الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


المُعسكر المُريب

دلور ميقري

2023 / 3 / 28
الادب والفن


1
دُعيت إلى سهرةٍ لدى جاري، وهناك عرّفني على حميه؛ وهوَ رجلٌ بدين، بشوش الملامح، أحيل على المعاش قبل قرابة العام بعد نحو ثلاثة عقود من الخدمة العسكرية. كانت ليلة ربيعية، لطيفة النسائم، أسكرتنا بأريج عطر أزهار شجرة البرتقال، المتهدلة أغصانها على جلستنا في صحن الدار. وكانت النسوة قد غادرن تواً إلى مضاجعهن، عندما طلبَ المُضيف من الرائد المتقاعد أن يروي لنا حادثةً ما، بقيت في ذاكرته من أيام خدمته كمحقق في القضاء العسكريّ. أشعلَ الرجلُ سيجارةً جديدة، وراقب دخانها فيما كان يتبددُ كأيام العُمر، الآفلة. ثم ما لبثَ أن قصّ علينا تفاصيلَ جريمةٍ ( وَصَفها بالشائنة والشائكة )، عُهِدَ إليه أمرُ التحقيق فيها وكانَ بعدُ في مستهل خدمته. وهذا ما تذكّره من الواقعة، التي أنقلها هنا مثلما رواها بضمير المتكلم.

2
كنتُ إذاً في شرخ الشباب، وقد تم نقلي حديثاً إلى فرع الشرطة العسكرية، الكائن في قلعةٍ قديمة، تنهضُ فوق رابية جرداء على طرف مدينة اللاذقية. ذات يوم، وكان الوقتُ خريفاً، أبلغوني صباحاً بضرورة التوجّه إلى مقر قيادة وحدة للدفاع الجويّ، يقع في مدخل المدينة من جهة طريق الشام. سبب الاستدعاء، كان التحقيق في جريمة قتل. بطبيعة الحال، كنتُ قد مررت من قبل عَرَضاً بذلك المكان، لكنني لم أكن أتصور بأنه معسكرٌ كبير، يضم مقراتِ وحداتٍ من أسلحة مختلفة. لسوء الحظ، وكما يجري غالباً نتيجة الجهل والإهمال وانعدام المسئولية، فوجئتُ لدى وصولي بأن جثة الضحية قد سبقَ ونقلت مذ نحو ساعة إلى مستشفى القوات المسلحة. لقد أضاع ذلك وضعية الجثة في مكان الجريمة، المهم للغاية للتحقيق. عليّ كان أن أعود بأدراجي إلى المدينة، للكشف على الجثة. ثمة تبيّنَ من تقرير الطبيب الشرعيّ، أن سبب الوفاة كان الخنق المتعمّد، وأن الجريمة حصلت في منتصف الليلة السابقة. البصمات، كانت متعددة على ملابس القتيل، وكذلك في مسرح الجريمة؛ وهذا كان أيضاً بسبب الطريقة الاعتباطية في نقل الجثة.
الجثة، كانت قد اكتشفت قبل دقائق من موعد الإجتماع الصباحيّ، وذلك حينَ دخل مساعد الديوان إلى حجرة المراسلات كي يأخذ البريد. القتيل ( بحسب إفادة المساعد )، كان فتىً في السادسة عشرة من عمره، وسيماً ورقيقَ البدن. تجنيده بهذه السنّ المبكرة، كان على خلفية تسجيله في النفوس باسم شقيقه، المتوفي قبل ولادته بثلاثة أعوام في إحدى بلدات ريف حمص الغربيّ. منذ التحاقه بقسم الآليات في المعسكر، قبل بضعة أشهر، حرصَ معلّمه على مراقبة تحركاته خشيةَ اختلاطه برفاق السوء، الأكبر عُمراً. وكان الفتى على شيءٍ من الطيش، يقضي وقته نهاراً في إقناع زملائه بتعليمه السواقة، ليجتمع معهم مساءً على طاولة لعب الورق. في ليلة الجريمة، صدرت أصواتٌ مريبة من حجرة المراسلات، المخصصة لنوم الفتى. عندئذٍ تقدم الحارسُ المناوب من نافذة الحجرة، كي يسأل عما يجري هناك. فأجابه شخصٌ من الداخل، بأن الأمرَ لا يعدو عن كونه مجادلة في أثناء لعبة الورق. ولما استفهمَ الحارسُ عمن يكون المتكلم، فإن هذا أجابه: " أنا شيرو؛ ألم تعرفني من صوتي؟ ". ذلك كان اسمَ مجندٍ، أعتاد رفاقه على التفكّه معه بسبب رطانة لهجته. فإنه ينحدرُ من جبال الكرد، القريبة من حلب، ومن إحدى القرى الإيزيدية.
ساعة أخرى، على أثر إيابي لمكان الجريمة، ورأيتني هذه المرة في حجرةٍ يشغلها ضابط أمن الوحدة، الذي استقبلني بشيءٍ من البرود وهوَ في مربطه وراء المكتب. تناقشنا في ملابسات القضية، وظهرَ واضحاً منذ البداية أننا مختلفان في وجهة النظر. قال بنبرة يقين: " الحارسُ المناوب، شهدَ على ذلك المجند، المدعو شيرو، وقد قمت منذ الصباح باحتجازه في قبو غرفة العمليات ". ثم أضافَ مع تكشيرةٍ تنم عن الشراسة: " أعتقدُ أنه جاهزٌ الآنَ لإعطاء إفادته ". أدركتُ للحال معنى جملته الأخيرة، الموحية بتعريض المتهم للتعذيب كي يعترف. علّقتُ على كلامه، متجاهلاً الجملة المقيتة: " لقد تكلمتُ مع الحارس، ولاحَ أنه غير واثق بصورة قاطعة، بحقيقة شخصية ذلك المجند، الذي ادّعى أنه شيرو "
" ادّعى؟ "
" هل من المنطقيّ، يا سيّدي، أن يصرّحَ شخصٌ ما باسمه الحقيقيّ وهوَ في سبيله للشروع بارتكاب جريمة؟ "
" لعله اختلفَ، لاحقاً، مع المجنيّ عليه وقتله؟ "
" بحَسَب تقرير الطبيب الشرعيّ، فإن الضحية تعرّضَ للإغتصاب بعيدَ مقتله "، أجبتُ بوضوح. ردّة فعل ضابط الأمن، أنه هبّ واقفاً ثم انتقل إلى وسط الحجرة وراحَ يرمي بصره إلى ما وراء النافذة المُشمسة، المطلة على الطريق الرئيس للمعسكر. نظرتُ بدَوري إلى تلك الناحية، وكان مدخلُ نادي الوحدة، المنفتح في الجانب المقابل، أشبه بخلية نحل في أوان نشاطها الربيعيّ. قال لي ضابط الأمن بعد لحظاتٍ من الصمت، مخففاً من نبرة الغطرسة وغرور اليقين: " مهمتك هيَ العثورُ على ذلك القاتل الحقير، وأنا مَعنيّ بالمساعدة بكل ما لديّ من وسائل ". ثم استدرك سريعاً: " سأتصل بهم حالاً في غرفة العمليات، لكي يتوقفوا عن استجواب المتهم! ".
خصصوا لي حجرةَ قائد أركان الوحدة، لمتابعة تحرياتي واستجواباتي. وكان هذا الأخير، كما علمتُ، يُمارس عمله يومئذٍ في " غرفة العمليات "؛ وهيَ في حقيقتها مبنى من دورين وقبو، تقعُ غير بعيدٍ عن مركز المدينة. حارسٌ آخر، كان مناوباً في ليلة الجريمة بالقرب من قسم الآليات، ما عتمَ أن قدّم لي معلومة مهمة: لقد انتبه ليلتئذٍ إلى قدوم شخصين من جهة المكاتب، وكانا يسرعان في طريقهما إلى مهجع الجنود، المنزوي عند بوابة المعسكر. لكنه لم يستطع تحديدَ شخصيتيّ ذينك الشبحين. شكوكي، انصبت على كون أحدهما هوَ ذاك المجند، الذي دخل في عراك مع شيرو قبل حادثة الجريمة بيوم واحد. هذا المجند، واسمه " عبد العزيز "، طلبته إليّ عقبَ موعد توزيع وجبة الغداء. قبل حضوره، كنتُ قد انتهيت إلى بناء تصوّر، يجزم بأن من ارتكب الجريمة هما شخصان وليسَ شخصاً بمفرده. وبالطبع، ذهبَ تصوّري إلى أنهما ذاتُ الشبحين، اللذين لمحهما حارسُ قسم الآليات في ليلة الجريمة. كذلك، تمكنت من خلال استجواب العناصر من معرفة الصديق الأقرب لعبد العزيز، وكان أيضاً ينحدر من شرقي البلاد. هذا الصديق، وكان اسمه " أحمد "، استدعاه ضابط الأمن بناءً على مشورتي، لكنني شددتُ على عدم استجوابه لحين الانتهاء من سماع الآخر.
مَثَلَ عبد العزيز أمامي، فرأيته شاباً قاتمَ البشرة، قامته ربعة، وقد زيّن وشمٌ شفته السفلى السميكة؛ لهجته بدوية، ويتكلم بقليل من التلعثم. بادرته بلهجة شديدة ومنذرة، عقبَ تقديمه لنفسه: " لا مندوحة لك من الإعتراف بالجريمة، لو أردتَ أن تفلت من حبل المشنقة "
" رحماك يا سيدي، من تجنّى عليّ بهذا الكلام؟ "
" لقد رآك الحارسُ المناوب في منتصف ليلة أمس، هناك بالقرب من قسم الآليات، وكنتَ برفقة صديقك أحمد في الطريق لمهجع المجندين. كنتما آنذاك قادمين من جهة المكاتب، أين وقعت الجريمة؛ فما معنى وجودكما هناك في تلك الساعة المتأخرة؟ "
" وماذا سأفعل في تلك الساعة في مهجع المجندين، طالما أنني أنام في حجرة معلّمي، مساعد سرية المقر؟ "، أجابَ مغتصباً ابتسامة باهتة. ثم استطرد بالقول: " لقد عدتُ إلى حجرتي من النادي في حدود الساعة الحادية عشرة، وذلك بعد انتهاء برامج التلفاز، وأخلدت فوراً للنوم ". ألقيتُ عليه نظرةً مطولة نوعاً، تلقاها بعينين ينطقُ فيهما الخبثُ والإخبات والمكر. كان واضحاً، أنه احتاط لنفسه بشكل محكم، وكذلك خدمته الظروف الموضوعية في ليلة الجريمة. غبَّ وهلة تفكير قصيرة، قررتُ تركه في الحجرة والذهاب لاستجواب صديقه. في أثناء اجتيازي للفناء الداخليّ، في طريقي لحجرة ضابط الأمن، أنهيتُ في ذهني صقلَ خطةٍ لمحاولة الإيقاع بالمتهم الآخر. كانت خطة تقليدية، صيغت على عجل، لا يمكن أن تخطر سوى لذهن محققٍ استوفى كل الحيل.
" صديقك عبد العزيز، أعترفَ بأنكما قمتما ليلة أمس بقتل مجند قسم الآليات "، قلت للمتهم أيضاً بطريقة مباشرة حالما قابلته. كان وجهه ممتقعاً سلفاً. لكن قبل أن يفتحَ فمه، إذا بضابط الأمن يُكمل كلامي وهوَ يلوّح بمجلةٍ في يده: " وبعد قتل الفتى، قاما باغتصاب جثته ". ثم أضافَ، فاتحاً المجلة على صور جنسية فاضحة، مخاطباً هذه المرة المتهمَ: " هذا ما عثرنا عليه في طيات فراشك، أيها المجرم الداعر! ". أدركتُ عندئذٍ أن ضابطَ الأمن نكّل به صفعاً وركلاً، بالرغم من مشورتي المعلومة. مع ذلك، سررتُ بوقوع مادة جديدة في يدي، يُمكن أن أضيفها للخطة. توجهتُ للمتهم بالقول: " بلى، ذكرَ لي المجندُ عبد العزيز أنه تسلل معك إلى حجرة الفتى المغدور بغيَة إغرائه بهذه المجلة، لكي يرضى استقبالكما في تلك الساعة المتأخرة. وأكّدَ أنك من قامَ بخنق الفتى، فيما كان هوَ يتكلم مع ذلك الحارس المناوب.. "
" كاذب، والله العظيم إنه كاذب "، قاطعني المتهمُ منتحباً. هنا، طلبتُ منه الجلوسَ على الأريكة الجلدية، وما لبثتُ أن قعدت بجانبه: " هيا تكلم إذاً، لأنّ الاعترافَ يُنجيك أيضاً من الموت شنقاً. بصماتك وشريكك، ظهرتا على ملابس القتيل. وكذلك سنميّز لاحقاً بصماتِ القتيل على ورق هذه المجلة ". أخذ المتهمُ يرتعش بشدة، ولاحَ أنه عاجزٌ عن الكلام. فناولته كأسَ ماء، فأخذه بيدٍ مرتجفة. دقيقة على الأثر، ثم بدأ بسرد إعترافه بالقول: " عبد العزيز هوَ من كتمَ أنفاسَ الفتى، وأنا اكتفيتُ بمنع حركته بعدما بدأ بمقاومتنا. لكنني لم أتصور قط أن يموتَ خنقاً، وبقيتُ مصدوماً لما تأكّد لنا ذلك. بعدئذٍ، قررنا التسلل من الحجرة حينَ تمضي ساعة أخرى ونضمن عدم مصادفة أحد في طريقنا. ثم عمد عبد العزيز لاغتصاب الفتى الميت، دونَ أن يسمع مناشدتي له بألا يفعل ذلك "
" وكيفَ تمكنتما من التسلل من المدخل الوحيد للمبنى، بالرغم من وجود الحارس المناوب؟ "، بادره ضابط الأمن بهذا السؤال. فأوضحَ المتهمُ، بأنه وشريكه استعملا نافذة إحدى حجرات الحمّام، المطلة على الخلاء. عندما أنهى إعترافه، طرحتُ عليه سؤالاً كان يلحّ عليّ مذ معرفتي من الطبيب بأمر اغتصاب الجثّة: " لِمَ أعتقدت وصاحبك أن هذا الفتى بالذات، هوَ فريسة سهلة لشهوتكما الآثمة؟ هل رأيتما ما يُشين سلوكه، أو ربما سمعتما بذلك؟ "
" لا هذا ولا ذاك. إنه الشيطان، مَن يزيّن للمرء ارتكابَ الأفعال الفاحشة "، ردّ المتهم بنبرة تسليم.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أمسيات شعرية- الشاعر فتحي النصري


.. فيلم السرب يقترب من حصد 7 ملايين جنيه خلال 3 أيام عرض




.. تقنيات الرواية- العتبات


.. نون النضال | جنان شحادة ودانا الشاعر وسنين أبو زيد | 2024-05




.. علي بن تميم: لجنة جائزة -البوكر- مستقلة...وللذكاء الاصطناعي