الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


كيف نتطور؟

عبد المجيد إسماعيل الشهاوي

2023 / 4 / 2
مواضيع وابحاث سياسية


يُقال إن حركتنا على الكوكب بدأت على أربع مثل دواب اليوم، ثم استقام بنياننا واقفاً كأوليات القردة الأكثر شبهاً لنا إلى أن بلغنا هيئتنا الواقفة الحالية. وحتى لا ننسى تاريخنا البعيد أو نتكبر عليه، كل واحد منا بلا استثناء قد مشي على أربع طوال أشهر عدة في مبتدئ العمر. ولما استوينا فوق ساقين ثابتتين، انطلقنا سائرين نستعمر الأرض طولاً وعرضاً. اتخذنا من أقدامنا وسيلة الحركة والترحال الوحيدة، إلى أقصى ما يمكنها أن تذهب بنا. لكن قدرتها، مهما بلغت، كانت وبقيت محدودة.

ثم اضطرتنا الظروف إلى ترويض محيطنا الحيّ المباشر لسد احتياجاتنا المتزايدة وتعويض محدودية قدرتنا الذاتية. فاتخذنا من الحمير والخيول والجمال سيقاناً لنا، أكثر قوة وسرعة وتحمل، لنقطع بواسطتها وعلى ظهورها مسافات أطول، وننقل أثقال أكبر، ما كان لنا طاقة أو تصور بها فيما مضى. بالطبع كان لمن حقق السبق في هذا الاكتشاف الثوري آنذاك سبق الريادة والغلبة والهيمنة على غيرهم من شعوب الأرض الآخرين. مع ذلك، ظل المشاة يستعملون أرجلهم بجوار الفرسان، ولم يُبطل التطور المستحدث الحاجة نهائياً إلى ما كان قائماً قبله. إذ رغم تبني وانتشار استخدام الدواب الحية وسيلة إعاشة وتنقل وترحال وعدوان أساسية، استمرت قيمة الأقدام البشرية محفوظة لكن مع إعادة التموضع في وظائف أخرى ربما فاقت في أهميتها ورقيها ما كان لها من قبل.

وحين لم تعد تكفينا قدرة الدواب الحية ولو بلغت ضخامة الأفيال، تحول تفكيرنا إلى مادة الطبيعة وقوانينها. نَجَّمنا في الأرض وحَفرنا في الجبال لاستخراج الأحجار والمعادن من كل نوع وصنف. ثم تعلمنا قوانين الطبيعة وسخرناها لكي نصنع بواسطتها الآلة. وكان لهذه الأخيرة تأثير السحر على حياتنا والكوكب كله، لننطلق إلى آفاق وذرى في الحضارة والعمران ما كان يتصورها أبداً حتى أعظم العباقرة في كل الأزمان الغابرة. حققناً تطوراً مذهلاً في العلوم التجريبية كافة ومن ضمنها الفيزياء وصناعة الآلات المتحركة والناطقة وحتى الذكية؛ وأصبح بمقدورنا ليس فقط السفر بسرعات بالغة على اليابسة، لكن أيضاً في الجو والبحر، لنقطع خلال ساعة واحدة ما كان يستغرق من الأجداد أشهراً وسنوات فوق ظهور الأحصنة والجمال، ونتبادل أطناناً لا حصر لها من السلع والبضائع في تجارة تجوب المعمورة شرقاً وغرباً وشمالاً وجنوباً ذهاباً وعودة بين عشية وضحاها.

وكنا جماعات متناثرة ومبعثرة غير منتظمة بالروابط والصلات الوثيقة، كل منا يعتمد على ساعديه لتدبير معاشه ولو على حساب غيره. ثم سكنا الأرض وأسسنا المسكن واتخذنا الزوجة وأنجبنا الذرية، لننتظم في وحدة متماسكة صغيرة؛ وكبرت الأسرة إلى بيت أكبر يضم مع الأب والأم أبنائهما وزوجاتهم وذريتهم، لتكبر وتتعضد أكثر روابط وصلات القربى والدم؛ وتجمعت البيوتات في عائلة أكبر؛ ثم العوائل المتعددة في قرية تجمعها روابط وصلات العيش المشترك والمصلحة والمصاهرة؛ وتوسعت القرية إلى مدينة؛ والمدن إلى قطر موحد يحمي الجميع ويدافع عنه الجميع؛ ثم اتحدت الأقطار المتجاورة معاً في تكتلات وتحالفات إقليمية تجمع بينها مصالح وروابط وصلات تجارية وثقافية وأمنية؛ ثم التقت هذه الأخيرة في منظمات واتحادات دولية- مثل الأمم المتحدة ومنظمة التجارة والصحة العالمية واتحاد مراسلين وأطباء بلا حدود- تشمل ولاياتها الاختصاصية قضايا تهم وتخدم سكان الكوكب بأسره. تطور تنظيم حياتنا من الفرد المنعزل التائه وسط الأدغال أو في كهوف الجبال إلى ذلك المتصل صوتاً وصورة ومعاشاً وصحة ومرضاً بالعالم أجمع. مع ذلك، كل هذا التطور المخيف في ولاءاتنا وانتماءاتنا لم يسلب منا خصوصيتنا كأفراد، أو تعلقنا بآبائنا وأمهاتنا وصغارنا، أو حنيننا إلى عائلاتنا وقرانا ومدننا الصغيرة وأوطاننا المحلية، أو ثقافتنا أو حضارتنا الأصلية. لكنه أعاد تعريف انتماءاتنا الأولية والتقليدية في صورة مستحدثة هي من نواحي كثيرة أكثر متانة ورقياً حتى من ذي قبل.

نحن منشأ التطور. ونتطور باستمرار لأننا نسعى باستمرار إلى المزيد. الذي كلما أدركنا منه بعضاً، ازداد سعينا أكثر إلى المزيد. في سعينا إلى المزيد من قدرة المشي والحركة، امتطينا الجياد؛ وفي طلب المزيد، المركبات؛ ومن أجل المزيد، الطائرات. حتى الحركة في محيط الكوكب كله لا تكفينا، لذا سافرنا إلى الفضاء؛ وإذا بلغناه، سنطلب المزيد. سعي لا ينتهي في طلب المزيد منشأه ومبتغاه الإنسان الفرد نفسه، الذي من دونه ما وجد التطور أصلاً وضاعت منه غايته.

وكل تطور يولد من رحم ما سبقه، ليغير نظرتنا لما قد ألفناه من قبل ويعيد تشكيله في صورة جديدة ووظيفة أكثر تطوراً ورقياً. اسأل الحصان: هل حالك اليوم تعدو في مضمار السباق وترقص وتتمايل على وقع الطبول والأنغام في الأفراح والمناسبات أفضل، أم حالك بالأمس تقطع الأميال مثقلاً بأحمال الراكبين وتجر العربات، وتخوض حروباً شرسة لا تجني منها سوى تلقي جسدك لوابل من السهام وضربات السيوف؟

رغم ذلك، هناك منا من لا يزال متمسك بإحياء السنن، يريد السفر للحج على ظهر الناقة إلى بلاد الحجاز. بينما في العصر الحاضر لم تعد الناقة وسيلة سفر، وبلاد الحجاز أصبحت مملكة سعودية.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. حديث إسرائيلي عن استمرار علمية رفح لمدة شهرين.. ما دلالات هذ


.. مجلس الأمن الدولي يعرب عن قلقه إزاء التقارير بشأن اكتشاف مقا




.. سلسلة غارات عنيفة تستهدف عدة منازل في شمال غزة


.. الجيش الإسرائيلي يوسع عملياته في رفح




.. الجيش الإسرائيلي يطالب بإخلاء مناطق جديدة في رفح وشمال غزة