الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


المكان والشخصية من خلال رواية -المباءة- لمحمد عز الدين التازي (الجزء الأول)

أحمد هيهات

2023 / 4 / 2
الادب والفن


تمهيد:
يشكل المكان عنصرا محوريا من عناصر بنية النص السردي عموما، وعلى مستوى النص الروائي على وجه الخصوص، وذلك أنه لا يمكن تصور وجود حكاية – بغض النظر عن طولها أو قصرها، أو بساطتها أو تركيبها – بدون وجود المكان الروائي، فلا وجود لأحداث خارج المكان كما لا توجد شخصيات خارج المكان، فكل حدث يأخذ وجوده الفعلي المتحقق في مكان محدد وزمان معين وبوجود شخصية أو شخصيات بعينها.
فالمكان هو ذلك الحيز الثابت المحسوس القابل للإدراك، والذي يشكل ظرفا وغلافا يحوي ويضم الأشياء المادية التي لا تستطيع تجاوز المكان والتموقع في اللامكان، كما أنها لا تستطيع الانفلات من الزمان، ولا تستطيع إثبات وجودها خارجه، ويختلف المكان الروائي عن المكانين المسرحي والسينمائي اللذين يدركان بالبصر بكونه يوجد من خلال الكلمات المطبوعة، وغالبا ما يلجأ القاص إلى طائفة من الإشارات وعلامات الوقف لتقوية سرده، وينشأ عن التقاء فضاء الألفاظ بفضاء الرموز فضاء جديد هو الفضاء الموضوعي للكتاب أي فضاء الصفحة والكتاب حيث يلتقي وعي الكاتب بوعي القارئ .
وفي تعريفه للمكان يقول الباحث السيميائي يوري لوتمان "هو مجموعة من الأشياء المتجانسة (من الظواهر أو الحالات أو الوظائف أو الأشكال المتغيرة ...) تقوم بينهما علاقات شبيهة بالعلاقات المكانية المألوفة العادية مثل الاتصال المسافة" .
وعموما لا يمكن الفصل بين مكونات النص السردي إلا من باب التعسف والفصل المنهجي من أجل تحقيق أهداف البحث والتقصي والدراسة العلمية، وليس بهدف التفضيل وترجيح عنصر على عناصر أخرى من عناصر البناء الفني للرواية، ومن ثمة تظهر الأهمية الكبرى لمختلف هذه العناصر، غير أن الدراسة العلمية تفرض علينا التركيز على عنصر أو أكثر في مقابل تجاوز عناصر أخرى في انتظار تسليط الضوء على هذه الأخيرة في مناسبات أخرى.
وفي هذه الفقرات سنحاول الوقوف عند العلاقة الجدلية التي تجمع بين عناصر البناء الفني للعمل الروائي، وسنركز بالخصوص على علاقة المكان بالشخصية، وذلك بهدف تسليط الضوء على التفاعل الحاصل بين هذه العناصر وما ينجم عنه من تطور العمل الروائي وتشكل الحبكة التي تنتظم العلاقة بينها.
وسنعمل على تسليط الضوء على علاقة المكان بالشخصية، محاولين الوقوف عند التعاضد والتساند الذي يميز التفاعل بين مكونات العمل السردي، وما ينجم عنه من تماسك هذا العمل وانسجامه، وتوفقه في تبليغ الرؤية الفنية التي يصدر عنها مؤلف العمل الروائي.
علاقة المكان بالشخصية:
يمثل المكان عنصرا أساسيا من عناصر بناء الشخصية الروائية، فلا يمكن أن توجد الشخصية في غياب المكان، لأن المكان هو الفضاء الذي تتحرك فيه الشخصية، والحيز الذي تعمل فيه وتشارك من خلاله في الأحداث، وبالتالي فإن المكان شأنه شأن الزمان له أهمية بالغة في المساهمة والمساعدة على بناء الشخصية الروائية.
فالمكان إذن يشكل الفضاء الأساس لحركة الشخصية وممارسة أفعالها والمشاركة في الأحداث التي تضفي عليها وجودا فنيا، وبالتالي فإن الأماكن عموما، وخصوصا "أماكن الانتقال فتكون مسرحا لحركة الشخصيات وتنقلاتها، وتمثل الفضاءات التي تجد فيها الشخصيات نفسها كلما غادرت أماكن إقامتها الثابتة، مثل الشوارع والأحياء والمحطات وأماكن لقاء الناس خارج بيوتهم كالمحلات والمقاهي" .
كما أنه لا يمكننا أن نفصل بين المكان وبين تجربة الانسان في الحياة وفي الوجود، وذلك باعتبار المكان فضاء مركزيا وضروريا لعيش الانسان من جانبه الموضوعي، أو من الجانب الرمزي الذي يحتل مساحة مهمة من تفكير الانسان ومن خياله، وكذلك من خلال أحلام الإنسان أثناء اليقظة وأثناء النوم، ومن خلال عمل الذاكرة وممارسة فعل التذكر والاسترجاع.
وفي كل هذه الأفعال والممارسات ينسج الإنسان علاقات مختلفة بالمكان منها علاقات الألفة والعادة والشوق والحنين، ومنها علاقات النفور والعداء والكراهية، وفي هذا السياق نستحضر تركيز غاستون باشلار على قيمة الحماية التي توفرها أماكن العادة والألفة بقوله: "قيمة الحماية التي يملكها المكان والتي يمكن أن تكون قيمة إيجابية، قيمة متخيلة سرعان ما تصبح هي القيم المسيطرة، إن المكان الذي ينجذب نحوه الخيال لا يمكن أن يبقى مكانا لا مباليا، ذا أبعاد هندسية فحسب، فهو مكان قد عاش فيه بشر ليس بشكل موضوعي فقط، بل بكل ما في الخيال من تحيز، إننا ننجذب نحوه لأنه يكثف الوجود في حدود تتسم بالحماية" .
وفي مقابل قيمة الحماية التي توفرها أماكن الألفة والعادة تحضر قيم الخوف والقلق والاضطراب والتوتر والصراع في الأماكن التي تجمعها بالإنسان علاقات عداء وكراهية، وبالتالي فإن المكان المتسم بالصراع والعداء والكراهية "لا يمكن دراسته إلا في سياق الموضوعات الملتهبة انفعاليا، والصور الكابوسية" .
ومن أوضح مظاهر علاقة المكان بالشخصيات في العمل الروائي ذلك الأثر الكبير الذي يحدثه المكان على الشخصية، وينتج عنه تغير كبير في ممارسات الشخصيات وسلوكاتها، ومن أهم هذه الآثار تمتع الشخصيات بحريتها أو فقدانها والتنازل عنها بالنظر إلى طبيعة المكان الذي تكون فيه هذه الشخصيات، فعندما تكون الشخصية مثلا في بيتها فإنها تمارس حريتها بصورة كاملة لا يشوبها نقص ولا يعكر صفوها شيء.
ولكن ما إن تخرج الشخصية من بيتها حتى تبدأ الحرية في التأثر فيضيق الهامش الذي كان متاحا في البيت، وإن كانت هناك مفارقة تظهر من خلال الارتباط الطردي والعكسي بين حجم المكان اتساعا وضيقان وهامش حرية الشخصية زيادة ونقصانا.
فرغم ضيق البيت ومحدودية مساحته تتسع حرية الشخصية، وبالمقابل يؤدي اتساع الأماكن العامة إلى ضيق هامش حرية الشخصية، فما إن تخرج الشخصية من بيتها حتى تتسع مساحات المكان، وتبدأ الشخصية في التنازل عن حريتها بسبب الخضوع لسلطة المكان، والأماكن عموما هي مجموعة من المساحات المختلفة "وهذه المساحات دوائر متراكزة تتسع من حيز فردي يمارس فيه الفرد حياته اليومية، إلى حيز جماعي تنظمه الجماعة لتحافظ على تماسكها وتناغمها، إلى حيز قومي تحارب الدول لحمايته، إلى حيز كوني" .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. عام على رحيل مصطفى درويش.. آخر ما قاله الفنان الراحل


.. أفلام رسوم متحركة للأطفال بمخيمات النزوح في قطاع غزة




.. أبطال السرب يشاهدون الفيلم مع أسرهم بعد طرحه فى السينمات


.. تفاعلكم | أغاني وحوار مع الفنانة كنزة مرسلي




.. مرضي الخَمعلي: سباقات الهجن تدعم السياحة الثقافية سواء بشكل