الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


رواية للفتيان التاج طلال حسن

طلال حسن عبد الرحمن

2023 / 4 / 7
الادب والفن


رواية للفتيان






التاج





طلال حسن







شخصيات الرواية
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 ـ داكان الملك

2 ـ بيهي الأميرة

3 ـ ايلي الأمير

4 ـ الحاجب

5 ـ الوصيفة

6 ـ الجلاد

7 ـ الحارس
" 1 "
ــــــــــــــــــــ

وسط صحراء مترامية ، وقف الملك داكان يتلفت حائراً ، مرعوباً ، رمال .. رمال .. رمال ، حيثما يتلفت رمال ، لا شيء سوى الرمال .
ترى ما الذي جاء به إلى هذه الصحراء ؟
لعله جاء لصيد الغزلان ، مع مجموعة من حرسه والمقربين منه .
صيد الغزلان ؟ أي غزلان ؟ ثم أين الجند ؟ وأين المقربون منه ؟ بل وأين يمكن أن تكون الغزلان ، في مثل هذه الرمال ؟
وركض الملك هنا ، وركض هناك ، بحثاً عن أثر لجنده ، أو المقربين منه ، أو ..، حتى أرهقه الركض ، وتهاوى على الرمال ، وقد جفت شفتاه من العطش ، وتمنى جرعة ماء ، ولكن .. أين الماء ؟
وتراءت له ابنته الأميرة بيهي ، راقدة في فراشها ، وقد أنهكها المرض ، ونهض متحاملاً على نفسه ، يريد أن يعود إلى قصره ، ويرى ما يمكن أن يفعله من أجل ابنته الأميرة بيهي ، رغم أن عشرات الأطباء ، من داخل المملكة وخارجها ، حاولوا علاجها دون جدوى .
وخطا الملك داكان عدة خطوات مرتعشة مضطربة ، وسرعان ما انكفأ فوق الرمال ، وقد جفّ حلقه تماماً من شدة العطش .
وغشي عينيه ما يشبه الضباب ، إنها النهاية ، النهاية المحتمة ، سيذهب المُلك ، ستذهب المملكة ، سيذهب التاج ، ستذهب ثرواته ، وحتى ابنته بيهي ستذهب ، إذا ذهب هو وسط هذه الرمال .
وفجأة ، ودون أن يدري الملك داكان كيف ومن أين ، برز أمامه شاب .. أم إنه شيخ ؟ ووقف ينظر إليه صامتاً لا يريم ، وحاول الملك أن يرفع رأسه ، وقال بصوت جففه العطش : ماء .. أريد ماء .
لم يتحرك الشاب ، أم إنه شيخ ؟ ، فقال الملك بصوته الجاف الظمآن : أرجوك .. أرجوك أياً كنت .. إنني أكاد أموت .. من شدة العطش .. أعطني ماء .
وبدل أن يقدم هذا الشاب ، أم إنه شيخ ؟ الماء للملك داكان ، جلس القرفصاء على مقربة منه ، وقال : أيها الملك ، أنظر إليّ ، أنظر إليّ جيداً .
ونظر الملك داكان إليه ، نظر جيداً ، لكنه لم يره بشكل واضح ، ربما لأن الضباب كان يغشى عينيه ، فهز رأسه ، وعاد يتمتم بصوته الجاف الظمآن : ماء .. ماء .. أريد ماء .
فقال الشاب ، أم إنه الشيخ ؟ وهو يقدم له قربة ماء : سأسقيك ، وستعرفني .
وأخذ الملك داكان القربة بيدين متلهفتين مرتعشتين ، ودلق الماء في فمه ، وراحت قطرات منه ، تتطاير فوق وجنتيه ولحيته البيضاء ، حتى انتهت القربة ، فمال الشاب ، أم إنه شيخ ؟ وقال : أنظر إليّ الآن ، ستعرفني جيداً هذه المرة .
ونظر الملك إليه ، نظر جيداً ، وقد اختفى الضباب الذي كان يغشى عينيه ، إنه شاب ، وليس شيخاً ، وجحظت عيناه ، وصرخ وكأنما رأى شبحاً ، جاء من العالم الآخر : من ؟ ايلي !

" 2 "
ــــــــــــــــــــ

هبّ الملك داكان من فراشه ، وهو يصرخ : ايلي ..
اختفى الشاب ، أم إنه شيخ ؟ اختفت الصحراء ، اختفت الرمال ، وتلفت الملك حوله ، وهو يصيح حائراً مذعوراً : ايلي .. ايلي .
ودخل عليه الحارس مسرعاً ، وأسرع إليه ، وقال : مولاي .. مولاي .
وحدق الملك داكان فيه ، وقال : أين أنا ؟
ووقف الحارس يحدق فيه مذهولاً ، فصاح به : أيها الأبله ، أجبني .
ونهض الملك داكان ، دون أن ينتظر إجابته ، وتطلع من النافذة ، لا صحراء ، ولا رمال ، لا شاب ، أم إنه شيخ ؟ إنما حدائق القصر الملكي المترامية ، التي يعرفها ، والتي يتجول فيها كلّ يوم .
وفي صوت متردد ، قال الحارس للملك ، دون أن يقترب منه : مولاي ..
والتفت الملك داكان إليه ، وقال : ماذا ؟
وفي تردد أشد ، قال الحارس : لقد صحت ..
وحدق الملك فيه ، وقال : ماذا صحت ؟
قال الحارس في صوت متردد خائف : ايلي ..
وصاح الملك داكان به ، وكأنه يهمّ بالانقضاض عليه : صه .. أيها الأبله ..صه .. صه .
وتراجع الحارس ، وكأنما يلوذ بالفرار ، وهو يقول : عفواً ، عفواً يا مولاي .
وتلفت الملك داكان حوله ، ثم حدق في الحارس ، وقال : إنني عطشان ، أعطني ماء .
وأسرع الحارس إلى دورق الماء ، الموجود على منضدة في طرف الغرفة ، وهو يقول : أمر مولاي .
وملأ الكأس بالماء ، وبيد مرتعشة قدمه للملك ، وقال : تفضل ، يا مولاي .
وأخذ الملك داكان الكأس ، ودلقه في فمه الجاف الظمآن ، وراحت قطرات منه تتطاير فوق وجنتيه ولحيته ، حتى فرغ الكأس .
ونظر الحارس إليه ، وقال : في الدورق .. المزيد من الماء .. يا مولاي .
ودفع الملك داكان الكأس الفارغ إليه ، وقال : كفى ، وإن كان هذا الماء لم يرونيِ .
وأخذ الحارس الكأس الفارغ ، ووقف حائراً لا يدري ماذا يفعل ، فنظر الملك إليها ، وقال : أخبرني ..
ونظر الحارس إلى الكأس ، لا يدري ماذا يفعل به ، وقال حائراً : نعم ، مولاي .
وقال الملك داكان : ابنتي ، بيهي .
وقال الحارس ، والكأس حائر بين يديه : مولاتي في غرفتها ، يا مولاي .
وقال الملك : أعد الكأس إلى مكانه .
وقال الحارس ، وهو يسرع إلى المائدة ، ويعيد الكأس إلى مكانه : نعم ، نعم يا مولاي .
ونظر الملك إليه ، وقال : من المنتظر أن يأتي اليوم طبيب آخر ليعالجها ، بعد أن عالجها العديد من الأطباء ، آمل أن يكون الشفاء على يديه .
فرد الحارس : لم يأتِ بعد ، يا مولاي .
وتنهد الملك مهموماً ، ثم قال : لعله يأتي بعد قليل .
ولاذ الحارس بالصمت ، فقال الملك داكان ، وهو يغادر الغرفة : تعال معي ، أريد أن أرى الأميرة ، قبل أن أستقبل أحداً في قاعة العرش .

" 3 "
ـــــــــــــــــــ

للمرة الثالثة ، خلال الأسبوع الأخير ، زارها في المنام ، ابن عمها ايلي .
وفي كلّ مرة ، كما في الماضي ، قبل أن يختفي ، لا تعرف كيف ، ولا أين ، يطرق الباب مرة واحدة ، وقبل أن تقول فرحة : تفضل .
يكون قد دفع الباب برفق كالنسيم ، وكالنسيم المحمل بفرح البلابل وتغريدها العذب ، يدخل غرفتها ، ويغرد : طاب يومك ، يا بيهي .
هذا كان ، وأبوه الملك على قيد الحياة ، وهما مازالا طفلين ، واستمر وأبوها صار هو الملك ، وجلس على العرش بعد رحيل أخيه ، والد بيهي .
ويبدأ يومهما ، داخل القصر وخارجه ، وداخل حدائق القصر وخارجها ، دون أن يحسا بالساعات وهي تمرّ ، حتى تغيب الشمس ، ويأتي الليل .
وفي الليالي الدافئة ، وحتى بعد أن غادرا طفولتهما ، التي أرادا لها أن تبقى وتستمر ، أو أن لا تستعجل ، فهما مرتاحين بها ، ومتمتعين بأحلامها الملونة ، والتي لا تحدها حدود من أي نوع .
وخلال هذه الأعوام ، لم تذكر بيهي أنها مرضت مرة ، أو اضطرت للرقاد في فراشها ، ولو ليوم واحد ، لأي سبب من الأسباب .
لم تمرض ، ولم تنهض من مرضها ، إلا عندما اختفى بيهي فجأة ، كيف اختفى ؟ أين اختفى ؟ وهل سيعود في يوم من الأيام ؟
هذه الأسئلة كلها ، كانت تطرحها على أمها وأبيها ، بل وحتى مربيتها العجوز ، لكنها لم تتلقَ منهم ، ولو مرة واحدة ، جواباً يمكن أن يريحها .
أبوها كان ينزعج من أسئلتها أحياناً ، بل ويجيبها أحياناً : ما أدراني ، بيهي لم يعد طفلاً صغيراً ، ليبقى يلهو في القصر والحدائق .
وأمها كانت تتهرب منها ، وتحاول التملص من أسئلتها ، وطالما أخذتها بين ذراعيها ، قالت لها ، وخاصة عندما تدمع عيناها : بنيتي ، لم تعودي صغيرة ، أنت أميرة شابة ، وعليك أن تطيعي أباك الملك .
أما مربيتها العجوز ، فكانت تلوذ بالصمت ، وأمام دموعها الحائرة ، كانت دموع المربية العجوز ، تطفر من عينيها الشائختين ، وتسيل على خديها ، اللذين حفرت السنون عليها أخاديد عميقة .
وأمام هذه الأسئلة ، التي ظلت بدون أجوبة ، سقطت بيهي مريضة ، ورقدت في فراشها ، وعادها أطباء كثيرون ، من داخل المملكة وخارجها ، وكما لم تكن لأسئلتها إجابات شافية ، لم تكن لأدوية الأطباء ، الذين حاولوا معرفة حقيقة مرضها الغامض ، ووصف علاج له ، أي أثر شاف .
وخلال هذه المرات الثلاث ، كان يطرق الباب مرة واحدة كالنسيم الهادىء ، وكالنسيم يدخل ، لكنه ليس فرحاً مغرداً كما في الماضي ، وإنما يكتفي بالوقوف عند سريرها ، ويتطلع إليها بعينين حزينتين ، ثم يقول لها : بيهي ، انتظريني .


" 4 "
ـــــــــــــــــــــ

دخل الملك داكان مسرعاً غرفة ابنته بيهي ، وفي إثره دخلت مسرعة الوصيفة ، ووقف الحارس ينتظر بالباب ، وما إن سمعت بيهي ، وقع أقدام والدها خارج الغرفة ، حتى وضعت رأسها على المخدة ، وسحبت الفراش حتى عنقها .
واقترب الملك منها ، وقال متلهفاً : بيهي .
ورفعت بيهي عينيها الحزينتين إلى أبيها لحظة ، ثم أبعدتهما عنه ، دون أن تتفوه بكلمة ، وجلس الملك داكان إلى جانبها ، وقال : أرجو أن تكوني اليوم أفضل .
ومرة ثانية ، لم تتفوه بيهي بكلمة ، فمدّ الملك يده ، وتحسس حرارتها ، ثم نظر إلى الوصيفة ، وقال : حرارتها عادية .
ومالت الوصيفة عليه ، وقالت متعاطفة : مولاي ، اطمئن ، حالة الأميرة مستقرة ، ومع الأيام ستكون أفضل ، ومن يدري ، سيأتي الطبيب ، و ..
وهنا طرق الباب ، فنهض الملك ، وقال للوصيفة : انظري من بالباب .
وانحنت الوصيفة للملك ، وقالت ، أمر مولاي .
وفتحت الوصيفة الباب ، وأطل الحاجب ، وقال : مولاي ، جاء الطبيب .
فقال الملك داكان متلهفاً : ليدخل في الحال .
وفي الحال ، انسحب الحاجب ، وتنحت الوصيفة ، ودخل الطبيب ، وانحنى للملك ، وقال بصوت هادىء ، أشبه بتغريد البلابل : طاب يومكم .
وكأنما سرت فيها نفحة من العافية ، اعتدلت بيهي ، وهي تتمتم : من ؟ أنت !
وحدق الملك فيه ، أهو شاب ؟ أم شيخ ؟ أم .. ، وبدل أن يرد على تحيته ، قال الملك : صوتك هذا سمعته ، في مكان ما ، ربما في الصحراء .
ونظرت الوصيفة إلى الملك مذهولة ، فهي تعرف أن الملك لم يخرج من القصر ، منذ فترة طويلة ، فضلاً عن ذهابه إلى الصحراء .
ولم يلتفت الطبيب الشيخ ، أم إنه شاب ؟ ، وتقدم من بيهي ، وعيناه لا تفارقان عينيها ، وتمتم بصوت ، رأته بيهي كتغريد البلابل : بيهي .
وابتسم الطبيب الشيخ ، أم إنه شاب ؟ ، وقال دون أن يلتفت إلى الملك : بيهي ، ليس هناك طبيب في هذه المملكة ، وفي الممالك الأخرى ، لا يعرف الأميرة ، ولا يعرف أن اسمها .. بيهي
وابتسمت بيهي ، وداخل الملك مشاعر مختلفة لابتسامتها ، بينما فرحت الوصيفة ، فهذه أول مرة ، منذ أن مرضت ، ورقدت في فراشها ، يفتر ثغرها عن مثل هذه الابتسامة .
ورغم تضارب مشاعره ، وشكوكه بأنه سمع هذا الصوت ، في مكان ما ، قال الملك للطبيب : ابنتي بيهي ، هي ابنتي الوحيدة ..
وهز الطبيب الشيخ ، أم إنه شاب ؟ هزّ رأسه ، وقال : أعرف .. أعرف .
واستطرد الملك قائلاً : لقد عالجها أطباء كثيرون ، من داخل المملكة وخارجها ، دون جدوى ، أرجو أن تعاينها جيدا ، وآمل أن يكون الشفاء على يديك .
ونظر الطبيب الشيخ ، أم إنه شاب ؟ إلى بيهي ، وقال : اطمئن ، يا مولاي ، ستشفى ، فقط لا تستعجل الأمور ، وأعطني الوقت الكافي .
وقال الملك : لك ما تشاء من الوقت .
فقال الطبيب الشيخ ، أم أنه شاب ؟ ، من يدري ، لعل بيهي تدري ، أو هذا ما تتمناه : اتفقنا إذن ، سأبدأ بفحصها وعلاجها منذ الليلة .


" 5 "
ــــــــــــــــــــ

لم يهجع الملك داكان ، منذ أن رأى الطبيب الشيخ ، أم إنه شاب ؟ وكلما جلس ، أو تمدد في فراشه ، لعله يرتاح ، انتفض ، إذ تردد في داخله نبرات صوت الطبيب .
ترى أين سمعه ؟
تغريد البلابل البغيض هذا ، أين ومتى سمعه ؟
هذا ما يريد أن يعرفه ، مهما كلف الثمن .
ويخطر في باله أمر ، فيهز رأسه ، وكأنما لا يريد أن يصدق ما خطر له ، ويدمدم في نفسه : هذا مستحيل .. مستحيل .. مستحيل .
وينتفض مرة أخرى ، وقد لمع في عينيه برق ، يعقبه رعد في داخله ، ولا مطر ، أهو شيخ الصحراء ، الذي جاءه في المنام ؟ من يدري ، إنه يشبهه أحياناً ، ولا يشبهه أحياناً أخرى ، أوه .. يا للحيرة .
ونادى الملك داكان ، من غرفته على الحاجب ، وحضر الحاجب مسرعاً ، وانحنى له ، وقال : مولاي .
وتساءل الملك داكان : أين الطبيب الآن ؟
فردّ الحاجب قائلاً : في غرفته ، يا مولاي .
وقال الملك داكان : اذهب إليه ، وقل له ، إنني أريد أن أراه ، قرب البحيرة الصغيرة ، في الحديقة .
وانحنى الحاجب ، وقال : أمر مولاي .
وهمّ الحاجب بالخروج ، فقال له الملك داكان : مهلاً .
وتوقف الحاجب ، وقال : مولاي .
ونظر الملك داكان إليه ، ثم قال : أيها الحاجب ، قل لي ، كيف ترى الطبيب ؟
ووقف الحاجب واجماً ، دون أن يتفوه بكلمة ، فقال الملك داكان : أعني .. أتراه شيخاً كما يبدو ، أم .. ماذا ؟
ولاذ الحاجب بالصمت لحظة ، ثم قال ، وقد استبدت به الحيرة : مولاي ، لا أدري ، نعم لا أدري .
وأشاح الملك عنه ، وهو يتمتم ، وكأنه يحدث نفسه : هذا رأيي أيضاً .
ثم أشار للحاجب ، وقال : اذهب إليه ، سأنتظره بعد قليل ، قرب البحيرة الصغيرة .
وخرج الحاجب مسرعاً ، بعد أن انحنى للملك ، وقال : أمر مولاي .
ولبث الملك داكان في مكانه ، والحيرة والقلق يتأكلانه ، أهو .. ؟ هذا مستحيل ، لقد انتهى ، أو يفترض أنه انتهى ، منذ سنة تقريباً .
وصمت في أعماقه المضطربة لحظة ، ربما هناك خيانة ، لعل الجلاد اللعين لم .. ، هذا مستحيل ، إنه من أخلص عبيدي ، الويل له إذا ..
واندفع الملك داكان من غرفته ، وهو يغلي بظنونه وحيرته وقلقه ، واجتاز ممرات القصر ، التي بدا وكأنها لن تنتهي ، ثم خرج إلى الحديقة ، واتجه بخطوات سريعة ، صوب البحيرة الصغيرة ، سيلتقي الطبيب ، ولابد له أن يعرف الحقيقة .



" 6 "
ـــــــــــــــــــــ

لم ينتظر الملك داكان ، عند البحيرة الصغيرة ، فترة طويلة ، فقد لاح بعد قليل ، الحاجب والطبيب الشيخ ، أم إنه شاب ؟ واقتربا من الملك داكان ، وانحنى الحاجب له ، وقال : مولاي .
وأشار الملك داكان له أن يذهب ، دون أن ينظر إليه ، واقترب منه الطبيب الشيخ ، أم إنه شاب ؟ وقال : طاب مساؤك ، يا جلالة الملك .
وردّ الملك داكان ، وهو يتفرس فيه : أهلاً بالطبيب ، أهلاً ومرحباً .
وقال الطبيب ، وهو يتلفت متأملاً الحديقة بأشجارها وشجيرات الورد فيها وممراته المتناسق الجميلة : أهلاً بك ، أشكرك ، يا جلالة الملك .
وصمت لحظة ، ثم قال : الحديقة جميلة جداً ، خاصة وأن شجيرات الورد قد نمت وأزهرت .
ونظر الملك إليه ملياً ، وقال : يبدو لي أنك تعرف حدائق القصر جيداً .
وضحك الطبيب الشيخ ، أم إنه شاب ؟ وقال : يا جلالة ، الملك أنا طبيب ، وقد رأيت حدائق قصور ملكية كثيرة ، وأعترف أن هذه الحديقة من أجمل ما رأيت .
لم يحول الملك داكان نظره عنه ، وحين صمت الطبيب ، وكلماته كانت تغرد كالبلابل ، قال الملك : يا للعجب ، صوتك هذا ليس غريباً عني ..
وضحك الطبيب ، فتابع الملك قائلاً : وأنت نفسك ، بهيئتك هذا ، يبدو لي ، بل أنا متأكد ، أنني رأيتك في مكان ما ، منذ وقت قصير .
وضحك الطبيب الشيخ ، أم إنه شاب ؟ وقال بصوته ، الذي مازال يشبه تغريد البلابل : من يدري ، ربما رأيتني في الحلم .
ولاذ الملك بالصمت حائراً ، الحلم ؟ كيف عرف هذا الطبيب الشيخ ، أم إنه شاب ؟ بأمر ما رآه في منامه ؟ هذا أمر محير .
وصمت الطبيب ، فحدق الملك فيه ، وقال متسائلاً : من أين أنت ، أيها الطبيب ؟
وتململ الطبيب الشيخ ، أم إنه شاب ؟ دون أن يتفوه بكلمة ، فتساءل الملك ثانية بشيء من الإلحاح : لم تجبني ، من أين أنت ؟
وتراجع الطبيب عدة خطوات ، وهو يقول : الشمس تغرب ، يا جلالة الملك .
وقال الملك ، دون أن يحول عينيه عنه : أريد أن أعرف ، من أين أنت ؟
واستدار الطبيب الشيخ ، ،أم إنه شاب ؟ وسار مبتعداً ، متجهاً صوب القصر ، وهو يقول : يا جلالة الملك ، لنرجىء هذا فقد حان موعد معاينة الأميرة ، وعليّ أن أستعد لذلك .
ولحق الملك به ، واعترض طرقه ، وقال بإلحاح : أجبني ، من أنت ؟
وحدق الطبيب فيه ، وقال : أنا طبيب ، وقد جئت أعالج الأميرة ، بيهي .
ومدّ يده ، وبشيء من الرفق ، أبعد الملك داكان عن طريقه ، وقال : أرجوك جلالة الملك ، إنني لا أريد أن أتأخر عن موعدي مع الأميرة .


" 7 "
ــــــــــــــــــــ

قبل أن يأتي الطبيب الشيخ ـ أم إنه شاب ؟ ، لعيادة الأميرة بيهي في غرفتها ، وهذا ما كانت الأميرة تنتظره بفارغ الصبر ، أقبل الملك داكان .
لم ترتح الأميرة بيهي لمجيء أبيها الملك ، وكانت تأمل أن تستقبل الطبيب الشيخ ـ أم إنه شاب ؟ وحدها ، أو على الأقل بحضور مربيتها العجوز .
واقترب الملك من ابنته الأميرة بيهي ، وقال : تبدين اليوم أفضل .
ورمقته الأميرة بيهي بنظرة خاطفة ، دون أن تتفوه بكلمة ، فقال بنبرة تشي بعدم ارتياحه : هذا الطبيب الشيخ ، لا يبدو مريحاً .
وصمت لحظة ، ثم أضاف قائلاً : مهما يكن ، لقد استقبلنا الكثير من الأطباء ، بعضهم إن لم يكن أغلبهم ، كان دجالاً ، فلنجرب الطبيب الشيخ هذا .
ثم قال وكأنه يحدث نفسه : أهو شيخ حقاً .
وهنا طرق الباب ، فأشار الملك إلى الوصيفة ، وقال : انظري من بالباب .
واتجهت الوصيفة إلى الباب ، بعد أن انحنت للملك ، وقالت : أمر مولاي .
وفتحت الوصيفة الباب ، فأطل الحاجب ، وقال : مولاي ، الطبيب .
واعتدلت الأميرة بيهي في فراشها ، وعيناها تلمعان ، وقلبها يخفق ويسرّ لها بما يريحها ، ويفقد الملك داكان رشده وعافيته .
ورد الملك ، وعيناه مصوبتان نحو الباب ، كأنما يستعد لترصد الطبيب : ليتفضل .
ودخل الطبيب الشيخ ـ أم إنه شاب ؟ وبدا رغم لحيته البيضاء ، شاباً تتدفق حيوية الفتوة فيه ، واقترب من الملك والأميرة ، وقال وكأنما يخاطب الأميرة وحدها : طاب مساؤكم .
ونظرت الأميرة إليه ، كأنها تبحث وراء الشعرات البيضاء ، عن إنسان انتظرته طويلاً ، وردت قائلة : طاب مساؤك ، يا ..
ومال عليه الطبيب الشيخ ، وقال وكأنه يقاطعها ، وفي صوته تغريد مجموعة من البلابل : يا أميرتي ، من يرك الآن ، لا يمكن أن يخطر له أنك مريضة .
وقبل أن تردّ الأميرة بشيء ، قال الملك داكان ، وصوته يشي ببعض الضيق : تفضل وعاينها .
وابتسم الطبيب الشيخ ـ أم إنه شاب ؟ للأميرة ، وكأنه لم يسمع ما قاله الملك داكان ، وقال : أميرتي ، سأعاينك ، وإن كنت أعرف تماماً ، أنك لست مريضة .
وقال الملك داكا محتداً : لكن عشرات الأطباء عاينوها ، وقالوا إنها مريضة ، وإن لم يجمعوا على حقيقة مرضها ، ووصفوا لها أدوية شتى .
ومرة أخرى لم يلتفت الطبيب الشيخ ـ أم إنه شاب ؟ إلى الملك داكان ، ومال عل الأميرة بيهي ، وقال : أعطني يدك ، يا أميرتي .
وأعطت الأميرة بيهي ، يدها للطبيب الشيخ ـ أحقاً هو شيخ ؟ هذا ما لا تقوله أنامله الرقيقة ، التي أمسكت برفق يدها ، وراحت تحاورها .. وتحاورها .
وابتسم الطبيب الشيخ ، الذي ليس شيخاً ، في نظر الأميرة ، وقال : لست مريضة ، هذا ما عرفته منذ البداية ، ودواؤك الوحيد ، الذي سأشرف عليه بنفسي ، لمدة شهر واحد ، التجول بحرية ، وفي أي وقت من الليل أو النهار ، في حدائق القصر .


" 8 "
ــــــــــــــــــــ

بقدر ما فرح الملك داكان ، بنهوض ابنته الأميرة بيهي من فراش مرضها ، بل وتماثلها للشفاء ، تملكته الحيرة والعجب والوساوس .
عشرات الأطباء من داخل المملكة وخارجها ، عاينوا الأميرة بيهي ، ووصفوا لها مختلفة الأدوية والأحجبة والرقى ، لكن دون جدوى .
فما السر الذي جعل الأميرة بيهي ، تنهض من فراشها ، وتخرج من غرفتها ، وتتجول في الحديقة ، حيناً في النهار ، وحيناً في الليل ، ودائماً في صحبة الطبيب ، أهو شيخ حقاً ؟
ولعل الأميرة بيهي ، كانت لا تقل حيرة عن أبيها الملك ، رغم ارتياحها المتزايد من الطبيب الشيخ ، آه من هذا الشيخ ، إن صوته تغريد بلابل ، ولا أثر فيه للشيخوخة ، فهل هو بلبلها ؟ من يدري .
وحاولت جهدها أن تعرف الحقيقة ، وصحيح أن الطبيب ، الذي تتمنى أن يكون بلبلها ، لا يتملص منها ، أو يراوغها ، لكنه أيضاً لم يكن يسهل الأمر عليها ، أو يقول لها الحقيقة .
حدثته عن طفولتها ، عن عمها الملك السابق ، وعن علاقتها بابن عمها ، وهما يكبران يوماً بعد يوم ، ويوماً بعد يوم ، تكبر معهما عاطفتهما ، فابتسم لها ، وقال : يبدو أنك كنت تحبينه .
فردت قائلة : إنه ابن عمي .
واتسعت ابتسامة الطبيب ، ثم قال : وهو ، ابن عمك ..
فقالت بيهي : ايلي .
وتابع الطبيب ، وابتسامته تكبر .. ونكبر : هل كان يحبك ، مثلما كنت تحبينه ؟
وبنفس النبرة ، قالت بيهي : إنه ابن عمي .
ونظر الطبيب إليها ، كانت لحيته بيضاء ، لكن عينيه لم تكونا عيني طبيب أبيض اللحية ، وقال : آه لو لم أكن شيخاً هكذا .
وتفرست بيهي عينيه ملياً ، ثم قالت : فيك أكثر من شيء من .. ايلي .
وصمتت لحظة ، ثم قالت : كانت لايلي قدرات غريبة ، يقول إنها ربما انحدرت إليه من جدته ، أم أمه ، ويقال أنها كانت ساحرة .
وقال الطبيب ، ونبرة تغريد البلابل تشيع في صوته : ليس كلّ من يملك قدرات خارقة ، ساحر .
ونظر إليها ، وقال : بيهي .
وخفق قلبه ، وهي تسمعه ينطق باسمها ، وكأن ايلي يناديها من مكان بعيد ، فقالت : نعم .
وتساءل ايلي : هل أنا ساحر .
فردت بيهي قائلة : نعم .
ابتسم ايلي ، فقالت بيهي : وإلا كيف شفيتني .
ومدّ الطبيب الشيخ ـ أم إنه شاب ؟ يديه ، وأمسك بيدي بيهي ، وقال لها بصوت كتغريد البلابل : الليلة سيطلع القمر بدراً ، فلنلتق ِ قرب البحيرة الصغيرة ، وسنستكمل العلاج ، وستشفين تماماً .

" 9 "
ـــــــــــــــــــــ
طلع القمر بدراً ، كما في الماضي ، وكما في الماضي تسللت الأميرة بيهي إلى البحيرة ، ولم تلبث ، كما في الماضي ، أن جاءها صوت البلبل يغرد : بيهي .
وخفق قلبها ، ورفرف فرحاً ، حتى خيل إليها أنه سيطير إلى بلبله ، ومن بين الأشجار ، حيث كان يطلع بلبلها ، رأته ، رأت بلبلها نفسه .
هتفت فرحة : ايلي .
لم يتحرك ايلي ، فهتفت ثانية : ايلي .. ايلي .
وأقبل ايلي ، وكلما اقترب منها ، على ضوء القمر ، تبين لها ، من ثيابه ، ولحيته البيضاء ، بأنه ليس ايلي ، وإنما الطبيب الشيخ .
وحط قلبها في مكانه ، حين راح يقترب منها ، الطبيب الشيخ أ أم إنه .. ؟ وهزت رأسها ، ليته ليس الطبيب .. ليس الشيخ .. آه من ليت .
وغرد محيياً : طاب قمرك .
وخفق قلبها مرفرفاً مرة أخرى ، فهكذا كان يحييها بلبلها ، عندما يكون القمر بدراً ، وبين الفرح والإحباط ردت بيهي : وقمرك ، يا ..
وابتسم الطبيب ، متطلعاً إليها ، وقال : خشيت أن لا تصدقي إحساسك ، فلا تأتين ، يا بيهي .
وحدقت الأميرة فيه متحيرة ، إنه يخاطبها ، كما كان ايلي ، في الماضي ، لكن هذه اللحية البيضاء ، التي تزداد بياضاً تحت ضوء القمر ، تنفي ما يقوله صوته ، بل تنفي أيضاً ما تقوله عيناه الشابتان .
وابتسم الطبيب الشيخ ثانية ، وقال : الجو هذه الليلة رائع ، يذكرني ب ..
وصمت لحظة ، ثم قال : لنجلس .
وهمت بيهي أن تجلس على المصطبة ، لكن الطبيب ـ أم إنه .. ؟ أمسك يدها برفق ، كما كان يفعل ايلي ، وكما يفعل ايلي قال لها : لا ، ليس على هذه المصطبة ، يا عزيزتي..
وقادها برفق ، بعيداً عن المصطبة ، وهو يقول مغرداً : بل هنا ، على العشب .
وجلسا كما في الماضي على العشب ، وتطلع إليها ، وقال مغرداً : بيهي ..
وتحيرت ماذا تقول ، فغرد ثانية : بيهي .. بيهي .
وازدادت حيرتها ، حتى لم تنطق كلمة ، فقال : ردي عليّ ، يا بيهي .
وهزت بيهي رأسها ، وقال بصوت تبلله الحيرة والدموع : لا أدري بماذا أرد .
فقال : ردي بما تتمنين .
وحدقت بيهي فيه صامتة ، فغرد : بيهي .
فردت قائلة : ايلي .
وعلى الفور ، وبدل الطبيب الشيخ ، رأت ايلي إلى جانبها ، ورفرفت دموعها ، حتى غطت عينيها ، وراحت تتمتم : ايلي ؟ ايلي ؟ ايلي !
ومدّ يده ، وراح يمسح دموعها ، ثم قال بصوت تبلله دموع الفرح : نعم ، يا بيهي ، أنا .. ايلي .



" 10 "
ــــــــــــــــــــــــ

في أعماقه أولاً ، هبت العاصفة ، وأعولت بصوت مرتفع : اووووو .
ولا يدري ، وربما هذا ما خيل إليه ، كيف تحول العويل إلى ما يشبه : اوو.. اي .. لي .. وووو .
وفجأة وجد نفسه في قلب العاصفة .. يدور معها فوق الرمال .. وتلفت حوله .. وهو في قلب الدوامة .. رمال .. رمال .. رمال .. ولا شيء غير الرمال .
وداهمته دوخة ، عصفت به كالإعصار ، حتى لم يعد يقوى على التماسك ، والوقوف على قدميه ، فترنح .. وترنح .. ثم تهاوى على الرمال .
وكما هبت العاصفة فجأة ، في أعماقه ، وعلى الأرض ، اختفت فجأة ، وكأن شيئاً لم يكن ، وأنصت .. أنصت ناظراً حوله .. لعله يلمس أثراً ما .. لكن لا شيء غير الصمت والرمال .
وهنا هزه صوت يعرفه ، كأنه تغريد بلبل ، يخاطبه قائلاً : انهض .
ورفع رأسه قليلاً ، ونظر صوب مصدر الصوت ، وعبر الضباب الذي يغشى عينيه ، لمح شخصاً غير واضح المعالم ، يقف على مقربة منه .
لعله واهم ، بل لابد أنه واهم ، فمن أين يمكن أن يأتي شخص كهذا ؟ ومن يكون ؟ ومرة ثانية ، غرد البلبل : أيها الملك داكان ، انهض .
وتحامل الملك داكان على نفسه ، إنه يخاطبه .. أيها الملك ، وهذا أمر مريح بعض الشيء ، وحدق فيه ، وهو يقف متمايلاً ، صحيح إن الضباب بدأ ينقشع قليلاً عن عينيه ، لكنه لم يتبينه جيداً .
وغرد البلبل ثانية ، لكن بشيء من الحزم هذه المرة : جئتُ آخذ حقي .
واتسعت عينا الملك ، فقد ميز أمامه ، ولو بشكل غير واضح تماماً ، ابن أخيه .. ايلي ، وتمتم بصوت مختنق : اااا ايلي !
وهزّ الشخص رأسه ،وقال : لقد شفيت الأميرة .
هدأ الملك قليلاً ، فمن أمامه ليس ابن أخيه ايلي ، وإنما وهذا ما بدا له ، الطبيب الشيخ ، فقال : حمداً للآلهة . . حمداً للآلهة .
وصمت لحظة ، ثم أضاف قائلاً : أيها الطبيب .. أطلب ما تشاء .
فغرد البلبل ، وبصوت فيه شيء من الحزم : لا أشاء غير حقي ، وسآخذه كاملاً .
وبدل الطبيب بدا له ايلي ، أم إنه واهم ؟ فقال بصوت مرتعش : حقك محفوظ ، وسأزيد عليه ما تشاء من ذهب وفضة و ..
وقاطعه بصوت أشبه بتغريد البلبل ، وبدا له هذه المرة ايلي واضحاً : لا أريد غير حقي .
وتراجع الملك داكان مرعوباً ، وتعثر في تراجعه ، وتهاوى على الرمال ، وتقدم منه .. أهو ايلي حقاً ؟ وقال بصوته المغرد : أيها الملك ، اطمئن .
لم يطمئن الملك داكان ، وظل منطرحاً على الرمال ، يترقب .. ويترقب ، فمال عليه ، وأنهضه على قدميه قائلاً : أيها الملك .
ووقف الملك داكان ، يحدق فيه مترنحاً ، أهو الطبيب ، أم .. ، وغرد البلبل بصوت هادىء : أنا لا أريد المُلك .. لا أريد العرش .. أريد التاج .



" 11 "
ـــــــــــــــــــــــ

وهبّ الملك داكان من نومه ، وصاح بصوت مضطرب : أيها الحارس .
وعلى الفور ، فتح باب الغرفة ، ودخل الحارس ، وقال : مولاي .
وتطلع الملك دانكان إليه بعينين زائغتين مضطربتين ، وقال : الجلاد .
وفغر الحارس فاه مذهولاً ، وقال : مولاي !
ونزل الملك داكان من على سريره ، وأسرع إلى الخارج ، وهو يقول : خذني إليه .
وأسرع الحارس في إثره مذهولاً ، وقال : مولاي .. نحن في منتصف الليل .
ومضى الملك ، عبر ممرات القصر ، متجهاً صوب الخارج ، دون أن يلتفت إليه ، وأسرع الحارس حتى اقترب منه عند البوابة ، وقال : الجلاد في غرفته ، قرب البوابة الخارجية ، يا مولاي .
وقال الملك داكان ، وهو يجتاز البوابة ، التي فتحها حارسان ، وهما يغالبان دهشتهما : أعرف ، تعال وتقدمني إلى غرفته .
وحثّ الحارس خطاه ، حتى تقدم الملك ، وقال : أمرك ، مولاي .
وحالما وصلا غرفة الجلاد ، توقف الحارس ، وقال متسائلاً : مولاي ؟
فقال الملك داكان : أطرق الباب .
وطرق الحارس الباب ، وبعد قليل فتح الجلاد الباب ، وما إن رأى الملك داكان ، حتى جحظت عيناه ، وكأنه رأى شبحاً ـ وتمتم بصوت مذعور : مولاي !
وقال الملك داكان ، يخاطب الحارس ، دون أن يلتفت إليه : ابقَ أنت هنا .
وقبل أن يقول الحارس : نعم مولاي .
دفع الملك داكان الجلاد ، ودخل الغرفة ، وصفق الباب بشدة ، وتراجع الجلاد جاحظ العينين ، دون أن يجرؤ على النطق بكلمة واحدة .
واقترب الملك داكان منه ، وقال من بين أسنانه ، وكأنه يهم بتمزيقه : أيها الجلاد ..
وتأتأ الجلاد ، وكأنما أدرك أن نهايته المحتمة حانت ، ولا أمل له بالخلاص منها : الرحمة .. يا مولاي .. الرحمة .. الرحمة .
وفحّ الملك داكان في وجهه ، كما تفح الأفعى في وجه ضحيتها ، وقال : قبل أكثر من شهر كلفتك بمهمة .. بمهمة خاصة .
وهزّ الجلاد رأسه ، وهو يغالب انهياره ، وقال بصوت لا يكاد يُفهم : نعم .. يا مولاي .. نعم ..
وحدق الملك داكان فيه ، يتعاوره الغضب والقلق والأمل ، وقال : أصدقني ..
وهز الجلاد رأسه منهاراً ، وقال : أمر مولاي .
وقال الملك : الأمير ايلي .
ولاذ الجلاد بالصمت ، وهو يحاول عبثاً أن يتماسك ، فقال الملك داكان : أصدقني .. أصدقني .
وقال الجلاد بصوت مختنق : عفواً .. مولاي ..
وحدق الملك داكان فيه صامتاً مترقباً ، فقال الجلاد بصوت منها : سامحني .. يا مولاي .. سامحني .. سامحني ..
ومال الملك داكان عليه قلقاً مترقباً ، وقال : ماذا تعني ، أيها اللعين ؟ ماذا تعني ؟
فقال الجلاد ، وكأنما يستسلم لقدره : حاولت .. يا مولاي .. حاولت .. لكني لم أستطع .
واعتدل الملك داكان ، وقال : ايلي حيّ !
وذهل الجلاد ، إذ لم يقتله الملك داكان ، وهو يعترف له : نعم ، يا مولاي ، لم أستطع أن أقتله ، إنه حيّ .


" 12 "
ـــــــــــــــــــــــ

تلك الليلة ، هل نام الملك داكان ؟
والأمير ايلي ، هل نام ؟
وهل نامت الأميرة .. بيهي ؟
من يدري .. لكن ما ندريه ، أن الطبيب الشيخ ، حاول منذ الفجر ، أن يدخل غرفة الأميرة بيهي ، فاعترضته الوصيفة قائلة : توقف ، يا سيدي .
وتوقف الطبيب ، وقال : أريد أن أدخل على الأميرة .. بيهي .
فقالت الوصيفة : الأميرة نائمة ، وأمرت أن لا يدخل عليها أحد ، حتى تفيق .
وفغرت الوصيفة فاها مذهولة ، حين جاءها صوت الأميرة بيهي من الداخل تقول مغردة : ايلي ، ادخل ، يا ايلي .
وابتسم الطبيب لها ، وقال : افتحي الباب .
وفتحت الوصيفة الباب مذهولة ، وهي تتمتم : يا سيدي ، لكنك لست ..
ودخل الطبيب ، وحين أغلق الباب ، حاولت بيهي أن تنهض ، فقال لها الطبيب ، الذي صار ايلي : ابقي في فراشك ، الشمس لم تشرق بعد .
وجلست بيهي في فراشها ، وقالت ، بدا لي أن الوصيفة ، كانت مندهشة .
فقال ايلي مبتسماً : لا تلوميها ، يا بيهي ، لقد دهشت حين ناديتني .. ايلي .
ونظرت بيهي إليه مندهشة متسائلة ، فقال ايلي : لم يكن أمامها ايلي ، بل الطبيب الشيخ .
وكتمت بيهي ضحكتها ، وهي تهز رأسها ، فجلس ايلي على طرف السرير ، وقال : هذه الليلة زرت والدك الملك في المنام .
ونظرت بيهي إليه مندهشة ، وتساءلت : ماذا تقول !
فردّ ايلي قائلاً : أريد التاج ، وسآخذه .
وهنا دفع الباب ، ودخل الملك داكان مسرعاً ، وهو يقول : بيهي .. بيهي .
وتوقف صامتاً مذهولاً ، حين رأى الطبيب الشيخ يجلس على طرف فراش بيهي ، ونهض الطبيب ، فقالت بيهي : بابا ، الوقت مازال مبكراً .
وقال الملك داكان ، مشيراً برأسه إلى الطبيب : قولي هذا لزائرك .
ثم نظر محملقاً في الطبيب ، وقال : ليتك تخبرني من أنت .
وابتسم الطبيب ، وقال : اسأل بيهي .
ونظر الملك داكان إلى بيهي ، فقالت : بابا ، إنه ..
وصمتت ناظرة إلى ايلي ، وقالت معاتبة : ايلي ..
وفغر الملك داكان فاه ، وقال : ايلي!
واقترب الطبيب منه ، وقد صار ايلي ، وقال : يا جلالة الملك ، لقد زرتك الليلة في المنام .
وتمتم الملك داكان مذهولاً : أهو أنت !
وقال ايلي بتغريد هادىء : لقد طلبت منك طلباً صريحاً ، وستوافقني عليه ، يا جلالة الملك .
لم يتفوه الملك داكان بكلمة واحدة ، فقال ايلي ، قلت لك ، يا جلالة الملك ، وسأقوله الآن أمام بيهي ، أنا لا أريد الملك ، ولا أريد العرش ، أريد فقط تاجي ..
والتفت إلى بيهي ، واستطرد قائلاً : وتاجي .. الذي أريده .. ولا أريد سواه هو .. بيهي .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. وفاة الأمير والشاعر بدر بن عبد المحسن عن عمر ناهز الـ 75 عام


.. الفلسطينيين بيستعملوا المياه خمس مرات ! فيلم حقيقي -إعادة تد




.. تفتح الشباك ترجع 100 سنة لورا?? فيلم قرابين من مشروع رشيد مش


.. 22 فيلم من داخل غزة?? بالفن رشيد مشهراوي وصل الصوت??




.. فيلم كارتون لأطفال غزة معجزة صنعت تحت القصف??