الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أمسية من أجل جوانا

دلور ميقري

2023 / 4 / 9
الادب والفن


1
كانَ قد ناهزَ الخمسين، إلا أنّ ملامحَ البراءة، المنعكسة على قسماته الدقيقة، كانت توحي للغرباء بعُمرٍ أصغرَ ولا ريب. كذلك كانَ رأيُ صديقِهِ القديم ـ الجزراويّ الإيزيديّ ـ الذي التقى معه " جان " في برلين، بعدما افترقا في العاصمة الأوكرانية قبلَ نحو عقدين من السنين. كانَ قد تخرّجَ هوَ أولاً، بشهادة دكتوراه من معهد آداب اللغة الروسية، ليعودَ بعدئذٍ إلى الوطن، إلى سلسلة من مراحل الإحباط والإملاق والضياع: الجندية، المُلتزمة بتجريد المواطن من كرامته؛ ثم التدريس بجامعة دمشق، الأشبه مردودُهُ بسِفْرة اليتامى؛ وانتهاءً بالتشرّد، عقبَ اندلاع الثورة والنزاع الأهليّ لاحقاً.
" صديقكَ، حطّ رحاله مع أسرته في السويد، التي تكرّمت عليه بوظيفة مدرّس إبتدائيّ "، قال جان بنبرة لاذعة. علّق صديقه مبتسماً: " المهم، أنك فكّرتَ برؤيتي بعد كل تلك السنين "
" لما وَضعتُ مؤخراً في جيبي جوازَ السفر، المصبوغ جلده بلون النبيذ الأحمر، فإنّني عزمتُ على زيارة أقاربي في ألمانيا. أردتُ النأيَ بنفسي، ولو لأيام قليلة، عن مملكة الوحدة والصقيع "
" لا أفهمُ تذمّرك، أنتَ المحظوظُ بعائلة سعيدة؟ "، قال له صديقه المُفترق عن امرأته مذ بعض الوقت والمنتظرُ محاكمةً منذورة لوضع طفلهما. وكان هذا يمتلكُ كشكاً، يدرّ عليه دخلاً وفيراً؛ بالنظر لاحتلاله زاوية إحدى محطات المترو، البرلينية. ثمة إذاً التقى صديقا العُمر، وما لبثا أن قضيا سهرةَ ذكرياتٍ حميمة، تخللتها أنخابُ الفودكا. فجراً، حينَ أوصله صديقه بسيارته إلى بيت أولئك الأقارب، أوصاهُ هذا بالقول: " لا تنسَ موعدنا السبت ". لقد دعاهُ إلى أمسية عيد نوروز، التي تتعهّد إقامتها سنوياً الجمعيةُ الإيزيدية في ألمانيا.
في المَوعد المُحدد للأمسية، وجدَ جان نفسه في صالةٍ فارهة، مُطوّقاً بحشدٍ من المحتفلين، رجالاً ونساءً. فَغَمَ أنفَهُ ما تطايرَ من العطور الباريسية في جوّ الصالة، فيما أرضيتها تهتز تحت قدميه بوقع الرقص الكرديّ. سأله صديقه عن سبب حضوره وحيداً، فأجابَ جان بشيءٍ من الحَرَج: " امرأتي عادةً لا يتوافقُ مزاجها مع المناسبات العامة ". ثم استدركَ ضاحكاً: " وعلى أية حال، فإنك بنفسك بدون امرأة! ". هكذا انضما إلى إحدى الموائد، المشرفة على ساحة الحفل، أينَ الفرقة الموسيقية وحلقة الرقص. ألقى جان نظرةً غائمة على المحفل الراقص، وكان الكثير من الصبايا بملابسهن التقليدية، الزاهية. لتتعلق عيناه بإحداهن، وكانت بفستانٍ أخضر مزركش، يكشف ساعديها وأعلى ظهرها.
" رباه، ماذا أرى؟.. إنها هيَ! "، ندّت عن داخله كالآهة. سرعانَ ما تخلّى عن وهمه، مفكّراً مع ذلك بواقعية تأويله للرؤيا: " هذه الفتاة، بالكاد تبلغ العشرين. ولكنها تُشبه كثيراً تلك الحبيبة ". المفردة الأخيرة، جازَ لها أن تُحلّق مع ذاكرته إلى عقودٍ ثلاثة مضت. قبلَ أن تباغته فكرةٌ أخرى، لم تتخلَ عن الأمل: " سيُقطع الشكّ باليقين حينَ أرى المائدة، التي تجلسُ إليها أمّ هذه الفتاة ". مرّت الدقائقُ على الأثر، بطيئة ممضّة. وكانت عيناه، في الأثناء، تتنقلان بين الموائد دونَ أن تتخليا عن مراقبة الفتاة. ما لم يكن يتوقعه، أن إحداهن كانت بدَورها قد وضعته في مجال اهتمامها. انتبه الصديقُ إلى ما يعتريه من تململ وقلق: " ماذا دهاك، يا رجل؟ "، تساءلَ وهوَ يربتُ بيده على كتف جان. عينا هذا الأخير، كانت عندئذٍ قد وقعتا في شراك عينيّ تلك المرأة. وإنها ابتسامتها العذبة، مَن حقّ لها أن تبددَ شكّه. توقفت الموسيقى، لكن روحَهُ كانت ما تفتأ تتراقصُ: فتاةُ الفستان الأخضر، مثلما أمِلَ، كانت في طريقها إلى المائدة، المنبعثة منها النظرةُ المغناطيسية.
" إنها هيَ، يا صديقي "، ردّ جان وعيناه متعلقتان بعدُ بتلك العينين. لاحقَ صديقُهُ نفسَ النظرة، ولحظَ أنّ صاحبَتها، المُكتسية بفستانٍ بلون الأرجوان، ما زالت تحتفظ بالحُسن الساحر بالرغم من أنها تبدو في منتصف الأربعينات. ولاحَ، من ثمّ، كما لو أنه أدركَ ماهيّة هذه المرأة: في إحدى ليالي كييف الخريفية، كان جان قد قصّ عليه بالتفصيل حكايةَ عشقه لفتاةٍ إيزيدية، تُدعى " جوانا "، التقى بها في مدينة عفرين ضمنَ ملابساتٍ غريبة؛ حكاية، كررَها آنذاك على مَسْمعه في مناسباتٍ أخرى.

2
زيارته الأولى للشمال السوريّ، كانت فكرتها قد أينعت اتفاقاً. كانت أمسية صيفية، تواجدَ جان فيها مع أحد الأصدقاء في مَقصف " لاتيرنا "، الكائن في القلب التجاريّ لدمشق، وكان لا يرتاده عادةً سوى رهطُ المثقفين. لعل هؤلاء كانوا يستمدون أفكاراً مُلهمة من الشلال الفريد، المُنهمر من أحد جدران المقصف، المَكسو باللبلاب، والمنحدر ماؤه نحوَ بحرة بيضوية، تتراقص فيها أسماكٌ حمراء بلون الثورة العالمية. صديقه، الطالبُ في معهد الموسيقى، سبقَ وأخبره أنه ينتظرُ على السهرة زميلاً، قال أنه موهوبٌ بالعزف على البزق: " لقد حدثته عنك أيضاً، ويسرّني أن تتعارفا ". بعد نحو ساعة، وكانا قد أفرغا في جوفيهما أربعَ زجاجاتِ بيرة، حضرَ ذلك الزميل مع آلته الموسيقية. عقبَ التعارف، بدأ هذا الأخير يتلاعبُ بأوتار البزق. وإذا بصاحب المقصف، وكان يجلسُ على طاولة قريبة مع أصدقائه، يرجو من عازف البزق أداءَ بعض الألحان الموسيقية. " مُوْسو " هذا، المُتّسم قليلاً بالتحفّظ والخجل، بادرَ إلى دندنة مقطوعات عربية وكردية. كانَ من عفرين، المنطقة الجبلية في شمال غرب حلب؛ من أتباع الملّة الإيزيدية.
" إننا نعتنقُ ديانةً قديمة، لا علاقة لها بمعتقدات الطوائف الإسلامية، سواءً الباطنية أو الغنوصية. لكننا نعتبرُ أنفسنا أخوةً لجميع المؤمنين بثنائية الخير والشر "، كذلك أوضحَ الشاب في سياق الحديث. جان، سرعانَ ما أخذَ الحديثَ إلى مجرىً آخر: " يُقال أن طبيعة عفرين أجمل من طبيعة الساحل، أهذا حقّ؟ "، تساءلَ بشيءٍ من الشرود. كانت البيرة تؤثر فيه أكثر من الكحول، لأنه كان يستهينُ بمفعولها. بادرَ موسو للرد على سؤاله، باسماً: " لو زرتها، ستتأكّد بنفسك من جمالها "
" لقد بلغتُ العشرين، ولم أحظَ سوى بزيارة اللاذقية والمدن الأخرى في طريقها؛ كحمص وطرطوس وبانياس. إلا أنني أعزّي الآنَ نفسي، بسفري إلى الإتحاد السوفييتي في بداية الخريف "
" اسمع، يا صديقي.. "، قال له موسو بودّ، " يُسعدني أن أستضيفك في عفرين، وذلك في مستهل الشهر القادم. عليّ أن أكون هناك للعزف في عرس أحد الأصدقاء، كذلك سأرافقك إلى قريتنا لتتمتع بالطبيعة الحقيقية ". ثم وجّه الدعوةَ للصديق الآخر، لكنّ هذا اعتذرَ حالاً: " سأكونُ آنذاك في السَلَميّة، لأنني وعدتُ الوالدَ بمساعدته في إشادة حجرة جديدة على سطح الدار "، قالها والتفتَ بدَوره إلى جان: " أنصحك ألا تضيّع الفرصة. ولعلك تتعلّم هناك لغتك الكردية، أيها الشاميّ! ". تعالت ضحكاتهم ثم عادوا إلى تبادل الأنخاب. في تالي الأيام، بقيَ جان يلتقي موسو حتى توثقت علاقته معه. عندئذٍ تخلى عن التردد، بشأن الدعوة المعلومة.

3
في الموعد المُحدد، انطلقا مُبكراً في حافلة البولمان، كون أحدهما لم يرَ بعدُ مدينة حلب وشاءَ التواجُد فيها نهاراً. وصلا عند الظهر إلى عاصمة البلاد الإقتصادية، كما تُعرَّف، وكان الحرّ في أوجه. غبّ جولةٍ على الأقدام في مركز المدينة، الذي تعتليه قلعتها الأثرية ككائنٍ خرافيّ، عبّرَ جان عن خيبته: " حلبُ كئيبة وقاتمة، كما لو أنها نفقٌ على المرء اجتيازه باتجاه المجهول ". علّقَ الآخرُ ممتعضاً بعضَ الشيء، كونه يعشق هذه المدينة: " هناك أحياءٌ راقية، يُمكنها أن تغيّرَ رأيك ". ثم نظرَ في ساعة يده، قبلَ أن يستطرد: " إلا أنني مضطرٌ الآنَ لاصطحابك إلى ضاحية فقيرة، تُدعى الأشرفية، كي نتناول الغداء على سفرة أحد أقاربي ".
ثمة على أثر امتنانه للضيافة الكريمة، أمسى جان يتحرّقُ لساعة المَسير إلى عفرين. هذا أسعدَ، ولا غرو، صديقه موسو بحيث اعتذرَ من أقاربه عن المبيت لديهم. تابعا إذاً سفرهما، المُستغرق نحوَ نصف ساعة، لتُسلّمهما الحافلةُ الصغيرة إلى مركز المنطقة الجبلية، وكان الوقتُ قد أمسى على شفا الغروب. ما لبثت البرودةُ العذبة أن سَرَت في أوصال جان، وساعدته ليلاً على النوم حالما وضعَ رأسه على الوسادة. لقد استضافهما هذه المرة صديقُ موسو، وهوَ شابٌ وسيم في مثل عمرهما، يَعملُ متعهّداً للحفلات في عفرين.
مع صياح ديكٍ ما، أفاقَ جان مُبكراً. أرادَ أن يغفو من جديد، لكنّ جلبة الدار نبّهته إلى كون رفيق الرحلة قد سبقَ وغادرَ فراشه. كانا قد باتا في نفس الحجرة، غيرَ أنّ موسو أخلد للنوم متأخراً على ما يبدو. إذ أمضى بضعَ ساعاتٍ من الليل يبحثُ مع المُضيف في تفاصيل حفلة العرس، التي يُشرف هذا الأخير على إعدادها. على مائدة الفطور السخية، المُحتفية بخيرات المنطقة، واصلا نفس الحديث. عندئذٍ فوجئ جان حينَ علمَ أنّ العرسَ سيُقام في قريةٍ، تُدعى " مشعلة "، وأنها تقعُ إلى الشمال الشرقيّ من مدينة عفرين. ظهراً، وكان الطقسُ قد بدءَ يميلُ إلى السخونة نوعاً، استلقى على أرجوحةٍ شُدّت بالحبال بين شجرتيّ تين على طرف صحن الدار. هذا النوعُ من الأراجيح، المُبتدَعة خصيصاً للقيلولة، أعتقد جان قبلاً أنها لا توجد سوى في أمريكا اللاتينية؛ وذلك بحَسَب قراءته لروايات أدبائها، المتدفقة بغزارة إلى اللغة العربية اعتباراً من عقد الثمانينيات.
كأنما فيضُ الحلم ما فتأ يَغمرُ قيلولته. فتحَ عينيه على مرأى حوريّة الفردوس، المَوْصوفة في كتابٍ لا يؤمن به. كانت مُنتصبةً بقامتها الرشيقة بإزاء الأرجوحة، منحنيةً عليه قليلاً مع إيماءةٍ باسمة، لملمت كلّ معاني الفتنة. عيناها، وكانت بلون الخضرة المُظللة رقدته، انبعثَ منهما بريقٌ آسرٌ لحظةَ التقائهما بعينيه. ما عتمت أن فتحت شفتيها، اللتين من كرزٍ مُبكر، لتُغَمغم بنبرة معتذرة: " أرجو ألا أكون قد أزعجتك؟ ". لم تشأ سماعَ جوابه، بل آبت ببساطة وهمّة إلى شاغلها، المتمثّل بكنس أرضية صحن الدار. تصرفت عندئذٍ كما لو أنها نسيت وجوده. هذا السلوكُ الطفوليّ، أوحى له أنها بالكاد تبلغ السادسة عشرة من أعوام عُمرها. فَتَنته بطبيعة الحال، حتى أنه سلا النهوضَ من مكانه. فكّرَ لوهلةٍ أنه سبقَ ورآها في مكانٍ ما، لحين أن تراءت في مخيلته صورةُ المُضيف: " آه، إنها شقيقته الصغرى على الأرجح ". سألها عن ذلك، وقد رآها فرصةً لتبادل الحديث. فأومأت إيجاباً بهزّ رأسها؛ الرأس الجميل، المُنحدر منه شلالُ الشعر الأشقر عبرَ جيدها إلى كتفيها. ثم قالت بصوتها المُتَرنّم: " لقد خرجَ مع موسو إلى الاستديو "
" استديو التصوير؟ "
" أجل، وهوَ العملُ الأساس لشقيقي "
" ووالداكما، هل يعيشان في القرية؟ "
" لا، إننا أصلاً من عفرين. لقد رحلَ والدانا عن الدنيا، قبل أعوام، على أثر حادثة إنقلاب سيارة على طريق حلب "
" يا للأسف.. "، علّق بذلك ثم لزمَ الصمت. كفّت هيَ عن الكنس، وراحت تمسحُ عرَقَ يديها بتنورتها. في الأثناء، بقيت تحدّقُ في عينيه بنعومة، قبل أن تسأله: " أأنتَ من إيزيديي الجزيرة؟ "
" لا، أنا من الشام "
" لكنك تحملُ اسماً كردياً؟ "
" وكيفَ عرفتِ ذلك؟ "
" لأنهما تحدثا عنك قبل ذهابهما "
" وأنتِ، بماذا يَدْعونكِ؟ "
" جوانا "
" اسمٌ يليقُ بجمالكِ، حقاً "، قال لها ونفحةُ الافتتنان تحوّلت إلى الوله. حرّكت رأسها، بطريقة تهكّمٍ تُجيدها الفتاة حينَ شعورها بمَن يحاول إغواءها. لكنه أردفَ مبتسماً: " وللمصادفة، أنه شبيهٌ لاسمي "
" إذاً، أنتَ مسلمٌ ولستَ إيزيدياً؟ "
" سأكونُ إيزيدياً، لو شئتِ! "
" كيفَ هذا؟ "، قالتها وضحكت بفتور. كانت كلماته مضغوطة بين شفتيه، لما ردّ عليها بجدّية: " وما جدوى الإيمان، طالما أنّ المرءَ ينشأ على دين والديه؟ فلو أننا ولدنا في غابات أفريقيا، على سبيل المثال، لكان علينا أن نعبدَ هيكلاً يمثّلُ زعيمَ قبيلتنا. أليسَ صحيحاً؟ "
" لكننا نعيشُ في مجتمعٍ وليسَ في غابة، وعلينا احترام عقيدته لو شئنا ألا نُنبذ منه "
" في وسع المرء تحدّي العقائدَ والتقاليدَ، لو شاءَ الحبُ ذلك "، قالها وباطنه يرتعد. كان يتلهّفُ لسماع ردها، بيد أنها أشاحت صفحةَ وجهها إلى جانب. سعيداً، لمحَ ابتسامةً بالكاد تبين على طرف فمها المُنَمْنم. احتفظت بالصمت لحظاتٍ، ولما تكلمت كانت تهمّ بالاستدارة إلى ناحية الدار: " اقتربَ موعدُ تقديم الغداء، وعليّ الإسراع إلى المطبخ "
" لقد أوقَعتِني في حبّكِ، جوانا "، هتفَ على الأثر بصوتٍ مخنوق تأثراً. لعلها سمعته، بدليل خطواتها التي أضحت أقل عجلة. وإنما في الوهلة نفسها، سُمِعَ لغطُ المتدفقين إلى المنزل. كانوا أربعةَ شبانِ غرباء، دخلوا خلفَ صاحبَيْنا، ثلاثة منهم تنكّبوا آلاتٍ موسيقية. وتمّ تقديمُ الرابع كمطربٍ، لما تعرّفَ جان فيما بعد على المجموعة. ثمة في صالة الجلوس، وبينما كانوا بانتظار تقديم الغداء، أرتفع جدلهم حول أجر كلّ منهم لقاء إحيائهم لحفل العرس الموعود. المُضيف، مُتعهّد الحفل، استبسلَ في مساومتهم. لكنهم كانوا من العناد، أنّ موسو أعربَ عن استعداده للتنازل عن أجره. لاحَ أنّ أريحيته أحرجتهم، فمالوا أخيراً إلى الاقتناع على مضضٍ بعَرضِ المُضيف. بعد تناول الغداء، عكفوا على متابعة التمرين على الأغاني الكردية. قال المُضيف لهم: " لاحظوا أنه عرسُ ابن المختار، وسيكون بين المدعوين وجهاءٌ من حلب وضباط شرطة. لذلك عليكم أيضاً تحضيرُ أغانٍ عربية ". ثم ما عتمَ أن التفتَ إلى ناحية جان، ليُخاطبه معتذراً: " صدّعنا رأسك، أليسَ كذلك؟ تفضّل واخرج إلى الهواء الطلق، لو شئتَ ". كانت هذه فرصة سانحة للمُخاطَب، فاهتبلها مُتمتماً وهوَ ينهضُ من مكانه: " لا، ليسَ من مشكلة. لكنني، بالفعل، أحتاجُ للتمشي قليلاً ".
وجدها جالسةً على كرسيّ واطئ، تحت ضوء القمر، مُطرقة ومُنهمكة في أفكارها. وكان المساءُ قد حلّ دونما أن ينتبه في زخم تلك المجادلة، التي اندلعت بين شقيقها وأفراد الجوقة الموسيقية. أرادَ جان أن يَستجلي وقعَ كلماته الأخيرة، وذلك بتأمل ملامح وجهها في الضوء الضعيف. رأى كذلك أنها لحظة شاعرية، تستحقُ فيها فتاته أن تسمَعَ قصيدة حب. بالرغم من أنه نظّمَ في أعوام المراهقة العديدَ من شاكلة هذه القصائد، لكنه متيقنٌ الآنَ بعجزه عن استحضار أيّ منها. بقيَ صامتاً، فيما صدحت من حجرة الجلوس حنجرةُ المطرب بأغنية حلبية تراثية، يشكو فيها الحبيبُ من نأي محبوبته. همسَ لها جان عن قرب، في غمرة الموسيقى وهسيس العتمة: " أتسمحينَ لي بمشاركتكِ مجلسك؟ ". أجفلت قليلاً، وكأنما انتبهت للتوّ إلى وجوده. ترنّمَ صوتها بكلمة مقتضبة: " تفضّل ". وفيما كان يهمدُ على كرسيّ بالقرب منها، استأنفت الكلامَ متسائلةً على حين بغتة: " جان، ماذا تُريد مني؟ ". وواصلت بزفرة حسرةٍ وألم: " عبثاً مشاعرك نحوي، لو فكّرتَ بالعقل لا بالعاطفة. أولاً، لأننا لم نتعرّف على بعضنا البعض سوى منذ سويعات. ثانياً، وهوَ الأهم، أننا من عقيدتين مختلفتين "
" يُقال أنّ الحُبَ يَسقط على رأس المرء فجأةً وببساطةٍ، مثلما يفعلُ المطر. وإنني على ثقةٍ من مبادلتكِ لمشاعري؛ وهذا هوَ الأهم، حقاً "، قال بحرارة ثم أمسكَ يدَها الرقيقة: " أليسَ صحيحاً؟ ". تركت يدَها مستسلمة لأنامله، وفي الأثناء كانت الموسيقى قد توقفت. توقّعَ جان أن يخرجَ أحدهم من الحجرة، فعادَ للهمس مستفهماً إذا ما كانت ستحضرُ حفلةَ العرس. لما أومأت بالإيجاب، قال لها بعجلة وهوَ ينهضُ ليبتعد عن مجلسها: " إذاً نتحيّنُ فرصةَ هناك، كي نتابع حديثنا خارجَ مكان الحفل ".

4
" وها نحنُ ذا، نغافلُ مرةً أخرى حضورَ العرس، فنتسلل إلى الخارج كي نتكلمَ "، قال له صوتها الذي تغيّرَ قليلاً. إلا أنّ ايماءتها الساحرة، وهيئتها بشكل عام، احتفظا بصورة أيام زمان؛ حالَ البراعم المُتجددة، ربيعاً، في شجرةِ وردٍ خالدة. كانا يقفان بالقرب من كراج السيارات، الخاص بصالة الحفل، والمُضاء بأنوار خافتة كأنما للمُضافرة في استعادة أمسية الماضي.
" أجل، ربما مضت ثلاثون عاماً على ذلك اللقاء الأخير "، قالها جان مرتعشاً من البرد والتأثر على حدّ سواء. رددت كالحالمة، مُغمضةً عينيها المكحولتين: " ثلاثون عاماً، إذاً.. يا له من عُمر! ". ثم ما لبثت أن فتحت عينيها واستعادت نفسها، لتسأله بنبرة اهتمام: " هل اقترنتَ بامرأة روسية؟ "
" وكيفَ عرفتِ أنني سافرتُ إلى تلك البلاد؟ "
" سمعتُ ذلك في حينه من صديقك موسو، وكان يزور شقيقي "
" أنا متزوجٌ الآنَ من إحدى قريباتي، ولدينا ثلاثة أولاد "
" لماذا قلتَ: الآنَ؟ "
" لأنني سبقَ واقترنتُ فعلاً بامرأة روسية، لكنها رفضت البقاءَ معي في دمشق وعادت إلى بلدها. كانت أحوالي المادية سيئة في خلال خدمتي العسكرية، كما أنها لم تتحمّل عاداتنا "
" أتذكُر حديثك معي عن الحُب، المُفترَض أن يتحدّى العاداتِ والعقائدَ؟ "، تساءلت وهيَ تتنهّد. لكن ابتسامتها العذبة، كانت ما تني تُنير عتمة الذكريات. أجابَ عقبَ وهلة صمت، وليسَ بدون شعور من الذنب: " في حقيقة الحال، أنني توقعتُ منكِ هكذا سؤال ". ثم أردفَ مُعترفاً وعلى سحنته حزنٌ شفيف: " أحببتكِ فعلاً وبعنف، لكنني تخليتُ عن هذا الحب حينَ فكّرتُ بمستقبلنا عقبَ عودتي من عفرين. فمن جهة، كان عليّ أن أختطفك كي أتزوجك بالرغم عن إرادة أهلك؛ ولم أكن مهيئاً مادياً لهذا الأمر.. "
" ومن جهة أخرى، فكّرتَ بالمنحة الدراسية إلى الخارج، التي تضمن مستقبلك؟ "، قالت ذلك مطلقةً ضحكة ساخرة. لكنها إزاء تضرّج وجهه، استدركت معتذرةً: " أنا آسفة "
" لا عليكِ، فأنا استحقُ لومكِ وحتى حقدك عليّ "
" لا، لقد شُفيَ جرحي منذ أمدٍ بعيد. هكذا هوَ الحب الأول "، قالتها بتسامح ثم أستطردت مغيّرةً وجهةَ الحديث: " أنا أيضاً اقترنتُ بأحد أقاربي، لكننا افترقنا منذ أعوام ولدينا ابنتان "
" أهيَ صُغرى الابنتين تلك، التي رأيتها معكِ في الحفل؟ "
" أجل، والكبيرة متزوجة في الدنمارك "، قالت ذلك ثم نظرت في هاتفها المحمول: " عليّ أن أعودَ إلى ابنتي، كونها لا تعلمُ أنني في الخارج ". تابعها فيما كانت تسير باتجاه الصالة، وكان خطوها يُعبّر عن الثقة بالنفس، المميّزة لأهل الثراء من ذوي الخلفية الريفية. ثم تحركَ بدَوره، حالما وَلجت جوانا من الباب الرئيس.
قال لصديقه، لما اجتمعا مرةً أخرى على المائدة، نافخاً بشعورٍ من الخواء والضياع: " أحسدك حقاً، لأنك تطلقتَ من امرأتك ".








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. علي بن تميم: لجنة جائزة -البوكر- مستقلة...وللذكاء الاصطناعي


.. تسجيل سابق للأمير الشاعر بدر بن عبد المحسن يلقي فيه أبيات من




.. الفنانة غادة عبد الرازق العيدية وكحك العيد وحشونى وبحن لذكري


.. خلال مشهد من -نيللى وشريهان-.. ظهور خاص للفنانة هند صبرى واب




.. حزن على مواقع التواصل بعد رحيل الأمير الشاعر بدر بن عبدالمحس