الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الجنة المقفلة؛ عاطف ابو سيف

مهند طلال الاخرس

2023 / 3 / 31
قراءات في عالم الكتب و المطبوعات


رواية الجنة المقفلة لعاطف أبو سيف تقع على متن 213 صفحة من القطع المتوسط، والرواية من اصدارات الاهلية للنشر والتوزيع في الاردن سنة 2021.

يبدا الكاتب روايته "الجنة المقفلة" من عتبة العنوان ومنها يلج الى تكوين الاحداث ورسم الصور ونسج الحوارات؛ فيبدا منذ الفصل الاول ومباشرة بتقديم بطل الرواية كابوتشي فيقول " لم يبقَ إلا كابوتشي. رحلوا كلهم في دروبٍ مختلفة، وظل وحده أثرًا في صحراء الغياب، يرتق سترة الماضي الممزقة، ويعيد نسج حكاياتهم، نقمةً لا تزول؛ ثم يظل عليه أن يواصل بعناد البحث عنهم رغم ذلك. منهم من سار في دهاليز الموت متشعبة النهايات، ومنهم من حملته الغربة في مثلثات برمودية.

وصارت الأخبار عنه ليست أكثر من شائعات حدود الصدق فيها واهية مثل نسمةٍ ضالة في يوم قائظ. وحده كابوتشي نجا، بشكلٍ أو بآخر، من سيرة الغياب التي مست العائلة مثل وباءٍ قهري. لصدفة ما، أو ضمن ترتيب مجهول اليد، لم يمض على النكبة ثلاثون عامًا حتى حطّت رحال أفراد العائلة في عوالم بعيدة مختلفة ومتفرقة، وظلّ كابوتشي وحده داخل البلاد."

تدور احداث الرواية حول حلم العودة بآفاقه وآماله الرحبة؛ تلك الافاق التي تحمل في ثناياها العودة المتاحة او العودة الى الذات، او العودة الى الوطن او العائلة او العودة لصدر الام وحنانها او العودة المثالية لاحلامنا التي كنا قد عشناها اب عن جد حتى تداعت بحكم النكبة والاحتلال وما فرضه الواقع المأساوي لها من فقر وتشريد وبعد وغياب في شتى اصقاع الارض.

فأم كابوتشي ظلت جنتها مقفلة وبقيت احلامها حبيسة ولم تجد ضالتها بالانطلاق والتحقق؛ لكن كعادة طائر الفينيق الفلسطيني فإن احلام الامهات حتى وان بقيت حبيسة فسرعان ما تجد طريقها للتحقيق في عوالم ابنائها، فبعض الاحلام تورث.

بعد النكبة تواضعت الاحلام، اذ اصبح حلم والدة كابوتشي الاثير [وهي ابنة يافا بتاريخها وبياراتها وحداثتها وهي اللاجئة المقيمة في المخيم بغزة فيما بعد] حلمها ان يلتم شمل ابنائها وعائلتها مجددا على تلك الطاولة المستديرة المغطاة بشرشف زهري، ولكل منهما الطاولة والشرشف حكاية، اضافة لليمونة التي تتوسط الدار وكراسي القش...التي "هرمت وتكسرت سيقان بعضها ومع الوقت والزمن فشلت محاولة اصلاح اربع منها واستنزفت كل المحاولات لابقائها في البيت حتى التهمت نار الشتاء اخشابها، وبقي كرسي واحد قادر على الصمود وعلى حمل المزيد من الاجساد" ص ٢١١.، وهذه الفقرة بالذات جائت مكثفة وذات رمزية ودلالة ومقاربة عالية حيث تبوح هذه الكلمات بمآلات الامور ونهايتها الحتمية بفعل عوامل الزمن والايام.

ومن هذا الحكايات الصغيرة ينسج عاطف حكايته الكبيرة والتي اسماها "الجنة المقفلة". ومن فم هذه الشخصيات تلد الحكايات ويتولى عاطف تطويعها في البناء الفني والدرامي للرواية، ومع كل شخصية تتولد حكايات وحكايات، وهذا صنو عاطف دائما؛ فهو ولد حكاء، وزاده ثراء انه ابن يافا التي تلد الحكايات بلا كلل او ملل.

تموت والدة كابوتشي وهي تنتظر لم شمل ابنائها وعائلته الصغيرة[ في مجاز وصورة رمزية عن العودة ولم الشمل الفلسطيني] وطيلة سنوات الانتظار تبقى ام كابوتشي وفية لطقوسها السنوية في الانتظار، تعد تللك الطاولة[طاولة عوني السعيد اليافاوي والد كريستينا والمصنوعة عام 1930 وهو تاريخ اعدام الشهداء الثلاثة والذي خلدته الاغنية الشهيرة من سجن عكا] وتزينها بالشرشف [الهدية من جارتها المصرية] وتحضر عليه نفس اصناف الطعام الذي شهد جمعتهم ولمتهم الاخيرة.

هذا ايضا علاوة على ترتيبها لكراسي القش وانتظارها تحت ظل الليمونة التي زرعها زوجها الذي فتكت به سنوات الغربة واللجوء فتوفي مقهورا على يافا وذكرياته واجمل ايامه فيها..

بعد موت والدته؛ يستمر كابوتشي وفيا لحلمها؛ فيأخذ يتقمص دورها تماما، ويأخذ على نفسه عهدا بتحقيق حلمها كوصية واجبة التنفيذ؛ فيبدا الاعتناء بنفس الطقوس، ويحاول مجددا ان يلم شمل هذه العائلة في نفس البيت وعلى نفس الطاولة وتناول الطعام فوق ذات الشرشف.

ورغم توالي الصعوبات وتعدد المعيقات بوجه كابوتشي اذ ان الايام والزمن لم تكن بصفه [كحالها مع الشعب الفلسطيني]، إلا انه يصر على التمسك بذات الحلم ويتطلع لتحقيقه وتجسيده متمسكا بوصية امه الغير مكتوبة ومتسلحا بالامل وبحقيقة انتصار الارض لاصحابها وابنائها الاوفياء.

وهنا تتوالد الحكايات من فم الحكايات وتزداد المعيقات لكنه الامل الذي يمثله كابوتشي ببقائه على ارضه حارسا وفيا لحلم الامهات... إلاّ انه يسعى بجد لتحقيق حلم امه باجتماع شمل العائلة على نفس الطاولة وفي نفس التاريخ الذي كانت تنتظره الام حين اعدت لهم العشاء الاخير الذي حضروه معا وبعدها تشتتوا...

في اثناء سعي كابوتشي [ومن قبله والدته] لجمع شمل العائلة تتداعى الذاكرة وتتوالد الاحداث وتُطرح الاسئلة الصغيرة والتي بدورها تصنع الحبكة والصورة الكبيرة" الجنة المقفلة"والتي نقراها هنا عبر صفحات الرواية وبالتشويق المطلوب.

هل ينجح كابوتشي في مسعاه؟ وهل ينجح في لم شمل العائلة مجددا؟ وهل يتحقق حلم الام الذي ورثه كابوتشي؟ هذه ما تبوح به بقية صفحات الرواية من عند ص ١٤٥ وحتى ١٩٢.

فعاطف من السهل تتبعه ومعرفة خطواته وكلماته القادمة!؟ فهو ابن يافا البار والمسكون بحبها حتى الثمالة، وهو اللاجيء ابن المخيم وابن غزة والشاهد على ارث النكبة وعلى جذوة المقاومة وهو الحارس للحلم؛ حلم العودة ليافا وبياراتها ليعود للراوي لسانه الذي ابتلعته النكبة وسني المخيم.

ميزة عاطف في قلمه، وميزة قلمه تنبع من عشعشة يافا في قلبه وعقله حتى اصبحت شغله الشاغر ، يافا لدى عاطف كانت العنوان الصغيرة تحت اسم القضية الكبيرة فلسطين، لذا كان عاطف في جنته المقفلة يكمل مشروعه الروائي الذي بدأه في حياة معلقة والحاجة كرستينا، وهو بذلك يسير على خطى ثابتة في كتابة صفحات جديدة وجادة من صفحات التغريبة الفلسطينية.

أمثال عاطف استمعوا وانصتوا جيدا لنداء الحياة المتكرر فيهم وفي ذريتهم، فلا عجب ان جائت اسماء ابنائهم من سجلات تاريخهم؛ فكانت يافا الابنة خير شاهد على يافا المنغرسة في الاعماق والضاربة في الاديم والطاردة لكل الخرافات . . فاسماء الفلسطينيون تشبههم وتتماهى معهم، فلا توجد بقعة في الارض تدل اسماء اصحابها عليها كفلسطين.

لا توجد أسماء تدل على اصحابها في بقعة أخرى من الكون كما يحدث في هذا المكان. لا يرى العابرون في الاسم سوى ما يهدد اسمهم، بينما يتعامل الفلاحون مع الاسماء ككائنات طبيعية تنمو كالأعشاب، او تتكاثر كالماعز والحمام، ولا يستخرجونها من الكتب او الخرافات، بل من أصوات الطبيعة ووحيها، من المنامات والاحلام وتمتمات الاطفال وصوت حبات المطر المتساقط في الوديان، ومن تعاقب الفصول واوضاع القمر واحوال الشمس.

وقد تعلموا منذ طفولة الدنيا، ان يستدرجو الاسماء الى شراك الزمن، ان يوقعوها في فخاخهم كما تقع بنات حوى في شباك بني آدم . فاسم المكان في هذه البقعة من الكون يُورث أصحابه هوية هذه الارض. ويورث أبناءه أسمائهم كذلك، ففي تلك البقعة تجد اسم المكان يطغو على الزمان لكن لا يمحو هويته، وإن طُمس اسم المكان الى حين فإن حبات المطر وذرات الرياح وحنين الطبيعة لأصلها كفيلةٌ لوحدها بكشف زُورِ العابرين من اصحاب الخُرافة.

وإن ادمى الغاصب اصحاب الارض واضناهم وجفف حبات عرقهم عنها ومحى خطوات اقدامهم فيها ؛ لاذ الفلاح بجذر اسمه وتكوينه لإدامة هويته على هذه الارض المدماة ونَحتَها بإسمه من جديد.... فكانت يافا الابنة والقضية والجنة المقفلة.

الحرب اذن تدور بين اسمين وروايتين وعلى نفس الجنة. اسم تنحته الصدفة من عظام الزمن فيتحول الى ما يشبه رائحة الانفاس في صباح يوم مشرق يسقطُ فيه الطغاة وتنتصر الثورة، واسم يستحضره اللصوص من تراث أمم اخرى سبتهم ، وتستخرجه الخرافة من تابوت وتعلقه على رؤوس الرماح.

طوبى لعاطف وامثاله الذين يدركون ويعون جيدا مقصد درويش حين قال:" من يكتب حكايته يرث ارض الكلام ويملك المعنى تماما".








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الجزائر: مطالب بضمانات مقابل المشاركة في الرئاسيات؟


.. ماكرون يثير الجدل بالحديث عن إرسال قوات إلى أوكرانيا | #غرفة




.. في انتظار الرد على مقترح وقف إطلاق النار.. جهود لتعزيز فرص ا


.. هنية: وفد حماس يتوجه إلى مصر قريبا لاستكمال المباحثات




.. البيت الأبيض يقترح قانونا يجرم وصف إسرائيل بالدولة العنصرية