الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الخال -قصة من صميم الواقع-

نعمت شريف

2023 / 4 / 10
الادب والفن


الخال
-قصة من صميم الواقع-
بقلم: نعمت شريف
-1-
كان لقبه الخال، متوسط القامة عريض المنكبين ذو شاربين اسودين يتوسطان وجها نورانيا يميل للبياض اكثر من السمرة المعتادة بين الفلاحين الذين يعملون في حقولهم ساعات طويلة في حر الصيف. كان الخال يتمتع بسمعة ممتازة ليس في قريته فحسب وانما في المنطقة بشكل عام ولدى كل الذين تجمعهم معه مناسبات اجتماعية او علاقات عمل اوتجارة، معروف بطبعه الكريم وصدقه في الحديث، فكان لايتكلم الا بايمان ثابت بما يقول. كان مختارا لقريته التي يربو عدد اسرها على المأتين، وهو كبير قومه وعددهم اكثر من خمسين عائلة، ويعملون كلهم في الزراعة في اراضيهم الممتدة حوالي القرية. كان كلامه مطاعا الا من احد اخوته والذي كان يصغره سنا ولكنه يعتقد انه اعلم منه في امور دينه، لان الخال كان يميل في تدينه الى مذهب غير الذي نشأوا عليه. كان يتردد على مسجد المدينة الوحيد لينهل من علم مشايخه الكرام ليتزود بالحجج الكافية من المعلقين على عقيدته الجديدة، وخاصة في اوقات العصر عندما كان الكثيرون من اهل القرية الذين لا ينسجمون مع تعامل رؤساء العشائر المتنفذين مع المزارعين وخاصة الاجراء منهم. كانوا يعاملونهم كالعبيد في الكثير من الاحيان. لم يكن المجتمع الشبه اقطاعي يقدر جهود الفلاحين كطبقة حق قدرها وكان الخال كالاخرين يكد طول النهار ليسد رمق عائلته، ويجلس في ساعات العصر امام داره الكائنة على مقربة من سفح تل تاريخي ضارب في القدم، وكان يقال انه يعود الى العصر الاشوري او ماقبله ويخبئ تحته من التاريخ ما لا يقدر بثمن لو قدر له ان ينال من الاهتمام الكافي للبحث والتنقيب. كل يوم كان لفيف من اقربائه ومحبيه يتجاذبون اطراف الحديث عن مشاغلهم واعمالهم لذلك اليوم يتخللها بعض التعليقات والقهقهات الخفيفة فالكل حذرون منه لانه لا يحب الضجيج والاصوات العالية، فكان الكل يقدرون طبيعته البريئة الملتزمة باصول الكلام والادب الراقي في التعامل والحديث مع الاخرين. كل هذا يجري في الوقت الذي كان هو يشغل نفسه بدلّات القهوة العربية ويعدها لابن عمه المراهق ليقوم بتقديم رشفات القهوة المرة على الجالسين، فكان ديوانه المعروف بقهوة الخال ندا لقهوة الاغا، يتقاطرعليها المحبون ومن مناوئي رئيس العشيرة واحيانا يزوره البعض من اتباع الاغا لالتقاط بعض الاحاديث ونقلها لسيده الذي لم يجهر قط بالعداء للخال ولكنه كان دائما يتخوف منه ويراقب عن كثب ما يقول وما يفعل، فالخال كان الوحيد في القرية جديرا باهتمامه فهو يختلف عنه في معتقده وفي سياسته التي كان الخال دائما حريصا على ان يبتعد عما يثير الشبهات بنقاوته او تعاونه من السلطات، على عكس الاغا الذي كان همه الوحيد ثروته ومكانته وذلك بالتعاون مع من يبقي على نفوذه الاجتماعي.
بعد يوم مضن من العمل الشاق في حقول القمح ونقله الى البيادر حيث كان موسم الحصاد وجني ثمار اتعابه، بدأ محبي القهوة يتوافدون فرادا وثنى وكان الخال كعادته يتصدر المجلس ويشغل نفسه باعداد القهوة، لاحظ ان جموعا من شباب القرية يتوجهون الى ديوان الاغا، ولم اعرف السبب، حيث كنت مراهقا حينئذ في مقتبل العمر، ولكن الخال كان على دراية بالامر ويجول في خاطره ان يتعرف على مجريات الاحداث. كنت اعرف ان يحبني كثيرا من بين جميع شباب القرية. كنت خجولا بطبعي والتقط من سلوكه ما اتزود به في حياتي الشخصية، وكنت الازمه في اعماله عندما يسمح لي وخاصة عندما يقوم ببناء او ترميم اجزاء من داره او عندما يقوم بتصليح ما اعطبه الزمن وكثرة الاستعمال من الالات وادواته، ومنه تعلمت والى يومنا هذا ان اصلح ما يمكن اصلاحه من الالات والادوات او على الاقل ان اتفحص العطب واتعرف على كنه الالة وطريقة عملها، ربما للاستفادة منها للمستقبل. تعلمت منه ان اكون متواضعا في علاقاتي الاجتماعية، ان اواظب على العمل بغض النظر عن اهميته اوقيمته الاجتماعية ، لان في كل عمل قيمة معنوية اكبر بكثير من قيمته المادية. تعلمت منه ان المظاهر لا تغني ولا تسمن من جوع لا في هذه الدنيا ولا في الاخرة، الاهم من ذلك هو القيمة المعنوية التي تمنح الانسان تكاملا وكمالا لا تتأثر بعوادي الزمن الردئ. كان ذلك اليوم نقطة انعطاف لعلاقتي بالخال. اشعرني بالثقة وبانني اهل لاعتماده علىّ اذا تطلب الامر. اشر لي جانبا وهمس في اذني، الا تريد ان تشارك الشباب في "حفلة الاغا"؟ قالها مع ابتسامة تدل على تهكمه بما يجري. فاجبته: لا اعرف ما يجري هناك. فقال: فلما لا تذهب الى هناك وتقف جانبا لترى ما ذا يجري، واريدك ان تسمع جيدا ماذا يقول الاغا اذا تكلم، او من ينوب عنه من اقربائه، ثم تعود لتنقل لي ماذا حدث. شعرت بانها مهمة خطيرة، لست كالشباب الاخرين لاغرق في ملذات الغناء والرقص. كانت حفلة غجرية كعادة ذلك الزمان. كان الجميع من الشباب والرجال وخاصة الذين لايجرأون ان ينبسوا ببنت شفة امام زوجاتهم، ولكنهم اليوم يستمتعون بالغناء والرقص الغجري على مسمع ومرأى الاخرين لان ما يرقص له الاغا ينال قسطا من الشرعية امام زوجاتهم. ولم تمض الا جولة واحدة من الرقص حتى برز الاغا، وهو شاب انيق في منتصف الثلاثينات من عمره، وله زوجتان كعادة الرؤوساء والاغنياء، برز في ساحة الرقص وهو يهز بعصاه الخيزران قائلا "هل ترون فمها وشفاهها الرقيقة الوردية وهي تغني وتزغرد، فتخيلوا ايها الشباب، عندما تزغرد بفمها الثاني! بلا شك انها حورية من حواري الجنة." وعلا الصخب وموجات التصفيق ولم تتوقف حتى انتهى الاغا وعاد الى مجلسه الى يسار الغجري عازف الربابة. انسحبت بهدوء ورجعت من حيث اتيت حيث كنت اتحرق لانقل له ما سمعت. وبعد ان خلى الديوان، فقال متبسما: رجعت مبكرا، ماذا سمعت؟ وببراءة الاطفال، اعدت له العبارة، فقال ضاحكا، انه رجل خليع لا يستحي. لم نسمع هكذا من اخيه، الاغا الاكبر، وانت ذكي لانك رجعت مبكرا، ساعدني في نقل الفناجين الى الداخل واذهب للنوم.
وعلى الجانب الاخر من القرية كان هناك احد اتباع الاغا ولكنه اكبر سنا واكثر نضجا، ولكنه كثيرا ما كان ميالا للكبرياء ومغازلة السلطة، واحيانا كان يدق القهوة ايضا امام داره في الصيف للتفاخر ليس الا، ولم يكن بعيدا عن داره اخ الخال الذي كان لا ينسجم كثيرا مع الاثنين، لا الخال ولا تابع الاغا الذي كان محط اشمئزازجيرانه حيث كانوا يعلقون على تشبهه ببعض شيوخ العرب المزيفين الكذابين من اتباع السلطة حيث كان يلبس العقال ويحمل عباءته الداكنه على ذراعه، ولكنه لم يكن جريئا كالاغا ليتزوج بثانية. اتذكره يوما كان يتودد الي ويبتسم حيث سألني عما يقول عنه شقيق الخال، وكان هذا غريمه الذي لاينفك يحط من قدره بالتعليقات اللاذعة والاستشهاد بعبارات من الآي الحكيم.
في ذلك العمر لم يخطر لي قط ان الخال كان في اوائل الاربعينات من عمره ولم يرزق بطفل، فكنت محط اهتمامه وحبه الكبير كاب على احسن ما يمكنه ان يكون، ذلك الانسان الورع، يكاد لا يخطأ بحق احد لشهامته ونبله. ومرت السنون واصبحت طالبا في الاعدادية ولا استطيع زيارته الا ايام العطل والمناسبات، وكان هو قد بلغ منتصف الاربعينات وكانت المفاجأة عندما سمعت انه قد تزوج من ابنة عمه الشابة في مقتبل العمر. وبعد سنة رزقهما الله بطفل اسمياه أدريس، وسبحان الله توالت المواليد حتى اصبح لهما ستة من الاولاد تخللهم بنت جميلة لتكمل فرحتهم فالمال والبنون زينة الحياة الدنيا. وفي زيارتي الاولى، استأنست بالطفل كثيرا وحملته على كتفي وكانه اخ صغيروسرت به في فناء الدار. رأيت الخال وقد ارتسم على وجهه ابتسامة عريضة تعبر عن كامل سعادته للمنظر وكأن حلمه قد تحقق للتو. شعرت بسعادة غامرة لسعادته، ولقضاء بعض الوقت مع الطفل وكأنني طفل استلم لعبة جديدة من والده ليتسلى بها. وبعد ايام طلب ان ارافقه الى مقر الحزب في كردستان. كنت قد حدثته عن علاقاتي مع الطلبة الاكراد في المدرسة، وقد تعلمت الكردية بطلاقة. وفي اليوم الموعود زرنا مقر الحزب، وبعد الترحيب بنا، قدمنى الى المسؤول بنبرة تنم عن فخرالوالد بولده، هذا شاب مثقف وسيتخرج بعد سنة انشاءالله، وسيكون سندا لنا انى كان. كان هذا المسؤول رجلا ذا هيبة ووقار، وكان شارباه معقوفين الى اعلى، وحاجباه كثين، وقد القى بسترته وعمامته جانبا من شدة الحر. كانت الغرفة مزدحمة بالزوار وفي لغط وضجيج يصعب فهم اي شئ منهم. وبعد ان شربنا الشاي على عادة الكرد وكان العرق يتصبب من جباه الجميع. استأذن الخال للمغادرة، وتركنا تلك الزاوية من جهنم المليئة بالدخان وروائح الاجساد التي لم يلمس الماء بعضها لايام او ربما اسابيع. في ذلك اليوم اسر لي بانه منتم معهم وهو المسؤول عن المنتمين في عدد من القرى في شبكستان.

-2-
مرت الاعوام، واندلع القتال بين الحكومة وقوات الثورة الكردية وكان لا بد ان التحق بصفوف الثورة ولم اتردد، وغادرت المدينة بلا استأذان ولا وداع. ومرت الايام والاسابيع وكنا ننتظر ان يعود الدكتاتور الى رشده وان تعود المياه الى مجاريها، ونعود نحن الملتحقين الجدد الى ذوينا، واعود انا الى الخال وابتسامته العريضة لاخبره بانني اصبحت بيشمركة. وذات يوم زارني احد البيشمركة القدامى وكان قد جاء يسأل عني بالاسم، فالتقيته وحدثني عن لقائه بشخص يدعى الخال ابو ادريس، وكان قلقا علي، وسلمني خمسة دنانيرهدية منه، فشكرته على ادائه الامانة، وبعد تناول الغداء، عاد الشخص من حيث اتى وبقيت انا افكر في الخال. بالقدر الذي كان الخال قوي المراس وذو شكيمة لا تلين، كان ايضا حبه واهتمامه بالاخرين وخاصة المقربين منه يقضان مضجعه اذا حل باحدهم ما لا يستحب، وكان لا يهدأ له بالا حتى يقدم لهم ما يمكن تقديمه من الدعم والمساعدة لحل مشاكلهم. في المساء، بعد ان اختليت الى غرفتي الصغيرة، لم اجد نفسي الا وانا غارق في التفكيرلا يغمض لي جفن لساعات. فكرت فيما يمكن قد حصل بعد ان تركت عائلتي ووظيفتي والخال تحت رحمة من لا يرحم من الاوباش والقتلة. لم يكن لي خيار آخر، ولكن اليس ذلك هزيمة امام مأزق لا ترى طريقا للخروج منه الا الهزيمة! لم يخامرني الشك في ان ما قمت به من "الهروب من خطر محدق" كان صحيحا على جميع المستويات. ليس هذا فحسب ولكنني كنت قبل ذلك وكما كان الخال يوحي به دون التصريح، انه عمل ثوري ومساهمة في خلق مصير امة كانت تعاني الامرين من الحكام المستبدين، والان قد نفذت ما كنت اتمنى المشاركة في عمل ثوري كهذا، ربما لم اكن اتصور قساوة الظروف التي كنت اعاني منها كل لحظة، ولكنها كانت لحظات ثورية تشد من عزمي على الاهمية المصيرية لتحرير امة، وكنت دائما ارى حياة افضل في زوال الطغاة والقتلة. كم جميل ان تكون حرا وتعمل لهدف بالمقارنة مع معاناتنا في ظل نظام دكتاتوري عنصري. فكرت مليا كيف يداري ابو ادريس الوضع مع الوشاة والحاقدين في القرية؟ هل سيضطر الى ترك القرية وينهزم الى المدينة بعائلته لعل الاختفاء في زحمة المدينة توفر له بعض الوقاية، ام انه سيختار الهروب كما فعلت انا؟ وهكذا سلسلة افكاري لم تنقطع لساعات، ولكن كلما ابتعدت بتفكيري رجعت الى نقطة البداية، كيف عبر الخال خطوط التماس وكيف عثر على شخص يناسب المهمة وموثوق به لايصال مبلغ من المال الي! كان المبلغ في ذلك الزمان وفي ظروف القرية مبلغا كبيرا ربما تكفي عائلته لشهر كامل. ولكن بالنسبة لي كنت بامس الحاجة للمبلغ، وخاصة ان الشؤون الادارية للثورة لم تكن قد توطدت بعد. لا بد انه زار صديقه في مقر الحزب ومن معارفه هناك التقى بالبيشمركة الذي اوصل الامانة. وتنفست عميقا: آه يارب احفظه، في طريق عودته الى عائلته. كيف سيعامله شرطة الامن اذا القوا القبض عليه؟ لم اقوى على التفكير في ما سيلاقي من الاهانات والتعذيب! رباه احفظه من عيون الوشاة ورجال الامن! فكرت ثانية وثالثة ولم يهدأ لي بال، واقتنعت بان ما قمت به عمل ثوري، ولن استسلم، وكذلك هو سوف لن يستسلم لجبروت الطغاة، فهو قدوتي وكيف يستسلم؟ ان ما يقوم به الان من بقاء وتواصل مع خطوط الثورة في القرية والقصبات المجاورة بلا شك مقاومة من نوع اخر ويتطلب جرأة كبيرة ومجازفة اكبر ، وهو اهل لذلك.
رجعت بتفكيري بعيدا، لماذا يأخذ هذا الشهم على عاتقه للاطمئنان علي؟ فكرت مليا، انني انحدر من عائلة كبيرة ومعروفة بصلابتها في احلك الظروف؟ ولكن لم يتقدم احد ليطمئن علي، ربما لان الصراع العلني مع حكومة طاغية في منتهى القساوة نهايته الدمار الكامل ليس لشخص واحد ولكن لكل العائلة وربما العشيرة باكملها كما فعلت هذه الحكومة مع أخرين من قبلنا. كان لابد لدافع اقوى من كل هذا ليدفعه للتضحية في القيام بمحاولة التواصل معي. وحقا كان الدافع ذا شقين: انه مؤمن بالقضية التي قال عنها عندما قدمني لصديقه في مقر الحزب في اول واخر زيارة لنا معا الى ذلك المقر. لابد ان يكون ايمانه صلبا كالصخر الجلمود لا تؤثر عليه عوادي الزمن. كانت قضيته قضية امة تعاني من الغبن على مدى قرون، وقد حان الوقت لان تقف شامخة بين الامم. والشق الثاني كان لا بد ان يتعلق بي. كان لي كالاب الرؤوم لا يترك فرصة الا وان يقدم نموذجا من انسانيته الفذة، في الوقت الذي ترعرت في خضم الامواج المتلاطمة في بحر الحياة، بلا سند ابوي. ربما كان تعلقنا قوة جذب من الطرفين. كل يملأ الفراغ لدى الاخر. بلا شك، كان اطول شجرة ترعرعت في ظلالها قرير العين في صحراء الحياة القاسية آنذاك.
-3-
ثلاثون عاما مضت، وانا ما زالت تلك الاحداث تؤرقني كلما شعرت بالحنين للوطن، وخيال الخال ابو ادريس يرتبط به ارتباطا وثيقا، فاعيد مع نفسي، احبكما انت والوطن، كم شهم انت يا اطول قامة في الصمود، وابتسم، ربما سيـأتي يوم آراه مرة اخرى لاتجاذب معه اطراف الحديث واذكره بانني تعلمت منه الصمود، وسوف لن احيد، ايها الشبكي العنيد.انه عناد الحق، عناد الثورة، عناد الصمود. ودارت الايام وعدت من منفاي الحزين، ابحث عن ضالتي، ابحث عن معنى لي، ابحث عن تاريخي الحزين. وكان الخال، وبعد شهور من الاختفاء القسري عاود اتصاله بخطوط الحزب في المدينة، ولكنه لم ينج هذه المرة فقد لاحقته قوى الشر والطغيان فالتقطته يد ظالمة وزجته في سجن المدينة السيئ الصيت. وضعوه في البداية في سجن انفرادي، ومنعوا عنه الزيارة، وقطعوا عنه كل الاتصالات، وكانوا يذكرونه دائما بعائلته، ولكنه بقي صامدا لانه كان يعلم ان اعترافه باية علاقة حزبية او نشاط سياسي ستكون نهايته الاعدام. نقلوه من السجن الانفرادي ليرى ماذا يفعلون بالاخرين وكم منهم يواجهون الاعدام، لم ينهار، وكان يدعو في صلواته دائما ان يمنحه الله سبحانه وتعالى القوة والصمود اثناء الاستجواب والضرب والاهانات، وبعد ان اتم شهره الاول، تحول الاستجواب الى الانتقام والتعذيب. بعد كل تعذيب، كان يستعيد وعيه ليرى السجناء يعتنون به، ويقدمون له الماء ويضمدون جراحه. كان يثق في اخوانه واقربائه بان عائلته ستكون بخير الا اذا وصلتهم ايدي الجلاوزة هؤلاء، لم يعد يفكر في نفسه وكان يعتقد انه سيموت تحت التعذيب، ولكنه اذا اعترف بشئ فانه سيجرهم الى المصير نفسه. وفي احد الايام تركوه لحاله، ولكنه لم ينم ليلته فقد كانوا قد وضعوه في غرفة الى جوار زنزانة التعذيب ليسمع ويتخيل ما يجري هناك. وبعد ساعات، انقطع الضوضاء والصراخ والعويل، ولكنه لم يستطع النوم ولم يرى احدا في قاطعه يساعده الاخرون. كان يفكر باستمرار هل مات المسكين تحت التعذيب ام انه هناك مكان آخر يرمون فيها الجثث المغمية عليها! وفي اليوم الثاني، لم يكلمه احد من الجلاوزة، فبدأ يفكر هل حان وقت الاعدام؟ ام ماذا؟ هل سيطلقون سراحي؟ لا اصدق، لا ليس ممكنا، لا زلت لا اقوى على السير من دون مساعدة، او اتكأ على الجدار كي لا افقد توازني.
وفي اليوم الثالث جاءه احد الزبانية فلما رآه تطير شرا، وتعوذ الشيطان ولكنه تدارك نفسه وقام من مكانه، وهم بالسؤال، ولكن وقبل ان ينبس ببنت شفه، قال له السجان: اريدك ان تكون شجاعا اليوم ولا تخجلنا امام الامر، انه جاء لمقابلتك، واياك ان تنظر في وجهه. وبعد اقل من دقيقة، كان يجلس امام الآمر.
-ارجو ان لايكون الشباب قد ازعجوك! كن شهما وقل الحقيقة حتى ترجع لعائلتك. لقد قرأت كل التقارير، واعرف كل شئ، ولكني اريد ان اسمع الصدق منك. متى التقيت بالملا مصطفى لاول مرة؟
-اقسم بالله، اننى لم التق به قط.
-اذن كيف اذن التقيت بأدريس او انك التقيت بمسعود؟
-اقسم بالله، سيدي، لم التق بهم.
-قلت لك لا تكذب، حقا انك عنيد كما قالوا لي.
-اقسم بالله العظيم، سيدي، انا لم التق باحد منهم.
-اذن كيف حدث لك ان تسمي اولادك الاربعة بأسماء ابناء الملا؟
-بقي صامتا لا يتكلم، وكأنه قد لسانه من حجر! تلعثم قليلا حتى قال انها مجرد اسماء، سيدي.
-قلت لك لا تكذب اكثرمن هذا، لقد نفذ صبري. هل ستقول ان كلها كانت صدفة ومجرد اسماء.هل تحبهم كل هذا الحب، ام انك من عبيد مشيختهم المزيفة. الشيخ لا يتسبب في القتل والدمار، وهؤلاء كلهم قتلة ومخربون. اربطوه الى ان ارجع لاريه مصير الكذابين، كلب حقير. ترك الغرفة والغضب يشع من عينيه، ويطلق لهبا مع كل زفير.
-علموه كم يحب الملا هذا اليوم، وغدا لادريس، وبعده لمسعود. لقنوا هذا الكلب الجبان كيف يحب هؤلاء؟ لقنوه كل يوم درسا لواحد منهم حتى يتوب او يفطس.
كان الخال قد اصبح ضعيفا وبالكاد يستطيع الوقوف على رجليه، وجسمه ملئ بالجروح والكدمات وبقع زرقاء داكنه. وقبل ان يستوعب ما يحدث وكيف انقلبت المقابلة ضده، وكان يأمل في ان يفرج عنه لانه اعتقد انه سيقنعهم ببراءته! كان ذلك ضربا من الخيال، ربما لانه لا يقوى على التفكير بشكل صحيح بسبب الضربات التى كانت قد وقعت على رأسته في المرات السابقة. وما هي الا لحظات حتى هجم عليه اثنان كالوحوش الكاسرة وربطوه الى قضبان النوافذ وانهالوا عليه ضربا بعصيهم الغليظة، وقال احدهم: درس اليوم مهم لانه لخاطر الملا فهو يحبه اكثر من الكل، وهوى بعصاه على ام رأسه فانبثق الدم من شدة الضربة وتدلى رأسه من النافذة مغميا عليه. فقال الاخر: ربما قتلته من دون اذن من الامر! اجابه من الطرف الثاني من الغرفة: موت الكلب، دعه يذهب الى جهنم وبئس المصير. حملاه الى القاطع، رمياه ارضا، وقال احدهم للسجناء: رشوا عليه الماء ليفيق ويشعر بما جناه على نفسه من الحقارة والدناءة.
وفي اليوم الثاني وبعد تعليقه قال احد الجلاوزة: اسمع، اليوم لخاطر ادريس وغدا لخاطر مسعود وهكذا كل يوم الى ان تعترف بالحقيقة وتقول الصحيح لانك اغضبت الآمر كثيرا، وما عليك الا ان تعترف وسيتوقف كل هذا. وبدأ الضرب من الطرفين حتى غرق في دمائه الزكية، ورموه في قاطعه كما فعلوا به في الامس. وفي اليوم الثالث قال له الاخر واليوم لخاطر مسعود، ولا داعي لان نررد كل الكلام من اليومين الماضيين. وتناولا الضرب على الاماكن الحساسة من جسمه عدا رأسه امعانا في ايذائه حتى لا يغمى عليه، او ربما خشية ان يموت من التعذيب. وفي اليوم الرابع لم يقو على السير، فحملوه الى زنزانة التعذيب وطرحوه ارضا وانهالوا عليه ضربا بالعصي حتى وضع احدهم قدمه على رأسه، قائلا: دع الملا ينقذ هذا الراس الفارغ، وقبل ان ينهي جملته كان هو قد اغمي عليه وحملوه الى قاطعه مرة اخرى، ولكن لم يفق هذه المرة لاكثر من ساعة حتى قالوا انه ربما يلفظ انفاسه الاخيرة، وحضر الممرض واعطاه بعض الادوية ليستعيد وعيه، وعاد من حيث اتى دون ان ينطق كلمة واحدة.
توقف التعذيب ثلاثة ايام متتالية، والخال لا يصدق هل انتهى او انهم سيعاودون تعذيبه بعدما يستعيد شيئا من قواه. كان يشك دائما في تفكيره وقواه العقلية من الام التعذيب والقلق الدائم وهو بين الحياة والموت. وفي اليوم الرابع نقلوه الى السجن العام حيث زاره طبيب وضمد الجراح والكدمات على راسه ووجهه واعطاه بعض الادوية المسكنة للالام والحبوب المنومة ليستطيع النوم واسترجاع قواه البدنية والعقلية ليستطيع رؤية عائلته بعدما يتحسن وضعه بعد الشئ، وهو لايعلم ما يجري. وبعد ما يقرب من اسبوعين، استعاد بعض قوته واصبح يستطيع السير وان بخطوات صغيرة، ولكن كان تحسنا ملحوظا لانه لم يكن يستند الى الجدران بعد، وتحسنت جراحه بعد التداوي ولكن آثارها كانت واضحة والكدمات لم تزول تماما بعد. بدأ يفكر: ربما انتهى التعذيب، ولكنه لم يتصور ابعد من ذلك، ولم يكن مستعدا لاكثر من هذا، ولم يفكر قط في انه سيرى افرادا من عائلته. وكان اليوم الموعود عندما زاره زوجته وشقيقه. لم تكن تتوقع ان تراه هكذا وقد تغير حتى يبدو احيانا وكانه شخص آخر. لم تكن تتوقع التعذيب. كانت قد سمعت عن التعذيب، ولكن زوجها لم يقتل احدا ولم ينهب مال احد ولم يقطع الطريق على احد. التعذيب لهؤلاء المجرمين لتأديبهم، ليس لزوجها الانسان بكل ما في هذه الكلمة من معنى يساعد الفقراء، ويرعى الايتام، الانسان المتعبد الذي لايألو جهدا في اسعاد الاخرين من اي جنس او لون او دين. حدقت في آثار الكدمات وبقايا الجروح التي لم تندمل بالكامل بعد، ورفعت رأسها لتنظر في عينيه، لم تستطع ان تنطق بكلمة واحدة. تقدمت نحو النافذة الزجاجية، وتدحرجت دمعتان على خديها، فبادرها بالقول ماذا حدث؟ هل حدث شئ للاطفال؟ تكلمي، قولي شيئا، ماذا حدث؟ فقال شقيقه: اخي نحن جميعا بخير. نحن قلقون عليك، وانشاءالله سنجد حلا. فرد بسرعة: وكيف الحل؟ لا ارى حلا، اهتموا بالاطفال وهذا كل ما اطلبه منكم. نادى السجان بصوت عال، انتهت الزيارة، خمس عشرة دقيقة فقط. خلق الله كثيرون، الكل ينتظرون لرؤية ذويهم. فانسحب الاثنان من النافذة وانسحب هو الى الوراء واختفى عن الانظار.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مت فى 10 أيام.. قصة زواج الفنان أحمد عبد الوهاب من ابنة صبحى


.. الفنانة ميار الببلاوي تنهار خلال بث مباشر بعد اتهامات داعية




.. كلمة -وقفة-.. زلة لسان جديدة لبايدن على المسرح


.. شارك فى فيلم عن الفروسية فى مصر حكايات الفارس أحمد السقا 1




.. ملتقى دولي في الجزاي?ر حول الموسيقى الكلاسيكية بعد تراجع مكا