الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الثقافةُ العربية: الواقع وآفــــاق التجديـــد

عبد الحكيم الكعبي

2023 / 4 / 2
الادب والفن


ـ مقدمة :
فرض التطور العلمي والاجتماعي والتقني المتسارع في عالم اليوم، على الجميع إعادة نظر جذرية في قضية الثقافة، بل إعادة اعتبار لها من زاوية استراتيجيات المستقبل وفي برامج التنفيذ في مجالات الإدارة والعمل الوظيفي وما إلى ذلك من مفاصل الحياة العملية، فضلا عن زيادة الانفتاح الثقافي والاجتماعي بفضل ثورة الاتصال والتواصل، الأمر الذي سهّل على مجتمعات العالم أن تتصل بعضها ببعض، بما يحقق التبادل الثقافي على أوسع نطاق. وعالمنا العربي بحاجة ماسة الآن إلى بيان ثقافي و منهج فكري جديد متعدد الأبعاد، يأخذ في الاعتبار تلك المتغيرات و أدوار المثقفين في الفضاء العام، مع ضرورة إنتاج أفكار ومعان توازي تلك التحولات الاجتماعية والمتغيرات العالمية المعاصرة كالإصلاح، والحداثة، والعولمة، والديمقراطية ومفهوم المواطنة، وأضحى تقريب الثقافة والفكر يستدعي مداخل تواصلية بين المفكرين والمثقفين العرب في شتى المجالات، لصيانة الهوية والخصوصية الحضارية ومقاومة نزعات التطرف، والعنف والاستبداد، تلك المبادئ التي تعد من أولويات وضرورات تنفيذ فكرة التجديد العربي القادم.
ولعل في مقدمة المهام والمسؤوليات التي تواجه المهتمين بالشأن الثقافي العربي اليوم تشخيص التحديات التي يواجهها المجتمع العربي والتعرف أليها قبل الشروع بأية محاولة للنهوض بواقع الثقافة العربية؛ إذ لا مناص من الوعي جيدا في البداية لمجمل التشوهات التي أصابت المجتمع العربي، وتشخيصها والبحث في معالجتها، فتشخيص الداء نصف الدواء، كما يقال.
ومن دروس التاريخ العميقة، أن الأمم الرائدة، والحضارات السائدة، قد تمر بمحطات اختبار، وأن هذه الاختبارات قد تطول عقودا أو قرونا، تشهد خلالها حلقات انكسار وانحسار، تفقد فيها الأمم والحضارات رشدها، وتتأرجح هويتها، قبل أن تعول على أبنائها في العودة إلى مسارها مرة أخرى، فإما أن تعود وإما أن تبيد؛ وإن الوعي التاريخي هذا يقودنا إلى جملة من الأسئلة والإشكاليات، منها: هل نشهد نحن العرب الآن تلك المرحلة الانكسارية أو الانحسارية؟ وإذا كنا قد وصلنا إلى دركها الأصعب، فكيف لنا أن نبدأ السير على طريق النهضة مرة أخرى؟ وأنّى لنا أن ندرك آليات التجديد الفكري و الحضاري؟
ـ ثقافة الاستهلاك !
إن توصيف ما يعانيه المجتمع العربي من تأخر فادح في البنى السياسية والثقافية والاجتماعية، نتيجة تراكمات حالة الانحطاط المزمنة فيه، والمتجذرة منذ قرون، تتطلب الوضوح فضلا عن الجرأة والشجاعة في التشخيص والتحليل، ولا بد من الاعتراف أولا أن الثقافة العربية اليوم مكبلة بقيود كثيرة، إذ لا يمكن الحديث عن واقع هذه الثقافة من دون التطرق إلى نسبة الأمية في المجتمع العربي، والتي تبلغ أكثر من 30% ، وأن من يعيشون تحت خط الفقر تبلغ نسبتهم 41% من مجموع الشعب العربي، فكيف وأنــّى سيقرأ شعب فيه هذه النسب المرتفعة من الأميين والجياع.
إذا استثنينا هؤلاء الفقراء والأميين من معادلة الثقافة العربية فماذا نجد؟ سنجد بالتأكيد واقعا ثقافيا يتسم بسيادة الجمود الفكري، والتلكس العقلي، وتراجع العقل الاجتهادي، وسيطرة الثقافة النصية، وهيمنة الخرافة، ورفض الآخر، وعودة هيمنة القيم العشائرية والطائفية والمذهبية على حساب قيم المواطنة والمعنى العصري للأمة، وأخيرا احتقار العمل، والميل إلى الدعة والكسل، والعلاقة المائعة بالزمن وبالنظام، وعدم التشبع بروح المسؤولية، كل هذه الظواهر تكشف ـ بمرارة ـ مقدار ما أصاب المجال الثقافي والاجتماعي العربي من خراب هائل .
يضاف إلى كل ذلك، التشوهات التي أصابت المجتمع العربي نتيجة احتكاكه بالغرب، كالحداثة الرثة، وما أفرزته من ظواهر شوهاء في بنيته، كنزعة التقليد للقشور الثقافية للغرب، وتقديس الوافد الأجنبي، واحتقار الموروث، والدعوة إلى التحديث القسري، وجلد الذات والهوية، والعدمية في النظر إلى الثقافة العربية، وتسول أجوبة ثقافية غربية على معضلات مجتمعاتنا، دون وعي بالفوارق الجغرافية والتاريخية والبيئية ومستوى التطور. ومن أبرز تلك التشوهات وأخطرها هيمنة القيم الاستهلاكية والتماهي في التشبه بالمجتمعات الغربية، وتفشي النزعات المادية الغرائزية، والتحلل المتزايد لمنظومة القيم العربية .
ولابد من الاعتراف إذن، بأننا نعيش اليوم على أرض قلقة كثيرة الصدوع، فما يحكم الوعي العربي منذ قرنين من الزمان هو الانصياع لسلطتين متناقضتين، تؤثران عليه سلبا بما يشل قدرته على التفكير الداعي إلى التجديد أو التأصيل، وهما سلطتا: التراث والغرب، فليس لدى أيا من هاتين السلطتين عصا سحرية لكل مشكلات واقعنا وخصوصياتنا، فليس في التراث تلك الحقيقة المطلقة، التي تعلوا فوق المنطق والعقل والتفكير أساسا، وليس لدى الغرب تلك النجاعة والحلول لكل مشكلاتنا، مع التأكيد والاعتراف بأن لدى هاتين السلطتين أفكارهما التي يجب أن تؤخذ على محمل الجد في إطار التفكير الحضاري المستقل، الذي يسعى لبناء حضارة متجددة .
إن السياق العام للثقافة العربية السائدة اليوم هو أنها ثقافة استهلاك وخوف! تقتات على علف خطير هو التقليد والتسليم بدلا من القلق والابتكار، السوق الثقافية قابلة لاستهلاك أي شئ، والخطر ليس في الاستهلاك بذاته، بل بكونه غير مقرون بالإبداع والتوليد، فإذا كان هذا هو الطابع للثقافة العربية الراهنة، فإن الطاقات البشرية والطبيعية بكاملها تدور فيما يشبه غيبوبة المصير، حتى ليبدو لنا عبد الرحمن بن خلدون المتوفى قبل أكثر من600 سنة تقريبا( ت 1405م) أكثر حيوية في أفكاره من كثير من مفكري اليوم! وربما ينطبق القول نفسه على بعض شعراء العربية قبل ألف عام، حيث يبدو شعرهم أكثر حداثة من شعراء الحداثة العربية المزعومين، على حد قول أحد المفكرين المعاصرين.
إن هذه الصورة القاتمة لواقع الإبداع العربي لا تغفل عن رؤية صور مشرقة لنماذج وكفاءات عربية مبدعة في ميادين الثقافة والفكر والآداب والفن والعلوم، في هذا البلد العربي أو ذاك، ولكنها نماذج قليلة جدا موازنة بثقل العرب السكاني وتاريخهم وتراثهم الحضاري، هذا من جهة، ومن جهة أخرى أن أغلب تلك الكفاءات نما وازدهر في حاضنات وبيئات غير عربية.
ـ آفاق التجديــــــد :
إذا كان هذا هو واقع الثقافة العربية ومكبلاتها، فما هي آفاق التجديد؟ وما هي سبل الارتقاء بها وصولا إلى المستوى الحضاري المنشود؟
ابتداء لابد من التأكيد على أنه من الصعب، بل يكاد يكون من المستحيل، تحديد الذات مهما كان انتساب هذه الذات: عرقيا أو دينيا، قوميا أو فكريا أو ديموغرافيا، دون أخذ المحيط القريب والبعيد من المجموعات البشرية بالاعتبار، فالعولمة التي أضحت حقيقة قائمة ومفروضة، دورت زوايا التجمعات البشرية، وكسرت العزلة بقوة، وجعلت من العالم المترامي قرية كونية صغيرة، تعيش فيها الشعوب وتتفاعل. والشعب العربي لا يشذ عن هذه القاعدة، فهو متفاعل بالضرورة مع شعوب العالم شاء أم أبى، طوعا أم كرها؛ والثقافة العربية أو "الثقافات العربية"، بتعبير أدق، ملزمة بالتواصل مع ما يحمله ذلك التفاعل من صراعات ومصالحات وما يفرزه أو يمليه من آليات الفكر والعيش اليومي وما ينتجه من إبداع فني وعلمي.
لم يعد معقولا – على سبيل المثال - أن تعد اللغة العربية كافية للمواطن العربي اليوم للسفر والتنقل بين بلد وآخر، ذلك أنه سواء كان في المشرق أو في المغرب العربي فهو حين ينزل في فندق أو يتعامل بأمر تجاري أو مصرفي بسيط وما شابه ذلك، مضطر إلى أن يتكلم الإنجليزية أو الفرنسية أو يفهمها .
وفي جوف الصحراء يمسك المواطن العربي بالهاتف المحمول، ويتصل بالعالم ومن خلال شاشة صغيرة للأنترنت هي بمنزلة عقل آلي صغير، ومن خلال معرفة متاحة بسهولة لمن يرغب، يستطيع العربي (مثله مثل أي إنسان آخر في عالم اليوم) أن يجري أدق الحسابات وأصعبها، ويستحضر كمية لا حدود لها من المعلومات، ويكون على تواصل مع خلاصات الحضارات المحلية والإنسانية. فهل بإمكان العربي أن يتلافى هذه التقنيات مثلا، أو يستغني عنها؟ هل يمكن أن يحصن نفسه ضد هذه النبذ من العولمة، وبأية حجة من الحجج ؟ كأن تكون الحرص على الهوية، أو الاستقلالية أو الذاتية أو أية مفاهيم أخرى مشابهة .
إن الوعي بالتشوهات التي اشرنا إليها وأدراكها يعد جزءا أساسيا من الوعي الضروري توافره ونحن نبحث عن نسق القيم النهضوي الجديد، وأن نترجم معنى التجدد الحضاري إلى ذلك النسق الذي يعبر عن التوازن المطلوب بين الموروث والمكتسب، بين الخصوصية والكونية، وبين التمسك بالشخصية العربية والانفتاح على العالم، فبذلك وحده يعبر نسق القيم النهضوي عن الشخصية العربية، مستفيدا من القيم الكبيرة المستمدة من التراكم الاجتماعي والثقافي والديني، قيم التمسك بالعائلة وأخلاق المروءة والصدق والإيثار على النفس والتراحم والتضامن، ومنفتحا على العصر، منتهلا منه أرقى قيمه ومتمسكا بها، ومستدمجا إياها في منظومته، ومنها قيم الحرية والتسامح وقبول الآخر وحق الاختلاف والمسؤولية، والاستقلال الذاتي للشخصية والإنتاج .
إن الخروج من الحالة الموصوفة للثقافة العربية، خاصة في ظل ثقافة العولمة، لابد من التأكيد على مجموعة المبادئ المترابطة واللازمة للتغير الثقافي المنشود، الذي يمكّننا من القطيعة مع حالة التأخر والانكسار، ويضعنا على مسارات النمو والتنمية الذاتية والتحرر من ركام التخلف، وفي مقدمة تلك المبادئ:
ـ مبدأ حرية الاختيار، إذ لابد من توافر شرط الحرية وضماناتها في البحث والنظر في أمور الدنيا كافة، ولابد من كسر جميع القيود التي تكبل الفكر وتشله.
ـ وضوح الأهداف في الحركة الثقافية، فالثقافة وحركة الفكر الإنساني بشكل عام تكون قادرة على النمو والتطور بمقدار اقترابها وملامستها لأهداف واضحة ومحددة، والتكوين الثقافي لأي مجتمع لابد من أن يضع نصب عينيه معالجة مشاكل المجتمع.
ـ التخلص من التبعية الفكرية والثقافية، بكافة أشكالها وألوانها وأنواعها.
ـ التحرر من كل ما تراكم من بدع وضلالات وخرافة في العقل العربي عبر القرون.
ـ السعي الحثيث لنشر ثقافة حسن الاختيار، فالاختيار يكون صائبا بقدر ما يتفق مع معطيات الواقع.
ـ إشاعة الممارسات الجادة لعملية النقد والنقد الذاتي بصفتها مراجعة مستمرة للفكر والثقافة بهدف التقويم والارتقاء، وغيابها يعد من أهم أسباب تراجع الثقافة.
ـ التأكيد على ثقافة التعدد و التنوع، وعلى الاعتراف بالآخر، فكل حقيقة نسبية، ولكل فكرة تجلياتها الجزئية.
ـ إحياء فكرة الإعمار والدور الحضاري، التي هي من معطيات الثقافة العربية الإسلامية، انطلاقا من واجب الإنسان في الوجود.
ـ من أهم أسباب تراجع الثقافة عندنا غياب الحوار عن المشهد الفكري والثقافي، فمعظم المفكرين والمثقفين انقسموا في شلل ومجموعات فكرية ضيقة، وتقوقعوا على أنفسهم بدلاً عن القيام بدورهم الأساسي في أن يكونوا في الطليعة في نشر ثقافة الحوار وفي التصدي للمهام الثقافية والاجتماعية، وبعضهم للأسف أظهر نرجسية فكرية، الأمر الذي ساهم في عزله وانعزاله بدلاً عن الانفتاح على الآخرين وثقافتهم ومحاورتهم والقبول بالاختلاف الذي هو سنة الكون .
ـ لم يعد مستقبل الثقافة محصورا في إطار التعليم، على الرغم من أهميته الكبير، أو مقتصرا على مشكلة الكتاب، على الرغم من تصاعد دوره، وإنما أصبح المستقبل أفقا شاسعا ورحبا من الإمكانات المتعددة، والمستجدات المعرفية المتسارعة، التي تتعدد فيها وسائل التثقيف، والتي وصلت إلى درجة هائلة من الانتشار الإعلامي والجماهيري الذي لا حدود له .
وختاما نقول: إننا جميعا ـ وبلا استثناء ـ مسؤولون عن مستقبل الثقافة في عالمنا العربي، وعن هذه الحال من التردي التي وصلت إليه، ولا بد من العمل الجاد والمضني، بهدف جسر الهوة بين حاضرنا ومستقبلنا، وبين الإمكانيات والطاقات التي يختزنها شعبنا وأجيالنا القادمة، وسنقترب من النهوض الحضاري عبر وعي وإدراك الذات وتحرير قدراتها عن طريق العلم والفكر والمعرفة والنقد، وذلك لن يتحقق إلا بإعادة التصالح مع أنفسنا، وإعادة الاعتبار إلى كافة العناوين الفكرية والأسئلة الثقافية، وإعادة صياغة الوعي الجمعي بما يحقق الانحياز إلى مكونات الثقافة التي تنتج قيماً ومعرفة تدفع بشعبنا العربي إلى مصاف الشعوب المتقدمة .


*****








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فيلم شقو يضيف مليون جنيه لإيراداته ويصل 57 مليونًا


.. أدونيس: الابداع يوحد البشر والقدماء كانوا أكثر حداثة • فرانس




.. صباح العربية | بينها اللغة العربية.. رواتب خيالية لمتقني هذه


.. أغاني اليوم بموسيقى الزمن الجميل.. -صباح العربية- يلتقي فرقة




.. مت فى 10 أيام.. قصة زواج الفنان أحمد عبد الوهاب من ابنة صبحى