الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ثورات الربيع العربي، إرث الخراب وتدبير المراحل الانتقالية

بوجمع بوتوميت

2023 / 4 / 4
مواضيع وابحاث سياسية


بسم الله الرحمن الرحيم
ثورات الربيع العربي، إرث الخراب وتدبير المراحل الانتقالية


استهلال :
   كنت قد بدأت كتابة بعض فقرات هذا المقال منذ أزيد من عشر سنوات، وعيون العالم يومها ترقب وتتابع تطورات أحداث ثورات الربيع العربي، التي كانت في بداياتها، قبل الإنقلاب العسكري البشع على الثورة في مصر، ومحاولات تكرار نفس تجربة الانقلاب على الثورة في كل من ليبيا وتونس واليمن، مع فارق في الأسلوب والأدوات[1]، فتوقفت يومها عن إتمام كتابة المقال ونشره، لانشغالات أنستني العودة إليه، اليوم أعود لأعيد كتابة نفس المقال، وقد حدثت أحداث وجرت تطورات، وظهرت سياقات ومسارات جديدة، فرضت تغيير بعض المضامين وحذف أخرى، لإعادة الكتابة عن خراب الاستبداد وإرثه الثقيل الذي ورثته ثورات التغيير، التي كتب لها أن تطيح برموز دكتاتوريات بالمنطقة، وتصل إلى سدة الحكم، في عدد من دول الربيع العربي، إلا أن قدرة أخطبوط الإستبداد على تغيير وجوهه ورموزه، والعودة من جديد ظلت قائمة في مختلف هذه الدول، وما نموذج الانقلاب العسكري المصري الذي لا زالت تداعياته ماثلة أمامنا عنا ببعيد، الأمر الذي أصبح يفرض على كل ثورة أو حراك شعبي، أو حركة تغيير مستقبلا، أن تستوعب الدروس مما وقع، وعلى رأس هذه الدروس، أن تركة الاستبداد ثقيلة وإرثه مسموم، وأن قيادة المراحل الإنتقالية لا يصح ولا يستقيم أن يتولى أعباءها توجه أو تنظيم سياسي بمفرده، مهما بلغت صدقيته، أو قوته العددية والتنظيمية، أو امتداده الجماهيري، وتحالفاته الإقليمية وشبكة علاقاته المصلحية، بل إن هذه المراحل المفصلية في تاريخ الشعوب والمجتمعات، لابد لها من تظافر جهود جميع الخيرين من أبناء الوطن، بمختلف توجهاتهم وانتماءاتهم ومرجعياتهم  ومدارسهم السياسية، لأنها من أخطر وأصعب مراحل التغيير، إن لم تتم إدارتها بروح جماعية مسؤولة.
المحور الأول: التغيير مسار  ...
    التغيير ليس لحظة تاريخية مفاجئة، ولا حدثا استثنائيا معزولا، تصبح  معه وبعده الأمة معافاة من أمراض القرون الجبرية، بل إنه مسار تراكمي ممتد في الزمان، يحتاج من الشعوب ورجال التغيير ونخبه صبرا وتؤدة ومراكمة للجهود، وصولا إلى تقويض دعائم الاستبداد من أساسها، لكنس تركته القرونية الثقيلة التي يتركها في السياسة والاقتصاد، كما في عقول الجماهير وثقافة الشعوب ووعيها وإرادتها، لطول ما اشتغلت أدواته وطاحونة إعلامه الدعائية على غسل أدمغة أفراد المجتمع وإعادة تشكيل خريطة إدراكهم بما يخدم بقاء واستمرارية الوضع القائم .
    إذا كانت الإطاحة برموز الاستبداد وإزالتها من المشهد السياسي حدثا مهما، ولحظة تاريخية هامة في مسار التغيير بالدول والمجتمعات كما يعتبرها المهتمون بثورات الشعوب، إلا أنها حتما ليست كافية للقضاء على آفة الاستبداد، ومعالجة آثاره في الدولة والمجتمع، لهذا سيكون من اللازم والمفيد لثورات التغيير أن تستوعب أن تغييب رموز الاستبداد أو انسحابها انسحابا تكتيكيا بشكل مؤقت من المشهد السياسي، أو تحت تأثير  الضغط الشعبي، لا يعني بالضرورة غيابها عن التأثير في مجريات الأحداث، أو القضاء على امتداداتها وشبكة مصالحها المحلية والإقليمية، و لا يعني أيضا كنس تركة الاستبداد وخرابه من أساسه، أو القضاء على روحه وثقافته المنبثة في العقول والنفسيات، التي صنعتها وسائطه ولواحقه، كالإعلام الخادم النافخ في وهم إنجازاته، والمدرسة المعيدة لإنتاج قيمه، والمسجد المؤمم المربي على ثقافة الخنوع والخضوع له، والمجتمع المدني التابع المنفس لأزماته، المتخصص في قلب الحقائق وتزيين صنائعه، وغير ذلك من المؤسسات الذيلية التابعة، التي تشتغل صباح مساء على إعادة تشكيل الوعي الجمعي للمجتمع وفق أجندات المستبدين، واستراتيجياتهم الخبيثة الماكرة .
  إن أحد أهم المؤشرات المعبرة عن نجاح ثورات وقومات الشعوب في تحقيق أهداف التغيير هو التمكن من إزالة تأثير الإستبداد في عقول ونفوس جمهور عريض من أبناء الشعب، واستيعابه للقيم الثورية الجديدة البديلة  التي تأتي بها ثورات التغيير، وهو أمر لا يأتي بين عشية وضحاها، بل يحتاج إلى وقت وتعبئة وجهد أكبر وأعمق مما تبذله الشعوب عادة في لحظة تغيير الرموز العابرة، ذلك لأن الشعوب التي تمت برمجتها قرونا على مبدأ الطاعة والخضوع غير المشروط لحكم الإستبداد، وتربيتها على أن الطاعة و الخنوع للحاكم من صميم واجبات الدين وعقائده ـ مهما بلغ ظلم المستبد وبغيه في الأرض ـ  ليس من السهل أن تستوعب في فترة زمنية قصيرة ما تأتي به موجات التغيير الجذري من قيم ثورية، خاصة بعد أن أصابتها لوثة الاستبداد والاستعباد، فعمقت وجذرت فيها مختلف الأمراض الاجتماعية المركبة، المانعة أو المعيقة لكل سعي للحرية والانعتاق، كالوصولية والانتهازية والفردانية واستمراء الخنوع والعبودية الطوعية، والخوف من التغيير...، لهذا يعتبر المهتمون بثورات الشعوب بأن التغيير ليس مجرد انتفاضة جماهيرية تهز أركان الظلم وقد انتهى كل شيء، ليس هدية يأتي بها جند الله هنيئة مريئة، ليس إجراء إداري يصلح أمر الأمة عقب تطبيقه، فتصبح معه معافاة من أمراض القرون الجبرية[2]، بل هو مسار طويل ووعي ينمو وإرادات تتشكل داخل المجتمع، وجهود فردية وجماعية تبذل وتتراكم للوصول إلى اللحظة الفارقة، كما أنه قراءة واعية سليمة للمحيط الدولي والإقليمي، ومصانعة حكيمة للظروف، واستيعاب موفق للسياقات، من قبل نخب التغيير وطلائعه لأن  التغيير " لا يأتي ضربة لازب ولا أن تؤاكل وتشارب، ولكن تسدد وتقارب، وتحافظ على المكاسب، وتصانع ظرفك بما يناسب"[3] .
 
المحور الثاني: تركة الخراب  
  خراب الاستبداد يصيب شتى مناحي المجتمع، بدءا بقتل روح  العمل الجماعي، وضرب وحدة الشعوب وانسجامها، حتى لا تجتمع على هم مشترك أو مشروع جماعي، وتعتبر هذه القاعدة أحد أهم الاستراتيجيات التي اشتغل عليها فرعون من خلال سعيه للعمل على تفتيت النسيج الإجتماعي لبني إسرائيل والسيطرة التامة عليهم، قال الله تعالى يبين هذه الحقيقة: " إن فرعون على في الأرض وجعل أهلها شيعا، يستضعف طائفة منهم يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم إنه كان من المفسدين"، وهكذا في كل وقت وفي كل زمان يشتغل الاستبداد على ثلاث استراتيجيات  تخريبية  تسعى إلى تفكيك المجتمع للسيطرة عليه هي:  
أولا:  قتل روح العمل الجماعي لدى أفراد الشعب
   هناك شعوب عديدة عبر العالم لازالت تعيش تحت القمع المحلي أو التحكم الأجنبي منذ عشرات السنين، وغالبا ما يكون تعالي رموز السلطة والحكام في هذه البلدان عن المساءلة قد غرس في ذهن الشعوب ـ لطول ما عمر الاستبداد في ديارهاـ صورة ذهنية نفسية تكرس الخضوع له، وتزرع القناعة الزائفة باستحالة مقاومته أو إزالته، وفي أكثر الحالات تطرفا بهذه الأنظمة فإن مؤسسات المجتمع الاجتماعية والسياسية والاقتصادية وحتى الدينية، التي من مقتضيات الديمقراطية أن تبقى خارج حدود سيطرة الدولة، وغير خاضعة للوصاية والتحجير عليها، تكون قد تم إضعافها عمدا إلى حد بعيد لتصبح بدون فعالية، أو حولت إلى مؤسسات تابعة، خاضعة لتعليمات أجهزة الدكتاتور، معبرة عن اختياراته لا عن اختيارات الشعب، مجملة لصورته نافخة في إنجازاته الوهمية، أو تكون قد تم استبدالها بمؤسسات صارمة، تستخدم من قبل نظام الاستبداد السياسي للسيطرة على المجتمع، ويكون المواطنون في إطار مخطط مدروس قد شتتوا إلى درجة أن يصبحوا كتلة من الأفراد المعزولين نفسيا عن بعضهم البعض، بعد ان يتم قتل روح العمل الجماعي بينهم، حتى لا يستطيعوا العمل معا لنيل الحرية[4].
ثانيا : ضرب ثقة الشعوب في قدرتها على التغيير
  هذه التركة الثقيلة التي يزرعها الاستبداد في العقول والنفوس لعشرات السنين، تنتج عقليات ونفسيات موروثة، يصعب التخلص منها ومن أعبائها بسهولة، لما تحتاجه من برامج عميقة لإعادة الثقة لأفراد الشعب في قدرتهم على العمل الجماعي من أجل التغيير، والوقوف صفا واحدا في وجه كل استبداد.
   ومن بين أهم النتائج التي يعمل المستبدون على جنيها من خلال مشاريعهم التربوية: "إنتاج مواطنين ضعفاء لاحول لهم ولا قوة، عديمي الثقة في النفس أو القدرة على المقاومة السلمية، وغالبا ما يخافون حتى من الحديث عن مدى كرههم للنظام الدكتاتوري، وعن حلمهم بالحرية حتى من عائلاتهم واصدقائهم، كل هذا بسبب سيطرة الرعب على العقول والقلوب أثناء كل تفكير في المقاومة السلمية أو التظاهر السلمي مما يجعل الشعب يواجه مستقبلا بدون أمل"[5]
ثالثا : صناعة  اليأس والخوف من التغيير
   إذا كان زرع الخوف والبروباكندا أحد أهم العوامل النفسية المؤثرة التي يهتم بها ويشتغل عليها الخبراء العسكريون لإلحاق الهزيمة النفسية بالعدو قبل بداية المعركة،، فإنه في مجال التدافع السياسي وصناعة الرأي العام، يظل عامل زرع الخوف وانعدام الثقة بين أبناء الوطن الواحد، وصناعة الإشاعة التي تنتقل في أوساط الشعب كالهشيم في النار، أحد أهم الركائز التي يؤسس عليها نظام الاستبداد مشروعية الجبر والإكراه، عبر الآلة العسكرية الضخمة، وما تملكه سلطته من ترسانة وسائل القوة والعنف، التي يظهرها للشعب بين الفينة والأخرى في المناسبات القومية، ويعمل على زرعها عبر برامجه التعليمية واحتفالاته الوطنية، وحتى عبر المؤسسات المجتمعية التي تخدم مشاريعه، ليشطب من وعي الجماهير كل نزوع الى التغيير، ويزرع فيها اليأس والقنوط من كل بديل،  ليصبح القبول بالأمر الواقع مهما كان مأساويا والخضوع له خيارا وحيدا، حيث تشتغل ماكينة الاستبداد الإعلامية بشكل مدروس وممنهج لتزييف الوعي العام، عبر زرع قناعات مزيفة في وعي الجمهور، تدفع بالمواطنين وتحصرهم بين خيارين لا ثالث لهما، إما قبول الاستبداد والرضى به وعدم مقاومته، أو هي الفوضى والفتنة والخوف على مستقبل مجهول، بزعم أنه ليس بالإمكان أفضل مما هو كائن، حسب ما يتم الترويج له، وتكريسه عبر شتى الوسائل والاستراتيجيات الإعلامية الماكرة المدفوعة الأجر، والمستعملة لأحدث الطرق العلمية للنفاذ الى لاوعي الشعوب، وتنميط سلوكها، وتغيير خريطة إدراكها، والتأثير في حسها  وإرادتها  ووعيها .
المحور الثالث : تدبير المراحل الانتقالية
   إن أصعب إجراء  تواجهه طلائع التغيير في مجتمعات ما بعد الاستبداد، هو تدبير المراحل الإنتقالية، حيث محاولات تجاوز إرث الخراب الذي تتركه أنظمة الإستبداد السياسي في بنية المجتمع ومفاصل الدولة، وإلى هذا يشير صاحب نظرية المنهاج النبوي، موجها خطابه إلى طليعة التغيير، ملفتا انتباهها إلى حجم الإرث الثقيل الذي ترثه ثورات الشعوب وحركات التغيير في الفترات الإنتقالية، بعد الإطاحة برموز الإستبداد، قائلا رحمه الله نرث إن شاء الله تعالى اقتصاديات موجهة لقضاء مصالح الاستكبار العالمي والمحلي. نرث عادات استهلاكية جاهلية. نرث القسمة الضيزى المفروضة على المستضعفين. نرث الفقر وحليفه الكفر. نرث مدن القصدير. نرث البطالة. نرث خزانة  الدولة الفارغة. نرث الخراب الاقتصادي... [6] .
  "نرث الخراب"، عبارة ملخصة لطبيعة الإرث الذي يتركه الاستبداد في المجتمع، وهي عبارة يريد من ورائها الأستاذ ياسين أن يحذر حركة  التغيير من أن تتسلى بأوهام الأماني المعسولة، فتقعد عن مواصلة الجهاد، جهاد إعادة بناء ما خربه الاستبداد، أو تتباطأ عن العمل الدؤوب، مكتفية بملهاة  الإنبهار بإنجازات شكلية بسيطة لا تنفذ إلى العمق، أو مستهينة بالثمن الواجب دفعه، ظنا منها أن طريق التغيير العميق الجذري معبد مفروش بالورود.
    نكتب هذا ونحن نرى ونتابع ما ورثته  ثورات الربيع العربي، وما وقفت عليه من حجم الخراب الذي تركته سياسة الأرض المحروقة التي نهجها الاستبداد على المستوى السياسي والاقتصادي والاجتماعي، ولازالت الأمة ومختلف الحكومات التي أفرزتها ثوراتها بكل من مصر وتونس وليبيا واليمن، تعيش تعقيداته حسب خصوصية كل قطر[7].
  لا يترك الاستبداد إلا الخراب على كافة الأصعدة، خراب في السياسة والإقتصاد، خراب في النخب والأحزاب والتنظيمات الأهلية، خراب في الأخلاق والقيم، خراب في الهمم والإرادات، خراب في النفوس والعقليات....، وغير ذلك مما يصعب حصره من آثار الفساد والإفساد القروني والتدمير الممنهج، لعناصر القوة والمنعة بالمجتمع.
   وعن أسس خراب الإستبداد ومظاهره التي يبثها في المجتمع، وعن مسارات عمل رجال التغيير في المرحلة الانتقالية لمعالجتها، يحدثنا الأستاذ ياسين عن ثلاث أسس وثلاث مسارت قائلا: " لا بد لأي حركة تغيير مجتمعية إذا وصلت إلى سدة الحكم أن ترث تركة ثقيلة من الخراب الذي عمقه الإستبداد في دواليب الدولة وحياة المجتمع، ويمكن إجمال مظاهر وأسس هذا الخراب في: الذهنيات الرعوية التي كرسها في المجتمع، والأنانيات المستعلية، والعادات الجارفة، مما يتطلب أن تنصب جهود المرحلة الإنتقالية على إحداث التغيير في الجو الفكري والنفسي والعملي في الأمة"[8] .
   ثم يوضح ما يترقب شعوبنا وحركة التغيير فيها من جهود كل ابنائها الخيرين لإعادة بناء الدولة والمجتمع على  أسس ومنطلقات جديدة قائلا: " إن مشاكل الأمة متشعبة، ومهمات البناء ثقيلة، ولا ينهض لها إلا الأمة كلها حين تستيقظ وتشارك، حين تحيى من موت بالإسلام، حين تمسك أمرها بيدها...."[9] .
  ويشير إلى مخلفات الإستبداد وإرثه الخطير على المستوى السياسي والإجتماعي قائلا: "وجود أنظمة إن قوضت وقصمها الله لظلمها فسيبقى بعدها مخلفاتها ...من تكتلات حزبية و تجمعات  قبلية عشائرية، أو ثقافية سياسية، أو مصلحية، تكيد لحركة التغيير خاصة إن كانت صبغتها وشعارها إسلاميا ، داعيا الى  تعبئة الأمة وراء علمائها"[10].
    ويذكر أهم المشكلات المرتبطة بالفساد السياسي والاجتماعي وعلى رأسها اقتصاد البلد الموضوع لخدمة مصالح المترفين، والثروات الحرام التي نشأت عن الابتزاز والرشوة واستغلال النفوذ والسرقة من الأموال العامة، والنفوس التي ألفت الكسل، والعقول التي تخدر حسها بفعل الإعلام.، وفساد العلاقات بفساد القضاء والإدارة والذمم الفردية، وفساد العادات والذهنيات، وسيطرة التنافس على الدنيا، والأنانية وغيرها ... "[11].
   ويورد أحد أكبر العقبات في وجه التغيير، يسميها بعقبة الداء العضال، داء الخمول العام الذي تعاني منه الأمة قائلا رحمه الله: "لكن جمهور الأمة وقاعدتها عاشت على ذهنية خاملة، على ذهنية أنها رعية ترعى دون حق لها في الإعتراض، وأن الحكم المنتصب شرعي مهما كانت جرائمه"[12].
   ثم يواصل التفصيل في وصف هذا الداء بالقول:" رسخ في أذهان عامة المسلمين، لطول ما أُسيء تعليمهم ولعب بعقولهم، أن على الرعية أن ترضى ببؤسها، وأن لا ترفع الرأس لترد على الحاكم، زاد هذه الذهنية رسوخا في أرض الخمول العام شراسة الظلمة المتعاقبين على الحكم، إبان الملك العاض ثم  الجبري، وبلغ تبلد العامة حد الموت السياسي الذي نعرفه ونشكو منه : الدعوات الرسمية والمتدروشة إلى الزهادة والقناعة وغض البصر عما يبتزه منك الأقوياء"[13].
    إن أهم شيء اشتغل الاستبداد في منطقتنا العربية على تدميره ليس هو الإمكانات المادية، ولا السياسية، ولا الاقتصاد، رغم أهمية هاته القضايا جميعها في صناعة التغيير، بل هو الإنسان صانع التغيير وهدفه ومبتغاه، الذي تمت إعادة صياغته لينقاد بشكل طوعي للدكتاتوريات الحاكمة في بلداننا، وإلى هذا يشير خليل قنديل قائلا " ...استطاع استبداد السلطان في الشرق عموماً، وفي الوطن العربي بشكل خاص، أن يحفر عميقاً في الوجدان الجمعي، وأن يتصلب في الروح بسماكة فولاذية، الى الدرجة التي أصبحت فيها هذه الذات تخضع بشكل طوعي لاستبداد السلطان"[14] .
  ومن أخطر ما ترثه  ثورات التغيير في عالمنا العربي، فقر الادمغة بسبب الإعلام، وارتهان القرار السيادي للغرب، وحول هاته المعاني يتحدث الاستاذ ياسين قائلا" ..وتفقر أنظمة الجبر أدمغتنا بإعلامها الملون المبهرج، الساري المتحكم في كل مجالات حياتنا، فإذا أدمغتنا المغزوة، المفقرة لا تستطيع الكشف عن أسباب نشوء طبقية  يتجاور فيها البذخ الفاجر مع البؤس الأسود. الخمور المعتقة معروضة على السفهاء، والقمح الأمريكي يمن به شيطان الجاهلية علينا معشر المحاويج في بلاد المسلمين الخصبة، التي لا تطعم سكانها"[15].
  يذهب جين شارب، الملقب بأستاذ الثورات المعاصرة بشيء من التفصيل إلى تأكيد نفس تركة الخراب المسمومة التي ذكرها الأستاذ عبد السلام ياسين حول إرث الاستبداد فيقول:"إن انهيار الأنظمة الدكتاتورية حتى وإن وقع إلا أنه لن يمحو جميع المشاكل الأخرى في المجتمع  بين عشية وضحاها، فالفقر والجريمة وعدم الفعالية والبيروقراطية، وتخريب البيئة، وفقدان الأمل في التغيير وانعدام الثقة هو ما تورثه الانظمة القمعية،"[16]، لكنه مع كل هذه التركة الثقيلة والإرث الخراب يرى شارب أن "سقوط هذه الأنظمة سيكون له على الأقل الحد الأدنى من تخفيف المعاناة، وفتح الطريق أمام إعادة بناء المجتمع بوجود حريات سياسية وديموقراطية شخصية، وبوجود عدالة اجتماعية، وهذا ما تشهد به  النتائج التي نراها بعد إسقاط أنظمة استبدادية عبر العالم في بلدان مختلفة  من أوربا مثل: استونيا ولاتفيا ولتوانيا وبولندا وألمانيا وتشكوسلوفاكيا والفلبين.. وغيرها"[17].
إن الشعوب كما يقول لا بويسي:"هي التي تسلس القياد لمضطهدها، ولو كفت عن خدمته لضمنت خلاصها، إن الشعب هو الذي يسترق نفسه بنفسه، وهو الذي يذبح نفسه بيده، إذ لما كان يملك الخيار بين أن يكون عبدا أو يكون حرا، تخلى عن حريته ووضع القيد في عنقه"[18].
" ...إن هذا الطاغية ما من حاجة إلى محاربته وهزيمته، فهو مهزوم من تلقاء ذاته، إن لم ترض البلاد باستعباده لها، كما لا يتعين انتزاع  أي شيء منه، بل يكفي الامتناع عن إعطائه أي شيء....، فالشعوب إذن هي التي تسلس القياد لمضطهدها لأنها لوكفت عن خدمته لضمنت خلاصها، وتبقى الحرية وحدها هي التي لا يرغب الناس فيها لا لسبب إلا لأنهم إذا ما رغبوا فيها نالوها"[19].
   لقد بينت ثورات الربيع العربي أن التغيير نحو الحرية والانعتاق ممكن، متى تحققت سننه التي لا تحابي أحدا، ومتى  تحقق الحد الأدنى من شروطه التي أولها  تغيير إرادة الشعوب نحو طلب الحرية، هذه الإرادة التي لا سبيل إليها بغير التربية المنصبة على جوهر الإنسان ومعناه قبل مبناه، قال الله تعالى: " إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم" فكلما انصبت برامج العمل على تربية الشعوب وتغيير ما بها مما ذكرنا سابقا من أمراض، كلما انبعثت إرادة جهاد الباطل وطلب الحرية، إذ الإرادة باعث العمل ومفتاح الحرية، كما يقول أبا القاسم الشابي في أنشودة الحرية:
إذا الشعب يوما اراد الحياة       فلابد ان يستجيب القدر
  ولابد لليل أن ينجلي             ولابد للقيد أن ينكسر 


[1]   ـ تختلف أساليب الدولة العميقة في محاولات عودة الاستبداد من الاساليب الدموية الوحشية كما وقع عبر الانقلاب العسكري الدموي بمصر الذي ارتكب محرقة جماعية في حق المواطنين المصريين المحتجين في ميداني التحرير ورابعة ، إلى الاساليب الناعمة كما هو الشأن في الحالة التونسية.
[2]  ـ  عبد السلام ياسين ، "إمامة الأمة" ، ط 2 ، دار لبنان للطباعة والنشر، بيروت، ص: 42
[3]  ـ عبد السلام ياسين، العدل الاسلاميون والحكم مطبعة الافق ، ط 2 /2000 ، ص
  [4] ـ  جين شارب ، "من الدكتاتوربة الى الديمقراطية: اطار تصوري للتحرر"، ترجمة خالد دار عمر ، مؤسسة ألبرت انشطاين، الطبعة الثانية 2003، ص11 ،12   "بتصرف"
[5]  ـ جين شارب ، المرجع نفسه، ص 12 "بتصرف"
[6] ـ  عبد السلام ياسين،"المنهاج النبوي تربية وتنظيما وزحفا"، الشركة العربية الافريقية للنشر والتوزيع، الطبعة الثانية 1989، ص 430  
[7]  ـ أكتب هذا في أحد أيام صيف 2013 والعيون يومها على ما يقع في بلدان الربيع العربي، التي استطاعت أن تتخلص من رموز الدكتاتوريات، لكنها لازالت تقاوم ارتدادات الدولة العميقة، وتركة خراب الاستبداد، بكل من تونس ومصر واليمن وليبيا... الذي لم تسلم منه أية مؤسسة من مؤسسات الدولة والمجتمع بهذه البلدان.
[8]  ـ  د. ربيع حمو،"التغيير في نظرية المنهاج النبوي عند الامام عبد السلام ياسين  مفهومه ومرجعيته وشروطه"، كتاب اعمال المؤتمر الدولي الثاني في نظرية المنهاج  النبوي، " اسطنبول  16/17 يناير 2016، الجزء الأول، ص 31.
[9]  ـ عبد السلام ياسين،"المنهاج النبوي تربية وتنظيما وزحفا"، الشركة العربية الافريقية للنشر والتوزيع، الطبعة الثانية1989،ص404.
[10]  ـ نفسه ، ص 404
[11]  ـ نفسه، ص 404/405
[12]  ـ عبد السلام ياسين،"المنهاج النبوي تربية وتنظيما وزحفا"، الشركة العربية الافريقية للنشر والتوزيع، الطبعة الثانية1989،ص409
[13]  ـ نفسه، ص420
[14]  ـ  خليل قنديل "روح الاستبداد " مقال منشور بمجلة الامارات اليوم، بتاريخ 2 يناير2012.
[15]  ـ عبد السلام ياسين مرجع سابق، ص:422 و 426
[16]  ـ جين شارب مرجع سابق ص 10
[17]  ـ جين شارب ، مرجع سابق،  ص 10
[18]  ـ اتيان دو لابويسي " العبودية المختارة" ترجمة صالح الاشمر، دار الساقي، بيروت ، الطبعة العربية الاولى 2016 ، ص 30 و31
[19]  ـ نفسه، ص 33








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. من يتحمل مسؤولية تأخر التهدئة.. حماس أم نتنياهو؟ | #التاسعة


.. الجيش السوداني: قواتنا كثفت عملياتها لقطع الإمداد عن الدعم ا




.. نشرة إيجاز - الحكومة الإسرائيلية تغلق مكتب الجزيرة


.. -تجربة زواجي الفاشلة جعلتني أفكر في الانتحار-




.. عادات وشعوب | مدينة في الصين تدفع ثمن سياسة -الطفل الواحد-