه بكلمة ، فقال سامو محاولاً طمأنتها : إنني أحب الحيوانات الصغيرة ، ولم يكن في نيتي أن أوذيه .
وظلت اهاتاني صامتة ، فتلفت سامو حوله ، وقال : لا أظن أنك وحدك هنا ، فهذا المكان ، كما ترين ، بعيد عن القرى ، وشديد الخطورة على فتاة مثلك .
ومرة ثانية ، ظلت اهاتاني ملتزمة بالصمت ، وتقدم سامو منها خطوة ، وقال : أخبريني من أين أنت ، لعلي أستطيع أن أساعدك .
وهمت اهاتاني بالهرب ، لكن سامو مدّ يده بسرعة ، وأطبق على ساعدها ، فانتفضت اهاتاني ، وصرخت مذعورة : دعني .. دعني .
لم يدعها سامو ، وظل مطبقاً على ساعدها الغض ، وقال : اهدئي ، يا اهاتاني ، لن أوذيك ، أريد أن تحدثيني عن نفسك ، فقد تكونين من قرية أعرفها .
لكن اهاتاني لم تهدأ ، وراحت تحاول جاهدة ، أن تسحب ساعدها من قبضته القوية ، دون جدوى ، وهي تصيح : دعني .. دعني .
وهنا .. من مكان ما .. من أعالي السماء ، ارتفع صوت ثاقب غاضب كالرعد ، فتلفتت اهاتاني مترددة ، وقالت بصوت طفولي مضطرب : طائر .. الرعد .
وقبل أن يرفع سامو رأسه إلى مصدر الصوت المرعب ، ويعرف حقيقة ما يجري حوله ، أحس بظل قاتم كالليل ينقض عليه ، ورغم ما بذلته اهاتاني من جهد لحمايته ، إلا أن الرعد ، طعنه في كتفه .
وصرخ سامو متوجعاً ، وتهاوى على الأرض ، فانقض عليه طائر الرعد ثانية ، مسدداً منقاره القاتل إلى صدره ، لكن اهاتاني ، وبسرعة البرق ، ارتمت فوق سامو ، فحاد طائر البرق عنهما ، وهو يصرخ غاضباً ، ويرتفع مرعداً إلى أعالي السماء .
وتململ سامو ، تحت اهاتاني محرجاً ، فقالت اهاتاني بصوتها الطفولي : لا تتحرك ، ابقَ في مكانك ، وإلا هاجمك طائر الرعد ، وقتلك .
ولبث سامو ساكناً في مكانه ، واهاتاني مرتمية فوقه تحميه ، بينما طائر الرعد يحوم حولهما ، يتحين الفرصة ، لينقض على سامو ، ويفتك به .
ويبدو أن صبر طائر الرعد قد نفد ، ولم تتح له اهاتاني فرصة للفتك بسامو ، فأطلق صرخة غاضبة مرعبة ، وارتفع مرعداً إلى أعالي السماء ، ثم توارى بين الصخور القريبة من القمة البيضاء ، التي تغطيها الثلوج صيفاً وشتاء .
ونظر سامو إلى اهاتاني ، التي كانت ما تزال منطرحة فوقه ، وقال محرجاً : اهاتاني .
ونهضت اهاتاني واقفة ، ثم مدت يدها إليه ، وقالت : هيا ، ابتعد طائر الرعد ، انهض .
وأمسك سامو يدها ، فسحبته اهاتاني برفق ، حتى وقف على قدميه ، وقال : أشكرك ، لولاك لقتلني هذا الطائر المتوحش .
ونظرت اهاتاني إلى كتفه الذي ينز دماً ، فقالت : أنت تنزف ، لابد من معالجة الجرح .
وحاول سامو أن يتماسك ، لكنه كاد يتهاوى ، فأسرعت اهاتاني ، وأسندته ، وقالت : أنت جريح ومتعب ، تعال معي ، الكهف قريب .
وسارت اهاتاني مسندة سامو ، متجهة به نحو الكهف ، فتساءلت قائلة : ماذا قلت اسمك ؟
فقال سامو مبتسماً : اسمي .. سامو .





" 5 "
ـــــــــــــــــــ

صعدت اهاتاني بسامو نحو الكهف ، مسندة إياه بعض الطريق ، لكنه لاحظ معاناتها ، فتحامل على نفسه ، وواصل الصعود إلى جانبها حتى الكهف .
وأرقدته على فراشها بهدوء ، وساعدته على نزع بعض ثيابه ، حتى ظهر الجرح في كتفه ، وقد نزف منه بعض الدم ، فجاءت بقطعة قماش مبللة ، وراحت تمسح الجرح وتنظفه ، وهي تقول : أنت محظوظ ، فطائر الرعد لم يصبك إصابة كبيرة .
وبعد أن نظفت الجرح ، ساعدت سامو على ارتداء ثيابه التي نزعها ، وقالت : اطمئن ، الجرح ليس عميقاً ، ستشفى خلال أيام .
واعتدل سامو قليلاً ، وقال بصوت متعب : أشكرك ، يا اهاتاني .
وقالت اهاتاني ، وهي تسوي الفراش حوله ، وقالت : عفواً ، هذا لا شيء .
ونظر سامو إليها ملياً ، ثم قال : أخبريني ..
وقاطعته اهاتاني بصوتها الطفولي الرقيق : لن أخبرك بشيء الآن .
وقال سامو : وسأخبرك أنا ..
ومرة ثانية قاطعته قائلة : ولا تخبرني ..
وهمّ سامو أن يتكلم ، فسارعت إلى القول : أنت متعب ، وجائع ، كلْ وارتح ، أولاً ، ثم ..
وتلفت سامو حوله في الكهف ، وكأنه لا يصدق أن في هذا الكهف ما يمكن أن يأكله ، فابتسمت اهاتاني ، وقالت : لدي حليب طازج ، من صديقاتي وعلات الجبل ، اشرب شيئاً منه ، واخلد إلى الراحة .
وجاءته اهاتاني بشيء من الحليب بقدح صغير ، وقدمته له ، وقالت : تفضل ، اشربه .
وأخذ سامو القدح ، بيدين مرتعشتين ، وشرب عدة جرعات ، ثم قال : حليب لذيذ .
وابتسمت اهاتاني ، وقالت : لدي المزيد ، اشرب قدر ما تشاء ، فصديقاتي الوعلات ، اللاتي أرعاهن ويرعينني ، لا يبخلن عليّ بالحليب .
وشرب سامر جرعة أخرى ، ثم قال : في طفولتي ، ببيتنا في القرية ، كان لديّ عنزة ..
وقاطعته اهاتاني ، مشيرة له أن يسكت ، وقالت : دع طفولتك الآن ، نم قليلاً وارتح ، وستحدثني ربما ليلاً ، أو يوم غد ، عن كلّ شيء بالتفصيل .
وهمّ سامو أن يردّ عليها ، وإذا طائر الرعد ، يرعد بصوته الثاقب الغاضب في الخارج ، على مسافة ليست بعيدة عن الكهف .
وتمتم سامو خائفاً ، وقد اتسعت عيناه : يا إلهي ، طائر الرعد المتوحش .
ورمقته اهاتاني بنظرة سريعة ، ثم تطلعت إلى الخارج ، عبر مدخل الكهف ، وقالت : لا تخف ، طائر الرعد لا يدخل الكهف ، ثم إنه لن يؤذيك مادمت معي .
ونظر سامو أليها ، وقال : هذا أمر غريب .
فابتسمت اهاتاني ، وقالت : سأوضحه لك فيما بعد .
واتجهت اهاتاني إلى خارج الكهف ، فاعتدل سامو وهتف بها بصوت خائف : لا تخرجي ، يا اهاتاني ، هذا الطائر المتوحش قد يؤذيك .
وتوقفت اهاتاني ، والتفتت إليه ، وقالت : لن يؤذيني ، فهو الذي رعاني كلّ هذه المدة .
ولاذ سامو بالصمت مندهشاً ، فقالت اهاتاني ، وهي تخرج من الكهف : تمدد ونم ريثما أعود .
لم يتمدد سامو ، وطبعاً لم ينم ، وكيف يمكن أن يتمدد أو ينام لحظة واحدة ، واهاتاني في الخارج ، تحت رحمة طائر الرعد ؟
ومرة أخرى ، راحت دوامة الأسئلة تدور في أعماقه ، ما حقيقة اهاتاني هذه ؟
من أين جاءت ؟
وكيف عاشت وتعيش وحدها ، في هذا الكهف الغريب ، وفي منطقة منعزلة كهذه مليئة بالمخاطر ؟
طال غياب اهاتاني خارج الكهف ، واستمرت دوامة الأسئلة تدور في أعماق سامو ، وخلال بحثه ألا مجدي عن الأجوبة الممكنة ، مال سامو شيئاً فشيئاً حتى تمدد في الفراش ، ورغم إرادته استغرق في نوم عميق .


















" 6 "
ـــــــــــــــــــــ

استيقظ سامو ، وقد خيم الظلام ، فرأى اهاتاني تجلس غافية ، إلى جانب الفراش ، وشعرها الذهبي يغطي صفحة من وجهها .
وكأنما نبهها استيقاظه من غفوتها ، فاعتدلت محرجة ، مبتسمة ، وقالت : لقد نمتَ نوماً عميقاً .
واعتدل سامو في الفراش ، وقال معتذراً : عفواً ، لقد أخذت فراشك .
وهمّ أن ينهض ، وهو يتابع قائلاً : تعالي إلى فراشك ، يا اهاتاني ، وارتاحي .
وقالت اهاتاني بصوتها الطفولي : ابقَ في مكانك ، يا سامو ، لن أنام في هذا الوقت .
وابتسمت اهاتاني له ، وقالت : لابدّ أنك جائع الآن .
وابتسم سامو بدوره ، وقال : لا أستطيع أن أشرب الحليب مرة أخرى هذه الليلة .
فقالت اهاتاني ، وهي تكتم ضحكتها : لن تشرب الحليب ، بل ستأكل بطة مشوية .
ونظر سامو إليها مستفسراً ، فقالت اهاتاني : جاءني بها كالعادة .. طائر الرعد .
وتطلعت إلى مدخل الكهف ، الذي يضيئه ضوء القمر ، وقالت : الليلة دافئة ومقمرة ، تعال نجلس بعض الوقت في مدخل الكهف .
وتطلع سامو إلى الخارج ، وقال متردداً : لو نبقى هنا أفضل ، فأنا أخشى ..
ونهضت اهاتاني ، وقالت مبتسمة : لا تخشَ شيئاً ، فطائر الرعد ينام الآن في عشه .
ونهض سامو بدوره ، وقال : لنرجىء إذن تناول بطتك المشوية .
وسارت اهاتاني إلى مدخل الكهف ، وقالت : هذا رأيي أيضاً ، فالليل مازال في أوله .
ولحق سامو بها ، وقال : هذا أفضل ، فقد حان وقت الحديث ، والحقيقة .
وجلست اهاتاني في مدخل الكهف صامتة ، وجلس سامو إلى جانبها صامتاً ، والقمر يتطلع إليهما من أعالي السماء ، وربما ينتظر حديثهما .
وتطلع سامو إليها ملياً ، على ضوء القمر ، ثم قال : اهاتاني .
وعلى ضوء القمر ، نظرت إليه اهاتاني ، دون أن تتفوه بكلمة ، فقال بصوت أقرب إلى الحلم : طوال سنوات ، وأنا أتطلع من قريتي ، إلى هذا الجبل ، وقمته التي لا يفارقها الثلج أبداً ..
وصمت لحظة ، ثم وبنفس الصوت الأقرب إلى الحلم ، تابع سامو قائلاً : يتناهى إليّ نداء ، لا أعرف من أين يأتي ، يهيب بي .. تعال .. تعال .
وابتسمت اهاتاني ، وقالت بصوتها الطفولي : من يدري ، ربما كنت أنا من يهتف لك .
ولاذ سامو بالصمت برهة ، وعيناه تجوبان أطراف الجبل ، التي تضيؤها أشعة القمر ، ثم قال : لقد سبقني أبي إلى مجاهل هذا الجبل ، وكنت ما أزال طفلاً .
ونظرت إليه اهاتاني ، وقالت بصوتها الطفولي : هذا الجبل ، يجذب أحياناً ، أناساً لهم خصوصيتهم ، ولابد أن أباك واحد منهم .
وهزّ سامو رأسه ، ثم قال : لا ، لم يكن أبي من هذا النوع من الناس ، فقد جاء يبحث عن طفلة ، اختطفها نسر ضخم ، كانوا يسمونه في قريتنا ، كما تسميه أنت ، طائر الرعد .
ونظرت إليه اهاتاني صامتة مترقبة ، وقلبها يخفق بشدة ، فحدق سامو فيها ، وقال : الذين يتذكرونها ، قبل أن يختطفها طائر البرق ، ومنهم أمي ، كانوا يقولون ، إنها طفلة بيضاء كالثلج ، وعيناها زرقاوان كسماء الصيف ، وشعر كأنه أشعة الشمس .
ونهضت اهاتاني ، وقالت بصوت مرتعش ، تبلله الدموع : لابد أنهم يذكرون أمها أيضاً ..
وصمتت مغالبة دموعها ، فنهض سامو ، ووقف على مقربة منها ، وقال : يقال أنها كانت تعبدها ، فهي ابنتها الوحيدة ، وكان زوجها قد اختطفه البحر ، وحين جاء طائر الرعد ، واختطف طفلتها ، جن جنونها ، وراحت تدور في القرية ليل نهار ، تصيح .. أريد طفلتي .. أريد طفلتي ..
وصمت سامو لحظة ، ثم قال : لم يحتمل أبي بكاءها وصياحها المجروح ، فأخذ قوسه وجعبة سهامه ، وصعد إلى الجبل ، ومنذ ذلك اليوم لم يره أحد .
والتفتت اهاتاني إليه ، وحدقت فيه بعينين تغرقهما الدموع ، وقالت : سامو .. أنا تلك الطفلة .
وأخذها سامو بين ذراعيه ، وقال : هذا ما خمنته ، يا اهاتاني ، منذ أن رأيتك لأول مرة ، تطلين عليّ من فوق تلك الصخرة .









" 7 "
ــــــــــــــــــــ

تمدد سامو في فراش اهاتاني ، هذا ما أصرت عليه اهاتاني ، وتمددت هي على فرش بسيطة ، على مسافة أمتار منه .
لم تنم اهاتاني ، رغم أنها أغمضت عينيها ، في عتمة الكهف ، وكذلك سامو ، فقد أغمض عينيه ، لكنه لم ينم ، رغم العتمة وتقدم الليل .
والبطة المشوية ، التي هيأتها اهاتاني للعشاء ، ظلت في إنائها ، لم يلمسها أحد منهما ، رغم أن كليهما ، ربما كانا جائعين .
قالت اهاتاني لسامو ، قبل أن تأوي إلى فراشها وتتهيأ للنوم ، لعلها ترتاح قليلاً : سأعد لك البطة ، يجب أن تأكل ، فالحليب لم يشبعك .
فقال سامو ، وهو يتمدد في الفراش : لست جائعاً ، كلي أنت إذا أردت .
ولم تكن اهاتاني تريد أن تأكل أي شيء ، فتمددت في فراشها ، وأغمضت عينيها ، لكنها لم تنم ، وكيف يمكن أن تنام ، وكلّ تلك الذكريات ، تدوّم في أعماقها ؟
سمعته يتقلب مرات في فراشه ، وسمعها تتقلب في فراشها ، وبدا لكل واحد منهما ، أن الآخر لم ينم ، فتطلعت اهتاني إليه في العتمة ، وقالت : سامو ..
ولاذ سامو بالصمت لحظة ، ثم قال : يبدو أنك لم تنامي حتى الآن .
وصمت لحظة ، ثم قال : أنتِ متعبة ، يا اهاتاني ، الأفضل أن تنامي .
وبصوتها الطفولي ، القادم ربما من أعماقها ، قالت اهاتاني : إنني أسمع أمي ، تجوب القرية ، وتصرخ باكية .. اهاتاني .. اهاتاني .
وقال سامو ، وكأن صوته يأتي من نفس الأعماق : خرج أبي وقتها للبحث عنك ، رغم أن الجميع حذروه ، وقالوا له ، لا تذهب ، إنه طائر الرعد .
واعتدلت اهاتاني في فراشها ، وقالت : لم يؤذني طائر الرعد هذا ، رغم أنه اختطفني من أمي ، بل رعاني وكأني فرخ صغير من فراخه .
واعتدل سامو في فراشه ، وراح ينصت إليها ، دون أن تبدر منه نأمة واحدة ، واستطردت اهاتاني قائلة : جاء بي إلى هذا المكان ، ووفر لي ما يمكن أن يسد رمقي من الطعام ، ومع الأيام صادقت هنا الطيور والأرانب والوعول ، وتعلمت في البداية أن أرضع مع صغار الوعول ، حتى كبرت بعض الشيء .
وصمتت اهاتاني لحظة ، ثم قالت : لم أنقطع تماماً عن الناس ، فقد كان يأتي إلى الجبل هذا ، بين الحين والآخر ، أناس عديدون ، كنت أتلصص عليهم ، وأسمع أحاديثهم وأفهمها ، وكانت تذكرني بأحاديث أمي والأطفال الذين عرفتهم ، قبل أن يختطفني طائر الرعد ويطير بي إلى هنا .
وابتسمت اهاتاني ، وقالت : وتعلمت منهم أيضاً ، كيف أشعل النار ، وأعد بعض الطعام ، بل وسرقت منهم بعض الأواني والفرش .
ومرة أخرى صمتت ، ثم قالت : لم ينتبه أحد منهم إليّ على الأغلب ، فقد كنت شديدة الحذر ، إلا صياد عجوز ، لمحني أتلصص عليه ، فناداني ، هربت دون أن أردّ عليه ، فلحق بي وكأنه شاب مليء بالعزم والحيوية ، وهو يتقافز خلفي فوق الصخور ، وكاد يمسك بي ، لو لم يظهر الطائر الرعد في أعالي السماء ، وينقض عيه كالبرق ، ويصيبه إصابات ، ربما كانت قاتلة .
وصمتت اهاتاني لحظة ، وتطلعت إلى سامو عبر عتمة الكهف ، وقالت بصوتها الطفولي : وأخيراً .. جئت أنت .. يا سامو .
وتنهد سامو ، وقال ، وهو يتطلع إليها عبر عتمة الكهف : جاء بي إلى هذا المكان ، ذلك الهاتف ، وكأني في أعماقي ، ودون أن أدري ، جئت أبحث عما أراد أبي أن يبحث عنه ، في هذا الجبل ، وإذا كان أبي لم يجدك ، فها أنا قد وجدتك يا .. اهاتاني .
صمت سامو ، وصمتت اهاتاني ، وسرعان ما استغرق سامو في النوم ، أما اهاتاني فلم تنم مباشرة ، فقد كانت تسمع أمها ، وهي تدور في القرية باكية ، وتصيح بصوت المجروح : اهاتاني .. اهاتاني ..
















" 8 "
ــــــــــــــــــــ

في اليوم التالي ، حاول سامو ، وكذلك اهاتاني ، أن يتجنبا الحديث ، عما دار بينهما ، منذ لقائهما عند شجرة الجوز ، حتى ليلة أمس .
وبعد أن تناولا الفطور ، وهو كالعادة حليب وعلة من الوعلات ، دون أن يتبادلا أي حديث تقريباً ، أخذت اهاتاني .. سامو .. إلى جولة خارج الكهف .
أخذته أولاً إلى شجرة الجوز ، التي تحرسها الصخرة الضخمة ، حيث وقع نظره عليها حقيقة لأول مرة ، بعد أن تراءى له ، أنه رآها في المنام .
ثم أخذته إلى عين الماء ، التي ينبثق ماؤها من بين الصخور ، وتوقفا هناك صامتين ، يتأملان الماء الرقراق ، وهو يتسلل بين الصخور ، وينحدر بسرعة متزايدة نحو الأسفل .
والتفتت اهاتاني إلى سامو ، وقالت بصوتها الطفولي الرقراق : سامو ..
ونظر سامو إليها ، فقالت مشيرة إلى العين : تذوق هذا الماء .
وابتسم سامو ، وقال : لقد رأيت الوعل الصغير يشرب منه ، قبل أن تنقضّي عليّ .
ولعل اهاتاني لم تفهم ما يقصده سامو بالضبط ، فقالت : إنه ماء بارد عذب .
وقال سامو : آه لو كنتُ وعلاً .
وابتسمت اهاتاني ، يبدو أنها فهمت ما يقصده هذه المرة ، أو ربما ظنت ذلك ، فانحنت على ماء العين ، وغرفت منه براحتيها ، ثم تقدمت من سامو ، وقالت : الآن تستطيع أن تشرب .
ودسّ سامو شفتيه في الماء المترجرج بين راحتيها ، وراح يرشف منه في تمهل ، حتى أتى عليه ، فرفع رأسه ، وقال : لذيذ جداً .
وابتسمت اهاتاني ، فقال سامو : يبدو أنني لن أرتوي من هذا الماء .
ونظرت إليه اهاتاني ، وقالت : لا عليك ، يا سامو ، سأسقيك حتى ترتوي .
وهمت اهاتاني أن تنحني على ماء النبع ثانية ، لتغرف براحتيها بعض الماء ، فمدّ يده ، وأمسك ساعدها ، وقال : لا تحاولي ، لن أرتوي .
وتراجع سامو خائفاً ، حين لمح ظلاً يحوّم حولهما ، ورفع رأسه وإذا طائر الرعد يحوم في الأعالي ، وفي عينيه تتوهج جمرة من الغضب .
ورفعت اهاتاني رأسها ، وحين رأت طائر الرعد قالت : اطمئن ، يا سامو ، لن يهاجمك بعد اليوم .
وبالفعل ، حام طائر الرعد فوقهما عدة مرات ، ثم انطلق صاعداً ، نحو الصخور العالية ، القريبة من القمة المكللة بالثلج صيفاً وشتاء ، وهو يطلق صوته الرعد ، وغاب بين شعابها .
وبعد منتصف النهار ، عادا إلى الكهف صامتين ، وقد تجنب كلّ منهما من جهته ، الحديث عما دار بينهما ، منذ لقائهما الأول ، عند شجرة الجوز .
وعند باب الكهف ، تناهى إليهما صوت طائر الرعد مرة أخرى ، يصيح بصوته الثاقب ، فتوقف سامو ، ورفع عينيه ، ورأى الطائر يحوم في الأعالي ، وهو يصيح بين حين وآخر ، فقال : لقد عاد طائر الرعد .
ونظرت اهاتاني إلى الطائر ، وقالت بصوتها الطفولي : إنه غاضب ومهموم .
ونظر سامو إليها ، وقال : ألا يكفه أنه خطفك ، وأنت طفلة صغيرة :
وقالت اهاتاني : إنه يحبني .
ونظر سامو إليها ، فقالت بصوت طفولي حزين : وأنا أيضاً أحبه .
وحام طائر الرعد فوقهما صامتاً ، ثم هبط من أعالي السماء ، وحط في هدوء على صخرة عالية ، تقف بشموخ على مسافة من الكهف .
وهمّ سامو أن يدخل الكهف ، وهو يقول : تعالي ، يا اهاتاني ، لندخل ونرتاح قليلاً .
ونظرت اهاتاني إلى طائر الرعد ، الذي كان يتطلع إليها ، وقالت : إنه يناديني .
فتوقف سامو ، وقال : اهاتاني ..
واتجهت اهاتاني نحو طائر الرعد ، دون أن تلتفت إليه ، وقالت : أدخل الكهف أنت ، سأرى طائر الرعد ، وأعود بعد قليل .












" 9 "
ـــــــــــــــــــــ

قبيل المساء ، والشمس تميل إلى الغروب ، رأته يجلس ساهماً ، مهموماً ، عند باب الكهف ، فجلست إلى جانبه ، وهمهمت متسائلة : هم م م م ؟
فنظر سامو إلها ، وقال : أمي .
قالت اهاتاني مازحة : اذهب إليها .
وقال سامو : ستهمهم لي مستفسرة هم م م م ؟
ونظرت إليه مستفهمة ، فقال سامو : لن أكذب عليها .. سأقول لها .. اهاتاني .
فقالت اهاتاني : لابد من حلّ .
ونظر سامو إليها ، وقال : ساعديني .
ورفعت اهاتاني كتفيها ، وقالت : الأمر لك .
فقال سامو : لا أستطيع أن آتي بأمي إلى هنا ، فهي امرأة عجوز متعبة ..
ونظرت اهاتاني إلى طائر الرعد ، الجاثم على الصخرة المرتفعة ، وقالت : وأنا لا أستطيع أن آخذ طائر الرعد ، وأنزل به إلى القرية .
والتفت سامو إليها ، وقال : تعالي معي وحدك ، فطائر الرعد ولد وعاش حياته هنا .
وهزت اهاتاني رأسها ، ثم قالت ، وهي تنظر إلى طائر الرعد : أخذني .. ورعاني .. وعشتُ إلى جانبه .. كلّ هذه السنين .
ونظر سامو إليها ، وقال : اهاتاني ..
وتطلعت اهاتاني إليه حائرة ، فقال : لابد من حل ، وفي أسرع وقت ممكن .
وأطرقت اهاتاني رأسها ، دون أن تحير بكلمة ، فنهض سامو ، ومضى إلى داخل الكهف ، وهو يقول : إنني متعب ، سأنام .
ولبثت اهاتاني جامدة في مكانها ، وانبثقت الدموع من عينيه ، كما تنبثق المياه من أعماق الأرض ، حاولت جهدها أن تحبسه ، دون جدوى .
ونهضت من مكانها ، وبدل أن تدخل الكهف ، وتمضي إلى سامو ، نظرت إلى طائر الرعد ، الجاثم فوق الصخرة المرتفعة ، ومضت إليه .
ونظر طائر الرعد إلى اهاتاني ، بعيني منطفئتين ، ورآها ـ على غير عادتها ـ مهمومة حائرة ، والدموع تغرق عينيها .
وتسلقت اهاتاني الصخرة المرتفعة ، بخطوات مترددة متعبة ، وتقدمت مطرقة الرأس من طائر الرعد ، وتوقفت على مقربة منه ، ورفعت عينيها الغارقتين بالدموع إليه ، دون أن تنطق بكلمة واحدة .
وحدق طائر الرعد فيها ، بعيني حزينتين منطفئتين ، ثم فتح جناحيه الهائلين ، وطار مبتعداً ، وبدل أن يتجه إلى عشه ، كالعادة في مثل هذا الوقت من النهار ، أرتفع عالياً .. عالياً .. عالياً .. ولم يتوقف عند الصخور العالية ، بل حلق حتى القمة ، التي لا يغيب الثلج عنها طول أيام العام ، واختفى وراءها ، كما تختفي الشمس الغاربة وراء الأفق البعيد .
وتلفتت اهاتاني حولها ، لا تدري ماذا تفعل ، وفجأة وجدت نفسها تنزل عن الصخرة المرتفعة ، وتتجه راكضة نحو الكهف ، وهي تصيح بصوت باك : سامو .. سامو .. سامو .
وهبّ سامو من فراشه ، حين تناهى إليه من الخارج ، صوت اهاتاني الباكي ، وأسرع إلى خارج الكهف ، ليرى ما الأمر .
وأقبلت عليه اهاتاني راكضة باكية ، فمدّ يديه إليها ، وأمسك يديها المرتجفتين ، وقال : اهدئي ، يا اهاتاني ، اهدئي ، وأخبريني عما جرى .
فقالت اهاتاني باكية : طائر الرعد .
وتساءل سامو ، وهو يحاول أن يهدئها ، ويكفكف دموعها : اهدئي ، يا اهاتاني ، اهدئي يا عزيزتي ، وقولي لي ، ما الأمر .
وقالت اهاتاني ، وهي تشهق مغالبة دموعها : ذهب .. طائر الرعد .. ذهب ولن يعود .
وقال سامو ، وهو يأخذها باتجاه الكهف : تعالي ارتاحي في الداخل .. تعالي .
وسارت اهاتاني إلى جانبه ، ودخلت الكهف معه ، وقالت من بين دموعها : لن يعود .. لن يعود .















" 10 "
ـــــــــــــــــــــــ

استيقظ سامو ، في اليوم التالي ، قبل شروق الشمس ، وما إن فتح عينيه ، حتى عرف أن اهاتاني ، ليست في فراشها ، وخفق قلبه خوفاً ، ترى أين مضت هذه المجنونة ، في مثل هذا الوقت ؟
وهبّ من مكانه ، ومضى مسرعاً إلى الخارج ، ووقف على مقربة من باب الكهف ، وراح يتلفت حوله ، لعله يعثر على أثر لاهاتاني ، لكن دون جدوى .
وركض في هذا الاتجاه ، وركض في ذلك الاتجاه ، وهو يتلفت حوله ، وعيناه تركضان في كلّ الاتجاهات ، ويصيح بأعلى صوته : اهاتاني .. اهاتاني .
لم يسمع سامو رداً على صيحاته ، لكنه سرعان ما توقف ، وقد كفّ عن الصياح ، فقد رأى اهاتاني ، تقبل متعثرة ، وعيناها الزرقاوان غارقتان بالدموع .
وأسرع سامو إليها ، وقال : اهاتانو ، الوقت مبكر ، لقد قلقت عليك .
وردت اهاتاني ، وهي تغالب بكاءها : سامو ، لقد اختفى طائر البرق .
فقال سامو بصوت مطمئن : لا عليك ، إنه يستيقظ مبكراً ، كما تعلمين ، ولابد أنه مضى يبحث عن طعام له هنا أو هناك .
وهزت اهاتاني رأسها ، وقالت : لا ، لا ، لقد مضى ، إنه حتى لم ينم في عشه .
وأمسك سامو يدها ، وقال : تعالي ارتاحي قليلاً في الكهف ، وإذا لم يعد إلى عشه بعد شروق الشمس ، فسنبحث عنه أنا وأنت حتى نجده .
وبعد شروق الشمس مباشرة ، انطلقت اهاتاني برفقة سامو ، وبحثا عن طائر الرعد في كل مكان ، دون جدوى ، وعند غروب الشمس ، عادا متعبين منهارين إلى الكهف .
وتمددت في فراشها ، وكما أن سامو لم ينم ، فإن اهتاني لم تنم أيضاً ، وسمعها تنشج بصوت خافت ، وتتمتم من بين دموعها : لن يعود .. لن يعود .
وفي اليوم التالي ، وقبل شروق الشمس ، ذهبا معاً إلى العش ، لكنه كما كان في الأمس خالياً بارد ، هذه الليلة لم يبت طائر الرعد في عشه ، وتلفتت اهاتاني حولها ، تبث عنه بعينيه الغارقتين بالدموع ، وتساءلت بصوت مختنق ، وكأنها تحدث نفسها : ترى أين مضى ؟
وطوال النهار ، أعادا البحث عن طائر الرعد ، في كلّ مكان ، لكن دون جدوى ، ومع الغروب عادا مرة أخرى إلى الكهف ، وتناولا طعامهما صامتين ، ثم أوى كلّ منهما إلى فراشه .
في صباح اليوم التالي ، أفاق سامو ، وقد بدأت أشعة الشمس ، تتسلل إلى مدخل الكهف ، واعتدل في فراشه ، عندما رأى اهاتاني جالسة في فراشها ، وعيناها الزرقاوين ، تحدقان في الفراغ .
وتنهد سامو ، وقال : رأيت أمي في المنام .
ونظرت اهاتاني إليه صامتة ، فأضاف قائلاً : إنها امرأة مسنة ، وأخشى أن تكون مريضة .
ونهضت اهاتاني ، ووقفت بباب الكهف ، فنهض سامو ، ووقف إلى جانبها ، وقال : لابدّ أن أذهب ، لا أريد أن أتركها وحيدة ، في أيامها الأخيرة .
وصمت سامو ، وانتظر أن تعلق اهاتاني بشيء ، لكنها لم تتفوه بكلمة واحدة ، فاستدار على مضض ، ومضى في طريقه نحو القرية .
وتراءت له أمه ، كما رآها في المنام ، ليلة البارحة ، تمدّ إليه يديها الشائختين المرتعشتين ، وتناديه بصوتها الدامع : بنيّ سامو .. تعال .. تعال .. تعال .
لقد قالت له مراراً ، كلما رأته يتطلع إلى الجبل الأبيض ، بقمته التي لا يغيب الثلج عنها ، لا في الشتاء ولا في الصيف : سامو ، إنني لا أريد أن أفقدك ، كما فقدت أباك ، سأموت إذا غبت عني فترة طويلة .
وتوقف سامو ، قبيل منتصف النهار ، كأنما سمع صوتاً طفولياً يأتيه من الأعالي ، وتلفت حوله ، لكنه لم يرَ أحداً ، وتراءت له أمه ثانية ، تمد إليه يديها الشائختين المرتعشتين ، وتناديه بصوتها الدامع : بنيّ سامو .. تعال .. تعال .. تعال .
وبدل أن يواصل سامو طريقه إلى القرية ، عاد يتقافز فوق الصخور ، كوعل فتيّ ، وسرعان ما توقف ، وقلبه يدق فرحاً ، فقد رأى اهاتاني تركض مقبلة نحوه ، وشعرها الذهبي يتطاير في الهواء ، وارتمت بين ذراعيه ، وهي تقول : عرفت أنك ستعود إليّ .
وضمها سامو إلى صدره ، وقال في فرح وحيرة : اهاتاني ..
فرفعت اهاتاني عينيها الزرقاوين إليه وقد خلتا من الغيوم والأمطار ، وقالت : أريد أن أرى القرية ، التي ولدت فيها ، والتي سنعيش فيها معاً .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تسجيل سابق للأمير الشاعر بدر بن عبد المحسن يلقي فيه أبيات من


.. الفنانة غادة عبد الرازق العيدية وكحك العيد وحشونى وبحن لذكري




.. خلال مشهد من -نيللى وشريهان-.. ظهور خاص للفنانة هند صبرى واب


.. حزن على مواقع التواصل بعد رحيل الأمير الشاعر بدر بن عبدالمحس




.. بحضور شيوخ الأزهر والفنانين.. احتفال الكنيسة الإنجيليّة بعيد