الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


انابيب الغاز الروسية وتركيا في المسار الجيوسياسي التاريخي للعالم

جورج حداد

2023 / 4 / 5
العولمة وتطورات العالم المعاصر


إعداد: جورج حداد*


لا حاجة للتذكير بأن الاتحاد السوفياتي السابق، وبالاخص روسيا، قدم اكبر التضحيات في الصراع ضد النازية خلال الحرب العالمية الثانية ليس دفاعا عن نفسه فقط، بل ودفاعا عن اوروبا اولا وعن شعوب العالم قاطبة. ولولا روسيا والاتحاد السوفياتي، لكانت الهمجية النازية لا تزال تسود العالم الى اليوم، والى اجل غير معروف. وفي ملحمة "الحرب الوطنية العظمى" لروسيا (في 1941 ــ 1945) خسر الاتحاد السوفياتي اكثر من 29 مليون شهيد ومفقود، وعشرات ملايين الجرحى والمعاقين والاسرى؛ ودمرت الوف المدن والبلدات والقرى السوفياتية، كليا او جزئيا، بما فيها مدن روسية كبرى كــ ستالينغراد (فولغوغراد حاليا)، ولينينغراد (بتروغراد حاليا) التي استشهد اكثر من نصف سكانها الثلاثة ملايين؛ كما دمر اكثر من 80% من البنى التحتية والاقتصاد السوفياتي، ووضعت البلاد على حافة مجاعة حقيقية. ومع ذلك فإن كل هذه التضحيات المروّعة للشعوب السوفياتية وفي طليعتها الشعب الروسي، قوبلت بجحود لا يوصف من قبل اوروبا الغربية واميركا، بل ان الزعيم الامبريالي البريطاني ونستون تشرشل، في خطبته الشهيرة التي القاها في احدى الكليات العسكرية الاميركية في 1946 والتي دشن بها "الحرب الباردة" بين المعسكرين الغربي والسوفياتي السابق، ذهب الى حد القول ان ما يسمى "الدول الدمقراطية" أخطأت في كونها، بعد القضاء على النازية، لم تتابع الحرب ضد الاتحاد السوفياتي وتقوم بتدمير الجيش الروسي ووضع اليد على روسيا، العدو التاريخي لما يسمى "الحضارة الغربية"، اي الامبريالية الغربية.
ولكن اذا كانت عين الامبريالية "بصيرة" فإن يدها كانت وستظل "قصيرة". وقد دخل العالم اليوم العصر الذي سيتم فيه كسر يد الامبريالية مرة والى الابد. وتحاول اميركا والناتو اليوم، في الحرب الاوكرانية، "تصحيح الخطأ" الذي اشار اليه تشرشل، ولكن بعد ان فات الاوان جدا، بل بعد ان انعكست الآية ولم يعد المعسكر الامبريالي قادرا على تحطيم روسيا وحلفائها، وصار المطروح على "جدول الاعمال"، في الساحة الجيوسياسية العالمية، هو القضاء على الهيمنة الامبريالية الغربية واليهودية العالمية.
XXX
الا انه بالرغم من كل الجحود والعداء الامبريالي الغربي لروسيا، فإنها تابعت نهج الانفتاح والتقارب والتعاون والتفاعل الحضاري مع اوروبا الغربية، بوصفها ــ اي روسيا ــ "الاخ الاكبر" والدولة الاعظم في القارة الاوروبية، وبوصفها "الدولة الاوراسية" العظمى، وجسر التواصل الاكبر والدائم بين اوروبا الغربية وبين العالم الاسيوي ــ الافريقي وكل شعوب العالم المناضلة لاجل الحرية والاستقلال والتقدم.
XXX
وعلى هذه الخلفية كانت روسيا تزود البلدان الاوروبية بالغاز الروسي، وتبيعه لها باسعار متدنية جدا، خارج اطار المضاربات الاحتكارية التي ترافق ذبذبات السوق الرأسمالية العالمية. وكانت عملية تزويد البلدان الاوروبية بالغاز الروسي تتم عبر انابيب الغاز التي مدتها روسيا على نفقتها التامة الى اوكرانيا وعبرها، لكونها جغرافياً اقرب الطرق البرية بين روسيا واوروبا. ومقابل هذه العملية كانت اوكرانيا تحصل على حاجاتها الخاصة من الغاز، مقابل اسعار تفضيلية شبه مجانية، كما تحصل على رسوم الترانزيت بالاسعار العالمية، وتقبض اجمالي رسوم الترانزيت سنويا، سلفا، اي قبل مرور الغاز في اراضيها الى المشترين الاوروبيين الاخرين. وحصيلة عائدات هذه العملية لاوكرانيا كانت تبلغ احيانا بضع مليارات الدولارات سنويا.
وطبعا ان القيادات العدوانية، الاميركية واليهودية العالمية والناتوية، لم تكن راضية عن هذه العلاقات التجارية والاقتصادية والمالية بين روسيا والبلدان الاوروبية الاخرى، عبر اوكرانيا. وكانت تلك القيادات واجهزتها المخابراتية وابواقها الاعلامية تعمل بشتى الوسائل:
1ــ لتخريب اي شكل من اشكال العلاقات الايجابية الروسية ــ الاوروبية.
2ــ لنسف جسر التواصل الجغرافي الروسي ــ الاوروبي، المتمثل باوكرانيا.
3ــ لوضع اليد على اوكرانيا وتحويلها الى قاعدة عسكرية للناتو ونقطة انطلاق للعدوان على روسيا، اعتمادا على المنظمات الاوكرانية النازية والفاشية، القديمة ــ الجديدة، والتي تمتلك جزئيا "حاضنة شعبية"، موالية للغرب، ومعادية تاريخيا لروسيا وللكنيسة الاورثوذوكسية الروسية.
XXX
وفي 2005 نجحت المخابرات الاميركية والناتوية والاسرائيلية في تنظيم وركوب موجة الاحتجاجات "الشعبية" ضمن الصراعات الداخلية الاوكرانية. وتم تنظيم اول "ثورة ملونة" هي ما سمي "الثورة البرتقالية"، التي اوصلت الى السلطة القوى اليمينية، الموالية للغرب والمعادية لروسيا، ومن ضمنها المنظمات النازية القديمة ــ الجديدة. ومع ذلك حرصت روسيا على ان تبقى توريدات الغاز الروسي الى اوكرانيا واوروبا على ما كانت عليه.
ولكن سرعان ما انفجرت ازمة الغاز بين روسيا واوكرانيا، اذ اخذت السلطة الاوكرانية الانقلابية الجديدة تحاول ابتزاز روسيا، بالتلكؤ في دفع المستحقات عليها ثمنا للغاز المستهلك من قبلها، والمطالبة بتخفيضات اضافية كبيرة على الاسعار، وهي الاسعار المخفضة جدا في الاصل.
والاسوأ من ذلك كله ان اجهزة العدادات والرقابة التقنية الروسية على ضخ الغاز عبر اوكرانيا بدأت تكتشف ان اوكرانيا تقوم بسرقة قسم من الغاز المار ترانزيت في اراضيها الى البلدان الاوروبية الاخرى. وهذا ما اضطر روسيا لان تقوم في 1 كانون الثاني 2006 بقطع جميع امدادات الغاز الى اوكرانيا وعبرها لمدة اربعة ايام، كرسالة تحذير. ولكن سرقة الغاز استمرت، وبوقاحة، مع الادعاء بان المراجع الروسية تكذب وتفتري على اوكرانيا.
وهذا ما دفع روسيا في شهر اذار 2008 الى تخفيض امدادات الغاز الى اوكرانيا وعبرها.
وتقول بعض المراجع ان شركة التوريد الروسية غازبروم اكتشفت ان سرقة الغاز الروسي تتم ليس فقط "بمبادرة" اوكرانية، بل وبالتواطؤ بين اوكرانيا وبين الدول الاوروبية المستوردة (المسروقة) ذاتها، ومن ثم اجبار روسيا على اعادة ضخ ما يعادل الكمية المسروقة.
وهذا ما دفع الجانب الروسي في كانون الثاني 2009 الى قطع الإمدادات للعديد من الدول الأوروبية، لعدة اسابيع، حيث أبلغت ثمانية عشر دولة أوروبية عن حدوث انخفاضات كبيرة أو قطع كامل لإمدادات الغاز التي يتم نقلها عبر أوكرانيا من روسيا.
وفي هذا الوضع الازموي المعقد والمتفاقم، ولعدم تحميل الاقتصادات والشعوب الاوروبية تبعات السياسة الخرقاء للقيادات الاميركية والناتوية والزمرة العميلة الحاكمة في كييف، الموالية للغرب الامبريالي والصهيونية، قررت القيادة الروسية الالتفاف على الجغرافيا الاوكرانية، ومد خطوط انابيب غاز جديدة شمالي وجنوبي اوكرانيا، للاستمرار في ضخ الغاز الى البلدان الاوروبية، بالرغم من التكلفة الباهظة لتلك الانابيب. وبناء عليه تقرر مد خط انابيب "السيل الشمالي" عبر بحر البلطيق، الى المانيا، لتزويدها بحاجتها الخاصة من الغاز، وعبرها لتزويد دول اوروبا الغربية والشمالية بالغاز؛ ومد خط "السيل الجنوبي"، عبر البحر الاسود، الى بلغاريا، لتزويد بلدان اوروبا الشرقية والوسطى والجنوبية بالغاز. ويبقى الخط القديم الواصل لاوكرانيا لاجل تأمين استهلاكها الخاص فقط.
وأُفتُتح خط أنابيب "السيل الشمالي ــ1" في 8 اب 2011. وافتتح العمل لمد خط "السيل الشمالي ــ2" في 8 تشرين الاول 2012. وذلك في ظروف معارضة شديدة من قبل القيادة الاميركية.
وفي كانون الثاني 2008 وصل الرئيس بوتين الى بلغاريا ووقع مع رئيس الجهورية البلغارية حينذاك غيورغي برفانوف اتفاقية مد انبوب "السيل الجنوبي" من الاراضي الروسية، عبر البحر الاسود، فإلى الاراضي البلغارية. وذلك في ظروف معارضة شديدة من قبل القيادة الاميركية والناتوية، وموقف ذيلي تجاه اميركا من قبل الاتحاد الاوروبي. ولمنع تحقيق مشروع انبوب "السيل الجنوبي"، طرحت القيادة الاميركية مشروع انبوب منافس اسمه "نابوكو" شاركت في تأسيسه عدة دول اوروبية. وكان يهدف الى جر الغاز الى اوروبا من اذربيجان وغيرها من الدول غير روسيا. ولكن مشروع "نابوكو" مات قبل ان يولد، لان الاسعار التي عرضها كانت مرتفعة جدا، وشروط عروضه سيئة. ومع ان خط انبوب "السيل الجنوبي" كان سيدر ارباحا بمليارات الدولارات على بلغاريا، ويجعلها مركز جذب للاستثمارات الخارجية الكبيرة، ويضعها في موضع مميز على الخريطة الجيوسياسية العالمية، فإن البرلمان البلغاري تأخر في المصادقة على الاتفاقية مع روسيا، لان النخب السياسية البلغارية ضربت عرض الحائط بالمصالح الوطنية لبلغاريا واصرت على الحصول على موافقة القيادة الاميركية والناتوية والاتحاد اوروبية، قبل تصديق البرلمان البلغاري على الاتفاقية مع روسيا. وانجزت روسيا مد الخط على القسم الروسي حتى شاطئ البحر الاسود، وانتظرت مصادقة البرلمان البلغاري قبل الشروع في مد الخط في القسم البحري. واستمر الانتظار الروسي عبثا حتى سنة 2014، حينما قام الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بزيارة تركيا. وفي اللقاء مع الرئيس اردوغان عرض عليه تحويل خط انابيب "السيل الجنوبي" من بلغاريا الى تركيا. وهو ما اتفق عليه الرئيسان، ومن ثم المراجع والمؤسسات الروسية والتركية المختصة في كانون الاول 2014. وبطلب من الرئيس التركي، تم تغيير اسم الخط ليصبح "السيل التركي". وبدأ العمل فورا في مد الانابيب.
وقد تعثر المشروع بعد توتر شاب العلاقات بين البلدين إثر إسقاط المقاتلات التركية طائرة روسية من طراز سوخوي 24 فوق الأراضي التركية، وقيام المسلحين التركمان بالقتل الغادر للطيار الروسي الذي تمكن من الهبوط بالمظلة، في تشرين الثاني 2015.
وتم إحياء المشروع خلال زيارة أردوغان لموسكو، وتقديم الاعتذار، وتحقيق المصالحة التركية ــ الروسية في آب 2016.
وبدأ العمل في مد الانابيب في قاع البحر الاسود ومن ثم في الاراضي التركية في أيار 2017، واكتمل في تشرين الثاني 2018.
XXX
وعدا العائدات المالية الكبرى التي ستجنيها تركيا وتوفر لها دعامة ثابتة لاقتصادها، فإن تحولها الى وسيط رئيسي لتوزيع الغاز الروسي في اوروبا، يمثل خطوة تقريرية نحو موضعة جديدة للدولة التركية في اللوحة الجيوسياسية العالمية، بكل ما يستتبع ذلك من تغييرات جذرية: تركية، اقليمية، وفي العالم العربي ــ الاسلامي، وفي الصراع العربي ــ الاسرائيلي، وعالميا. ونحاول فيما يلي ان نقارب الخلفية والمجريات التاريخية لهذا التحول، وآفاق تطوره، في النقاط التالية:
* * *
ــ1ــ بعد سحق الروس للحملات الصليبية "الشمالية" ضدهم في 1242، ونهاية الحملات الصليبية "الشرقية" في 1291، والضعف الشديد الذي حل بالامبراطوية البيزنطية (القسطنطينية) بفعل تلك الحملات الصليبية "المسيحية الغربية"، نشأ خطر كبير في نظر دول اوروبا الغربية، التي انطلقت منها الحملات الصليبية، وهو ان تتقدم الدولة الروسية الاورثوذوكسية الصاعدة لاخذ مكانها في القسطنطينية، بالتفاهم مع بيزنطية، الاورثوذوكسية ايضا، او رغما عنها. وهذا يعني ان تضع روسيا قدمها في البحار الدافئة، وتقطع الطريق على اعادة تحقيق المصالح الاستعمارية التوسعية لاوروبا الغربية في الشرق، التي لم تتخلَّ يوما عنها. ولتجنب وقوع هذا "الخطر"، عملت البابوية الكاثوليكية والدول الاستعمارية الاوروبية الغربية، بالتعاون مع الطغمة المالية اليهودية بما فيها "اليهود العرب!" الاندلسيون، ومع شريحة واسعة من الاريستوقراطيين الاغنياء اليونانيين البيزنطيين (وهم من كانوا يسمون: "فناريوتي"، لانهم كانوا يضيئون المصابيح امام قصورهم وفيلاتهم في القسطنطينية طوال الليل) ــ عملوا جميعا على تشجيع وتمويل وتقديم المساعدة العسكرية للعثمانيين لاجتياح القسطنطينية، وارتكاب مجزرة كبرى في اهاليها المسيحيين الشرقيين (الاورثوذوكس)، وعثمنتها، وتحويلها الى عاصمة لامبراطورية عثمانية كبرى، تضطلع بدور حاجز "اسلامي" كبير بين روسيا وبين العالم العربي الاسلامي.
ومن جهة ثانية، استغلت البابوية والدول الاستعمارية الاوروبية الغربية، غزو العثمانيين "المسلمين!" للقسطنطينية (الذي كانت هي شريكة رئيسية فيه)، واتخذته ذريعة ليس لمهاجمة العثمانيين انفسهم، بل لمهاجمة مدن الاندلس العربية الاسلامية و"استعادتها" (reconquesta). (وهو ما تكرر في ايامنا هذه، حيث بادرت الامبريالية الغربية الى صناعة "الارهاب التكفيري"، ثم اتخذت منه ذريعة ورفعت شعار "مكافحة الارهاب" للتدخل المباشر والعدوان على الشعوب العربية والاسلامية، وخصوصا على المقاومة الفلسطينية والعربية والاسلامية).
* * *
ــ2ــ في اب 1514 وقعت معركة جالديران بين الجيش العثماني والجيش الفارسي؛ فانتصر العثمانيون، بفضل مشاركة الاكراد الى جانب العثمانيين، كما يقول المؤرخ الكردي محمد زكي. وبنتيجة هذه المعركة تم عزل ايران (بلاد فارس) عن بقية الجسم العربي الاسلامي في المشرق العربي.
* * *
ــ3ــ وفي اب 1916 وقعت "معركة مرج دابق" قرب حلب بين الجيش العثماني الغازي وبين جيش المماليك. وانتصر العثمانيون. ويعزو كثير من المؤرخين هذا الانتصار الى ثلاثة عوامل هي:
ــ أ ــ حيازة الجيش العثماني الاسلحة الحديثة ذات الطراز الاوروبي وخصوصا المدفعية، التي لم يكن المماليك يهتمون بها.
ــ ب ــ المشاركة الواسعة للقبائل الكردية في القتال الى جانب العثمانيين.
ــ ج ــ الخيانات في صفوف المماليك.
* * *
ــ4ــ وأشرعت نتائج معركة مرج دابق الابواب امام العثمانيين واتباعهم من العشائر الكردية، لاكتساح مجمل الاراضي العربية بما في ذلك مصر وشمالي افريقيا والاراضي المقدسة. وادعى السلطان سليم انه "هاشمي" ومن "اهل البيت"، وانتزع الخلافة من العرب، واعلن نفسه خليفة المسلمين، لشرعنة الحكم العثماني، واستبعاد صفة الاستعمار الخارجي عنه.
* * *
ــ5ــ وفي سنة 1536، اي بعد 20 سنة فقط من معركة مرج دابق، وقع السلطان سليمان القانوني مع ملك فرنسا فرانسوا الأول ما تسمى اتفاقية "الامتيازات الاجنبية". وفي السنوات اللاحقة وقعت السلطنة سلسلة من الاتفاقيات المماثلة مع عدد من الدول الاوروبية الاخرى.
وبموجب هذه الاتفاقيات أعطيت الدول الاوروبية:
ــ "حقوق" انشاء القنصليات الاوروبية اينما تريد في جميع مدن السلطنة،
ــ "حقوق" انشاء "محاكم اوروبية" خاصة تنظر وحدها في القضايا الخاصة بحاملي الجنسيات الاوروبية.
ــ امتيازات تعليمية.
ــ "حقوق" منح جنسية الدولة الاوروبية المعينة، لعدد غير محدود من رعايا السلطنة وخصوصا المسيحيين.
ــ "حقوق" تعيين عدد غير محدود كتراجم او موظفين (غالبا شكليين) في القنصليات الاوروبية.
ــ و"حقوق" "الوصاية" و"الحماية" الاوروبية للطوائف المسيحية في السلطنة العثمانية.
كما نصت تلك الاتفاقيات على اعفاءات ضريبية وجمركية، وتسهيلات مالية واستثمارية، كبرى، للدول الاوروبية وقنصلياتها وحاملي جنسياتها الاصليين و"العثمانيين".
وادى كل ذلك الى تمكين الدول الاستعمارية الاوروبية "الصليبية"، من التدخل واسع النطاق في الشؤون الداخلية، وتكوين طوابير خامسة موالية لاوروبا داخل السلطنة. كما كرس ورسّخ نهجا تبعيا للسلطنة نحو الدول الاوروبية.
وتمظهر هذا النهج الغربي للسلطنة، بشكل خاص، في العداء ضد روسيا. وان تسعة اعشار الحروب الخارجية التي خاضتها السلطنة كانت ضد روسيا. وفي كل مرة كانت السلطنة تتعرض للهزيمة، كانت الدول الاستعمارية الغربية، ولا سيما بريطانيا وفرنسا، تسرع لنجدتها ضد روسيا. وكانت السلطنة تحصل على القروض من الدول الاوروبية والطغمة المالية اليهودية العالمية، لاجل تمويل حروبها. ومن ثم تعمد الى زيادة الضرائب ونهب الشعوب المستعمرة من قبل السلطنة، لاجل دفع الفوائد واعادة تسديد تلك القروض.
كل ذلك حول السلطنة العثمانية الى واجهة "شرقية ــ اسلامية!" للاستعمار الغربي، والى "محصّل ضرائب ونهب" للشعوب الشرقية، لمصلحة الغرب الاستعماري. اي انه بالمنظور التاريخي، فإن الغزو العثماني للشرق لم يكن اكثر من "حملة صليبية تاسعة باعلام اسلامية" ضد شعوب الشرق، بما فيها روسيا. وفي محصلة تاريخية فإن هذه الحملة "العثمانية ــ الصليبية" هي التي مهدت الطريق امام الاستعمار الغربي المكشوف للشرق قبل وبعد الحرب العالمية الاولى.
* * *
ــ6ــ حينما يحضر الاصيل ينتهى دور الوكيل:
في نهاية القرن التاسع عشر كانت قد انتهت مرحلة التوسع الجغرافي "السلمي" للاستعمار. وفي مطلع القرن العشرين كانت الضواري الاستعمارية تتزاحم لاعادة تقسيم العالم فيما بينها بالقوة.
وفي هذه الاثناء كانت السلطنة العثمانية قد بلغت الحضيض من حيث التفكك والانحطاط، اذ ان السلطان عبد الحميد كان قد علق العمل بالدستور في 1876 واستبد بالحكم الفردي المطلق ولقب بالسلطان الاحمر لكثرة ما ارتكب من الجرائم، خاصة ضد ابناء القوميات والاتنيات غير التركية وغير الاسلامية، وضد المعارضين الاصلاحيين الاتراك والمسلمين. وتقول المرويات ان البوسفور، ولكثرة ما القي فيه من جثث الضحايا، تحول في حينه الى اكبر تجمع لسمك القرش المتوحش.
وقد تشكلت حينذاك جمعية "الاتحاد والترقي"، من ضباط الجيش ورجال الانتلجنتسيا والوجهاء الاصلاحيين، الاتراك، وشارك فيها بشكل بارز ابناء القوميات والاتنيات غير التركية وغير الاسلامية، ولا سيما العرب والارمن. وكانت "الاتحاد والترقي" هي النواة المحركة لتشكيل جمعية اصلاحية اوسع نطاقا وهي جمعية "تركيا الفتاة" او "تركيا الفتية". وكانت على رأس "الاتحاديين" الثلاثية الباشاواتية: انور باشا، وطلعت باشا وجمال باشا (السفاح). ومن صفوف "تركيا الفتاة" خرج لاحقا كمال مصطفى (اتاتورك). وكان "الاتحاديون" و"تركيا الفتاة" على صلة وثيقة بالطغمة المالية اليهودية، وبــ"اليهود المتسسترين" (المعروفين باسم "اليهود الدونمه"). ويقول الكثير من المصادر التاريخية ان اتاتورك كان واحدا من الدونمه.
وفي تموز 1908 حدثت ما تسمى "الثورة الدستورية" او "ثورة تركيا الفتاة"، التي اجبرت السلطان عبدالحميد على اعادة العمل بدستور 1876. واصبحت الكلمة العليا في البلاد لـ"الاتحاديين". وقد نجح "الاتحاديون" و"تركيا الفتاة" في ادخال بعض الاصلاحات على النظام السياسي، الا انه وبالرغم من المشاركة الفعالة لجمعيات ابناء القوميات والاتنيات غير التركية وغير الاسلامية، في الثورة، فانهم ــ اي "الاتحاديين" الاتراك ــ فشلوا في ان يترجموا على ارض الواقع مدلولات الشعار "الاتحادي"، ونزعوا اقنعتهم المزيفة وظهروا بوجوههم العنصرية الشوفينية التركية المتعصبة، ورفعوا شعار "التتريك" بدل "العثمنة"، وارتكبوا اكبر مجازر الابادة والتجويع والتشريد ضد الاتنيات غير التركية وغير الاسلامية، اكثر بكثير من ارتكابات السلطان عبدالحميد نفسه. وتذكر بعض المرويات عن طلعت باشا قوله خلال المجازر ضد الارمن والاشوريين والسريان: "لقد انجزنا في 3 شهور، ما عجز عبدالحميد عن انجازه في ثلاثين سنة".
* * *
ــ7ــ في ظروف النهاية البائسة للسلطنة العثمانية في نهاية الحرب العالمية الاولى، وبعد ان "حُررت!" منها الولايات العربية والبلقانية، فان دولة تركيا "الوطنية" ذاتها، كانت مهددة بالتقسيم الى دويلات عدة تسيطر عليها مختلف الدول الاستعمارية الاوروبية الغربية "المنتصرة" في الحرب. وفي هذه الظروف، كانت توجد في تركيا المهزومة ثلاث مجموعات او كتل مجتمعية ـ اقتصادية ــ سياسية ــ عسكرية هي:
أ ــ الارستقراطية الليبيرالية التي كانت تتعكز على الاصلاحات الدستورية، من جهة، ومغازلة الجيش، من جهة ثانية، بهدف اعادة تجديد سلطتها وامجاد السلطنة العثمانية.
ب ــ سلك الضباط، ومن ورائهم الجيش، الذين كانوا يطمحون الى بناء "دولة وطنية" جديدة، على الطراز "الاوروبي"، يحكمونها بقبضتهم الحديدية.
ج ــ الطبقة البرجوازية (الرأسمالية) الصاعدة، التي كانت تتألف من كتلة سديمية من التجار الصغار والكبار، والحرفيين، واصحاب المشاغل والمانيفاكتورات والفبارك. وكانت هذه الطبقة الانتهازية والبراغماتية تتلوى وتتلون وتناور، بين الارستقراطية ا لاصلاحية والعسكر، لتشق طريقها، ساعية وراء مصالحها الطبقية الرأسمالية الضيقة.
وكانت هذه المجموعات تنقسم الى تيارين:
الاول ــ يدعو الى تجديد وتحديث السلطنة والتمسك بالخلافة الاسلامية للاتراك.
والثاني ــ يدعو الى اقامة جمهورية تركية حديثة على الطراز الاوروبي.
وكانت جميع دول وشعوب العالم في تلك الحقبة تعالج الجراح العميقة التي خلفتها مقتلة الحرب العالمية الاستعمارية الاولى التي تسببت بسقوط عشرات ملايين الضحايا، واكثر منهم من المصابين والمعاقين، ودمار لا يوصف.
وكانت الدول الاستعمارية "المنتصرة" تتداول و"تبازر" وتتبارز فيما بينها، لاعادة تقسيم وتقاسم الكرة الارضية من جديد.
وكان العالم كله مصدوما ومذهولا بانتصار الثورة الاشتراكية العظمى والسلطة السوفياتية الجديدة، سلطة العمال والفلاحين والمثقفين، في روسيا، والتي اكدت وجود طرق وافاق اخرى، انسانية، لوجود وتطور المجتمع البشري، غير الطريق الرأسمالي والاستعماري.
* * *
ــ8ــ على خلفية هذه اللوحة الجيوسياسية المعقدة والمتفجرة، انطلقت في 1919 "الحركة الوطنية الاستقلالية الاصلاحية" بقيادة مصطفى كمال (اتاتورك)، والتي ادت الى الغاء الخلافة والسلطنة العثمانية، واعلان قيام الجمهورية التركية في تشرين الاول 1923. واعلن اتاتورك ان الهدف النهائي لحركته هو بناء دولة قومية حديثة وتقدمية وعلمانية. ووقفت الحركة الاتاتوركية ضد تقسيم تركيا، وضد اعادة الاراضي الارمنية واليونانية والعربية المغتصبة لاصحابها التاريخيين، وضد اقامة دولة كردية منفصلة في اراضي الدولة التركية؛ وطبقت بشدة سياسة التتريك.
ويذكر ان منشأ الحركة الاصلاحية في تركيا يعود الى تشكيل جمعية "الاتحاد والترقي"، التي قادت "الثورة الدستورية" في 1908، والتي انبثقت عنها والى جانبها جمعية "الاتراك الفتيان" او "تركيا الفتية"، التي انبثقت عنها بدورها الحركة الانقلابية لمصطفى كمال (اتاتورك)، والتي كانت على علاقة وثيقة باليهود في السلطنة العثمانية: اليهود الاوروبيون الخزر (الاشكنازيم)، واليهود العبرانيون الاندلسيون السابقون (السفارديم)، الذين ظهر منهم "اليهود المتسترون" (اليهود الدونمه) الذين يقول الكثير من المصادر التاريخية ان مصطفى كمال (اتاتورك) كان واحدا منهم.
* * *
ــ9ــ ان القوى الرئيسية التي دعمت الحركة الاتاتوركية هي:
اولا ــ الجيش، الذي كان ولا يزال يحتل منزلة متميزة في هرمية تكوين الدولة "العسكرية" التركية: العثمانية القديمة، والتركية الجديدة، بمختلف اشكالها: الاستبدادي السلطاني، والدستوري "الدمقراطي" الشكلي، والدكتاتوري.
ثانيا ــ الطبقة البرجوازية (الرأسمالية) الصاعدة، المتطلعة نحو الغرب.
ثالثا ــ جماهير الفلاحين وفقراء المدن، الذين كانوا يعانون الامرّين من النظام الاقطاعي الرجعي العثماني، المغلف دينيا.
رابعا ــ الانتلجينتسيا التركية، ذات التطلعات الاصلاحية والتقدمية، وفي الوقت ذاته: الانتهازية والكوسموبوليتية الخائنة في غالبيتها.
* * *
ــ10ــ تميز اتاتورك والاتاتوركيون بمستوى عالِ من الديماغوجية والبهلوانية السياسية والتضليل الجماهيري. وللوصول الى اهدافهم انتهجوا سياسة متشددة في مكافحة التقاليد "الشرقية" وفرض "التغريب"؛ فاستبدلوا استخدام الاحرف العربية بالاحرف اللاتينية في اللغة التركية، وعملوا على "تنظيف" اللغة التركية من المفردات العربية (ولكنهم عجزوا عن ايجاد بدائل تركية للكلمات العربية التي يتألف منها شعارهم الرئيسي وهو: "حريت ــ مساوات ــ جمهوريت"). ومنع الاتاتوركيون لبس الطربوش والعمامة وطراز الالبسة الشرقية، وفرضوا طراز الالبسة الغربية؛ واعتدوا على الكثير من امكنة العبادة الاسلامية، وحولوا الكنيسة الاورثوذوكسية التاريخية العظيمة "آيا صوفيا" من جامع (كما كان قد جعلها "محمد الفاتح") الى متحف.
وكان الهدف من هذا "التغريب" المصطنع للدولة التركية "الشرقية" العريقة، هو ارسال رسالة الى العالم الغربي مفادها ان تركيا "الحديثة" و"الجديدة" هي على استعداد لان "تقطع" مع كل تاريخها الشرقي وتنضم "ثقافيا" واجتماعيا وسياسيا وعسكريا الى العالم الغربي، مقابل الاّ يتم تقسيمها كما قسمت البلدان العربية؛ والاّ تتم اعادة الاراضي المغتصبة (بما فيها القسطنطينية، المسماة زورا اسطنبول، وسميرنا، المسماة زورا ازمير)، الى اصحابها التاريخيين والشرعيين؛ وان تتم الموافقة الدولية على بقاء دولة تركية موحدة ومستقلة.
وفي هذا السياق وقفت الاتاتوركية "على حافة" التحول الالعباني الى"السَّوْفَتَة"، والتهديد المبطن انه اذا لم تنفذ الدول الغربية الاهداف الاتاتوركية المعلنة، فان "تركيا الجديدة" يمكن ان تتحالف مع السوفيات او ان تتحول هي ذاتها الى دولة سوفياتية. ولهذه الغاية، اقام الاتاتوركيون علاقات وثيقة مع السلطة السوفياتية الفتية، التي كانت تمثل الهاجس الاول والبعبع الاكبر للغرب. ونتوقف تاليا بشكل خاص عند هذه النقطة.
* * *
ــ11ــ في تاريخ الحركة الاشتراكية الدمقراطية والشيوعية العالمية وُجدت شخصية مهمة جدا، ولكن صاحبها ظل بعيدا نسبيا عن الاضواء لانه لم يشغل اي مركز قيادي في القسم الاخير من حياته. ونعني به: الكسندر بارفوس.
فهذا الرجل، هو الذي اضطلع بدور رئيسي في اقناع قيادة السلطة السوفياية الناشئة، وعلى رأسها لينين، بـ"ثورية" اتاتورك والحركة الاتاتوركية.
وفي شخصية الكسندر بارفوس كانت توجد ثلاثة خطوط رئيسة هي:
أ ــ انه يهودي روسي.
ب ــ انه دكتور في علم الاقتصاد، ومثقف ماركسي كبير، واحد اكبر "الادمغة" في الحركة الاشتراكية الدمقراطية العالمية، كما وصفه احد معاصريه، بعد موته ودفنه في المانيا سنة 1924.
ج ــ انه كان احد كبار رجال الاعمال الدوليين.
وكان بارفوس على صلة وثيقة بقادة "الاممية الاشتراكية الدمقراطية" (الاممية الثانية)، و"حزب العمال الاشتراكي الدمقراطي الروسي" الذي انبثق عنه لاحقا "الحزب الشيوعي الروسي"، و"الحزب الاشتراكي الدمقراطي الالماني" و"عصبة سبارتكوس" التي انبثق عنها لاحقا "الحزب الشيوعي الالماني"؛ وكان بارفوس ذا تأثير فكري كبير عليهم. وكان من اقرب اصدقاء روزا لوكسمبورغ ولينين، الذي كان يحرص على ان يطلع على كل كتابات الكسندر بارفوس.
وخلال مشاركته في احداث ثورة 1905 في روسيا، اعتقلته الشرطة القيصرية وحكم عليه بالنفي الى سيبيريا؛ ومن هناك فر الى المانيا، وتابع نشاطاته السياسية والفكرية متنقلا بين المانيا وسويسرا وروسيا، مستخدما عدة اسماء مستعارة.
ومن المانيا سافر الى اسطنبول حيث عاش سنوات طويلة، واسس شركة لتجارة الاسلحة، عشية حرب البلقان في 1912 ــ 1913، وجنى منها اموالا طائلة.
ومع اندلاع الحرب العالمية الاولى حصلت شركة بارفوس على امتياز تزويد الجيش التركي بالمواد الغذائية؛ فنشأت علاقة وثيفة بينه وبين قادة الصف الاول في جمعية "الاتحاد والترقي" وجمعية "تركيا الفتاة" و"الحركة الاتاتوركية"، من الثلاثي الباشاواتي: انور وطلعت وجمال، وصولا الى مصطفى كمال (اتاتورك)؛ وقد اختير بارفوس كمستشار مالي وسياسي لجمعية "تركيا الفتاة".
وبتأثير من بارفوس انتهج اتاتورك خط التقارب مع السوفيات في السنوات الاولى من حركته (1919 ــ 1921).
وبعد انتصار الثورة الاشتراكية في روسيا، وتحت تأثير بارفوس ومؤيديه، دعمت السلطة السوفياتية الناشئة الحركة الانقلابية الاتاتوركية، في بداياتها، بالمال والذخيرة والسلاح، معتبرة اياها "حركة اصلاحية ثورية"؛ ومن اجل تعزيز التقارب السوفياتي ــ الاتاتوركي، تخلت السلطة السوفياتية الجديدة عن المطالبة الروسية القديمة بمنح روسيا مركزا مميزا في المضائق (البوسفور والدردنيل)، وفي "تساريغراد" (التسمية الروسية لــ: القسطنطينية او اسطنبول). ويعتبر ذلك من الاخطاء التاريخية الكبيرة للسلطة السوفياتية الجديدة، على غرار خطأ فصل اوكرانيا وبولونيا عن روسيا القديمة بعد انتصار الثورة، واقامتهما كجمهوريتين مستقلتين، ولو تحت اليافطة السوفياتية، قبل السحق التام للتيارات المعادية للروس فيهما والموالية للغرب الاستعماري، منذ الغزو الروماني القديم حتى الغزو الهتلري في 1941؛ وخطأ إلحاق شبه جزيرة القرم اداريا باوكرانيا، من قبل خروشوف في 1954، ويلتسين في 1991.
لقد مارس بارفوس تأثيره الكبير في إقناع القيادة السوفياتية الناشئة بالتقارب مع اتاتورك ومساعدته بالمال والسلاح، وتلميع وجهه المزيف كـ"صديق للسوفيات" و"اصلاحي ثوري" صادق. واذا كان من المؤكد ان كمال اتاتورك، في تظاهره بالتقارب مع السوفيات كان يدجّل ويلعب "مسرحية سياسية"، فإنه من الصعب جدا القول ان الكسندر بارفوس كان يدجل ايضا ويخرج "مسرحية سياسية" قائمة على الدجل السياسي؛ ولعله من الاصح القول ان بارفوس تحول في هذه "اللعبة" من لاعب الى ملعوب به، اي ان اتاتورك استطاع تضليله واستخدامه كأداة لاقناع القيادة السوفياتية بانه ــ اي اتاتورك ــ هو صادق. وليس في علمنا ان لينين والقادة السوفيات الاخرين، قد شككوا بدور بارفوس. الا انه من المتداول ان سمعة بارفوس في اوساط الشيوعيين القدماء كانت سيئة، وكان بعضهم يتهمه بأنه كان عميلا للالمان.
* * *
ــ12ــ لقد حارب اتاتورك النظام العثماني القديم، واسقط الخلافة، وصارع ضد تقسيم تركيا واستعمارها؛ ولكن كل المعطيات تشير الى انه ــ بالرغم من الصراع ضد البلدان الاستعمارية الاوروبية الغربية ــ لم يكن يريد ان يبني دولة "سوفياتية" او"اشتراكية" او اي شكل من اشكال "الدمقراطية الشعبية"، بل كان يريد بناء دولة برجوازية حديثة، على الطراز الغربي، تكون جزءا لا يتجزأ من النظام الاستعماري والامبريالي والرأسمالي الدولي، ونداً للدول الاوروبية الغربية.
ولدى الاعلان عن تشكيل "الحزب الشيوعي التركي" في 1921، كشف اتاتوك عن وجهه الحقيقي إذ سارع الى حظرالحزب الشيوعي بالرغم من تقاربه مع السلطة السوفياتية، وبدأت منذ ذلك الحين حملة مطاردة الشيوعيين وسجنهم واغتيالهم واعداماتهم.
واسس اتاتورك "حزب الشعب" الذي تابع السير على نهجه بعد وفاته في 1938. وحتى ما بعد الحرب العالمية الثانية، عملت الحكومات التركية المتعاقبة على تحويل تركيا الى "قلعة" معادية للشيوعية، ولروسيا، ولحركات التحرر الوطني والحركات التفدمية والثورية في جميع البلدان العربية والاسلامية والعالم. وفي 1939 "كافأت" فرنسا الاستعمارية نركيا بأن "وهبت" لها لواء الاسكندرون العربي السوري، بموافقة جميع الدول الاستعمارية الاخرى. وبعد انشاء الكيان الصهيوني على الارض الفلسطينية المغتصبة في 1948، تحولت تركيا الى اكبر حليف اقليمي "اسلامي" لاسرائيل. وفي شباط 1952 انضمت تركيا الى حلف الناتو (حلف شمالي الاطلسي)؛ وهو حلف عسكري تتزعمه الولايات المتحدة الاميركية، ويضم جميع الدول الاستعمارية الاوروبية الغربية، تأسس سنة 1949 لمواجهة الاتحاد السوفياتي والمنظومة السابقة الموالية للسوفيات في اوروبا الشرقية. وتمتلك تركيا اكبر جيش في حلف الناتو بعد الولايات المتحدة الاميركية. وقد اقيمت على الاراضي التركية اكثر من عشرين قاعدة عسكرية اميركية، اهمها قاعدة انجرليك التي تتموضع فيها الصواريخ النووية والقاذفات الستراتيجية النووية الاميركية، التي تضع تركيا ضمن دائرة اخطار الحرب النووية. وكان لقاعدة انجرليك دور كبير في العدوان الغاشم على العراق في 2003. وفي خمسينات وستينات القرن الماضي، بعد الانتفاضة الوطنية بقيادة محمد مصدق في ايران، والانقلاب العسكري الاميركي ضدها، في 1952، عمدت اميركا وبريطانيا الى تشكيل عدد من الاحلاف العسكرية الاقليمية: حلف "الدفاع المشترك"، "المعاهدة المركزية"، "الحلف الاسلامي" و"حلف بغداد"، كامتداد او مكمّل (شرق اوسطي) لحلف الناتو (الاوروبي). وضمت تلك الاحلاف: ايران الشاه، وباكستان والعراق الملكي وغيرها من دول المنطقة الدائرة في الفلك الاميركي والاستعماري الغربي. وكانت تركيا تضطلع بدور مخلب القط في تلك الاحلاف والحلقة الرابطة بينها وبين حلف الناتو. وكان الهدف المعلن لتلك الاحلاف هو "مكافحة الخطر الشيوعي". ولكن المقصود بهذا "الخطر" لم يكن فقط توسع النفوذ السوفياتي وعلاقات الصداقة والتعاون مع روسيا والاتحاد السوفياتي السابق، بل بالاخص التصدي وضرب كل حركة تحرر وطني وتقدم اجتماعي، قومية او اسلامية او يسارية.
* * *
ــ13ــ وفي حين كانت اوروبا تنوخ تحت النير الاميركي، وتتأقلم معه خوفا ورعبا من "الشبح الشيوعي"، الذي لا يزال يطوف فوق اوروبا والعالم منذ بدايات الثورة الصناعية في منتصف القرن الثامن عشر... وفي حين ان السوس الستاليني (الخياني ــ البيروقراطي) كان يعشش وينخر في النظام السوفياتي السابق، مما سهل اسقاطه من الداخل في 1991، بالتلازم مع الهجمة الرأسمالية الامبريالية ــ اليهودية من الخارج... في هذا الوقت فان الشرق الكبير (لا بالمعنى الجغرافي الضيق، بل بالمعنى الجيوسياسي الواسع، الذي يمتد من روسيا الجريحة، الى العملاق الصيني، والعالم الهندي، والعالم العربي الاسلامي، وشمال افريقيا، وافريقيا القارية، واميركا الجنوبية) ينتفض ويتوثب ويندفع نحو القضاء على الهيمنة الامبريالية الغربية، واعادة بناء النظام العالمي من جديد.
• وفي تموز 1958 تلقى نظام الهيمنة الامبريالية على الشرق الاوسط ضربة شديدة باندلاع الثورة العراقية وسقوط "حلف بغداد" الذي كانت تركيا وايران الشاه ركنيه الرئيسيين.
• وفي شباط 1979 حدث الزلزال الاكبر ضد الامبريالية العالمية، في النصف الثاني من القرن العشرين، المتمثل في: الثورة الاسلامية الايرانية. لقد وضع هذا الزلزال نقطة البداية لسقوط نظام الهيمنة الامبريالية والصهيونية ليس في الشرق الاوسط وغربي آسيا فقط، بل وفي العالم اجمع. وان تفاعلات صراع الحياة او الموت ضد الامبريالية، ستحطم وتزيل كل الحواجز والعراقيل، الدينية ــ الايديولوجية ــ الفلسفية والسياسية بين الثورة الايرانية وبين جميع القوى الاصلاحية والثورية الصادقة في جميع بلدان العالم.
• وقد فشلت تماما كل المحاولات لحرف الثورة الايرانية عن طريقها الصحيح من الداخل (شهبور باختيار، ابو الحسن بني صدر، و"منافقو خلق").
• وآلت الى الهزيمة النكراء الحرب العالمية للامبريالية ضد الثورة الاسلامية الايرانية، التي قام فيها نظام صدام حسين بدور رأس الحربة.
• وان جميع هذه الامتحانات والتجارب المريرة صهرت اجيالا من الشعوب الايرانية المتآخية، وحولتها الى جلمود صخر صواني لا يكسر ولا يقهر، والى مهماز لجميع الحركات الثورية العربية والاسلامية الصادقة، والاساس الراسخ الذي ينبني عليه محور المقاومة العربية والاسلامية المظفرة.
• وقد تفاعلت الثورة الاسلامية الايرانية بقوة، ولا تزال، مع الدائرتين الجيوسياسيتين الاقليمية والعالمية. وانعكست بشكل خاص على الساحة التركية، نظرا للالتزام الديني الراسخ للقطاع الاوسع من الجماهير الشعبية الاسلامية التركية.
* * *
ــ14ــ وفي مطلع السبعينات من القرن الماضي انطلق تيار الاسلام السياسي الاصلاحي، بقيادة نجم الدين اربكان، في العمل على الساحة السياسية التركية، بالرغم من الاجراءات القمعية التي كانت تطبق باسم "العلمانية" الاتاتوركية. وقد جوبه الحزب الذي اسسه اربكان بشدة من قبل الجيش، وجرى حل الحزب واعتقال اربكان. ولكن مع قيام وانتصار الثورة الاسلامية في ايران، فإن التيار السياسي الاسلامي التركي تلقى موضوعيا، دعما سياسيا ومعنويا استثنائيا، ولم يعد بالامكان سد الطريق امامه، مهما كانت اجراءات القمع والمنع. وفشلت تماما محاولات جر التيار الاسلامي التركي الى صدام مسلح مع الجيش والغرق في مستنقع حرب اهلية لا يستفيد منها سوى العدو الامبريالي والصهيوني. وبزعامة القائد الحكيم والمحنك والشجاع، نجم الدين اربكان، حافظ التيار الاسلامي التركي على سلمية تحركه وتمسكه بالتقاليد والاعراف الدمقراطية والبرلمانية، ونجح في ايصال كتل نيابية كبيرة في كل البرلمانات التي تشكلت في السبعينات وما بعدها؛ ومد التيار يد التعاون، حتى تشكيل حكومات ائتلافية، مع الاحزاب "العلمانية" بما فيها "حزب الشعب" الذي سبق ان اسسه اتاتورك نفسه. ونادى التيار الاسلامي الاصلاحي، داخليا، بتطبيق العدالة الاجتماعية واطلاق حرية اشهار وممارسة شعائر العقيدة الدينية، جنبا الى جنب الحفاظ على القوانين "العلمانية" الاتاتوركية المطبقة. وخارجيا، دعا التيار الاسلامي الاصلاحي التركي الى العمل لتوحيد الدول الاسلامية والتعاون والتكامل الاقتصادي فيما بينها، على طريق تشكيل كتلة عالمية اسلامية موحدة مستقلة على الساحة الدولية.
وفي هذا السياق دعا التيار الى تأييد القضية الفلسطينية العادلة والعمل على التحرر من التبعية للدول الامبريالية الغربية، وفي الوقت ذاته اتباع سياسة معتدلة ومتوازنة وتجنب الصدام المسلح مع الدول الامبريالية.
* * *
ــ15ــ يمثل عهد رجب طيب اردوغان، كما عهد اتاتورك، وعهد اربكان، علامة فارقة في التاريخ المعاصر لتركيا.
وفي الثمانينات والتسعينات من القرن الماضي حاز التيار الاسلامي الاصلاحي التركي على شعبية واسعة جدا، الى درجة انه حاز على الاكثرية واحتل المركز الاول في البرلمان التركي، وشكل حكومة ائتلافية برئاسة اربكان في 1996. ولكن هذا لم يمنع الجيش من حل حزب اربكان واعتقاله وتقديمه للمحاكمة والحكم عليه بالسجن ومنعه من ممارسة العمل السياسي مدى الحياة. ولكن امام الضغط الجماهيري جرى تخفيف الحكم الى الاقامة الجبرية المنزلية.
وبلغ اتساع شعبية التيار الاصلاحي الاسلامي التركي انه صار يمثل الاكثرية الشعبية في المجتمع التركي، ولم يعد بالامكان قمعه ومنعه. ونشأت في داخل التيار ذاته توجهات واحزاب مختلفة، كان ابرزها "حزب العدالة والتنمية" برئاسة رجب طيب اردوغان، الذي شغل منصب رئيس بلدية اسطنبول، ثم رئاسة الوزراء، واخيرا منصب رئاسة الجمهورية.
فبعد اتاتورك "الوطني التركي المتعصب" و"العلماني الميكانيكي الدكتاتوري المتزمت"، وبعد اربكان "الاسلامي العصري الانساني المنفتح والمتسامح"؛ جاء عهد رجب طيب اردوغان يحمل مشروعا طموحا، يعمل لبلورته نظريا وتطبيقه عمليا على الساحة الاقليمية والدولية، وهو كناية عن توليفة: وطنية تركية ــ اسلامية مجدَّدة ــ قومية طورانية. وتتركب هذه التوليفة (المشروع الاردوغاني) من عدة اضلاع رئيسية اهمها:
أ ــ بناء دولة وطنية تركية قوية عسكريا واقتصاديا.
ب ــ إنشاء وتأطير "جهادية" اسلامية جديدة، تعمل لبعث خلافة اسلامية جديدة، بقالب عصري، وبقيادة تركية (عثمانية جديدة). والسعي لاجل "استرجاع" "الاراضي العثمانية القديمة"، اما بالتدخل العسكري والاحتلال التركي، كما في قبرص وسوريا والعراق، او باقامة "مناطق نفوذ" تركية، كما في ليبيا.
ج ــ تفعيل "قومي ــ اسلامي" للرابطة الاتنية للشعوب الناطقة بشتى اللهجات التركية، ومأسسة هذه الرابطة (بقيادة الدولة التركية)، وتعزيز دورها اقليميا واسلاميا وعالميا.
د ــ توسيع هامش "الاستقلالية" التركية، داخل الكتلة الناتوية الامبريالية الغربية التي تقودها الولايات المتحدة الاميركية.
هـ ــ المحافظة على التبعية التركية للامبريالية الغربية، وتعزيز الدور التركي في الكتلة الناتوية.
* * *
ــ16ــ ان كل سلوكيات الدولة التركية، داخليا وخارجيا، في العقدين الماضيين، كانت تنطلق من مشروع "العثمانية الجديدة" لرجب طيب اردوغان. وقد تزامن الحراك التركي وتلازم مع الهجمة الامبريالية الاميركية الغربية لنشر "الفوضى الخلاقة!" واعادة رسم خريطة الشرق الاوسط الكبير، والتي بدأت مع الحرب الاميركية على افغانستان ثم العراق، وتحولت الى ما سمي "الربيع العربي" المشؤوم.
وكان التحرك التركي، والهجمة الامبريالية الغربية، يلتقيان في نقطة ضرورة تقويض واستبدال الانظمة العربية المتضعضعة. ولكنهما كانا يختلفان في الهدف النهائي، حيث كانت الامبريالية الغربية تهدف الى اعادة تشكيل انظمة قوية مرتبطة بالدوائر الغربية وتأتمر مباشرة باوامرها. اما تركيا فقد وضعت كل بيضها في سلة واحدة، وتحولت الى قاعدة تجمع وانطلاق للجيش التكفيري العالمي، وراهنت على انتصار الهجمة الداعشية في سوريا والعراق (ولبنان وليبيا!) ومن ثم مصر وغيرها من "الاراضي العثمانية سابقا. ولم يتوان رجب طيب اردوغان عن التصريح انه، على خطى السلطان سليم بعد معركة مرج دابق، سيذهب ليصلي في المسجد الاموي. ولاجل ما تراءى لها انه يعزز موقعها، طرحت القيادة التركية بقوة مسألة استخراج النفط والغاز في شرق المتوسط، وارسلت سفن التنقيب التركية الى المياه الدولية والاقليمية لقبرص ولليونان، ووقعت مع حكومة السراج السابقة في طرابلس اتفاقية ترسيم الحدود البحرية بين تركيا وليبيا، بمعزل وبما يتعارض مع رأي وحقوق مصر وسوريا ولبنان وقبرص اليونانية واليونان، ووقفت تركيا واليونان على حافة اندلاع الحرب بينهما.
* * *
ــ17ــ وكانت القيادتان الاميركية والتركية، بناء على تقارير جهابذة جميع اجهزة المخابرات الغربية والتركية، على ثقة تامة بالنصر، وانه لن يطول الوقت حتى يدخلوا بغداد ودمشق وبيروت والقاهرة دخول "الفاتحين ــ المحررين!"، وانه لن يبقى امامهم سوى التفاهم والتنسيق فيما بينهم لتقاسم المغانم السياسية، وتوزيع حصص استثمار النفط والغاز في شرق المتوسط للخمسين او المائة سنة القادمة.
ولكن حساب الحقل لم يطابق حساب البيدر. فقد هب الشعب العراقي الباسل في انتفاضة شعبية عارمة ضد العدوان الداعشي ــ الدولي، وتشكل جيش الحشد الشعبي العراقي الى جانب الجيش الوطني العراقي، وتم تحرير المدن والاراضي العراقية وقذف بقايا الدواعش في بعض اطراف الصحراء. اما في سوريا، التي وصل فيها الدواعش الى ريف دمشق والى اطراف مدينة دمشق ومطارها الدولي، فقد واجهوا مقاومة بطولية شرسة من قبل الجيش الوطني السوري؛ كما هبت المقاومة الاسلامية في لبنان بقيادة حزب الله لنجدة سوريا الشقيقة من خطر السقوط في براثن التكفيريين واسيادهم، مما يعني سقوط لبنان ايضا؛ ونظرا للطابع الدولي المفضوح للجيش التكفيري، والتدخل والاحتلال العسكري المكشوف من قبل الجيشين الاميركي والتركي، وامام تهافت الجامعة العربية وانحياز "هيئة الامم المتحدة" لجانب المعتدين، فقد تقدمت الحكومة السورية الشرعية بقيادة الرئيس بشار الاسد، بطلب المساندة العسكرية من قبل الدولة الروسية الصديقة، لرد العدوان الخارجي على سوريا.
ونظرا لعلاقات الصداقة التاريخية بين البلدين، فقد لبت روسيا الطلب بدون اية شروط او مطالب خاصة تتنافى مع السيادة الوطنية للدولة السورية. وبعد تلقي الطلب اجتمع مجلس النواب (الدوما) الروسي، وقرر بالاجماع السماح للسلطات التنفيذية الروسية (الرئيس، والحكومة وقيادة الجيش) باستخدام قوات الجيش الروسي، خارج الحدود الدولية لروسيا، لاجل حماية الامن القومي الروسي. واخذ المجلس بالاعتبار ان الوف التكفيريين، الذين يعتدون "الان" على سوريا، هم مواطنون روس او من رعايا الدول الاسلامية السوفياتية السابقة، الذين يملكون حق الدخول الى روسيا بدون تأشيرات (فيزا) والعمل والعيش والتنقل فيها بدون اية موانع. وان هؤلاء التكفيريين الروس و"السوفيات" السابقين يمكنهم دخول روسيا بسهولة وارتكاب الاعمال الارهابية الوحشية ضد المدنيين والاهداف المدنية. وفي 30 ايلول 1915 بدأ الطيران الحربي الروسي "يشتغل شغله" فوق الارض السورية. وفي غضون بضعة ايام محيت عن الخريطة العسكرية جميع القواعد والتجمعات الكبرى للتكفيريين، بواسطة قنابل الطائرات الحربية وصواريخ كاليبر الدقيقة الروسية التي اطلقت من البحار المحيطة: قزوين والاسود والابيض المتوسط. كما سحق تماما الخط المزدوج (ذهابا ــ ايابا) للصهاريج التي كانت تنقل النفط السوري المنهوب، والذي كان يمتد من منابع النفط السورية (في مناطق سيطرة القوات الانفصالية الكردية الموالية لاميركا) الى داخل الاراضي التركية، حيث كانت الشراكة اللصوصية الرباعية: الاميركية ــ التركية ــ التكفيرية ــ الكردية الانفصالية، تتقاسم العائدات.
قضي الامر. وتم الانتقال ستراتيجيا من مرحلة الدفاع عن وجود الدولة السورية واستقلالها الوطني ووحدة وسلامة اراضيها، الى مرحلة مطاردة فلول التكفيريين الذين تغلغلوا بين المدنيين في القرى واحياء المدن التي سبق ان سيطروا عليها.
ان انتصار محور المقاومة وحلفائه على الجيش العالمي للتكفيريين ومشغّليهم الدوليين والاقليميين يمثل نقطة تحول جذري في المسار الجيوسياسي الاقليمي والعالمي. وانطلاقا من هذه النقطة بدأ الوجه الجيوسياسي للعالم يتغير، وبإيقاع لم يكن جميع جهابذة المخابرات الاميركية والناتوية والاسرائيلية والعربية العميلة يتوقعونه او يتصورونه. ويكفي ان نذكر هنا استرجاع روسيا لبعض اراضيها التاريخية في اوكرانيا، وفتح معركة انابيب الغاز، ومعركة تقويض وجود حلف الناتو العدواني، في اوكرانيا وعبرها.
* * *
ــ18ــ ومثلما ان جنرالات الجيش المهزوم يدب الشجار فيما بينهم بعد هزيمتهم المشتركة، فقد دب الخلاف بين القيادتين الاميركية والتركية، بعد توضّح هزيمة الحرب العدوانية العالمية ذات العباءة التكفيرية ضد سوريا.
وتكشفت بوادر الاختلاف في قيام تركيا (العضو البارز في حلف الناتو المعادي لروسيا) بتوقيع اتفاق تركي ـ روسي لشراء منظومة S-400 الروسية المضادة للصواريخ، بدلا عن منظومة باتريوت الاميركية. وردا على ذلك اعلنت اميركا الامتناع عن تسليم تركيا طائرات F-35 الاميركية المتطورة.
وفي تشرين الثاني 2015 اطلقت النار على طائرة مقاتلة روسية فوق منطقة حدودية سورية تسيطر عليها قوات "معارضة!" تركمانية موالية لتركيا. استشهد فورا احد الطياريْن، اما الآخر فقفز بالمظلة ووصل الى الارض سالما، فقام عناصر "المعارضة!" التركمان بقتله. ووصف الرئيس فلاديمير بوتين إسقاط الطائرة الروسية بأنه «طعنة في الظهر من شركاء الإرهابيين». وردا على هذا الاستفزاز، علقت روسيا العمل بمد انبوب الغاز "السيل التركي"، واوقفت جميع الرحلات السياحية الى تركيا، مما سبب خسائر بمئات ملايين الدولارات للقطاع السياحي التركي، وأفلست الوف مكاتب السياحة والفنادق والمطاعم، وعرضت للبيع باسعار متدنية، وانهارت الاسهم العقارية.
ولاحقا قام الرئيس اردوغان بزيارة موسكو وقدم الاعتذار عن اسقاط الطائرة. وظهرت معلومات ان الطيار التركي الذي غدر بالطائرة الروسية هو من اتباع الداعية الاسلامي التركي فتح الله غولن، المقيم في اميركا منذ 1999، وهو رئيس حزب "خزمت" (الخدمة) التركي المعارض، المرتبط ارتباطا وثيقا بالمخابرات الاميركية.
لقد تجنبت روسيا الوقوع في الفخ الاميركي والاصطدام بتركيا نيابة عنها ــ اي عن اميركا. ولكن هذا لم يعفِ تركيا من مواصلة تصعيد المواجهة الاميركية ضدها. وفي مساء 5 تموز 2016 جرت في تركيا محاولة انقلاب واسعة النطاق، لم تقتصر على مهاجمة رئاسة الاركان والمقرات الحكومية الرئيسية، بل امتدت الى كل المعسكرات وقواعد وقطاعات الجيش على اختلافها، بالاضافة الى المؤسسات الرئيسية للدولة في اسطنبول وانقرة. ونزلت دبابات الانقلابيين الى الشوارع واحتلت الجسور والساحات العامة والمرافق الرئيسية. واعتقل قائد الجيش وعدد من الجنرالات الكبار واقتيدوا وهم بالبيجامات، وضغط عليهم للانضمام الى الانقلابيين ولكنهم رفضوا. كما جرت ثلاث محاولات لاعتقال او اغتيال رئيس الجمهورية المنتخب رجب طيب اردوغان، بواسطة الطيران والمغاوير. وسربت معلومات تقول ان المخابرات الروسية هي التي حذرت اردوغان ودعته للخروج فورا من احد مقراته. وقد خرج اردوغان من ذلك المقر قبل اقل من ساعة من قصف طيران الانقلابيين له. وفي تلك الليلة اطل اردوغان على التلفزيون ودعا الناس للخروج الى الشوارع والوقوف بوجه الانقلابيين. وبالفعل خرج مئات الوف من المواطنين الاتراك وهم عزل ووقفوا بوجه دبابات الانقلابيين ودعوا الجنود والضباط الى العودة الى ثكناتهم. ويعود الفضل الاول في فشل الانقلاب الى تلك الوقفة الجماهيرية. ويقول العديد من المعلقين ان الجماهير الشعبية التركية اتخذت هذا الموقف، كمعارضة للاميركان اكثر منها تأييدا لاردوغان. وبعد فشل الانقلاب تم طرد عشرات الوف الضباط والجنود والقضاة والمعلمين والموظفين الحكوميين من اعمالهم، واعتقال غالبيتهم وتقديمهم للمحاكمة واصدار عشرات الوف الاحكام بالسجن المؤبد او بالمدد الطويلة. وبالرغم من فتور العلاقة بين القيادتين الروسية والتركية، وتعارض او تناقض مواقف الطرفين على الساحة السورية، اذ ان روسيا كانت تواصل دعم الحكومة الشرعية بقيادة الرئيس الاسد، فان نظام اردوغان كان يدعم الارهابيين، ــ بالرغم من كل ذلك فإن غالبية المراقبين لاحظت وقوف روسيا ضد محاولة الانقلاب في تركيا؛ كما انه ازداد التقارب بين روسيا وتركيا في اعقاب الانقلاب، وتم إشراك تركيا ــ الى جانب روسيا وايران ــ في الجهود الهادفة الى ايجاد الحلول للازمة السورية.
وفي تقدير غالبية المحللين الجيوسياسيين الدوليين، ان الثقة تهشمت تماما بين اميركا وتركيا، واصبحت تركيا تبدو كطائر غريب حط في عش (او وكر) حلف الناتو الذي تتزعمه اميركا.
* * *
ــ19ــ بحكم جدلية الاوضاع الجيوسياسية الدولية المتبدلة، والتناقضات العميقة، والصراعات المعقدة، في الشرق الاوسط الكبير، فإن زاوية الافتراق بين اميركا وبين حلفائها واتباعها التقليديين في المنطقة، وعلى رأسهم اسرائيل وتركيا والسعودية، تتسع باستمرار وبخط بياني ثابت، كنتيجة حتمية للفشل الذريع للسياسة العدوانية الاميركية، خصوصا، وللخط السياسي الموالي للغرب عموما. وإن اميركا تضطر للانسحاب الكلي او الجزئي، كما جرى في افغانستان والعراق. ولكن من السطحية الاعتقاد ان اميركا ستنسحب من كل مواقعها، او انها ستنسحب بسهولة. وهذا مما يفسر التخبط في السياسة الاقليمية الشرق اوسطية لاميركا. واخشى ما تخشاه الدوائر القيادية الاميركية والصهيونية الان هو احتمالات انزياح تركيا الناتوية نحو الضفة الشرقية لمجرى الاسطفافات الدولية.
والسؤال الكبير الذي يطرح نفسه بشدة هو: ألا تقوم اميركا الان، تحت ستار كثيف من دخان التعمية الاعلامية، بتحضير "نسخة تركية" عن "الربيع العربي" المشؤوم؟
اننا نعيش في مرحلة شديدة التعقيد جيوسياسيا؛ وطبعا لا يمكن الجزم سلبا او ايجابا ردا على السؤال المطروح.
ولكن الامبريالية الاميركية لا يمكن ان تغير طبيعتها العدوانية؛ كما انها في الوقت ذاته لا يمكن ان تتجاوز قدراتها العدوانية، المتناقصة باستمرار.
اما تركيا فهي تمتلك مقومات كبرى للاستقرار والازدهار، وفي الوقت ذاته مكونات استثنائية للانفجار والانهيار.
في نهايات القرن التاسع عشر اطلقت على منطقة البلقان تسمية "برميل البارود". وهذه التسمية تنطبق الان تماما على "المنطقة التركية"، مع فارق رئيسي هو ان عوامل الاحتكاك والتناقض والانفجار في البلقان كانت "خارجية"، بوجود مجموعة من الدول الفسيفسائية، مختلفة الاتنيات والقوميات والثقافات والاديان والولاءات الخارجية. اما "المنطقة التركية" فهي تتشكل من دولة واحدة، نشأت بعد انهيار السلطنة العثمانية في اعقاب الحرب العالمية الاولى، ــ دولة لم تكن يوما تشكل شعبا واحدا متجانسا اتنيا وقوميا وثقافيا، دولة تقوم على اراض هي في الغالب "غير تركية" تاريخيا. ولذا فإن احتمالات الانفجار في تركيا هي "داخلية" اكثر منها "خارجية". ويكفي ان نشير الى المعطيات والعوامل التالية:
أ ــ بعد "الثورة الدستورية" واستيلائها على السلطة، عشية الحرب العالمية الاولى وخلالها، فإن ""جمعية الاتحاد والترقي" التي كان يقودها الشوفينيون ــ العنصريون الاتراك، "استفاقوا" على واقع سلبي جدا، في غير صالح العنصر التركي الخاص بهم وبآلية او جهاز السلطنة العثمانية، وهو انه لا يوجد "ارض تركية" مكثفة او مدمجة (compact) يعيش عليها "شعب تركي" متجانس او موحد (monolithic)؛ وان غالبية الاراضي المسماة "تركية" ليست كذلك، بل هي اراض كانت تخضع للسلطنة العثمانية ولـ"الاتراك" كسلطة سياسية ــ عسكرية، ولكن تقطنها اتنيات واقواميات وقوميات اخرى غير "تركية". وبالتالي فإن الشعب "التركي" ليس اكثر من مجموعة اتنيات وقوميات فسيفسائية (mosaic)، يشكل فيها "الاتراك" بالاصل (origin) والثقافة واللغة اقلية كبرى او الاقلية الاكبر، بين مجموعة اقليات اصغر منها؛ ولكن مجموع الاقليات الاخرى "غير التركية" هو اكبر من المجموعة "التركية" الاكبر. وكان هذا يعني ــ موضوعيا ــ ان عقد "الدولة التركية" هو مهدد بالانفراط، في حال سقوط السلطنة العثمانية كــ"دولة". ومن هنا كان قرار العنصريين الاتراك ("جمعية الاتحاد والترقي"، ومعها ومن بعدها "جمعية تركيا الفتاة"، ومن بعدهما "الحركة الاتاتوركية")، ــ قرار "الاحتفاظ" بالسلطنة والخلافة العثمانيتين، الى اجل محدد مرتبط بــ: قرار سحق و"ابادة" وتشريد و"تتريك" الاقليات القومية الاخرى غير التركية، بالسرعة القصوى وبالقدر الذي تسمح به الاوضاع الداخلية والدولية.
ب ــ ولتحقيق اهدافهم الاجرامية، فإن العنصريين الاتراك ــ وضد مصلحة الجماهير الشعبية الكردية ــ استعانوا بالكامل بالاقطاع العسكري الكردي، الذي يلتقي مع الاتراك بالانتماء الديني ــ المذهبي، والذي له تاريخ طويل في خدمة الارستقراطية التركية، من البويهيين والسلاجقة، الى الزنكيين، وصولا الى العثمانيين واخيرا "الاتحاديين" والاتاتوركيين. وفي كل تلك المراحل ضحى عشرات الوف المقاتلين الاكراد بحياتهم الى جانب "الاتراك". وشارك المقاتلون الاكراد ("فرسان الحميدية" وغيرهم) في الصفوف الاولى "التركية" في كل المذابح ضد الارمن والاشوريين والسريان وغيرهم، واخيرا كان لهم قسطهم الكبير في القتال الى جانب "الاتاتوركيين" في الحرب التركية ــ اليونانية في 1919 ــ 1922.
ولكن كل هذا لم يشفع للاكراد لدى العنصريين الاتراك. وبعد انتصاره على اليونانيين، نكص اتاتورك بوعوده بمنح الاكراد حكما ذاتيا، فقامت ضده انتفاضة شعبية كردية واسعة، في جنوب شرق تركيا، وذلك في 21 اذار (عيد نوروز الكردي) 1925، بقيادة الشيخ سعيد بيران، وبلغ عدد المنتفضين الاكراد ضد سياسة التتريك والتعسف حوالى 600 الف متمرد، وساندهم حوالي 100 ألف من الشركس والعرب والأرمن والآشوريين، كما تقول المصادر الكردية.
وتمكن جيش اتاتورك من سحق الانتفاضة بوحشية تامة، وفي أواسط نيسان 1925 اعتقل الشيخ سعيد مع عدد من قادة الانتفاضة التي خبت نارها شيئاً فشيئاً. وفي نهاية أيار حوكم الشيخ سعيد وقادة الانتفاضة الآخرون، وصدر حكم الإعدام بحقه مع 47 من قادة الثورة. وامام حبل المشنقة قال الشيخ سعيد: "انا لست نادما انني قدمت حياتي لاجل شعبي؛ وانا سعيد ان احفادنا لن يخجلوا بنا". وفي السنوات 1937 ــ 1939 قامت في منطقة درسيم (محافظة تونجيلي)، انتفاضة كردية جديدة، قمعت ايضا بمنتهى الوحشية، وتم احراق وازالة اكثر من الف قرية وبلدة، وتهجير مئات الالاف، واحلال اتراك في تلك المناطق من ضمن سياسة التتريك. وفي 2011 تقدم رئيس الوزراء رجب طيب اردوغان بالاعتذار عن الفظائع التي ارتكبت في مجزرة درسيم.
ج ــ وبصرف النظر عن اي مراجعة او تحليل تاريخيين، فإنه من المسلم به عالميا ان الدولة التركية، وريثة السلطنة العثمانية، تحمل على كاهلها عبء المجازر التي ارتكبت ضد الاقليات العرقية والدينية والقومية غير التركية، في العهد العثماني، والعهد "الاتحادي"، والعهد الاتاتوركي. والجاليات الارمنية والاشورية والكردية وغيرها، المنتشرة في كل القارات، من ابناء واحفاد المناطق التي ارتكبت فيها المجازر، لا تزال موجودة الى اليوم، وهذا بالاضافة الى اليونانيين (اصحاب اسطنبول وازمير الاصليين)، والعرب (اصحاب لواء الاسكندرون)، والبلغار والصرب والمقدونيين (اصحاب الاراضي الاصليين في القسم الاوروبي من تركيا). وكل ذلك ليس سوى مجموعة قنابل موقوتة، يمكن لاميركا تفجير كل منها على حدة، او كلها دفعة واحدة، باساليب ملتوية، ليس لمصلحة اصحاب اي قضية قومية او انسانية عادلة، بل لاجل زج الدولة التركية في المشكلات كجزء من سيناريو "ربيع تركي" محتمل.
د ــ انضمت تركيا الى حلف الناتو، بزعامة اميركا، في شباط 1952. وخلال هذه السنوات الــ71، فإن قسما كبيرا من الضباط الاتراك، اذا لم يكن القسم الاكبر، قد ارتبطوا ايديولوجيا وسياسيا وعسكريا ومخابراتيا و"معاشاتيا"، بحلف الناتو والمخابرات الاميركية والموساد، واصبح ولاؤهم للحلف واميركا واسرائيل اكبر وفوق ولائهم للدولة التركية ذاتها. ويشكل هذا الفريق من الضباط الاتراك "الناتويين" و"الموالين لاميركا واسرائيل"، طابورا خامسا رئيسيا وقويا وفعالا في الدولة التركية. وفي حال حدوث اضطرابات "غير مسيطر عليها" اميركيا، او في حال تجاوز الحكم التركي، الاردوغاني او غير الاردوغاني، لخطوط حمراء تضعها اميركا، فإن هذا الطابور الخامس العسكري الموالي لاميركا هو على استعداد في كل لحظة لتحريك قسم كبير، او القسم الاكبر، من الجيش، لحسم الموقف في الاتجاه الذي ترسمه المخابرات الاميركية.
هـ ــ لقد كشفت محاولة الانقلاب الفاشلة في تموز 2016 وجود "واقع تركي" في غاية الاهمية والخطورة، وهو ان حزب "خزمت" بقيادة الداعية الاسلامي فضل الله غولن ليس حزبا "عاديا" كغيره من احزاب المعارضة، مهما كان حجمه كبيرا، بل هو ــ اي حزب "خزمت" ــ "دولة ضمن الدولة" حرفيا، وينتشر في كل قطاعات الدولة ومؤسساتها، من قمة الهرم الى قاعدته، ويمتلك الوف المؤسسات الدينية والاعلامية والتعليمية والمالية والاقتصادية. وكتنظيم ذي ايديولوجيا دينية، فهو نسخة شبه طبق الاصل عن حزب العدالة والتنمية بزعامة رجب طيب اردوغان، مع فارق "سياسي" (وليس دينيا) وحيد هو ان حزب اردوغان هو ذو ميول "استقلالية تركية" نسبيا، بينما حزب غولن هو ذو ولاء مطلق لاميركا، ولكن هذا لا ينتقص من "اسلاميته!" على قدر المساواة مع "اسلامية!" حزب اردوغان. وهذا يعني ان العضو في حزب اردوغان لا يحتاج الى تغيير ايديولوجيته الدينية في حال الانتقال، سرا او جهرا، الى حزب غولن، بل فقط الى استبدال اسم وصورة زعيم بآخر. وحزب "خزمت" هو على علاقة وثيقة وتنسيق تام مع "الطابور الخامس" العسكري التركي (الناتوي ــ الاميركي ــ الموسادي). وهذا الثنائي (العسكري ــ العلماني!) و(المدني ــ الديني!) تديره المخابرات الاميركية بشكل مباشر.
نخلص من ذلك الى القول ان اميركا تمتلك في تركيا العامل الذاتي (التنظيم السياسي ــ الاجتماعي العام ــ والعسكري) لاستلام السلطة في حال توفر الظرف الموضوعي، اي وقوع او افتعال ازمة اجتماعية ــ سياسية عامة، عبر "الربيع التركي" المحتمل.
و ــ ان تركيا هي دولة "مدولرة" اقتصاديا و"مؤمركة" سياسيا، منذ سنوات طويلة. واميركا تمسك تماما بالاقتصاد التركي. والطبقة البرجوازية (الرأسمالية) التركية، هي طبقة لاوطنية، ولا تفكر بطريقة "وطنية تركية" او "شرقية" او "اسلامية"، وتجد مصلحتها الطبقية في ان تكون تابعة للمنظومة الامبريالية الغربية واليهودية العالمية واسرائيل. وحينما حاول نجم الدين اربكان تجميع الدول الاسلامية في وحدة او وحدات اقتصادية اولا، وقف ضده وتآمر عليه لا العسكر التركي "الناتوي" فقط، بل والبرجوازية التركية بمختلف قطاعاتها وشرائحها.
وبهذه المعطيات فإن اميركا قادرة في اي وقت، وبدون الحاجة الى شن حرب اقتصادية وفرض العقوبات وما اشبه، بل من وراء الكواليس وبمختلف الطرق الملتوية، ان تزعزع الاقتصاد التركي، بما يؤول اليه ذلك من فوضى اجتماعية وسياسية، تكون هي الارضية لتحريك "ربيع تركي" كتمهيد لاسقاط النظام القائم والقفز الى السلطة من قبل "الحلفاء المخلصين" لاميركا. واذا قام باحثون علميون وموضوعيون باجراء بحوث حول الماضي القريب، فسيكتشفون ان اميركا كانت تحضّر فعلا لنشر "الفوضى الخلاقة" (حسب تعبير كوندوليزا رايس) واشعال حريق "الربيع التركي" اثناء استعار "الربيع االعربي" المشؤوم. ولكن هزيمة المشروع التكفيري في العراق وسوريا، من جهة، واندلاع الازمة الاوكرانية بعد قيام الانقلاب الفاشي في كييف في 2014، من جهة ثانية، اجّلا (ولكنهما لم يلغيا) اشعال "الحريق الربيعي" في تركيا. واولى نتائج إشعال "الربيع التركي" المحتمل ستكون تفكيك الدولة التركية الى فسيفساء اتنية وقومية ودينية ومذهبية ومناطقية، أسوأ بكثير من "التفكيك الربيعي" للدولة الليبية، وفي الوقت ذاته الى نزاعات وصراعات مريرة مع جميع الدول المحيطة بتركيا: اليونان ودول البلقان وارمينيا وايران والعراق وسوريا.
* * *
ــ20ــ في مقابل الافق الاسود المحتمل الذي تقدمه لتركيا سياسة الالتحاق باميركا والناتو واليهودية العالمية واسرائيل، فإن علاقات الصداقة الصادقة (القائمة على المصالح المتبادلة على قاعدة: رابح ــ رابح) مع روسيا، والتي تجسدت حتى الان في مد انبوب الغاز الروسي (المسمى "السيل التركي")، بدلا عن الخط الاوكراني القديم، وبدلا (مؤقتا) عن خطيّ "نورد ستريم 1 و 2" الى المانيا، من شأنها ان تضع الاسس لاجراء تغيير جذري في التاريخ التركي القديم والحديث، كما في نظرة اوروبا والعالم اجمع الى تركيا، وطريقة التعامل معها. ويمكن ان نلخص هذا التحول في النقاط التالية:
أ ــ ان تاريخ السلطنة العثمانية يعج بالحروب بينها وبين روسيا. وبعد نهاية الحرب العالمية الثانية عجلت الكتلة الغربية في ضم تركيا الى حلف الناتو لتكون درعا اماميا بوجه الاتحاد السوفياتي السابق وروسيا. ولو قدر قبل الان وقوع نزاع شامل بين روسيا والكتلة الغربية الناتوية، فإن تركيا كانت ستكون تحت الضربة الروسية النووية الاولى، وربما كانت ستمحى من الوجود. اما مع تحول تركيا الى شريك رئيسي لتوزيع الغاز الروسي في اوروبا والعالم، فإن المصلحة الجيوسياسية لروسيا اصبحت تقتضي الحرص على تركيا وسلامتها.
ب ــ بالرغم من قبول تركيا في عضوية حلف الناتو العدواني، فإنها لم تقبل الى اليوم في "الاتحاد الاوروبي"، لاسباب استعلائية عنصرية وشوفينية. ولكن مع تحول تركيا الى موزع رئيسي للغاز الى اوروبا، فإن نظرة اوروبا الى تركيا ستختلف، وستصبح اوروبا بحاجة الى تركيا اكثر او على الاقل مثل حاجة تركيا الى اوروبا.
ج ــ ان تحول تركيا الى جسر تواصل رئيسي بين روسيا التي تحتاج اقتصاديا الى تصدير الطاقة، وبين اوروبا، التي تحتاج وجوديا الى الطاقة، يمثل نقلة نوعية في الجيوسياسة الدولية.
د ــ عملا بالمسلمة العلمية بأن "الجغرافيا تصنع التاريخ"، فإن اضطلاع تركيا بدورها الاوراسي، انطلاقا من موقعها الجغرافي بين القارتين، فإن مكانتها سوف ترتفع وتصبح في منزلة خاصة لدى روسيا. وهذا ما يشكل حافزا اساسيا ورئيسيا لدى روسيا لاستخدام وزنها الجيوسياسي وصداقاتها لمساعدة تركيا في حل مشكلاتها وخلافاتها ايا كانت.
هــ ــ عملا بما تقدم، كان من مصلحة روسيا، انطلاقا من مصالحها وتوجهاتها، ان تعمل للتقريب بين الدولتين الاسلاميتين الكبيرتين: ايران وتركيا، بحيث تشكلان جسرا لتوحيد صفوف كافة الدول الاسلامية. وهذا ما سيفضي الى ظهور العالم العربي ــ الاسلامي ككتلة انسانية حضارية متنوعة ــ موحدة تشكل ركنا اساسيا في بناء نظام عالمي انساني جديد، متعدد الاقطاب والحضارات.
و ــ ومن مصلحة روسيا وايران اليوم العمل بشكل مكثف وحثيث لحل المشكلات بين تركيا وسوريا، ومساعدة كلا الدولتين الجارتين والاسلاميتين على تفهم هواجس ومخاوف ومتطلبات كل منهما.
ز ــ وهذا ما سيفتح الباب على مصراعيه للبحث في مسائل استخراج النفط والغاز في شرق المتوسط، واستجرارهما بالانابيب من المياه الاقليمية لسوريا ولبنان وفلسطين (بمعزل عن اسرائيل) ومصر وليبيا، عبر الاراضي التركية، الى اوروبا، والتفاهم مع قبرص واليونان حول ذلك. وهذا ما سيحول تركيا الى قطب رئيسي في قطاع الطاقة العالمي، تدعمه اقتصاديا وسياسيا وعسكريا روسيا والصين وايران.
ح ــ وتأسيسا على هذه الارضية، فإن المصالح المشتركة والتقارب والتعاون الاخوي بين ايران وتركيا، وبين تركيا وسوريا ولبنان وفلسطين ومصر وليبيا، بمشاركة فعالة من ايران، وبتأييد ودعم من روسيا والصين، سيؤول حتما الى اعادة تأسيس العلاقات العربية ــ العربية، والعربية ــ الاسلامية، والاسلامية ــ الاسلامية، لجميع الدول العربية والاسلامية، وبالتالي اعادة تأسيس "جامعة الدول العربية" و"منظمة مؤتمر الدول الاسلامية" على اسس جديدة تماما، منافية ومعادية للامبريالية الغربية واليهودية العالمية واسرائيل.
طـ ــ ان افق تحول تركيا، بمساعدة روسيا والصين وايران، الى قطب عالمي، والى دولة مزدهرة اقتصاديا وتعليميا وعلميا وثقافيا، سيساعدها على التحرر من لطخة الدولة ــ الجلاد، وريثة السلطنة العثمانية وجمهورية العنصريين "الاتحاديين" و"الاتراك الفتيان" و"الاتاتوركيين"، الموالية للغرب الامبريالي واليهودية العالمية، واعادة قراءة التاريخ التركي، بعين نقدية، اسلامية جديدة وانسانية منصفة، وبالتالي الاعتراف بالمجازر والابادات والجرائم ضد الانسانية والمظالم، التي سبق للعثمانيين والاسلاميين المنحرفين و"العلمانيين" الاتاك المزيفين ان ارتكبوها ضد الشعوب والاقليات غير الاسلامية وغير التركية في المراحل الحالكة السابقة، والمبادرة بجرأة لفتح صفحة تاريخية جديدة مع تلك الشعوب والاقليات الشقيقة والصديقة، والعمل معا لحل المشكلات المعلقة من الماضي، كإقرار التعويضات للمتضررين، والسماح بعودة من يريد العودة من المهجرين ومساعدتخم لبناء حياتهم من جديد على اراضي آبائهم واجدادهم، واعادة ضم اراض مغتصبة الى الدول صاحبة الحقوق التاريخية الشرعية ولا سيما لواء الاسكندرون العربي السوري، واعادة بعض الاماكن الدينية لاصحابها الشرعيين، ولا سيما مدينة انطاكية التي تنتسب اليها جميع الطوائف المسيحية الشرقية، وكنيسة "آيا صوفيا" الاورثوذوكسية المسكونية، التي يمثل وضعها الحالي في براثن الدولة التركية لطخة عار للحضارة الانسانية جمعاء، واعادة النظر في الوضعية الدولوية والدولية (state and international status) لمدينة اسطنبول والمضائق الدولية في البوسفور والدردنيل، ومنح حريات ثقافية موسعة لجميع الشعوب والاتنيات والاقليات في الدولة التركية، على قاعدة "الحرية والاخاء والمساواة" لجميع الشعوب.
* * *
استنتاجات عامة:
بالرغم من المآسي الرهيبة للحربين العالميتين الاولى والثانية، فقد رُصّع جبين القرن العشرين الماضي بانتصار ثلاث ثورات كبرى لثلاثة من اعظم شعوب العالم واعرقها حضاريا، وهي: الثورة الروسية في 1917، الثورة الصينية في 1949، والثورة الايرانية في 1979.
وبالرغم من خيانة والستالينية للشيوعية، والمشاركة في قتل زعيم الثورة الروسية لينين، وتحريف وتزييف الفكر الاشتراكي العلمي، وتشوهات البيروقراطية وعبادة الفرد للخائن ستالين في تجربة بناء الاشتراكية السوفياتية، وتوقيعه في 1945 على اتفاقية يالطا، القائمة على إطلاق يد الامبريالية الغربية في السيطرة العالمية، وموافقة الستالينية على قرار "هيئة الامم المتحدة" المتعلق بتقسيم فلسطين وانشاء اسرائيل في 1947، فإن انتصار تلك الثورات، وبالاضافة الى ازالة الوجود الامبريالي من هذه البلدان الكبرى التي تشكل اكثر من 20,5% من سكان العالم، ادى الى زعزعة اسس النظام الامبريالي العالمي، والى التقويض والانهيار التام للنظام الاستعماري التقليدي (colonialism)، باستثناء اسرائيل حتى الان.
ومع وجود اختلافات كبيرة، ايديولوجية ودينية، وفي طبيعة التركيبة السياسية والطبقية للانظمة القائمة فيها، ولكن مع زوال الستالينية واليلتسينية في روسيا، ووجود انظمة وطنية صادقة، وقيادات حكيمة وشجاعة، تعبر بإخلاص عن المصالح العليا لشعوبها، اتجهت روسيا والصين وايران بالتدريج، ولكن بثبات، نحو "اكتشاف" بعضها بعضا، والتقارب والتعاون الوثيق فيما بينها، اقتصاديا وسياسيا وعلميا وعسكريا، لما فيه خير شعوبها جميعا. واتخذ هذا التقارب موضوعيا ــ وإن لم يتم تأطير هذا الواقع والاعلان عنه رسميا حتى الان ــ طابع "محور شرقي جديد". وقام هذا "المحور" بتشكيل منظمات عالمية جديدة، مثل "منظمة بريكس" و"منظمة شانغهاي"، وباقامة نمط جديد من العلاقات المالية والتجارية والاقتصادية، بالرغم من الخلافات السياسية بين الاطراف المعنية، ولكن لمصلحة الجميع. ومثال على ذلك مشروع مد انابيب الغاز عبر تركيا الى اوروبا وبيعها منظومةS-400 الروسية المضادة للصواريخ مع انها عضو في حلف الناتو العدواني، واسراع الصين الى مساعدة اوروبا بكثافة اثناء ازمة وباء كورونا، في حين تقاعست الدول الاوروبية ذاتها عن مساعدة بعضها بعضا.
وان النهج الجيوسياسي الذي ينتهجه "المحور الشرقي الجديد" انما يهدف الى المواجهة الشاملة مع النظام الامبريالي الغربي: ماليا وتجاريا واقتصادية وعسكريا وسياسيا واعلاميا وعلميا وتعليميا الخ، وتشكيل نظام عالمي جديد يقوم على تحويل العالم كله الى "بيت بعدة منازل" حسب تعبير كمال الصليبي.
اما فيما خص تركيا فإن انابيب الغاز الروسية انما تفتح امامها الباب نحو فرصة تاريخية لا تتكرر، للتكفير عن مجازرها وارتكاباتها القديمة والجديدة؛ والا فإنها تحكم على نفسها بنفسها بالتفكك والزوال كدولة، اذا لم تتحرر من ربقة التبعية للامبريالية الغربية السائرة بسرعة نحو السقوط في مزبلة التاريخ.
فكل الدلائل تشير الى ان القرن الواحد والعشرين سيكون قرن ايصال الثورات العظمى في القرن العشرين، الروسية والصينية والايرانية، الى هدفها النهائي وهو القضاء المبرم على نظام الامبريالية الغربية الذي هيمن على الشرق والعالم منذ اكثر من 2150 سنة، اي منذ ان قام الغزاة الاستعباديون الرومان بالتدمير الكلي لقرطاجة العظيمة، منارة الحضارة الانسانية في العصر القديم، وذلك قبل ان تقضي الامبريالية على الكوكب الارضي والمجتمع الانساني، بنهب الشعوب وتجويعها، والحروب، والاوبئة، وتدمير البيئة.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
*كاتب لبناني مستقل








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي