الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


بضاعة الفن

سعود سالم
كاتب وفنان تشكيلي

(Saoud Salem)

2023 / 4 / 1
الادب والفن


ما هو هذا "الشيء" الغامض الذي يجعل من الخطوط والألوان أو الأصوات والصور "عملا فنيا" ويعطيها قيمة مادية كسلعة قابلة للتبادل التجاري، وقيمة أخرى تتجاوز هذه القيمة التجارية، هل لسبب أن هذه الأشياء ليست طبيعية ولا يمكن إستخلاصها من الطبيعة كالذهب أو الماسأو اليورانيوم وما شابه من الأشياء النادرة الثمينة، أم السبب أن هذه أشياء مصنوعة من قبل الإنسان كفرد، ولكن ليس كما نصنع الأثاث المنزلي مثل الأبواب والنوافذ والأسرة أو الأدوات المستعملة في الحياة اليومية كالأكواب والصحون أو وسائل الإتصال والتنقل مثل السيارة والطائرة إلخ، أم أن هذه الأهمية وهذه القيمة ترجع إلى صانع هذه الأعمال نفسه، أي الخالق لها والمبدع والذي نطلق غليه إسم الفنان، الذي يوقع هذه الأشياء بإسمه، وهو غير مجهول الهوية كصانع السرير أو الكرسي، إنه الفنان المرتبط إرتباطا عضويا وأنطولوجيا باللوحة أو القصيدة أو القطعة الموسيقية، تمثله وتعبر عن كينونته ووجوده في العالم.
لنبدأ إذا بتحليل هذا الشيء المادي الذي هو اللوحة والمنحوتة والقصيدة أو المسرحية أو الفيلم أو االسيمفونية أو أي إنتاج جمالي آخر، وهو ما يسمى عموما بالـ "العمل الفني".
فهو مجرد كائن صممه وصنعه شخص أو أشخاص أو مجموعات من الناس، فهو ثمرة عمل بشري عقلي خيالي وفي نفس الوقت يدوي أو ميكانيكي، وبالتالي يتناسب منطقيًا مع النسيج الاجتماعي للعلاقات المعقدة بين العمل، وتنظيم العمل، والإنتاج، وملكية وسائل الإنتاج، والاستغلال، والأسعار والأرباح والسمعة والشهرة للفنان وللوسيط الذي يبيع منتجات الفنان .. إلخ. في القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين عملت الرأسمالية من خلال إنكار شخصية العامل المنتج وتفرده وإستقلاليته كموضوع فاعل، حيث تقوم سلسلة الإنتاج في المصنع production line بتعبئة القوى العاملة بشكل عام، ويمحو خط الإنتاج الفروق في السن والجنس واللون والأصل إلخ، مما يجعل الشخص العامل يتحول إلى قوة ميكانيكية مجردة مجهولة الهوية. هذا الاقتصاد القديم للرأسمالية الكلاسيكية المبنية على إستغلال القوة العضلية للعامل، أفسح الطريق مؤخرا لبعض المجالات الجديدة للاقتصاد العام، لما يمكن تسميته بالاقتصاد التفردي أو الخصوصي النابع من الرأسمالية الحديثة، التي أطلق عليها بعض علماء الاجتماع الليبراليين : رأسمالية الابتكار. لقد أدى تحول الرأسمالية منذ القرن العشرين إلى تعديل كبير في أسلوب تنظيم العمل وبالتالي شروط تعبئة العمال وأصبح استغلال قوة العمل العامة والتجريدية وغير الشخصية غير كاف لزيادة الإنتاج وتجديده وتطويره، نظرا لتغير المنتجات المطلوبة وتنوعها المتزايد، مما أفسح المجال لإعادة تقييم القدرات الفردية للإبداع والاختراع والمبادرة، وحتى التنظيم الذاتي في بعض الحالات، حيث نركز على التجديد والمغامرة والخيال ليصبح الإبداع "عاملاً" لزيادة الإنتاج والقيمة المضافة والأرباح : إنها ما يسمى بالذاتية المنتجة أو الرأسمالية المعرفية حسب بعض المتفائلين!
يعمل مخطط الإنتاج هذا في قطاعات الاقتصاد الجديد مثل تكنولوجيا المعلومات وما يسمى بالذكاء الإصطناعي، الإنترنت والصحافة والإتصال والصناعات الترفيهيه والسينما والتلفزيون وصناعة الموضة وألعاب الفيديو والسياحة والصناعات الفنية عموما…
يجب أن تفترض أن أي رؤية أو نظرية للتحرر البشري في مجتمع مثالي يخلو من الإستغلال والإستلاب المادي والنفسي، لابد أن تشمل إلغاء العمل المأجور كنموذج لتنظيم الإنتاج وأن تتجه المجتمعات نحو التفرد، أي إيجاد المعنى لما يقوم به كل فرد، وخصوصية العمال وإستقلاليتهم حتى لا يكونوا مجرد آلة إنتاج مبرمجة مثل أي روبوط. وبالتالي يجب أن يصبح كل فرد منتج "فنانًا"، بمعنى أن نتيجة عمله تندمج مع شخصيته وحياته ووجوده عموما، غير قابل للاختزال ومتخلصا من كل القيود المادية والمعنوية وحيث يتم نسخ أو نقش "جوهر" كونه حراً في موضوعات الحياة اليومية التي ينتجها والتي تحيط به. ويمكننا اعتبار أن النتيجة النهائية لهذه الرأسمالية الإبداعية تتمثل ويمثلها الفنان الحديث كنموذج لهذا النوع المعاصر من العبيد، ولهذا السبب تمكنت المرأة من الدخول في هذا المجال من الإنتاج والنجاح فيه ربما أكثر من المجالات الإقتصادية الأخرى، وبدأ سوق الفن يهتم بالنساء المنسيات، ليس حبا في النساء، وإنما لأنهن يمثلن بضاعة جديدة وأسماء جديدة تطرح على أرصفة الأسواق الرأسمالية الكبرى والتي يجب تمويلها وتجديدها على الدوام. وآخر هذه الإكتشافات هو الأعمال الفنية التي تركتها الممثلة سارة برنار Sarah Bernhardt بمناسبة مئة عام على وفاتها في ٢٦ مارس ١٩٢٣، حيث يقام في باريس معرض كبير يجمع العديد من أعمالها من منحوتات ورسومات ولوحات فنية، هي التي لم يعترف بأعمالها البلاستيكية والتشكيلية أثناء حياتها كمغنية.
كذلك يمكن ذكر فيفيان ماير Vivian Maier، المصورة الفوتوغرافية المجهولة، وواحدة من أهم مصوري الحياة اليومية لعامة الناس في القرن العشرين والتي عملت معظم حياتها كمربية أطفال، ومدبرة منزل لعدد كبير من عائلات شيكاغو، وفي نفس الوقت حملت كاميرا في كل مكان ذهبت إليه، ظلت تلتقط الصور لمدة 40 عاما، ولم تعرف كمصورة وتنشر أعمالها إلا بعد وفاتها عام 2009، حيث تم الحجر على ممتلكاتها من الأفلام ومعدات التصوير، وبيعت في مزاد علني. وتحصل شاب يدعى جون مالوف في هذا المزاد على صندوق يضم قرابة 40 ألف صورة نيجاتيف لأشخاص ومبان وطرقات من مدينة شيكاغو وغيرها من مدن العالم التي زارتها، التقطت ما بين الأعوام 1950- 1970 والذي بدأ في نشرها تدريجيا ثم إقامة المعارض وأصبحت فنانة مشهورة بعد موتها. الأمثلة متعدد ولا يمكن حصرها، ولكن من زاوية النظر هذه، نرى العمل الفني هو إنتاج، مادة مصنعة وسلعة لا قيمة لها إن لم تطرح في السوق لتباع وتشترى، ويمكن نقلها من مكان إلى آخر مثل أي شيء مصنوع آخر .. ومع ذلك فإننا لا نشك في وجود شيء آخر يجعل هذه الأشياء التافهة والثمينة في نفس الوقت، ضرورية وحيوية للمنتج والمستهلك على السواء.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. إبراهيم السمان يخوض أولى بطولاته المطلقة بـ فيلم مخ فى التلا


.. VODCAST الميادين | أحمد قعبور - فنان لبناني | 2024-05-07




.. برنار بيفو أيقونة الأدب الفرنسي رحل تاركًا بصمة ثقافية في لب


.. فيلم سينمائي عن قصة القرصان الجزائري حمزة بن دلاج




.. هدف عالمي من رضا سليم وجمهور الأهلي لا يتوقف عن الغناء وصمت