الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


كتاب شمس الرجاء (16) --- الفصل الرابع عشر --- القصة الرابعة عشر: رجاء المجتهدين

توماس برنابا

2023 / 4 / 10
الصحة والسلامة الجسدية والنفسية


- أتركيني يا كريمة! لا أود أن أراجع على ما أجبته في الامتحان.. ذلك الامتحان قد أنهكني للإجابة عليه، وأريد أن أذهب مُسرعة للبيت وأسترخي أو أنام طويلًا!

- أنت على حق يا أمال.. امتحان الكيمياء هذا كان مزيجًا من الصعوبة والعمق لدرجة أنني إلى الأن لا أستطيع أن أخرج من جو الامتحان.. عمومًا سأتركك الآن.. ولتذاكري جيدًا لامتحان اللغة الإنجليزية ليوم الأحد القادم.. إلى اللقاء!

كان هذا الحديث في ظهيرة يوم الثلاثاء.. وقد أدت أمال امتحانها على أتم وأكمل وجه.. ومن الواضح أنها سوف تحصل على الدرجة النهائية في ذلك الامتحان لتدخل بمشيئة الله كلية الطب.. أما امتحان اللغة الإنجليزية فلا يحتاج منها إلا يوم واحد مذاكرة، أو بضعة ساعات إضافية فوق هذا اليوم، وليكن ذلك بدءًا من مساء يوم الجمعة التالي.. أما اليوم وإلى يوم الجمعة، فلا بد لها أن تُذاكر مادتي الأحياء والجيولوجيا.

ركبت أمال ميكروباصًا يتجه صوب الشارع الذي تسكن فيه، ونزلت بالقرب من بيتها، وإذا بها تجد أمام البيت عُمال فراشة يثبتون سُرادق عزاء. لم تندهش أمال فلا بد أنها السيدة أم شوقي المرأة المُسنة التي تسكن الطابق الأول من المبنى. وصعدت إلى شقتها في الطابق الثالث، وإذا بها تجد بعض النسوة وبعض الأقارب من الرجال يملأون الشقة، ففزعت فزعًا شديدًا..

- ماذا حدث؟! ماذا حدث؟! من مات؟!

إتجه إليها أخيها الأكبر عزت وضمها إلى صدره وهو مُدمع العينين وقال لها:

- البقاء لله يا أمال..

- في مَنْ يا عزت؟ مَنْ؟

- في أبينا يا أمال..

وأنفجر باكيًا.. فَجَرَتْ أمال إلى الغرفة التي يرقد فيها جُثمان الأب وهي تصرخ:

- أبي! أبي! لماذا لم تنتظر حتى أُفرح قلبك بدخول الكلية التي طالما تمنيتها لي.. لم أجتهد إلا لإرضائك يا حبيبي! لماذا تركتني؟!

وأرتمت على صدر الجُثمان.. لتأتي أمها باكية وأخذتها بعيدًا إلى غرفتها.. فقالت لأمها:

- أمي! هل لن أراه مرة أخرى؟ كيف سأذاكر؟ هل ستكون للدنيا طعم من بعد أبي العزيز؟ وصرخت بأعلى صوت؛ "أبي! أبي! أبي!"

وأنهارت مغشيًا عليها، فحملها أخوها عزت إلى غرفتها.. وظلت هكذا طويلًا إلى أن أُرسل جُثمان الأب إلى مثواه الأخير في مدفن الأسرة..

ظلت أمال شاردة تأبي تناول الطعام طوال الأيام الثلاثة التالية.. وكان بجانبها صديقاتها التي أرسلت الأم في طلبهن ليواسونها لعلها تواصل مذاكرتها فمستقبلها على المحك. قالت لها عبير صديقتها:

- البقاء لله يا أمال.. أنا أشعر بمعاناتك، فقد فقدت أمي في بداية هذا العام.. ولكنني كما ترين واصلت حياتي، وينبغي أن تنتصري على حُزنك، وتُذاكري لتحققي أملك وأمل عم فؤاد "رحمه الله" في دخول كلية الطب بإذن الله..

نظرت إليها أمال في برود ولا مبالاة، فلم يَعُد هناك من تتعب من أجله.. فما الفائدة؟! ما الهدف من التعب؟! فلتذهب الامتحانات للجحيم! فهي لم تعد تُريد أو ترغب في أي شيء..

وطال شرودها.. وأطلت على الحائط نحو صورة أبيها، لتتذكر ذكرياتها معه.. كم كان مُحبًا لها! تذكرت كيف كان يحملها على منكبيه مدللًا إياها وهي صغيرة.. تذكرت معاناته الكثيرة وهو يُذاكر لها على مدى الأعوام.. تذكرت كيف كان يتعب في عمله حتى يأتي لها بما تطلب منه.. فراحت تبكي وهي تقول:

- أبي! أبي!

وانهمرت عينيها في دموع غزيرة وطال البكاء.. وجفت الدموع.. وعم السكوت والسكون حولها! فإلى أين المَسير والمَصير؟!

*****
أُجهش مدحت في البكاء بعد أن قرأ هذه القصة القصيرة مُتذكرًا أباه الذي توفى وهو في الخامسة من عمره.. وانهمرت دموعه تغسله من رواسب الحرمان التي تراكمت في نفسه منذ الطفولة. وتذكر كيف عمل في وضيع الأعمال وأحقرها حتى يسدد مصاريف دراسته. وكان كلما تذكر أمرًا، كان يَبكيه دقائق، وكان بذلك يَبكي سنوات مضت وكأنها دهور كانت تجثو على صدره كجبال جسيمة أثقلت كاهله ووجدانه طويلًا!

ترك مدحت الكومبيوتر وذهب إلى زوجته مرفت وكأنه يتلمس الراحة من هذه الذكريات عندها ومعها وقال لها:

- حبيبتي! أَتحتاجين لي في شيء؟

- لا يا مدحت.. يُمكنك اللعب مع باسم.. وسأنتهي حالًا من كل شيء..

- يا باسم! أين أنت يا حبيبي؟ تعال إلى هنا!

أتى باسم سريعًا مُلبيًا نداء أبيه الذي يُحبه وكان يلهو بطائرة صغيرة قديمة..

- إلى أين ستطير بنا اليوم يا كابتن باسم؟

- إلى القمر... ثم إلى الكواكب!

- لكن يا باسم، الكواكب لن يصلح معها طائرة بل مركبة فضائية!

وضحكا معًا، ولعبا كثيرًا إلى أن طرق الأستاذ نشأت باب الشقة في تمام الساعة السابعة ليفتح له الباب الأستاذ مدحت مُرحبًا به:


اللقاء الثاني وحوار الليلة الخامسة عشر

- أهلًا يا أستاذ نشأت.. شرفت منزلنا المتواضع.. تفضل إلى غرفة الجلوس..

كان الأستاذ نشأت يحمل في يده حقيبة كبيرة. وحملها معه إلى كرسيه الذي جلس عليه الجمعة الماضية.. أتت السيدة ميرفت لترحب به ببشاشتها المعهودة:

- أهلًا وسهلًا أستاذنا نشأت.. كيف حالك؟

- بخير يا سيدة ميرفت.. أين باسم؟

كان باسم يقترب من الغرفة بحذر، فرأه الأستاذ نشأت، فأخرج من شنطته علبه من الكارتون بها طائرة كبيرة الحجم. فطار لُب باسم الصغير حينما رأها وخطفها منه شاكرًا إياه قائلًا له وهو يطبع قبلة على وجنته:

- شكرًا كثيرًا يا عم نشأت.. أنني أحبك جدًا!

ثم أخرج نشأت من الشنطة حقيبة يد جلدية وأهداها إلى السيدة ميرفت التي شكرته بلطف وأستأذنتهما في الخروج من الغرفة.. ثم أتى دور الأستاذ مدحت الذي كان ينظر للأستاذ نشأت نظرات كلها تقدير وتبجيل، وأهداه مجموعة كتب من مؤلفاته..

- وهذه هديتك يا مدحت لعلها تُعجبك!

- شكرًا يا أستاذي! يَعلَمُ الله كم أحبك يا نشأت.. ويعجز لساني عن الشكر.. لكن ليباركك الله ويباركلك في كل ما لك!

فض باسم الصغير لعبته وغاب عن الواقع، وأندمج في عالم الخيال، عالم الطيران إلى اللا نهائية وما بعدها من قمر وكواكب ونجوم وفضاء لا متناهي!

نظر مدحت إلى ابنه وأمتلأت نفسه بالغبطة لفرح ابنه..

دخلت السيدة ميرفت إلى الغرفة وهي تحمل صينية عليها كوبين من عصير المانجو الطازج المثلج، وقالت:

- تفضل يا أستاذ نشأت

وأعطت زوجها الكوب الأخر، ووضعت الصينية على المنضدة الصغيرة التي تتوسط الغرفة، وخرجت إلى الخارج لتعد مائدة العشاء..

فقال نشأت:

- زوجتك طيبة جدًا يا مدحت.. وابنك في منتهى الذكاء! هل تعلم أن بوادر العبقرية تبدو عليه؟ فالعبقرية تُعني ببساطة أن يتوصل الإنسان بمفرده وبفكره الخاص إلى أمور تسبق عمره وزمنه، خاصة حينما لا يُخبره عنها أحد من قبل، وغالبًا ما تكون إبداعات وابتكارات غير مسبوقة من عالمه الخاص!

- أصبحت أستمد من زوجتي وابني السعادة يا صديقي..

- ليس عيبًا، يا مدحت، أن تستمد السعادة من زوجتك وابنك، ولكن يجب أن تُسعدهما أنت بدورك.. ولذلك يجب أن تنبعث السعادة من داخلك أنت، يا صديقي، لتَسعد أنت شخصيًا وتُسعد من هم حولك..

- أحاول جاهدًا يا صديقي.. لكنني أشعر أحيانًا أنني بلا حول ولا قوة أمام الأحزان والكآبة..

- كل شيء سيتحسن بالتدريج كما قلت لك سابقًا.

دخلت السيدة ميرفت إلى الغرفة تدعوهما لمائدة العشاء.. فقاما سويًا إلى المائدة ليجد الأستاذ نشأت أمامه أصناف أخرى من تلك الأطباق الشعبية البسيطة التي طال الزمان به وهو بعيد عنها..

لم يشاركهم باسم المائدة.. فهو الآن غارق حتى أذنيه في اللانهائية وما بعدها!

تبادل الثلاثة أطراف الحديث العام على المائدة.. وشكر الأستاذ نشأت السيدة ميرفت على الطعام الشهي، وقام ليغسل يديه، ثم عاد كلًا من مدحت والأستاذ نشأت إلى غرفة الجلوس..

راحت السيدة ميرفت تجمع الأطباق من على المائدة لتحملها إلى المطبخ ، وتقوم بتنظيفها في حين كان الصديقان يتبادلان حديثهما الخاص الذي كانت تحترم خصوصيته أشد الإحترام..

- أقرأت قصة اليوم يا مدحت؟

- بالطبع قرأتها يا صديقي.. وقد أثارت فيَّ شجونًا قديمة عفا عليها الزمن.. يُقال أن لكل مجتهد نصيب.. لكن كما حدث في هذه القصة، غالبًا ما يواجه المُجتهد صِنوفًا من الآلام والمعوقات التي تُعيق تقدمه وأحيانًا تفقده صوابه! فكيف بذلك سيكون لهذا المجتهد نصيب من اجتهاده، والدنيا من عادتها أن لا ترحم أحدًا!

- سيحصد الإنسان يا صديقي ثمار اجتهاده في أوانه.. ولكن أثناء مواصلة المجتهد طريقه واضعًا هدفه نصب عينيه، غالبًا ما تُصادفه العقبات، والمُهم هنا أن يجتاز مُنتصرًا على هذه العقبات والعثرات التي لن تُبقيه أبدًا كما كان قبل اجتيازه لها، فهو سوف يكتسب خبرة وعمق ادراك أكثر مما كانا لديه. الخبرة وعمق الادراك هذين ربما يُسرعا به الطريق نحو تحقيق هدفه وأهدافًا أخرى قد تترآى له في المستقبل!


والخيار يتبقى للمُصاب وحده في أن يجتاز هذه النكبات بقوة إرادته، ومساعدة الغير والظروف له، أم يتركها تتغلب عليه لينهزم أمامها، ويتحطم. وكلما رضخ لهذه النكبات، كلما ازدادت صعوبة الفكاك منها فيما بعد.. وغالبًا ما يكون الإنسان قد أختار بيأسه نهايته بيده!

- وهل يا صديقي الله يرضى بذلك؟

- يا مدحت الله لا يكلف نفسًا إلا ما تُطيق.. فليكن لك إيمان بالله، لأن الله لا يُعين من يرفض أن يُعين نفسه! فكأن هذا الإنسان بذلك يرفض يد الله الممدودة له ليرفع نفسه بعون الله من جُب المعاناة والألم..

نظر مدحت واجمًا إلى صديقه مُتفكرًا في ماضيه ثم قال لصديقه:

- عندك كل الحق يا صديقي.. التمادي في الرثاء على الذات يستجلب ويستدعي الحزن أكثر فأكثر..

- ألن تسألني عن ماذا ستكون قصة الغد يا مدحت؟!

- بالطبع يا صديقي أسألك.. لقد سبقتني في ذلك!

- ستكون قصة الغد عن وفاء رجل متزوج بزوجة أصيبت بمرض وراثي شلَّ أطرافها الأربعة ولسانها عن الحركة بعد ستة أشهر من زواجها منه.. وقد دام هذا الحال لأكثر من أربعين عامًا حتى توفاها الله..


وأنا استمحيك عذرًا في الرحيل لأن عليَّ القيام ببعض الأمور قبل أن أنام..

أوصله مدحت إلى الباب ثم إلى مدخل البناية، ليستدعي له سيارة أجرة، والتي توقفت أمامهما.. فودع مدحت صديقه قائلًا:

- مع السلامة يا أستاذ نشأت.. في رعاية الله وحفظه.

- تُصبح على خير يا مدحت.. مع السلامة!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. بين أنستغرام والواقع.. هل براغ التشيكية باهرة الجمال حقا؟ |


.. ارتفاع حصيلة القتلى في قطاع غزة إلى 34388 منذ بدء الحرب




.. الحوثيون يهددون باستهداف كل المصالح الأميركية في المنطقة


.. انطلاق الاجتماع التشاوري العربي في الرياض لبحث تطورات حرب غز




.. مسيرة بالعاصمة اليونانية تضامنا مع غزة ودعما للطلبة في الجام