الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


كيف تبقي التبرعات على منظومة الاستغلال وتديمها ؟

جودت محمود جودت

2023 / 3 / 31
مواضيع وابحاث سياسية


لنبدأ بحثنا بافتراض هذا المثال البسيط : لنفترض معاً ان سعر أحد الأدوية الضرورية لمرضى القلب قد ارتفع إلى الضعف، وذلك من ‏دون أن يرافق هذا الارتفاع فى سعره ارتفاع مماثل فى مداخيل متلقيه من المرضى، ما الذى سنشهده فى هذه الحالة ؟ فى هذه الحالة سنشهد ‏نقصاً فى الطلب على هذا الدواء قد يدفع بمنتجيه إلى تخفيض سعره وإعادته إلى السعر الأول، أو حتى قد يدفع بهم إلى تخفيضه دون ‏هذا السعر الأول إذا ظهرت صعوبات تسويقية خاصة نشأت عن هذا الإرباك الذى أحدثته هذه الزيادة و لم تكن فى الحسبان. هذا مفهوم ‏إذن وجلي على نحو واضح، ولكن ماذا لو أشترى بعض الناس هذا الدواء لمحتاجيه على سبيل التبرع لهم والإحسان إليهم، هل يضطر ‏منتجو هذا الدواء إلى تخفيض سعره فى هذه الحالة والعودة به إلى السعر الأول ؟ هنا تحديداً تكمن كامل القضية التى نحن بصدد ‏تناولها، فطالما هناك من يدفع ثمن الدواء بعد زيادة سعره، فلن ينزل هذا السعر مرة أخرى ليعود إلى ما كان عليه فى السابق قبل ‏الزيادة، فالطلب على الدواء لا يزال على حاله لم ينخفض طالما هناك من أشترى لهؤلاء المرضى ما عجزوا عن شرائه لتدنى قواهم ‏الشرائية، بل وأكثر حتى فقد يتخطى سعر الدواء هذه الزيادة الأولى ليبلغ زيادة أخرى جديدة طالما وجد من يدفع له هذه الزيادات ‏ويؤديها.‏

فى واقع الأمر، لا تبدو لنا التبرعات التى يجرى تبنيها كنهج مستدام لتعويض ضحايا الفقر والاستغلال بصورة جزئية على انها آلية لمواجهة ‏الاستغلال والتصدى له كما يحلو للبعض أن يراها ويسميها، بل تبدو لنا على العكس من ذلك كآلية لإدامة الاستغلال والإبقاء عليه، آلية ‏تعمل لصالح الإستغلال لا ضده وذلك على مستويين رئيسيين : الأول يتعلق بتسويق سلعه وخدماته بالأسعار المرتفعة التى عينها لها. ‏والثاني يتصل بتخفيف حدة الاحتقان والتزمر التى قد تنشأ وتنجم عن تقرير هذه الزيادة والعمل بها.‏

ان مايعنى مُنتِج السلعة والخدمة فى الأخير إنما هو تصريف منتوجه لا غير، وهو لذلك لا يولي أي أهمية خاصة لهذا الطرف اوذاك ‏الذى آلت إليه ملكية سلعته، فسواء استهلكها مشتريها بشخصه أم وهبها لغيره من دون مقابل لا يغير من الأمر شيئاً بالنسبة إليه طالما ‏هو قد قبض ثمنها وحول بذلك قيمته المتشيئة تلك من صورتها العينية السلعية إلى الصورة النقدية التى تمكنه من استخلاص ربحه ‏منها بعد طرح تكاليفه ومصروفاته، ومن ثم القدرة على تجديد إنتاجه مرة أخرى لدورات جديدة.‏

يحق لنا إذن ان نرى فى التبرعات وفق السياق المطروح أعلاه، حيلة تسويقية واعية ليس إلا يلجأ إليها المنتجون الاحتكاريون ‏لتصريف منتوجهم بالسعر الذى يريدون من دون الاضطرار إلى تخفيض سعره كنتيجة متأتية عن تلك الزيادة التى أقروها والتى ‏تستتبع بدورها هبوطاً فى الطلب على هذا المنتوج قد يرغمهم على العودة عن هذه الزيادة. ويحق لنا أيضاً ان نستخلص نتيجة مؤداها ‏ان التصدى لواقع الاستغلال لا يكون بجمع التبرعات لصالح المتضرين بغية تعويضهم جزئياً عما أصابهم من ضرر من جراء هذا ‏الاستغلال، فمسلك كهذا لن يؤدى، كما سبق وأشرت، سوى إلى إثراء الاستغلال وإدامته طالما لم تتأثر مبيعاته وبقيت على حالها، بل ‏هو يكون، أي التصدى للاستغلال، بالقضاء على الاستغلال ذاته وتجفيف منابعه للحيلولة دون وقوع ضحايا جدد وتجديد إنتاج ‏الاستغلال نفسه.‏

ان غاية هذا المقال ليست فى الصد عن فعل الخير أو ذم تلك الجهود الفردية حسنة النية وتبكيتها على ما تقوم به من محاولات فى سبيل ‏جعل حياة الأخرين أفضل، لا ليست هذه هي الغاية المتوخاة من وراء هذا المقال، ولكن الغاية التى نرمي إليها إنما هي التعريف بواقع ‏حركة المشهد الكلية، بواقع ان التبرع وحده منفرداً وبمعزل عن خوض نضال جدي فى مواجهة الاستغلال الذى يولد الحاجة إليه لن ‏يفعل سوى الإبقاء على الاستغلال الذى ندعى مواجهته بواسطة هذه التبرعات. وعليه يتحتم علينا ولا مناص، ان أردنا حقاً مواجهة ‏الاستغلال والقضاء عليه، ان نعين بموضوعية وتجرد ذلك الأثر الذى يتولد عن تلك التبرعات وغيرها من الأعمال الخيرية حين نكتفى ‏بها وحدها من دون السعي وراء اجتثاث الظرف الذى ولدها نفسه، وإلا فنحن نديم عملاً هذا الاستغلال ونبقيه بل ونثريه كذلك حين ‏نوفر له الأموال التى طلبها ونقدمها له.‏








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ما هي الأسباب التي تؤدي إلى الإصابة بالتوحد؟ • فرانس 24


.. مدير مكتب الجزيرة في غزة وائل الدحدوح: هناك تعمد باستهدافي و




.. الشرطة الفرنسية تدخل جامعة -سيانس بو- بباريس لفض اعتصام مؤيد


.. موت أسيرين فلسطينيين اثنين في سجون إسرائيل أحدهما طبيب بارز




.. رغم نفي إسرائيل.. خبير أسلحة يبت رأيه بنوع الذخيرة المستخدمة