الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


رواية للفتيان شترا و ريشيا طلال حسن

طلال حسن عبد الرحمن

2023 / 4 / 3
الادب والفن


رواية للفتيان







شترا و ريشيا







طلال حسن






شخصيات الرواية
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ الملك
2 ـ الملكة
3 ـ الوزير العجوز
4 ـ شترا الوصيفة
5 ـ ديفاياني خطيب شترا
6 ـ الطبيب
7 ـ ريشيا الكاهن الشاب
8 ـ فيبانداكا والد ريشيا
9 ـ ساكوني الصياد









" 1 "
ــــــــــــــــــ
في وقت مبكر من الصباح ، أسرع الوزير العجوز
إلى القصر ، فقد جاءه الضابط الشاب ديفاياني ، قبل شروق الشمس ، وقال له : جلالة الملك يريك فوراً ، يا سيدي .
ولأنه يعرف سبب استدعائه " فوراً " ، فقد قال الوزير العجوز لديفاياتي : اذهب أنت إلى الطبيب ، وقل له أن يوافيني ، على جناح السرعة ، في القصر .
ودخل الوزير العجوز غرفة الملك ، وكان محقاً في
تخمينه ، فقد كان الملك ، يرقد في فراشه متعباً ، شاحب
الوجه ، وإلى جانبه الملكة والوصيفة شترا .
ونظر الملك إلى الوزير العجوز ، وقال : تأخرت .. يا وزيري .
واقترب الوزير العجوز منه ، وقال : عفواً مولاي ، لم
أعد شاباً .
ثم نظر إلى الملكة ، وانحنى قليلاً ، وقال : طاب صباحك ، يا مولاتي .
فردت الملكة قائلة : طاب صباحك .
والتفت الوزير العجوز إلى الملك ، وقال : لا تقلق ، يا مولاي ، أنت بصحة جيدة .
وتنهد الملك بوهن ، فقالت الملكة بصوت متعب : لم ينم جلالته طوال الليل .
وقال الوزير العجوز : لكن الطبيب ، وهو كما تعرفين ، يا مولاتي ،طبيب مشهور ، يقول دائما ، إن الملك لا يعاني من مرض ما .
فقالت الملكة : مع ذلك فجلالة الملك لا يتعافى ، بل يذبل يوماً بعد يوم .
وصمت الوزير العجوز لحظة ، ثم قال : أرسلت في
طلب الطبيب ، وسيأتي بعد قليل .
واتجهت الملكة إلى الخارج ، وقالت : لننتظر في الخارج ، ريثما يأتي الطبيب .
وقبل أن تخرج ، مع الوزير العجوز ، قالت لشيترا :
أبقي هنا ، إلى جانب جلالة الملك .
فردت شترا قائلة : أمر مولاتي .

" 2 "
ـــــــــــــــــــــ
أقبل الطبيب مسرعاً ، يرافقه الضابط الشاب ديفاياني ، وأسرعت الملكة والوزير العجوز إليه ، وأخذاه إلى غرفة قريبة ، وأسرع ديفاياني في أثرهم إلى داخل الغرفة ، وأغلق الباب .
ونظر الطبيب إلى الملكة والوزير العجوز ، وقال : أظن أنكم دعوتموني ، من أجل جلالة الملك .
فقالت الملكة : جلالة الملك كعهدك به .
ورمق الطبيب الوزير العجوز ، وتمتم : آه .
وتابعت الملكة قائلة : ليلة البارحة لم ينم مطلقاً .
فقال الطبيب : وكالعادة ، يا مولاتي ، يتألم ويعاني ويشكو من لا شيء .
فقالت الملكة : لكنه يذبل ، ولابد من علاج ، إنني أخشى أن يكون ..
فقال الطبيب : جلالة الملكة ..
وقاطعه الوزير العجوز قائلاً : حدثتُ جلالة الملكة عن الكاهن الشاب المعجزة ريشيا .
ونظر الطبيب صامتاً إلى الملكة ، فقالت : المهم عندي أن يشفى جلالة الملك .
فقال الطبيب : مولاتي ، هناك مرضى لا يعانون من مرض بدني ، لن تشفيهم الأدوية والعقاقير ، ولا مباضع الأطباء الجراحين .
وعلق الوزير العجوز قائلاً : تشفيهم شخصيات معجزة ، مثل الكاهن الشاب ريشيا .
ونظرت الملكة إلى الطبيب ، وقالت : حسن ، استدع ِ هذا الكاهن الشاب ، لعلّ وعسى .
فقال الطبيب : مولاتي ، ريشيا هذا هو كاهن شاب ، يعيش حياة العفة الكاملة ، ولديه قوة خاصة من خلال زهده ، وهو ابن الكاهن المعروف فيبانداكا ، الذي يعيش في غابة بعيدة ، تقع في أعلى النهر الكبير ، على بعد عدة أيام من هنا .
وقالت الملكة : مهما يكن ، فلندعهُ ، إن جلالة الملك بأمس الحاجة إليه .
واستطرد الطبيب قائلاً : ليست هنا المشكلة ، ولكن من يقنع الكاهن الشاب ريشيا بالحضور ، لمعالجة جلالة الملك ، إنه لم يغادر غابته مطلقاً ، ويقال إنه لم يرَ في تلك الغابة البعيدة إلا الكهنة .
والتمعت عينا الوزير العجوز ، وقال : لنرسل له فتاة شابة ، لعلها تقنعه بالمجيء .
وتمتمت الملكة مندهشة : فتاة !
فقال الطبيب : يا لها من فكرة .
وصمت لحظة ، ثم قال : لكننا سنكون بحاجة إلى فتاة شابة ، ذكية ، جريئة ، و .. ترى من أين لنا مثل هذه الفتاة ؟
وصاح ديفاياني : موجودة ..
ونظر الجميع إليه ، فقال : شترا .

" 3 "
ــــــــــــــــــــ
لاحظت الملكة ، عند منتصف الليل ، أن الملك غفا أخيراً ، بعد أن أنهكه الأرق ، فنظرت إلى شترا ، وأشارت لها أن اتبعيني .
ونهضت شترا بهدوء ، وبهدوء أشد تبعت الملكة إلى الخارج ، بعد أن أغلقت الباب بهدوء شديد ، كي لا يفيق الملك من نومه .
وقادتها الملكة ، إلى نفس الغرفة ، التي تحدثت فيها صباحاً ، مع الطبيب والوزير العجوز ، والضابط الشاب ديفاياني .
وجلست الملكة ، وأشارت لشترا : اجلسي .
وجلست شترا مترددة ، فقالت الملكة : شترا ..
وقالت شترا : نعم مولاتي .
فقالت الملكة : أنتِ تعرفين أنك المفضلة عندي ، وأنني أعتمد عليك ، في المهام الصعبة .
ورمقت شترا الملكة بنظرة عرفان سريعة ، وقالت : أعرف هذا وأقدره ، يا مولاتي ، وأرجو أن أكون عند حسن ظنك .
وتابعت الملكة قائلة : أنتِ الوحيدة ، التي تدخل على جلالة الملك ، وتقترب منه .
فقالت شترا بصوت خافت : هذا شرف كبير لي ، يا مولاتي .
ونظرت الملكة إليها ، وقالت : شترا ، جلالة الملك بأمس الحاجة إليك الآن .
ورفعت شترا عينيها إلى الملكة ، ونظرت منتظرة ، فقالت الملكة : جلالة الملك ، كما تعرفين ، مريض منذ زمن ، وقد عجز جميع الأطباء في معالجته ، ولن يستطيع شفاءه إلا ريشيا .
وتمتمت شترا مذهولة : ريشيا !
وتابعت الملكة قائلة : وقد اخترناكِ أنتِ ، لتذهبي إليه في معتزله ، وتأتي به .
وفغرت شترا فاها متمتمة : أنا !
فقالت الملكة : نعم أنتِ ، يا شترا ، ولا أحد غيرك .
ولاذت شترا بالصمت ، فقالت الملكة : ديفاياني هو الذي اقترحك ، وكان اقتراحه في مكانه ، فأنتِ حقاً جديرة بهذه المهمة الصعبة .
ونهضت الملكة ، وقالت : سنهيىء كلّ شيء خلال أيام قليلة ، ونوضح لك مهمتك بالتفصيل ، لتبدئي الرحلة إلى حيث يقيم الكاهن .. ريشيا .
ونهضت شترا ، وانحنت للملكة ، وقالت : سمعاً وطاعة ، يا مولاتي .

" 4 "
ــــــــــــــــــــ
أقبلت الملكة ، قبيل المساء ، على الملك ، وهو راقد يئن في فراشه ، وشترا إلى جانبه ، متأهبة لخدمته ، وتلبية كلّ ما يحتاج إليه .
ونظرت الملكة إلى شترا ، فأسرعت شترا إليها متمتمة : مولاتي .
فمالت الملكة عليها ، وقالت بصوت هامس : اذهبي ، سأبقى إلى جانب جلالته ، حتى تعودي .
ونظرت شترا إليها متسائلة ، فقالت الملكة : ديفاياني ينتظرك في الحديقة ، هيا أسرعي .
وهمت شترا أن تتجه إلى الخارج ، فقالت الملكة : لا تتأخري ، يا شترا .
وأحنت شترا رأسها ، وقالت : أمر مولاتي .
وأسرعت إلى الخارج ، وأغلقت الباب بهدوء ، ومضت فوراً إلى الحديقة ، لمقابلة ديفاياني ، أم لتوديعه .. ؟ فما عرفته أن الاستعدادات للسفر إلى أعلى النهر ، حيث يقيم ريشيا ، تمت تقريباً .
ولمح ديفاياني شترا مقبلة ، فأسرع إليها باشاً ، وقال : طاب مساؤك ، يا شترا .
وتوقفت شترا قبالته ، وردت قائلة : طاب مساؤك ، يا ديفاياني .
وتابعت مبتسمة : جلالة الملكة ، قالت لي قبل قليل ، أنك تنتظرني هنا .
ومدّ ديفاياني يديه ، وأمسك بيدي شترا ، وقال : أنا طلبت ذلك من جلالة الملكة .
وصمت لحظة ، ثم قال : غداً تبدئي السفر ، إلى أعلى النهر ، ولم أحتمل أن تسافري ، وتبتعدي عني ، دون أن أودعكِ .
ونظرت شترا إليه ، وقالت : ديفاياني ..
وتطلع ديفاياني إليها مبتسماً ، فتابعت شترا قائلة : إنني خائفة ، خائفة يا ديفاياني .
ودمعت عينا شترا ، فمشت مبتعدة ، ومشى ديفاياني في أثرها ، وقال : لا ، لا داعي للخوف ، يا شترا ، بل لكِ أن تفرحي ، فأنا فرح .
والتفتت شترا إليه ، دون أن تتفوه بكلمة ، فقال ديفاياني : فكري في ما سنحصل عليه ، أنا وأنتِ طبعاً ، في نهاية هذه المهمة .
وتوقف ناظراً إلى البعيد ، وقال كأنما يحدث نفسه : سأصل إلى القمة ..
والتفت إليها ، وتابع قائلاً : أنا وأنتِ طبعاً .



" 5 "
ـــــــــــــــــــ
في اليوم التالي ، قبيل منتصف النهار ، دعا الوزير العجوز الوصيفة شترا ، وكان برفقته ديفاياني ، وقال لها بصوت خافت : تعالي معي ، يا شترا .
وسارت شترا وراءه ، وإلى جانبها سار ديفاياني ، فقال الوزير العجوز : سأعرفك بالصياد ، الذي سيأخذك إلى أعلى النهر ، حيث تلتقين بالكاهن الشاب ريشيا .
ولاذت شترا بالصمت ، فمال عليها ديفاياني ، وهمس لها قائلاً : أعرف هذا الصياد جيداً ، إنه رجل قوي ، شجاع ، شهم ، وأنا مطمئن إليه ، فاطمئني .
وأمام غرفة ، في طرف القصر ، توقف الوزير العجوز ، وقال : الطبيب معه الآن ، فهو يعرفه جيداً ، تعالي لتعرفي رفيقك في السفر .
ودفع الوزير العجوز الباب ، وإذا هي أمام الطبيب ، وإلى جانه يقف رجل في أواسط العمر ، تنم ملامحه عن قوة ، لا تخلو من طيبة ، واستقبلها الطبيب محيياً : طاب صباحكِ ، يا شترا .
وردت شترا ، وهي ترمق الصياد بنظرة سريعة : طاب صباحك ، يا سيدي .
وأشار الطبيب إلى الصياد ، وقال : الصياد ساكوني ، وسيرافقك إلى الكاهن الشاب ريشيا .
وانحنى الصياد قليلاً لشترا ، وقال بصوت هادىء : هذا شرف لي ، يا سيدتي .
ونظرت شترا إليه ، وقالت : أشكرك .
وقال الصياد : ستتمتعين كثيراً في هذه الرحلة ، صحيح أن الطريق طويل ، لكنه غاية في الجمال .
ولاذت شترا بالصمت ، فقال الطبيب : أوضحت للصياد ، طبيعة مهمتك ، وسيكون لك عوناً في كلّ شيء ، حتى تصلي إلى ريشيا .
ورمق ديفاياني الطبيب والوزير العجوز بنظرات سريعة ، وقال : شترا أيضاً قوية ، وشجاعة ، رغم ما يبدو عليها من رقة ، وستكون عند حسن ظنكم .
وصمت ديفاياني ، وشعر بالحرج ، إذ لم يلتفت إليه أحد ، وقال الطبيب : الصياد ساكوني عاش سنين طويلة في الغابة ، وعلى امتداد النهر العظيم ، وقد التقى في جولاته بالعديد من الزهاد والكهنة ، وهو يعرف أبا ريشيا ، وقد بات عنده مرة .
ونظر الصياد إليها ، وقال : وأعرف الكاهن الشاب ريشيا نفسه ، وقد رأيته مع أبيه ، عندما كان طفلاً صغيراً .
وأطرقت شترا رأسها ، فقال الطبيب : نريد همتك ، يا شترا ، فجلالة الملك بأمس الحاجة إليك ، ولن يشفيه غير هذا الكاهن الشاب ريشيا .
فقالت شترا ، دون أن ترفع رأسها : سأبذل قصارى جهدي ، يا سيدي .
وخاطب الوزير العجوز الطبيب قائلاً : الأمر صار واضحاً تماماً ، على ما أعتقد .
فقال الطبيب : نعم ، هذا كلّ شيء .
فقال الوزير العجوز : حسن ، ستبدأ الرحلة إذن ، غداً صباحاً ، عند شروق الشمس .

" 6 "
ــــــــــــــــــــ
عند شروق الشمس ، في اليوم التالي ، ودعت الملكة جاريتها شترا ، أمام باب القصر ، بحضور ديفاياني والطبيب والوزير العجوز .
وربتت الملكة على كتف شترا ، وقالت : شترا .
وردت شترا : مولاتي .
فقالت الملكة : أنتظر قدومك ، ومعك الكاهن ريشيا .
فقالت شترا : بعون الآلهة ، يا مولاتي .
فقالت الملكة : اذهبي ، يا شترا ، ولترعكِ الآلهة .
واستدارت الملكة ، ودخلت القصر ، وهي تقول : جلالة الملك وحده الآن ، سأذهب إليه .
ومشى الطبيب والوزير العجوز ، ومشت إلى جانبهما شترا وخطيبها ديافاني ، وتوقف الطبيب والوزير عند الباب الخارجي ، وتوقف أيضاً ديفاياني وشترا .
والتفت الوزير العجوز إلى شترا ، وقال : أتمنى لكِ التوفيق ، يا شترا .
فردت شترا قائلة : أشكرك ، يا سيدي .
وقال الطبيب : جلالة الملك يتطلع إليكِ ، يا شاترا ، وشفاؤه مرهون بنجاحك .
فردت شترا قائلة : لن أدخر جهداً ، يا سيدي .
وقال الطبيب ، وهو يربت على كتفها ، وقال : اذهبي الآن ، رافقتك السلامة .
وقال الوزير العجوز ، مخاطباً ديفاياني : خذها إلى القارب ، إن الصياد ساكوني ينتظرها هناك .
فقال ديفاياني : سمعاً وطاعة ، يا سيدي .
ثم التفت إلى شترا ، وقال : هيا يا شترا .
وسار ديافاني وشترا متجهين إلى النهر ، فاستدار الطبيب والوزير العجوز ، ومضيا إلى داخل القصر ، وقال الطبيب : أرجو لها النجاح .
فعلق الوزير العجوز قائلاً : المهمة ليست سهلة ، وهي فتاة شابة ، فلتعنها الآلهة .
فقال الطبيب : لابد أن تنجح ، فشفاء جلالة الملك يتوقف على نجاحها .
ومال ديافاني على شترا ، وهما يسيران جنباً إلى جنب ، متجهين إلى النهر ، وقال : شترا ..
ونظرت شترا إليه ، دون أن تتفوه بكلمة ، فتابع ديافاني قائلاً : حاولي جهدك أن تقنعي هذا الكاهن ، بأن يرافقك إلى القصر لمعالجة الملك .
وردت شترا بدون حماس : سأحاول ..
وقاطعها ديافاني متابعاً فكرته : إنه شاب خام ، وأنت فتاة ، فتاة جميلة ، أقنعيه بأية وسيلة ممكنة .
ونظرت شاترا إليه مستغربة ، حائرة ، وواصلت سيرها صامتة ، ولاح النهر من بعيد ، وعلى شاطئه يرسو زورق كبير ، في وسطه ما يشبه الصومعة ، لابد أنها مهيئة لها ، ومضت شترا منحدرة نحو النهر ، وديفاني يحث خطاها في أثره .


" 7 "
ــــــــــــــــــــــ

انطلق الزورق الكبير ، مبتعداً عن الشاطىء ، ووقفت شترا جامدة قرب الصومعة ، تكاد لا تعي ما يدور حولها .
واستدار ديافاني ، بعد أن ابتعد الزورق ، وغابت شترا وراء الصومعة ، وقفل عائداً إلى القصر ، ليلحق بالطبيب والوزير العجوز .
وراح الزورق الكبير ، ينساب وسط النهر ، وشيئاً فشيئاً راحت معالم المدينة تبتعد وتتراجع إلى الوراء ، حتى اختفت تماماً ، ولم يعد حول شترا غير الماء والسماء الزرقاء ، التي تتسلقها شمس النهار الساطعة .
وترك الصياد ساكوني الدفة ، واقترب من شترا ، وقال : أرجو أن تكوني مرتاحة ، يا سيدتي .
ونظرت شترا إليه مبتسمة ، دون أن تتفوه بكلمة ، فقال الصياد ساكوني ، قبل أن يعود إلى مكانه وراء الدفة : إذا شعرتِ بالتعب ، يا سيدتي ، فيمكنك أن تدخلي الصومعة وترتاحي .
وهذا ما فعلته شترا ، عندما ارتفعت الشمس في السماء ، قرابة منتصف النهار ، وتمددت على الفراش ، وأغمضت عينيها المتعبتين .
لم تنم ، ولم ترد أن تنام ، فقد كانت منشغلة بأمور كثيرة ، لا تدع النوم يقترب من عينيها ، وتراءى لها ديفاياني ، يقف على الشاطىء ، ثم يستدير على عجل ، ويقفل عائداً إلى القصر .
وتردد في داخلها ما قاله لها ، وهما يسيران جنباً إلى جنب ، متجهين إلى النهر " حاولي جهدك أن تقنعيه ، بأن يرافقك إلى القصر ، لمعالجة الملك .
وتضخم في داخلها صوته قائلاً ، وكأنه يغويها : إنه شاب خام ، وأنت فتاة ، فتاة جميلة ، أقنعيه بأية وسيلة ممكنة .
واعتدلت شترا في فراشها ، وراحت تراقب ماء النهر ، من نافذة صغيرة في الصومعة ، وهي تتداعى إلى الوراء ، ومعها تتداعى أحداث الأيام الماضية ، التي تكاد لا تصدق .
الملك ، الملكة ، الطبيب ، الوزير العجوز ، و .. ديفاياني ، ثم الكاهن الشاب ريشيا ، الذي لا يعرفه أحد غير الصياد ساكوني .يا للمهمة الصعبة ، والغريبة ، التي أوكلت إليها ، وثانية تردد في أعماقها فحيح ديفاياني : أنت فتاة ، فتاة جميلة ، أقنعيه بأية وسيلة ممكنة .
وانتبهت شترا إلى الصياد ساكوني ، يناديها من الخارج : سيدتي ..
والتفتت نحو مصدر الصوت ، ونهضت من فراشها ، حين جاءها الصوت ثانية : سيدتي ..
وفتحت شترا الباب ، فتراجع الصياد ساكوني قليلاً ، وقال : عفواً سيدتي .
وابتسمت شترا له ، وقالت : تفضل .
فقال الصياد ساكوني متردداً : لقد تجاوز النهار منتصفه ، وأردت أن أعرف ، يا سيدتي ، إذا كنت تريدين أن أعد طعام الغداء الآن .
وابتسمت شترا ، وقالت : أعده إذا كنت قد جعتَ .
وبدا شيء من الارتباك على الصياد ساكوني ، وقال : عفواً ، سأعده إذا ..
فقاطعته شترا مبتسمة : أعده ، وسنتغدى معاً ، فأنا وأنت رفيقا سفر ، في هذا الزورق .
وردّ الصياد متردداً : لكن ، يا سيدتي ..
فقالت شترا : تعال نعد الطعام معاً .

" 8 "
ــــــــــــــــــــ
قبيل المساء ، قاد الصياد ساكوني الزورق نحو الشاطىء ، وربطه بحبل إلى شجرة ضخمة قريبة ، ثم التفت إلى شترا ، وقال : هذا مكان هادىء ، وأرى أن نقضي الليل هنا .
فقالت شترا : إنه مكان ملائم فعلاً .
وأعدا الطعام ، وجلسا متقابلين يتعشيان ، وهما يتبادلان الحديث ، وبعد العشاء ، قال الصياد ساكوني : الجو دافىء ، وسيبزغ القمر بعد قليل .
وقالت شترا : إنني أحب أن أتأمل القمر ، وخاصة عندما يكون بدراً .
فقال الصياد ساكوني : سيكون القمر بدراً تقريباً ، هذه الليلة ، يا سيدتي .
وهمّ الصياد ساكوني بالنهوض ، وهو يقول : سأضيء القنديل إذا أردت .
فقالت شترا : لا داعي للقنديل ، يا ساكوني ، مادام القمر سيبزغ بعد قليل .
وجلست شترا متكئة بالصومعة ، واتكأ الصياد ساكوني بحافة الزورق ، وراحا يتطلعان إلى الغابة ، التي يلفها الظلام ، وقال الصياد ساكوني : هذه الغابة ، تمتد حتى الجبل الأخضر ، وتكاد تخلوـ ويا للعجب ـ من الحيوانات الضارية .
وأنصتت شترا إلى الصياد ساكوني ، وهو يتحدث عن حيوانات الغابة ، وعن جولاته فيها منذ صغره ، وقال لها ، إنه طالما التقى بالكهنة والزهاد ، الذين يعيشون فيها ، منقطعين للزهد والتعبد .
وصمت الصياد ساكوني ، حين بزغ القمر ، مطلاً من فوق أشجار الغابة ، وتطلعت شترا إلى القمر متمتمة بذهول : آه ، يا للآلهة ، وكأنه ليس نفس القمر ، الذي يطل علينا من سماء المدينة .
وابتسم الصياد ساكوني ، فنظرت شترا إليه ، وقالت : أخبرني ، يا ساكوني ..
فقال الصياد ساكوني : نعم ، يا سيدتي .
فقالت شترا : أنت تعرف أين نحن ذاهبان ، ولماذا ..
فقال الصياد ساكوني : نعم ، يا سيدتي ، نحن ذاهبان إلى الراهب الشاب ريشيا .
فقالت شترا : حدثتني بكل ما تعرفه عنه إذن .
وأطرق الصياد ساكوني رأسه ، ثم نظر إليها ، وقال : قبل أن أعرفه ، عرفت أباه الكاهن المعروف فيبانداكا ، الذي كان متألقاً مثل براهما الخالق ، وقد دعاني يومها للمبيت عنده ، فعرفت ابنه ريشيا ، وكان وقتها طفلاً صغيراً ، ربما في السادسة من عمره .
وصمت الصياد ساكوني ملياً ، ثم قال : عاش ريشيا في كنف والده ، بعيدا ليس فقط عن الناس العاديين ، بل بعيداً حتى عن الكهنة ، حتى أنه لم يعرف أحداً ، بحسب علمي ، غير والده .
وقالت شترا متعجبة : هذا يعني أنه لم يرَ امرأة أو فتاة في حياته .
فقال الصياد ساكوني : هذا ما أعرفه ، يا سيدتي .
وقالت شترا : أمر غريب ، لكني لا أظن ، أن جميع الكهنة ، في هذه الغابة ، على هذه الشاكلة .
فقال الصياد ساكوني : بالعكس ، يا سيدتي ، إن الكهنة ، رغم حبهم للعزلة ، فإنهم يختلطون مع بعضهم ، ويتبادلون الزيارات ، حتى أن والد ريشيا الكاهن فيبانداكا ، قلما يبقى طويلاً في صومعته ، وخاصة بعد أن كبر ابنه ريشيا ، وغدا شاباً ، فيتركه وحده في الصومعة ، ويزور الكهنة الآخرين ، في مختلف أنحاء الغابة ، ويبقى عندهم أسابيع عديدة .

" 9 "
ـــــــــــــــــــــ
أفاق الصياد ساكوني مبكراً ، في اليوم التالي ، وحلّ الحبل المشدود إلى الشجرة ، وجعل الزورق ينساب إلى وسط النهر ، وراح يتهادى مع التيار .
وبعد شروق الشمس ، أفاقت شترا ، وهبت واقفة ، وخرجت من الصومعة ، وإذا الصياد ساكوني وراء الدفة ، فابتسم لها ، وقال : صباح الخير .
وردت شترا مبتسمة : صباح النور .
وقال الصياد ساكوني : أعددت طعام الفطور ، لي ولكِ ، أرجو أن يعجبك .
فهزت شترا رأسها ، وقالت : آه منك .
وجلسا متقابلين ، يتناولان طعام الفطور ، ويتبادلان الحديث ، وقالت شترا : اسمعني ، يا ساكوني ، نحن رفيقي سفر ، لنقتسم العمل بيننا .
فقال الصياد ساكوني : كما تشائين .
فقالت شترا : إعداد الطعام من حصتي .
فقال الصياد ساكوني مازحاً : يبدو أن طعامي لم يعجبكِ ، يا سيتي .
فردت شترا قائلة : بالعكس ، إعدادك للطعام ، أفضل من إعدادي له .
فقال الصياد ساكوني : حسن ، أتركي لي إعداد طعام الفطور ، فأنا أستيقظ عادة قبلك .
وهزت شترا رأسها مبتسمة ، وقالت : اتفقنا .
وقد التزم الصياد ساكوني وشترا بما اتفقا عليه ، وأعدت شترا ، في ذلك اليوم ، وفي اليوم التالي ، طعام الغداء والعشاء ، بينما أعد الصياد ساكوني طعام الفطور ، وانصرف بقية النهار للعمل وراء الدفة .
وبعد العشاء ، تعود الصياد ساكوني وشترا ، على الجلوس معاً ، في ضوء القمر ، يتسامران ، ويتبادلان الحديث ، في أمور شتى .
حدثها الصياد ساكوني ، عن طفولته ، وعن أبيه ، الذي علمه الصيد ، في البر والنهر ، وعرفه على عالم الغابة ، وحين رحل أبوه ، وكان ساكوني ما يزال شاباً ، لم يهجر الغابة ، بل راح يتوغل فيها أكثر وأكثر ، وتعرف على معظم الكهنة فيها ، بمن فيهم الكاهن المعروف فيبانداكا والد الكاهن الشاب ريشيا .
ومن جهتها ، حدثته شترا عن حياتها في القصر ، وعلاقتها الطيبة بالملك والملك ، وعن ديفاياني ، وتقربه منها ، حتى غدا بحكم خطيبها ، ولهذا فقد قربه الملك والملكة ، وصارا يعتمدان عليه ، في أمور كثيرة ، لها علاقة بالنهر أو الغابة .
وطلبت شترا من الصياد ساكوني ، أكثر من مرة ، أن يحدثها عن الكاهن الشاب ريشيا ووالده فيبانداكا ، وفيما قاله الصياد ساكوني عن لريشيا : حين عرفته ، كما قلت سابقاً ، كان طفلاً ، وكان رقيقاً ، هادئاً ، شفافاً ، خجولاً ، قلما يتكلم ، إلا إذا سُئل ، وعندئذ يجيب بكلمات قليلة ، لكن ذكية ووافية ، وأبوه فيبانداكا رجل حكيم ، ووسيم ، لكن ريشيا كان لا يشبهه ، وأكثر وسامة منه .
ونظرت شترا إليه ، وقالت : الملكة أعطتني ملابس زاهية ، وحلي من الذهب ، وأحجاراً كريمة ، لألبسها حين أذهب لمقابلة الكاهن ريشيا .
وأطرق الصياد ساكوني رأسه ، ثم نظر إليها ، وقال : أنت فتاة صغيرة ، وجميلة ، والكاهن ريشيا ، على ما أعرف ، لم يرَ فتاة في حياته .

" 10 "
ـــــــــــــــــــــ
في اليوم الرابع ، قبل غروب الشمس ، قاد الصياد ساكوني الزورق إلى الشاطىء ، ونظر إلى أعلى الأشجار الكثيفة المتطاولة ، التي تغطي سفح الجبل الأخضر ، وقال : سيدتي ، لقد وصلنا .
ورفرف قلب شترا في صدرها ، كما يرفرف عصفور صغير فاجأه مطر أول الربيع ، وتمتمت مذهولة : وصلنا !
فأشار الصياد ساكوني إلى الأشجار الكثيفة المتطاولة ، على سفح الجبل ، وقال : أنظري ، يا سيدتي ، وراء هذه الأشجار ، صومعة الكاهن ريشيا .
ونزل الصياد من الزورق ، وربط الحبل إلى شجرة قريبة ، وقال : سنبات ليلتنا هنا ، وغداً مع الشمس تبدئين مهمتك .
ومرة ثانية ، رفرف العصفور الصغير في صدرها ، فغداً اللقاء الامتحان ، وليس لها ، مهما كان الثمن ، أن تفشل في مهمة العمر هذه .
وعلى اتفاقهما ، أعدت شترا طعام العشاء ، وجلسا يتناولانه متقابلين ، وقد هيمن عليهما الصمت ، وبعد العشاء ، قالت شترا : سأعد الملابس والحلي ، استعداداً للقاء ريشيا في الغد .
وظل الصياد ساكوني صامتاً ، لا ينبس بكلمة واحدة ، فنهضت شترا ، ودخلت الصومعة ، وأغلقت عليها الباب .
وأخرجت الملابس الزاهية ، والحلي الذهبية ، والأحجار الكريمة ، من الصندوق ، ووضعتها جنباً إلى جنب ، على الفراش .
وعلى العكس مما توقعت ، لم تفرح شترا بالملابس الزاهية ، والحلي الذهبية ، والأحجار الكريمة ، وتذكرت كلّ ما قاله الصياد ساكوني ، عن الكاهن الشاب ريشيا .
ثم تراءى لها ديفاياني ، يقول لها ، وهما يسيران جنباً إلى جنب ، متجهين إلى النهر : حاولي جهدك أن تقنعي الكاهن ريشيا ، بأن يرافقك إلى القصر ، لمعالجة الملك " كما تردد في أعماقها قوله : إنه شاب خام ، وأنت فتاة ، فتاة جميلة ، أقنعيه بأية وسيلة ممكنة .
وتوقفت شترا ، وسرعان ما رفعت الملابس الزاهية ، والحلي الذهبية ، والأحجار الكريمة ، وأعادتها إلى الصندوق ، الذي أخرجتها منه ، وأغلقت غطاءه ، ووضعته في إحدى زوايا الصومعة .


" 11 "
ـــــــــــــــــــــ
نهضت شترا واقفة ، بعد أن تناولت شيئاً من طعام الإفطار ، الذي أعده الصياد ساكوني ، وقالت : آن الأوان الآن ، فلنذهب .
وتطلع الصياد ساكوني إليها ، وبدت له شاحبة ، متعبة ، فقال : لم تنهي طعامك بعد .
فردت شترا قائلة : لقد شبعت .
وانتابها دوار خفيف ، أغشى نظرها للحظات ، ربما لم تنم كفايتها ليلة البارحة ، وقد استيقظت مبكراً ، مبكراً جداً ، قبل بزوغ الفجر .
أم إنها اللحظة الحاسمة ، فهي ستلتقي أخيراً بالراهب الشاب ريشيا ، الذي سمعت عنه الكثير ، خلال الأيام القليلة الماضية ، وعليها أن تقنعه بمرافقتها إلى القصر ، ومعالجة الملك ، آه .. يا للمهمة الصعبة .
ونهض الصياد ساكوني ، ورمق سترا بنظرة سريعة ، وقال : سيدتي .
ونظرت شترا إليه ، دون أن تتفوه بكلمة ، فتابع الصياد ساكوني قائلاً : جلالة الملكة قدمت لك في القصر ، ملابس زاهية ، وحلي من ..
وقاطعته شترا ، وهي تنظر بعيداً ، إلى سفح الجبل الأخضر ، الذي تغطيه الأشجار الكثيفة المتطاولة ، وقالت : أريد أن يراني الراهب الشاب ريشيا ، كما أنا ، إنسانة وليس دمية .
ولاذ الصياد ساكوني بالصمت ، فقالت شترا : فنذهب الآن إذن ، هيا .
ونزل الصياد ساكوني من الزورق ، وساعد شترا على النزول إلى الشاطىء ، ثم مضى يشق طريقه بين الأشجار الكثيفة المتطاولة ، فسارت شترا في أثره ، ساهمة ، حائرة ، متعثرة .
وتوقفت شترا ، بعد أن سارا مدة صامتين ، وانتابها الدوار ثانية ، فأغشى عينيها الخضراوين الجميلتين للحظات ، أمر غريب ، فمثل هذا الدوار ، لم يصبها من قبل ، نعم ، إنها اللحظة الحاسمة ، لحظة اللقاء مع .. الراهب الشاب ريشيا .
وتراءى لها ديفاياني ، يميل عليها ، وهما يتجهان نحو الزورق ، لكنها أبعدته عن ذهنها ، قبل أن يُسمعها ما أسمعها عن لقائها مع ريشيا .
وتوقف الصياد ساكوني ، على مقربة منها ، وقال : يبدو أنكِ تعبت ، يا سيدتي .
وتنهدت شترا ، وقالت : كلا ..
وصمتت لحظة ، ثم قالت ، وهي تتهيأ لمواصلة السير : أرجو أن لا تكون الصومعة بعيدة .
فسار الصياد يتقدمها ، وهو يقول : لا يا سيدتي ، الصومعة قريبة .
لكن " قريبة " هذه ، امتدت مدة كادت أنفاس شترا معها أن تتقطع ، خاصة وأن الطريق كان وعراً ، ويرتفع خطوة بعد خطوة .
ومن بعيد ، بدا من بين الأشجار الكثيفة المتعالية ، كهف معلق وسط السفح تقريباً ، فتوقف الصياد ساكوني ، وقال : سيدتي ، لقد وصلنا الصومعة .
وتوقفت شترا مبهورة الأنفاس ، فأشار الصياد ساكوني بيده إلى الكهف ، وقال بارتياح : تلك هي الصومعة ، يا سيدتي .
وتقدمت شترا بضع خطوات ، وهي تتطلع إلى الصومعة ، ثم التفتت إلى الصياد ساكوني ، وقالت : عد أنت إلى الزورق ، وانتظرني هناك .
فردّ الصياد ساكوني قائلاً : كما تشائين ، يا سيدتي .
وسارت شترا بخطوات بطيئة متعثرة نحو الصومعة ، وهي تقول : لا تأتي إلى الصومعة ، يا ساكوني ، مهما تأخرت .


" 12 "
ــــــــــــــــــــــ
منذ الفجر ، والكاهن الشاب ريشا مستغرق كالعادة ، في الصلاة والتعبد ، وقد أغمض عينيه ، حتى ليظن من يراه ، بأنه مستغرق في نوم عميق .
وأفاق من استغراقه العميق ، على صوت عذب ، لم يسبق أن سمع ما يماثله من قبل ، يقول له : طاب صباحك ، يا سيدي .
وفتح ريشيا عينيه المتعبدتين ، ولمح شخصاً ، لم يتبينه جيداً ، يقف بمدخل الصومعة ، فردّ قائلاً : أهلاً ومرحباً ، طاب صباحك ، يا سيدي .
وتقدمت شترا قليلاً ، وهي تقول : الأحرى أن تقول لي ، يا سيدتي .
وفي ذهول ، تمتم ريشيا : سيدتي !
وتوقفت شترا أمامه ، وقالت : نعم ، سيدتي ، وليس سيدي ، يا .. سيدي .
وصمتت لحظة ، ثم قالت : أنظر إليّ .
ونهض ريشيا ببطء ، وعيناه المذهولتان ترعيان فوق جسمها الشاب ، وتتجولان في تضاريسها المختلفة ، التي لم تريا مثلها من قبل .
وابتسمت شترا ابتسامة مشرقة ، وقالت : انظر إليّ ، جيداً ، يا ريشيا .
ورفع ريشيا عينيه المذهولتين ، ينظر إليها ملياً ، وتوقف عند عينيها الخضراوين الجميلتين ، وقال : يبدو أنكِ تعرفينني ، يا سيدتي .
فقالت شترا : نعم ، أعرفك ، ولهذا جئت إليكَ .
ولاذ ريشيا بالصمت لحظة ، وعيناه لا تفارقان عينيها الخضراوين الجميلتين ، ثم قال : إنني قلما أغادر الصومعة ، وقلما ألتقي بأحد ، حتى ممن يعيشون في الغابة من الكهنة والمتعبدين .
وصمت ثانية ، لكن عينيه لم تصمتا ، ثم قال : ولم يكن بين جميع من التقيتهم ..
وصمت ريشيا ، فقالت شترا : فتاة .
فهزّ ريشيا رأسه ، فتابعت شترا قائلة : فتاة مثلي .
وهرب ريشيا بعينيه من عينيها الخضراوين الجميلتين ، وقال : لعلكِ جئت للقاء أبي الحكيم فيبانداكا .
وهزت شترا رأسها مبتسمة ، ومع هذا تابع ريشا قائلاً : إنه ليس هنا الآن .
فقالت شترا : جئت للقائك أنت ، يا ريشيا .
وتراجع ريشيا قليلاً ، وقال مدارياً ارتباكه : تفضلي اجلسي ، تبدين متعبة .
فقالت شترا ، دون أن تجلس : سمعتُ عنك الكثير ، ولهذا جئتُ إليك أنت بالذات .
وتطلع ريشيا إليها صامتاً ، فقالت شترا : هناك إنسان بأمس الحاجة إليك ، يريد أن تساعده .
فقال ريشيا : فليتفضل إلى صومعتي ، في أي وقت يشاء ، وسأقدم له ما أستطيعه .
فقالت شترا : ولكن هذا الإنسان .. ملك .
فقال ريشيا : مهما يكن ، فليتفضل إلى صومعتي .
وتابعت شترا قائلة : إنه طريح الفراش ، لا يقوى على النهوض ، وهو يتطلع إليك ، لتسرع إليه ، وتنقذه مما هو فيه .
بدت الحيرة والتردد على ريشيا ، وقال : لكن أبي ليس هنا ، لقد خرج في جولة في ما وراء الجبل الأخضر ، وقد لا يعود قبل مرور شهر .
فقالت شترا : هذا أفضل ، فسنذهب ونعود ، قبل أن يقفل أبوك عائداً من جولته .
ونظرت شترا إليه متضرعة ، بعينيها الخضراوين الجميلتين ، وقالت : الملك يحتضر ، وقد يموت إذا لم تأتِ معي ، وتنقذه .





" 13 "
ـــــــــــــــــــــــ
فوجىء الصياد ساكوني ، وهو يقف في مقدمة الزورق ، بشترا قادمة من بين الأشجار ، ومعها ـ ويا للعجب ـ الكاهن الشاب ريشيا .
وعلى الفور ، غادر ساكوني الزورق ، وأسرع لاستقبالهما ، وانحنى للكاهن الشاب ريشيا ، وقال : طاب صباحك ، يا سيدي .
وحدق ريشيا فيه ، فقالت شترا : هذا الصياد ساكوني ، قائد الزورق .
فقال ريشيا : طاب صباحك ، يا سيدي ساكوني
وقالت شترا : هو من جاء بي إليك .
وانحنى الصياد ساكوني ثانية ، وقال : هذا شرف لي ، يا سيدي .
وقالت شترا ، وهي تتأهب لمواصلة السير نحو الزورق : ساكوني ، إنهم ينتظروننا الآن في القصر ، على أحر من الجمر ، فلننطلق فوراً .
وساعدهما الصياد ساكوني ، على الصعود إلى الزورق ، ثم أسرع فحلّ الحبل ، المشدود إلى الشجرة القريبة ، ثم انطلق بالزورق في طريق العودة إلى القصر .
وانصرفت شترا إلى إعداد طعام الغداء ، ووقف الصياد ساكوني وراء الدفة ، بينما راح الكاهن الشاب ريشيا ، يتجول في أرجاء الزورق ، متأملاً السماء الزرقاء ، وماء النهر المنساب بهدوء ، والشواطىء التي تزخر بالشجيرات والأشجار العالية .
وعندما جلسوا للغداء ، قالت شترا مخاطبة الراهب الشاب ريشيا : يقول ساكوني ، إنه عرفك حين كنت طفلاً صغيراً .
ونظر ريشيا إلى ساكوني مبتسماً ، وقال : ربما ، لكني لا أذكر أني رأيتك .
فقال الصياد ساكوني : حدث هذا منذ فترة طويلة ، ربما تزيد عن العشر سنوات .
وقالت شترا ، وهي تضع لقمة في فمها : يقول إنه كان ضيفاً على أبيك الحكيم فيبانداكا .
فقال الكاهن الشاب ريشيا : لا أستبعد ذلك ، فقد كان العديد من الضيوف يزورون أبي .
وقبيل غروب الشمس ، أخذ الصياد ساكوني الزورق إلى الشاطىء ، وشده بالحبل إلى شجرة قريبة ، وحين حلّ الليل ، جلسوا يتناولون طعام العشاء ، الذي أعدته شترا ، على ضوء القنديل .
وبزغ القمر بدراً ، وراح يصعد ببطء فوق الأشجار ، ويلفّ الغابة بنوره الشاحب ، وجلس الثلاثة يتسامرون ، حتى حلّ وقت النوم .
وعرضت شترا على الراهب الشاب ريشيا ، أن ينام في الصومعة ، لكنه اعتذر ، وقال : سأنام على سطح الزورق مع ساكوني ، الجو هنا رائع .
وخلال الأيام الأربعة ، التي استغرقها السفر إلى القصر ، تبادلت شترا وريشيا الحديث الودي مراراً ، بينما انهمك الصياد ساكوني إلى قيادة الزورق .
وحدثها ريشيا عن حياته في الصومعة ، وعن أبيه الحكيم المعروف فيبانداكا ، وحدثته شترا عن الملك والملكة والحياة في القصر ، كما حدثته عن الطبيب والوزير العجوز ، لكنها لم تحدثه عن .. ديفاياني .

" 14 "
ــــــــــــــــــــــ
عند الباب الخارجي للقصر ، وقف الطبيب والوزير العجوز ، ومعهما ديفاياني ، في استقبال شترا والكاهن الشاب ريشيا .
ولم تتمالك الملكة نفسها ، وكانت واقفة عند الباب الداخلي للقصر ، فنزلت السلم إلى الممر ، تستقبل فرحة الراهب الشاب ريشيا ، ووصيفتها شترا .
وتوقف الجميع أمام الملكة ، فانحنت شترا ، وقالت : مولاتي ، هذا هو الكاهن العظيم ريشيا .
ونظرت الملكة إليه مبهورة ، وقالت : أهلاً ومرحباً بك ، في قصرنا الملكي ، يا سيدي الكاهن .
وابتسم ريشيا لها ، فاستطردت شترا قائلة : وقد ترك صومعته ، وجاء بنفسه إلى هنا ، لمعاينة جلالة الملك ، ويشفيه بعون الآلهة .
وتمتمت الملكة فرحة : هذا ما نرجوه .
ثم التفتت إلى الطبيب والوزير العجوز ، وقالت : خذا ضيفنا العظيم إلى جناحه ، لابد أنه متعب الآن ، ونريده أن يرتاح في قصرنا .
وأخذ الطبيب والوزير العجوز ، ومعهما ديفاياني ، الكاهن الشاب ريشيا ترافقه شترا ، إلى الجناح الذي خصص له في القصر .
وقال الطبيب مخاطباً ريشيا : هذا جناحك الخاص ، يا سيدي ، أرجو أن ترتاح فيه .
فقال الكاهن الشاب ريشيا : أشكرك ، يا سيدي .
وقال الوزير العجوز : ستكون شترا برفقتك ، إذا أردت يا سيدي ، لتوفر لك كلّ ما تحتاج إليه .
ونظر ريشيا إلى شترا مبتسماً ، فقالت على الفور : لن أفارقك ، مادمت في القصر .
فردّ ريشيا ، وقد اتسعت ابتسامته : أشكرك .
وقال الطبيب : عن إذنك ، سنذهب الآن ، ونتركك لترتاح ، يا سيدي .
وقال الوزير العجوز ، وهو يتأهب للخروج من الجناح : سنهيىء لك لقاء مع جلالة الملك ، قبيل مساء اليوم ، يا سيدي الكاهن .
فقال ريشيا : كما تشاء ، يا سيدي .
واتجه الطبيب والوزير العجوز إلى الخارج ، وبقي ديفاياني متردداً للحظات ، ثم مال على شترا ، وهمس لها فرحاً : إنني سعيد بنجاحك ، يا شترا .
ونظرت شترا إليه ، دون أن تتفوه بكلمة ، فتابع همسه بصوت لا يكاد يُسمع : أريد أن أراكِ .
فردت شترا بصوت خافت : لا أستطيع الآن ، إنني كما ترى ، سأكون برفقة الكاهن ريشيا .
وعلى مضض ، لحق ديفاياني بالطبيب والوزير العجوز ، عند الباب ، ومضى معهما إلى الخارج ، تاركاً شترا مع الكاهن الشاب ريشيا .
ورمق ريشيا شترا بنظرة خاطفة ، وخمنت شترا أنه ربما لمح ديفاياني يتحدث إليها ، ومن يدري ، لعله يريد أن يعرف من هو ديفاياني هذا ، وماذا يعني بالنسبة لها ، لكنها أطرقت رأسها ، ولم تتفوه بشيء .
وطال الصمت بينهما ، حتى رفعت شترا عينيها إليه ، وقالت : ريشيا .
فتطلع ريشيا إليها ، وقال : نعم .
فقالت شترا : الحياة هنا جديدة عليك .
وقال ريشيا : قصور وحدائق وشوارع واسعة وثراء فاحش و ..
وصمت برهة ، ثم قال : قد لا تصدقينني إذا قلتُ لكِ ، يا شترا ، لو خيرت بين هذا العالم ، وعالم صومعتي الفقيرة ، في أعلى الجبل الأخضر ، لما اخترت غير الصومعة .
وابتسمت شترا ، وقالت : قد تغير رأيك ، إذا بقيت هنا فترة من الزمن .
وهزّ ريشيا رأسه ، وقال : لا أظن .
ونظرت شترا إليه ، وقالت : هناك أمر ، أريد أن أحدثك عنه ، يتعلق بالملك .
فقال ريشيا : غير أنه مريض ؟
فردت شترا قائلة : نعم .
ونظر ريشيا إليها متسائلاً ، فقالت : وربما كان وراء مرضه ، وحزنه الدائم .
وباهتمام قال ريشيا : حدثيني عنه ، فقد يفيدني هذا في معالجته .
فقالت شترا : جلالة الملك تزوج منذ حوالي سبع سنوات ، ولم ينجب حتى الآن .




" 15 "
ــــــــــــــــــــــــ
قبيل المساء ، استقبل الملك في جناحه ، وهو راقد في الفراش ، الكاهن الشاب ريشيا ترافقه شترا ، وقد حضرت الملكة هذا الاستقبال المنتظر ، وكذلك الطبيب والوزير العجوز .
وعند باب جناح الملك ، وحين دخلت شترا ، لمحت ديفاياني ، أمام عدد من الحرس المدججين بالسلاح ، وأومأ لها ديفاياني ، أكثر من مرة ، إنه يريد التحدث إليها ، لكنها أشارت له أن فيما بعد .
وانحنى الكاهن الشاب ريشيا للملك ، الذي كان يحدق فيه مبهوراً ، وقال : طاب مساؤك ، يا مولاي .
وردّ الملك بصوت خافت : أهلاً ومرحباً ريشيا ، انتظرتك طويلاً .
فابتسم ريشيا ، وقال : ما إن علمت إنك تنتظرني ، حتى تركت صومعتي ، وجئت إليك .
وتمتم الملك متأثراً : أشكرك .. يا ريشيا .
ومال ريشيا قليلاً على الملك ، وقال : أخبروني ، يا مولاي ، أنك مريض .
وتقدمت الملكة قليلاً ، وقالت : جلالته طريح الفراش منذ أشهر عديدة .
وقال الوزير العجوز : وقد حاول معالجته ، عدد كبير من أشهر الأطباء ، لكن دون جدوى .
وقال الطبيب : أنا اقترحت الاستعانة بك ، فنأمل أن يشفى على يديك ، بعون الآلهة .
وهزّ الكاهن الشاب ريشيا رأسه ، ونظر إلى الملك ، وقال : كلّ هذا جيد ، لكن ما أراه ، أن جلالتك ليس مريضاً .
وردّ الملك قائلاً : هذا ما أتمناه ، لكن قواي تضعف شيئاً فشيئاً ، حتى أنني لم أعد أستطيع أن أغادر فراشي ، منذ أشهر عديدة .
ومال الراهب الشاب ريشيا عليه ، وقال : ستغادره الآن ، يا مولاي ..
ثم قال بصوت عميق : انهض .
وفغر الملك فاه متمتماً : ماذا !
فقال ريشا بنفس الصوت العميق : انهض .
فردّ الملك بصوت ضعيف : لا أستطيع ، يا ريشيا .
ومدّ ريشيا يديه إليه ، وقال : ستستطيع ، أعطني يدك ، يا مولاي .
وببطء وتردد ، رفع الملك يده المرتعشة ، فأخذها ريشيا بين يديه ، وعلى الفور ، شعر الملك بقوة غريبة تسري في جسده المنهك كله ، فخاطبه ريشيا قائلاً : والآن ، انهض ، يا مولاي .
وأمام أنظار الجميع المذهولة ، تحرك الملك ، ثم راح ينهض من فراشه ، حتى اعتدل تماماً ، فأطلق ريشيا يده من بين يديه ، وتراجع قليلاً ، ثم قال : والآن انزل عن السرير ، يا مولاي .
ونظر الملك إلى ريشيا ، وهمّ أن يهزّ رأسه دلالة العجز ، لكن ريشيا خاطبه قائلاً : انزل ، يا مولاي ، فأنت معافى تماماً .
وببطء شديد ، وأمام أنظار الجميع المذهولة ، نزل الملك عن السرير ، الذي لم يغادره منذ أشهر عديدة ، ووقف على قدميه فرحاً ، وراح يتمتم : تعافيت .. تعافيت .. تعافيت .
وأحاط به الجميع فرحين ، وراحوا يهنئونه على شفائه من مرضه ، الذي أقعده في الفراش مدة طويلة ، وكاد أن يؤدي بحياته .
وتقدمت الملكة من ريشيا ، ودموع الفرح تغرق عينيها ، وقالت : أشكرك ، يا سيدي ، لقد أنقذت المملكة ، بشفائك لجلالة الملك .
ومال ريشيا عليها ، وهمس في أذنها بصوت خافت : أبشري ، يا مولاتي ، سيكون لك ولد .



" 16 "
ـــــــــــــــــــــــ
تماثل الملك للشفاء ، وبعد أيام قلائل ، عاد يمارس مهامه في قاعة العرش ، وإلى جانبه كالعادة .. وزيره العجوز المحنك .
وبعد أقل من شهرين ، اكتملت فرحة الملك ، حين همست الملكة في أذنه ، ذات ليلة : أبشر ، يا مولاي ، إنني حامل .
وعلى العكس من هذا ، وخلال نفس المدة ، تفاقم شعور ريشيا بالضيق والقلق ، حتى بدا له في النهاية ، أنه سجين الملك .
وأسرّ ريشيا بشعوره هذا لشترا ، فقالت له : سأحدث الملكة ، إذا أردت .
فردّ ريشيا قائلاً : أريد ذلك ، يا شترا ، حدثيها .
وتحدثت ريشيا إلى الملكة قائلة : مولاتي .
ونظرت الملكة إليها ، وقالت : يبدو أن لديك ما تقولينه ، قولي ، إنني أسمعك .
فقالت شترا : ريشيا ، يا مولاتي .
وقالت الملكة : ريشيا ضيفنا ، وطبيبنا المعجز ، ويهمنا أن يكون مرتاحاً في القصر .
واستجمعت شترا شجاعتها ، وقالت : مولاتي ، إنه يريد أن يستأذن الملك ، في العودة إلى صومعته .
فقالت الملكة : إنني أقدر ذلك ، سأنقل رغبته إلى جلالة الملك ، ولنأمل خيراً .
ونقلت الملكة إلى الملك ، رغبة ريشيا في مغادرة القصر ، والعودة إلى الصومعة ، في الجبل الأخضر ، فقال الملك : ريشيا ضيف عزيز ، ولم يمض ِ على وجوده بيننا فترة طويلة ..
وصمت الملك ، فقالت الملكة : هذه رغبته ، وقد قدم لنا خدمة كبيرة ، ليذهب ..
وقاطعها الملك قائلاً : لا ، ليبقّ ريشيا بعض الوقت ، نحن مازلنا بحاجة إليه .
واشتد قلق ريشيا وضيقه ، عندما عرف ردّ الملك ، وتملك الحرج شترا ، وخشيت أن يظن ريشيا بأنه خدع ، وأستدرج إلى القصر ، وأن من قام باستدراجه هي شترا نفسها .
وعندما شاع نبأ حمل الملكة ، التقى ريشيا بالوزير العجوز ، فقد كان الملك يتهرب من لقائه بحجة أو أخرى ، وقال له صراحة : أرجو أن تخبر جلالة الملك ، بأني أنجزت مهمتي ، وأريد العودة إلى صومعتي ، في الجبل الأخضر .
وبدل أن يستجيب الملك لرغبة ريشيا ، ويسمح له بالعودة من حيث أتى ، أخبره بواسطة الوزير العجوز نفسه ، بأنه اختاره طبيباً خاصاً له ، وأنه خصص له قصراً ضخماً ، يطل على النهر ، ليقيم فيه مع من يشاء ، مدى العمر .
وأصيب ريشيا بالإحباط ، بعد هذا القرار ، وأدرك أنه سجين الملك فعلاً مدى الحياة ، ما جعله يميل شيئاً فشيئاً إلى العزلة والصمت .
أما ديفاياني ، فكلما حاول أن يلتقي بشترا ، ويتحدث إليها ، تخلصت منه بحجة أنه مشغولة ، بمرافقة الكاهن ريشيا ، وتدعوه لأن يرجىء الحديث إلى وقت آخر ، وقال لها مرة غاضباً : إن ريشيا أخذكِ مني .
فأطرقت رأسها ، ولم تردّ بكلمة واحدة .
وذات مرة ، قال ريشيا ، وكأنه يحدث نفسه : لابد أن أبي فيبانداكا قد عاد الآن إلى الصومعة .
وتطلعت شترا إليه ، فقال ريشيا : يا للحيرة ، إنني في محنة كبيرة ، لا أدري معها ما العمل .
وصمت ريشيا ، فقالت شترا بصوت دامع : كلّ هذا بسببي ، أنا من جاء بك إلى هنا .
فقال ريشيا : لا يا شترا ، أعرف نواياك الحسنة ، والخطأ ليس خطأك أنتِ .
وصمت لحظة ، ثم قال : لستُ معتاداً على العيش بعيداً عن الصومعة ، ولولا وجودك إلى جانبي لمتّ .
ونظرت شترا إليه ، وقالت : لنهرب .
واتسعت عينا ريشيا ذهولاً ، وقال : ماذا !
فقالت شترا : كما جئنا معاً ، نعود معاً .
فقال ريشيا : لكن حياتك هنا .
فاقتربت شترا منه ، وقالت : حياتي معك ، حيثما تكون ، فلنهرب معاً ، في أقرب فرصة ممكنة .

" 17 "
ـــــــــــــــــــــــ
تسللت شترا ، ذات ليلة ، من القصر ، وقد نام الجميع ، ومعها الكاهن الشاب ريشيا ، حاملة صرة فيها شيء من الطعام .
وبدل أن ينحدرا إلى النهر ، توجها تحت جنح الظلام إلى الغابة ، فقد فضل كلاهما أن يعودا إلى الصومعة ، في الجبل الأخضر ، عن طريق الغابة ، رغم صعوبته ومخاطره ، وليس عن طريق النهر .
وحين بزغ القمر ، مطلاً من الأفق البعيد ، كانا قد ابتعدا عن المدينة ، ولاحت لهما أشجار الغابة من بعيد ، عمالقة ملفعة بأوشحة من النور الشاحب .
وأطل الفجر ، بعد مسيرة طويلة شاقة ، ولاح ضياء الشمس من وراء الأفق ، وعندها كانا قد توغلا في الغابة ، حتى وصلا نبعاً ، يترقرق ماؤه العذب كالفضة ، من باطن الأرض .
وتوقف ريشيا عند نبع الماء ، وقال : شترا ، لنرتح عند هذا النبع قليلاً .
وتلفتت شترا حولها ، وقالت : الأفضل ، يا ريشيا ، أن لا نتوقف ، حتى نصل إلى مكان آمن .
ومدّ ريشيا يديه الظامئتين ، وغرف قليلاً من ماء النبع العذب ، وهو يقول : حسن ، لنشرب بعض الماء ، ثم نواصل سيرنا .
وواصلا سيرهما ، بعد أن شربا بعض الماء ، ولم يتوقفا حتى بعد أن أشرقت الشمس ، وارتفعت في السماء ، فوق أشجار الغابة العملاقة .
وتواريا في أجمة كثيفة الأشجار ، تحجبهم تماماً عما حولهم ، فقال ريشيا : لقد تعبت ، ولابد أنك تعبت أنتِ أيضاً ، لنتوقف هنا ، ونرتح بعض الوقت .
وتوقفا بين أشجار الأجمة ، وقالت شترا : مادمنا قد توقفنا هنا ، لنتناول بعض الطعام ، ونرتح قليلاً ، ثم نواصل سيرنا ، حتى غروب الشمس .
وجلست شترا تحت إحدى الأشجار العملاقة ، وقالت : لابد أنهم عرفوا الآن بهروبنا ، ولن يسكتوا على هذا ، وسيبحثون عنّا في كلّ مكان .
وبعد أن تناولا شيئاً من الطعام ، ورغم شعورهما بالتعب الشديد ، نهضا متحاملين على نفسيهما ، وواصلا سيرهما متوغلين في الغابة ، مخافة أن يلحق بهما جند الملك ، ويعيدانهما قسراً إلى القصر .
غربت الشمس وراء الأفق ، وحلّ الليل ، فأويا إلى أجمة كثيفة الأشجار ، وأغفى كلّ منهما تحت شجرة ، وسرعان ما استغرقا في نوم عميق .
وأفاقت شترا مذعورة ، وقد بزغ القمر ، فقد تناهى إليها حركة مريبة خارج الأجمة ، وتلفتت حولها مرهفة سمعها ، ثم زحفت إلى ريشيا ، وهزته برفق ، وهمست له قائلة : شترا ، أفق .
وفتح ريشيا عينيه الناعستين ، وحدق في شترا القريبة منه ، وقال : ما الأمر ، يا شترا ؟
فردت شترا قائلة : سمعت وقع أقدام ..
وقاطعها ريشيا يطمئنها : لا تخافي ، لعله أرنب بريّ ، أو غزال ، أو ..
فنهضت شترا ، وقالت بصوت خافت : بل جندي من جنود الملك ، الذين يبحثون عنا في كل مكان ، ليعيدانا قسراً إلى القصر ، هيا نبتعد من هما .
وتسللا من الأجمة على عجل ، وتوغلا مسرعين في أعماق الغابة ، وتوقفا أكثر من مرة ، حين خيل إليهما أنهما يسمعان وقع أقدام ، بدت لهما وكأنها تلاحقهما للإيقاع بهما ، وتمنعانهما من الهرب .
وعند شروق الشمس ، وقد أنهكهما التعب ، فوجئا بشخص لم يتبيناه جيداً ، يبرز من بين الأشجار ، ويسد عليهما الطريق .
وجمدا مرعوبين في مكانهما ، وتمتمت شترا : هذا جندي من جنود الملك ، يا ريشيا .
وحدق ريشيا فيه ، ثم قال : لا يبدو أنه جندي ..
وصمت لحظة ، وهو مازال يحدق فيه ، وتابع قائلاً : ولا يبدو أنه كاهن .
وتقدم الرجل منهما بخطوات بطيئة ، فتمتمت شتر ، وهي تحدق فيه مذهولة : ساكوني !
وتوقف الصياد ساكوني أمامهما ، وقال : جلالة الملك رصد مبلغاً كبيراً من المال ، لمن يلقي القبض عليكما ، ويعود بكما إلى القصر .
وتقدمت شترا منه ، وقالت : ساكوني ، ها أنا أمامك ، خذني إلى القصر ، واترك ريشيا يواصل طريقه إلى صومعته ، في الجبل الأخضر .
ولاذ ساكوني بالصمت برهة ، ثم قال : رصدتكما منذ ساعات ، ولم أقترب منكما حتى عرفت ، أنكما تسيران في الطريق الخطأ .
وتطلعت شترا إليه ، وقالت : ساكوني ..
فقال ساكوني : لقد عشنا أياماً جميلة معاً في الزورق الكبير ، وعرفتكما جيداً ، أنتِ والكاهن الشاب ريشيا ، وقد عاملتماني أطيب معاملة .
وتندت عينا شترا بالدموع ، فقال الصياد ساكوني : أنا مثلكما .. إنسان .
وندت من بعيد حركة بين الأشجار ، فتلفتت شترا حولها قلقلة خائفة ، وقالت : ساكوني ، هؤلاء جند الملك ، وأخشى أن يقبضوا علينا .
فقال ساكوني : لا تخافي ، لن أدع أحداً يصل إليكما ، ويجبركما على ما لا تحبانه .
وتلفت حوله بحذر ، ثم قال : اطمئنا ، سأقودكما عبر الغابة إلى مكان آمن ، وقريب من الجبل الأخضر ، ثم أدعكما تواصلا الطريق إلى الصومعة ، هيا نمض ِ .


إشارة : هذه الرواية مستمدة من حكاية وردت في الملحمة الهندية المعروفة " المهابهاراتا .


15 / 9 / 2015








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. حزن على مواقع التواصل بعد رحيل الأمير الشاعر بدر بن عبدالمحس


.. بحضور شيوخ الأزهر والفنانين.. احتفال الكنيسة الإنجيليّة بعيد




.. مهندس الكلمة.. محطات في حياة الأمير الشاعر الراحل بدر بن عبد


.. كيف نجح الأمير الشاعر بدر بن عبدالمحسن طوال نصف قرن في تخليد




.. عمرو يوسف: أحمد فهمي قدم شخصيته بشكل مميز واتمني يشارك في ا