الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


هلوسات الوحدة والمرض في موسكو 2

امل عجيل ابراهيم

2023 / 4 / 11
سيرة ذاتية


اسير وحيدة في شوارع يكسوها الثلج كأنه كفن يلف جسد لم يمت بعد
لا احد يعرفني هنا وليس عليّ ان ارتدي قناعي واتصنع برودا وهدوءا لم املكه يوما , بامكاني ان اتحدى الريح العاصف بملامحي الكئيبة دون ان اخشى احدا يسألني : ما بكِ ؟ وانا نفسي لا اعرف ما بي ،، بعض المشاعر لا يمكن صياغتها بحوار،،
كل مدينة لها سر لا يستطيع تفسيره احد : مدينة تكتم على انفاسك ,,واخرى تحتويك ,,وواحدة تلفظك خارج مداراتها لا تسمح لك بالدخول
السر في موسكو ، انها تفقدني التركيز في الحاضر وتقذف بي في مسارات دائرية فيها ذكريات مريرة جهدت ان اغادرها دون جدوى.
كمسيح تائه , احمل صليبي الثقيل واسير في طرقات لا تنتهي بحثا عن جلجلة تشبه السراب , اعجز عن الوصول اليها
تجلدني الذكريات , تفتح بقسوة ، الجراح التي لا تندمل وتسكب فوقها الخل والملح
تسحبني بحبل ثقيل الى محطات تذّكر وألم , غادرتها ،،ولم تغادرني ,,
شوارع موسكو الباردة ودواخلي الملتهبة
جمرة النار المستقرة في اعمق زاوية من سراديب روحي , تتكاثر وتتشظى وتحّول شرايين ذاكرتي الى افاعي ميدوزا تخنقني
يقول المثل الفرنسي(ماكان صعبا اصبحت ذكراه عذبة) واقول انا : لا يتحول الصعب عذباً بالتقادم كما لا يمكن ان يتحول كأس الحنظل الى شراب عسل مهما تركناه .
مرت سنتان منذ آخر مرة كنت فيها هنا في موسكو خريف 2019,حين بدأت احداث ثورة تشرين , سمعت انا ومحمد (احنا البيكيسي الما يتعب) في الساحة الحمراء , وسررنا لاخبار التظاهرات ومحمد يلح ان نعود سريعا الى وطننا ليشارك , كنا نظن انها تظاهرة ايام وتنتهي كسابقاتها.
غادرنا موسكو في اول يوم من نوفمبر وقد امتلأ فضاؤها بنتف الثلج كأنها حمائم بيض صغيرة تلفظ انفاسها ثم تسقط على الارض صريعة , كان المشهد حزينا وكنا مبتهجين.
وصلنا بغداد في اول الليل وحثني أخي على الاسراع اذ كان في نيتي ان اغادر الى (النجف حيث سكنت منذ مدة بسبب ظروف عملي) لان الناس ستخرج وتدعم المتظاهرين بعد تهديد الحكومة لهم وتزدحم الطرق , كان العراق يفور ويتقد بطاقة الشباب الذين انتفضوا يريدون (وطن) , واحتضنت عيوننا قوافل السيارات التي خرجت مكتظة بالنساء والاطفال والاعلام العراقية الجميلة من حي القادسية حيث بيت أخي والى اطراف بغداد، وتكرر المشهد في مجسرات الثورة في بابل وصولا الى النجف .
رغم تعب الرحلة , لم أنم ليلتها , وتلك عادتي حين يهزني شعور عميق ، يطير النوم من عيني وكأني لا اريد ان افقد غبطتي به .
الوقت الذي مر بعد ذلك كان من اصعب فترات حياتي ,قضيته في قلق وتوتر وخوف وترقب بعد ان بدأت الوحوش البشرية في قمع الشباب وتصفيتهم ( وابني معهم ) فشلت محاولاتي لمنعه من التظاهر حتى وصل الامر ان اغلق ابواب البيت واخبىء المفاتيح لأتفاجأ انه خرج من مفتاح احتياطي كان يخفيه عني .. فرغ قلبي وانا كالبلهاء لا تسيطر على عقلي الا فكرة واحدة فقط : انه في خطر وانني سأفقده كما فقدت أخي ،،
هل يدرك اولادنا بانهم ليسوا كيانات مستقلة اطلاقا واننا معهم جسد واحد انفصل الى شطرين وان مايؤلمهم يؤلمنا بعمق مضاعف؟ اي كائن أحمق هو الانسان حين يقسم جسده وروحه بقرار منه ؟
بت لا استطيع البقاء في بيتي ابدا , كنت اقود سيارتي في طرقات اعاودها مرة بعد اخرى مليئة بالاطارات المحترقة ، ورائحة الدخان التي تشعل عيوني الكليلة بألم لا يطاق ، وبشباب يشبه الورد ملئوا انفاق المدينة وشوارعها برسوماتهم وكلماتهم البديعة .
شاهدت الدخانيات قرب مجسرات ثورة العشرين ,,واطلاق النار الكثيف قرب مرقد (السيد الحكيم) ,, كنت (أفتر بالشوارع ) وكأن قبور النجف تطاردني وتركض خلفي ,, مشاعر الهلع والقلق والتوتر قضت على ( حيلي ) , كل الاحاديث التي كنت اتحاور بها مع نفسي لم تفلح في اقناعي بأن :
الاقدار مقدرة ولا حيلة لنا فيها ,, ولا حذر يغني عن قدر
كنت اردد عبارة كأنها تعويذة : تبا لأي شيء وكل شيء لا اريد سوى ابني
تغلبت امومتي على كل المشاعر الاخرى التي كنت اعتقد انها الاغلى والاثمن عندي , كنت واثقة انها تضحيات ثمينة دون ناتج ، وارواح مهدورة بلا هدف محقق، في ظل جبروت العصابة التي تحكمنا ,,وعشت في داخلي معركة عنيفة بين شخصيتين ,تشعر الاولى بالجذل انها اخرجت الى العالم رجلا شجاعا له موقف ورأي وقضية ,, وتريد الثانية ادخاله في حجرة محصنة وتقفل عليه ,,
تحولت النجف الى قبر كبير يضغط على روحي وجسدي , ما الذي اتى بي الى هذه المدينة التي لا اعرف فيها احدا ولا اجد سندا ؟؟ وكيف اسامح نفسي ان حدث شيء لابني فيها ؟؟ وكأنها هي المسؤولة عن ذلك مع ان العراق بمدنه كلها كان مهددا ومستباحا ,,
لا اشد خيالا وخصوبة من أفكار امرأة قلقة تفتقد امانها في مدينة غريبة ، ليس لها سوى ترقب مضي الليل والنهار، بسلام
ورعشة تلك الاوقات لم تفارقني الى الان وانا اسير في شوارع موسكو الموحشة قرب (Cosmos Hotel) واتذكرها ,, وصوت علا المرتعب وهي تقضم اضافرها وتقول لي : ماما محمد ما موجود وصوت الرصاص بطارمتنا يمكن ضربوهم,,
حين استشهد ( مهند القيسي ) كنت اقود سيارتي حول مكان اعتصام الشباب في ساحة الصدرين اذ كان يخيل لي ان وجودي القريب من ابني سيحميه ,, سمعت اطلاق نار كثيف ورأيت سيارة (بيكب) في استدارة شارع الاسكان وفيها شباب يصرخون وتوقعت ان في ارضيتها شخص جريح من بقع الدم على ملابسهم ,,
ركنت في يمين الشارع الذي فرغ من البشر وغمره غروب الشمس،، وانهمرت في بكاء ونحيب جنوني حين اتصلت بمحمد ولم يرد , وفي ثانية واحدة ألفت عشرات السيناريوهات الدامية ,, نظرت الى السماء الغارقة بسكونها .. تغلغلت بصيرتي الى اله يجلس على عرشه برحمة وعطف واخذت اردد بكليتي : حسبي من سؤالي علمك بحالي .
تخليت عن كوني جدارا ،، كنت اريد شيئا اتكأ عليه :- جسر طويريج ، صدر أمي ، يد أبي القوية ، وجه أخي الذي فارقته ،آه ،،لا احتمل فقدا آخر
من قال اننا نموت مرة واحدة ؟ هل جرب من قال ذلك ألم الفقد ؟ هل شعر بالفجيعة لغياب وجه يحبه ؟ هل شرب وأكل وتعايش مع حنظل غيابه ؟
الا يحق للاشجار ان تنحني ؟ ولموج البحر الهادر ان يعلن غرقه ؟
لم يكن الغرق مقصورا بالماء ،، لم يكن الاحتراق حصرا بالنار
وتلك النخلة الباسقة على جرف الشط ، تضرب الامواج اللئيمة جذورها الممتدة في عمق الارض الرخوة منذ ثلاثين عاما ، الا يحق لها ان يصبح جمّارها ، فحم ؟
لانحتاج احيانا الى البكاء ، بل الى العواء ، كما الذئاب حين تعوي بصمت كبريائها وهي تثبّت نظرها بعين قاتلها حتى تطلع منها الروح .
غمرني شعور بالوحشة والوجع والغربة والفزع في الشارع الذي امتلأ برائحة الدم والموت والهلع (( حين اعادوا فتح الشوارع المحيطة بساحة الاعتصام بعد نهاية وباء كورونا انتابني الشعور نفسه بدرجة اعمق واشد وكأن رائحة الموت المقيتة لم تغادره (ساعد الله قلبك يا ام مهند القيسي ، ساعد الله قلب الامهات ) عادت الحياة وكأن شيئا لم يكن واخذت السيارات والبشر تدوس تلك البقعة التي سالت فيها الدماء البريئة ..))
انقطع محمد فجأة عن التظاهر ،،شعرت بخيبة أمله وبتغير قناعاته ،، بدى وكأنه شخص آخر ، لم يعد يتحدث بالسياسة ، وترك النقاش والجدال في اغلب المواضيع واكمل دراسة القانون بجدارة وتحول شغفه بالعطور من هواية الى عمل يشغل معظم وقته ,, لم يعد يثيره اي حدث ، انها صدمة جيل كامل حاولوا كسر جدار الفولاذ باظافرهم الرقيقة ولم يجنوا سوى الخيبة والخذلان .
واخذت اشعر تدريجيا بأنني جزء من النجف ولاول مرة بعد ست سنوات من استقراري فيها
ربما نحتاج الفواجع احيانا من اجل ان ننصهر في واقع مفروض .
قضيت عمري وأنا ممتنة للمصاعب والمصائب والازمات فلولاها لبقيت مجرد امرأة تافهة مدللة ، وكأن سكين الوجع حين يشقنا يبعث فينا عنقاء جديدة أقوى واصلب .
كٌتبت في ديسمبر من عام 2021








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. السياسة الفرنسية تدخل على خط الاحتجاجات الطلابية


.. روسيا تزيد تسليح قواتها ردا على الدعم الغربي لكييف | #غرفة_ا




.. طهران.. مفاوضات سرية لشراء 300 طن من اليورانيوم | #غرفة_الأخ


.. الرياض تسعى للفصل بين التطبيع والاتفاق مع واشنطن | #غرفة_الأ




.. قراءة عسكرية.. صور خاصة للجزيرة تظهر رصد حزب الله مواقع الجي