الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مدفع الإفطار إعلان التوقيت في رمضان

عبدالله رحيل

2023 / 4 / 1
الادب والفن


حينما كنا صبية، نسرح ونلهو في ساحات القرية، بألعاب بدائية مخترعة، ومولَّدة من ألعاب أخرى، تحثّنا ذلك موجة النشاط البريء، التي تحكم أنشطتنا كلها، متّشحين بسلاح المحبة والتآلف، ووفق منهجية الأطفال، لا أحد فائزاً في أي لعبة، ولا أحد قائداً لتلك الألعاب، حتى يقدم شهر رمضان المبارك؛ فنستعد بألعاب مناسبة للشهر الكريم، فمثلا يُنصِّب أحد الأطفال نفسه شيخا يعلم الآخرين أصول الصيام، وجماعة تمثّل حفلة إفطار افتراضية، وآخر منّا يرفع الآذان، لكن هذا كله يقودني إلى معرفة التوقيت، الذي كان يستعمل لإعلام وقت الإفطار، حيث لا توجد مصادر الطاقة في قديم الزمان، ما يجعل بعض الصبية من اللاعبين أن يصنع من قطع أثاث قديم مهترئ، مُرمى بين أرجاء القرية مدفعا للإفطار، يصدر صوتا منخفضا، وبذلك تتمّ لعبتنا عن ميقات الإفطار.
وسألهو بكلماتي البريئة، كبراءة الأطفال يوم ذاك، وأودّع زمنا تولّى بقلب أسيف، يحن تارة لأيام جميلة مضت، وعُجب من طبيعة مجتمعات لا توفر أساليب الرفاهية الهادفة لأطفال في تلك الأزمنة تارة أخرى، وأتحدث عن مدفع الإفطار، الذي كنا نترقّب صوته في كل مغرب شمس، في تلك القرى الساكنة الهادئة اللطيفة، فعند اقتراب الغروب من نهايته اليومية؛ نتجمّع حول المدفع القديم المحشو بالثياب الرِّثة، ومخلّفات مهملة، وصاعق يُسلَّم من البلدية في تلك الآونة، ثم يطلق هديره في الفضاء معلنا وقت الإفطار، ووقت الغروب، ثم ننتشر راكضين كلٌّ إلى منزله؛ لنشارك العائلة طعام الإفطار.
يعد مدفع الإفطار رمزا خاصا في شهر رمضان المبارك؛ يكون الوسيلة لإعلان وقت الإفطار، ووقت السحور، يتحرّاه الصائمون، ويفرحون لصوته، وينتظرون وقته، فما إن يتجلّى ببرقه، وبصوته؛ حتى يأنس الصائمون في بيوتهم، وقد ودعوا يوما رمضانيا آخر، فما قصة مدفع الإفطار؟
ذاع انتشار مدفع الإفطار، في مصر في عهد الحاكم محمد علي، الذي حكم مصر آنذاك، لكن النشأة الأولى لمدفع الإفطار، قد اختلف فيها الباحثون الأثريون، فمنهم من أرجعه إلى عام 859 هجري، ومنهم من يرجعه إلى قبل ذلك التاريخ بسنين كُثر، لكن الراجح عند معظم الباحثين، أن الحاكم محمد علي استورد عددا من المدافع من ألمانيا، ويقال: إنه أراد تجربتها فأطلق طلقة من مدفع، وقد وافقت هذه الحادثة غروب الأول من شهر رمضان؛ فظن الناس أن هذا الصوت تصرُّف من الحكومة في إعلان وقت الإفطار؛ فاستعذبه الناس، وطلبوا من الحكام آنذاك، أن يصير موعدا للإفطار، فانتشر صيته في عموم مصر، حتى صار معلما خالدا من معالم الشهر الرمضاني، ثم أخذته البلاد المسلمة الأخرى في شتى أصقاع البلاد العربية؛ إيذانا بموعد الإفطار والسحور في كل ليلة من ليالي شهر رمضان، وقد وُضع مدفع فوق أحد الجبال القريبة من الحرم المكي، وقد ظل متبعا هناك حتى العصور الحديثة من هذا الزمن.
وفي معرض الحديث عن شهر الصوم المأمور به منذ العصور، التي سبقت ظهور الإسلام، وفي ذلك أشار القرآن الكريم عن ذلك: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ" فهنا إشارة للصوم قبل الإسلام أي في الأقوام والأعراف السابقة من أهل الكتاب، وغيرهم من الأمم التي سلفت.
وما أن تنكفئ الشمس للمغيب نحو مدارها الزمني السرمدي، يتمايز الناس في قراهم، ومدنهم آنذاك سراعا لتبادل أطباق من الأطعمة البسيطة المعدة من نساء شغلت نفسها بإعداده للبيوت المجاورة، فيكاد لا يخلو بيت من تلك البيوت عن نوع من طعام معدٍّ من جيرانه، في ألفة اجتماعية، ومحبة نادرة عند الأقوام، التي عرفت معنى المدنية، ومعنى الحضارة المنمقة، فسمت البشر حينها بألفة العون، والتمازج، واللحمة الاجتماعية النبيلة، حتى الولائم كانت لا تخلو ساحات المكان منها دوريا بين الناس، يجتمعون حول رغيف الخبز، وفي مجلس كان ينور بمصباح نوره ضئيل؛ فتسرد حكايا، وتعلو الضحكات في المكان البسيط.
لكن غزت القوم الحضارة، ونمّقت عيونهم البريئة، وأخذوا شيئا فشيئا تاركين عادات كانت تلمُّهم، لا هثين وراء غايات لا تُدرك ولا تنتهي في أزمنة الربح الوفير، والصراع حول الدرهم والدينار، ولا غرو في ذلك حيث استجابت نفوسهم للتغيير وتصلُّب العيون بشاشات الأجهزة الحديثة، والمنوعة؛ فغدت قراهم حزينة الجدران، ومدنهم مقفرة التداخل والأنس؛ فغدا كل جار غريبا عن جاره في الطباع والعادات، بعد أن لمت شملهم عائلة المزج طويلا، فيا أيها الناس عودوا إلى ألفة المكان والزمان، فكم من معتر فقير معدم، لا يقوى على شراء قوت فطوره، وكم من حرة سامها الزمان بسياط غلاء أثمانه، وكم من أب حائر بينِ طلب الابنة والوليد؛ لعلكم تواسون عوائل متهالكة بين الأزقة والأبنية، وبذلك أحكم معناه الشاعر زهير بن أبي سُلمى قديما:
وَمَن يَكُ ذا فَضلٍ فَيَبخَل بِفَضلِهِ
عَلى قَومِهِ يُستَغنَ عَنهُ وَيُذمَمِ








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مليون و600 ألف جنيه يحققها فيلم السرب فى اول يوم عرض


.. أفقد السقا السمع 3 أيام.. أخطر مشهد فى فيلم السرب




.. في ذكرى رحيله.. أهم أعمال الفنان الراحل وائل نور رحمة الله ع


.. كل الزوايا - الفنان يحيى الفخراني يقترح تدريس القانون كمادة




.. فلاشلايت... ما الفرق بين المسرح والسينما والستاند أب؟