الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


رواية للفتيان يوهيرو الأمل طلال حسن

طلال حسن عبد الرحمن

2023 / 4 / 11
الادب والفن


رواية للفتيان







يوهيرو

الأمل





طلال حسن



شخصيات الرواية
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 ـ يوكاي

2 ـ يوهيرو

3 ـ ساواكي

4 ـ الأم












1
ـــــــــــــ
أراد يوهيرو ، قبل أن ينام ليلة البارحة ، الاستيقاظ مبكراً صباح هذا اليوم ، وكانت هذه في الماضي مهمة أمه ، وكم كانت تبذل من جهد ، حتى تجعله يستيقظ ، لكن أين أمه الآن لتوقظه ؟
ورغم كلّ شيء ، لم يستيقظ يوهيرو ، في الوقت المبكر ، الذي أراده ، إلا بعد أن تناهى إليه صوت أمه ، تخاطبه قائلة : يوهيرو ، استيقظ ، الشمس توشك أن تشرق ، وترسل أشعتها إليكَ في الكوخ .
وعلى الفور ، فتح يوهيرو عينيه ، واعتدل بنشاط في فراشه ، بعكس ما كان عليه ، عندما كانت أمه على قيد الحياة ، فقد كان يتدلل ، ويماطل ، ويتأخر في النهوض ، وكانت أمه تناديه مرات ومرات ، بل وتهزه أيضاً قائلة : انهض ، يا يوهيرو ، انهض ، انهض .
لكن الآن ، وفيما بعد ، لن تناديه أمه ، ولن تهزه كي يستيقظ ، لقد رحلت ، وتركت الكوخ فارغاً بارداً موحشاً ، لكن ما العمل ؟ وكما تقول أمه ، هذه سِنة الحياة ، وعليه منذ رحيلها ، ولأنه وحيد في هذا الكوخ ، أن يستيقظ بنفسه ، وإلا فاته الوقت ، إن الشمس لن تستأذنه في الشروق أو الغروب ، هذا ما كانت أمه تقوله له دائماً ، وخاصة عندما يتأخر في النهوض من الفراش .
ونهض يوهيرو من فراشه بنشاط ، وبنشاط أكثر راح يُعدّ طعام الإفطار ، وهو يتبدل الحديث مع أمه قائلاً : ها .. ما رأيك ؟ لقد غدوتُ طباخاً ماهراً .
وهزتْ أمه رأسها ، وقالت : مهما يكن ، فإن طعامك تنقصه لمسة ..
وقاطعها قائلاً ، رغم أنه أدرك ما تريد أن تقوله : نعم ، تنقصه لمستك ، التي لا تعوض ، ماذا أفعل ، لو كان الأمر بيدي ، يا أمي ..
وهزت رأسها ثانية ، وقاطعته قائلة : لا يا بنيّ ، أنت واهم ، واهم جداً ، إنّ لمستي لمسة شائخة ، أنت بحاجة إلى لمسة ربيع فوّاح .
وصبّ يوهيو الطعام في الطبق ، وجلس إلى المائدة ، وراح يأكل بسرعة ، وهو يقول : نعم ، أنتِ محقة ، يا أمي ، إذا رأيت ربيعاً يشبهك ، وهذا مستحيل ، فأنت ربيع لا يتكرر .
وانتهى يوهيرو من تناول طعامه ، فمصمص شفتيه متلذذاً ، وقال : آه كم هو لذيذ ، هذا الطعام الذي أعددته ، يبدو أنني لن أحتاج إلى ..
وضربته أمه على كتفه مازحة ، وقالت : الزوجة ليست للطبخ فقط ، يا يوهيرو .
ونهض يوهيرو ، وردّ على أمه متظاهراً بالدهشة : ولِمَ أيضاً ، يا أمي ! هذا ما لم أعرفه من أبي .
وغمزت له مبتسمة ، وقالت : تزوج وستعرف .
وارتدى يوهيرو سترة الفرو ، ووضع القلنسوة على رأسه ، ثمّ مدّ يديه ، وأخذ عدة الصيد ، وقال : آن أن أذهب إلى الغابة ، وأصطاد لي غزالة .
وحدقت أمه فيه ، وقد اختفت الابتسامة عن وجهها ، وقالت : يوهيرو ..
وتوقف يوهيرو ، ونظر إلى أمه ، وقال : نعم ، يا أمي ، مريني ، وسأطيع ، أنا ابنكِ يوهيرو .
فتابعت الأم قائلة : الجو مربدّ اليوم ، وبارد جداً ، وأخشى أن يتساقط الثلج ، ابقَ اليوم في البيت ، واذهب غداً أو بعد غد إلى الصيد في الغابة ، إن غزالتك لن تختفي ، وستنتظرك ، وتصطادكَ .
وابتسم يوهيرو ، وقال لأمه : إن غزالتي ، غزالتي الجميلة ، تنتظرني اليوم ، ولن أتأخر عليها ، حتى لو أسقطت السماء كلّ ما عندها من ثلوج .
وعادت الأم تقول بشيء من الإلحاح : بني ، لا تذهب اليوم إلى الغابة ، لا تذهب .
وردّ يوهيرو مازحاً : لم تقولي هذا لأبي أبداً ، يا أمي .
فقالت أمه : أنتَ يوهيرو .
واتجه يوهيرو إلى الباب ، وهو يشدّ يده على عدة الصيد ، وقال : آه منكِ .
وفتح يوهيرو الباب ، وقبل أن يخرج ، ويمضي نحو الغابة ، سمع أمه تقول له : بنيّ يوهيرو ، أنت ذاهب إلى الغابة ، فاحذر الغزالات الجميلات .

2
ــــــــــــــ
على مشارف القرية ، والنهار يرسل أولى أنواره الشاحبة على استحياء ، ويضيء السماء الرمادية ، ويوهيرو يحث خطاه ، متوجهاً نحو الغابة ، ناداه أحدهم بصوته الشائخ المبحوح : يوهيرو .
وتوقف يوهيرو مبتسماً ، إنه الشيخ ساواكي ، لقد عرفه فوراً ، فصوته الشائخ المبحوح ، لا يمكن أن يُخطئه يوهيرو ، فهو أيضاً صديق العمر لأبيه الراحل ، واستدار نحوه ، وقال : أهلاً بالعم العزيز ساواكي .
وتوقف الشيخ ساواكي لاهثاً على مقربة منه ، متكئاً على عكازه ، وقال : أهلاً بك ابن أخي صديق العمر ، لو تعلم ، يا يوهيرو ، أنني كلما أراك ، أشعر بالفرح ، كما لو كنت أرى أخي أباك الراحل .
وابتسم يوهيرو متأثراً ، وقال : أشكرك ، أيها العم العزيز ، أرجو أن تكون زوجتك بخير .
وقال الشيخ ساواكي بصوته الشائخ المبحوح : كانت المسكينة ستزورك اليوم ، وتأتيك بطبق من الطعام الذي تحبه ، لكن ابنتنا أرسلت في طلبها ، لقد ولدت ..
وقال يوهيرو مندهشاً : مرة أخرى !
وضحك الشيخ ساواكي ، وقال : صار لها ستة أولاد .
واتسعت عينا يوهيرو دهشة ، وقال : ستة أولاد ! لكنها لم تتزوج إلا منذ . . منذ أربع سنوات .
فقال الشيخ ساواكي ، وهو ما زال يضحك : ابنتنا خصبة جداً ، فهي لا تلد إلا توأماً كلّ مرة .
وضحك يوهيرو بدوره ، وقال : إنها أرنبة .
وتوقف الشيخ ساواكي عن الضحك ، ونظر إلى يوهيرو ، وقال : بنيّ يوهيرو ..
وردّ يوهيرو قائلاً : نعم يا عم .
فتابع الشيخ ساواكي قائلاً : لم تعد صغيراً ، يا بنيّ ، عليك أن تتزوج في أسرع وقت ممكن .
وابتسم يوهيرو ، وقال : هذا ما كانت أمي تقوله لي دائما ، قبل أن ترحل .
وبدا الحزن على الشيخ ساواكي ، وقال : أعرف ، فقد تحدثت حول ذلك إلى زوجتي كثيراً ، وكم تمنت ، قبل أن ترحل ، أن يكون لك زوجة وأطفال .
ولاذ يوهيرو بالصمت ، فصمت الشيخ ساواكي أيضاً ، ثمّ تراجع قليلاً ، وقال : عفواً ، أوقفتك طويلاً ، أنت تحمل عِدة الصيد ، يبدو أنك متجه إلى الغابة .
فقال يوهيرو : نعم .
وتلفت الشيخ ساواكي ، وتطلع إلى السماء ، ثم قال : لكن طقس اليوم لا يصلح للصيد ، إن السماء تنذر بتساقط الثلج في أية لحظة .
وتأهب يوهيرو لاستئناف السير ، وقال : لن أبقى طويلاً ، وإذا تساقط الثلج ، سأعود حالاً إلى القرية .
وتوقف الشيخ ساواكي ، وقال : بنيّ يوهيرو ، لا تتوغل كثيراً في الغابة ، فقد طارد أبوك غزالة ، وتوغل وراءها في أعماق الغابة ، و .. ولم يعد .
ولبثا برهة صامتين ، لا ينظر أحدهما إلى الآخر ، وأخيراً استدار يوهيرو ببطء ، واستأنف سيره بخطوات ثابتة سريعة نحو الغابة .
وما إن دخل يوهيرو الغابة ، التي بدت له غريبة بعض الشيء ، حتى بدأ الثلج يتساقط ، ويضيف طبقة جديدة ، فوق الثلوج التي تساقطت في الأسابيع الأخيرة .
وتباطأ يوهيرو في سيره ، لقد حذرته أمه ، وحذره الشيخ ساواكي ، لكنه لم يصغِ إليهما ، وها هو الثلج يتساقط فعلاً ، ويبدو أن تساقطه يزداد ، لكنه مع ذلك واصل تقدمه في الغابة ، ولم يتوقف ، أو يفكر في العودة من حيث أتى .
وتوقف يوهيرو بين الأشجار الشامخة ، الصامتة ، المكللة بالثلوج ، وتلفت حوله لعله يعثر في هذا الصمت على صيد ، أي صيد ، يروي به عطشه للصيد ، لكن لا شيء حوله غير الثلج والصمت .
وحدق في الأرض ، التي علاها الثلج ، عله يقع على أثر لأرنب مهما كان حجمه ، أو غزالة ، وهي حلمه وحلم كلّ صياد يأتي إلى هذه الغابة ، لكن لا شيء ، لا أثر على الثلج ، وكأن الغابة خالية من الأحياء .
وهمّ أن يستدير ، ويقفل عائداً إلى القرية ، فالثلج يزداد تساقطه ، والريح بدأت تئن بين أغصان الأشجار العالية ، لكنه توقف مذهولاً ، إذ خيل إليه ، أنه يسمع أنفاساً خافتة ، وتلفت حوله منصتاً ، لعله أرنب خائف ، أو ثعلب أضرّ به الجوع ، أو غزالة .. غزالة !
وخفق قلبه بشدة ، حين وقعت عيناه المحمومتين ، على غزالة فتية ، تقف بين الأشجار ، وتتطلع إليه بعينين سوداوين ، وتلفت حوله ، أهي حقيقية هذه الغزالة ، أم أنه خيال لما تمنى أن يراه ؟ وعاد ببصره ثانية إليها ، آه .. إنها غزالة ، وتبدو حقيقية ، يا لها من غزالة .
وبدون إرادة منه ، وجد نفسه يسير على حذر نحو الغزالة ، وعبثاً تناهت إليه تحذيرات أمه ، وتحذير الشيخ ساواكي ، وقال في نفسه ، وكأنه يردّ عليهما كليهما : هذه الغزالة الجميلة سأصيدها ، مهما كلف الأمر .
لكنه رأى الغزالة تتراجع قليلاً ، ثم تستدير ، وتسير مبتعدة بخطوات تبدو محسوبة ، متوافقة مع خطواته نحوها ، وحثّ خطاه ، وحثت الغزالة خطاها أيضاً ، وحثّ خطاه أكثر ، حتى بدا وكأنه يهرول ، وحثت الغزالة خطاها أيضاً ، محافظة على المسافة بينها وبينه ، دون زيادة أو نقصان .
واقتربت الغزالة من أجمة كثيفة ، وانعطفت متوغلة فيها حتى اختفت ، مما دفع يوهيرو إلى الجري نحوها ، لعله يلحق بها قبل أن تختفي نهائياً ، وحين وصل الأجمة توقف مصعوقاً ، فبدل الغزالة رأى فتاة شابة ، في ثياب ناصعة البياض ، تقف على مقربة من باب كوخ صغير ، يتصاعد الدخان من مدخنته .
ونظرت الفتاة إليه ، وقالت بصوت هادىء : يبدو أنكَ ضللت الطريق ، أيها الصياد .
وتلفت يوهيرو حوله ، وقال : لا ..
ثمّ حدق فيها ملياً ، وقال : طاردت غزالة ، هربت مني ، ودخلت هذه الأجمة .
وابتسمت الفتاة ، وقالت : لعلك واهم ، لا يوجد هنا ، كما ترى ، أحد غيري .
ودمدمت العاصفة من بعيد ، فقالت الفتاة : الثلج يتساقط بكثافة ، والعاصفة ستهب حتماً ، لا خيار ، ادخل كوخي ، وابقَ عندي ، حتى يصفو الجو .
والتفت يوهيرو إلى الوراء ، وقال : أشكرك ، عليّ أن أعود إلى كوخي .
وقالت الفتاة : ابق هنا ، فلا أحد ينتظرك غير الثلج .
ولاذ يوهيرو بالصمت ، وقد أطرق رأسه ، فتقدمت الفتاة ، ودفعت باب الكوخ ، حيث الدفء والأمان والمجهول ، وقالت : تعال ، وأنعم بالدفء والحياة .

3
ـــــــــــــــ
أغلقت الفتاة الشابة باب الكوخ ، وقالت دون أن تنظر إلى يوهيرو : الشتاء في الخارج على أشده ، والثلوج تتساقط ، ويبدو أن العاصفة ، القادمة من الأصقاع المتجلدة على الأبواب ، وقد تستمر أياماً عديدة .
ونظر يوهيرو إليها ، وقال : لكن عليّ أن أغادر هذه الغابة ، وأعود إلى كوخي في القرية ، ما إن تهدأ العاصفة ، ويتوقف الثلج عن التساقط .
وتوقفت الفتاة الشابة قرب الموقد ، وقالت : من حسن حظكَ ، أنني التقيت بك في الوقت المناسب ، فإن قضاء الليل في العراء أمر لا تحمد عقباه .
وصمتت لحظة ، ثم قالت : النار ، وهي شريان الحياة في الشتاء ، مشتعلة في الموقد ، ولدينا الكثير من الأخشاب ، كما أنّ لدينا طعام يكفينا مدة طويلة ، ليتساقط الثلج كما يشاء ، ولتعوِ العاصفة كما تعوي الذئاب في ليل الغابة المتجلد ، فنحن في مأمن هنا .
ونظرت إلى يوهيرو مبتسمة ، ثمّ قالت : شغلتني الثلوج والعاصفة ، فلم أعرفك بنفسي ..
وتطلع يوهيرو إليها صامتاً ، فتابعت قائلة : أنا ، كما تراني ، واسمي هو .. يوكاي .
وقال يوهيرو : اسمي .. يوهيرو .
وصمت قليلاً ، كانت يوكاي خلال الفترة تحدق فيه ملياً ، وكأنها تنتظر المزيد ، فتابع قائلاً : وأنا من القرية الصغيرة ، التي تقع قرب الغابة ، وهي قرية صغيرة ، جميلة ، وأهلها بسطاء وطيبون .
والتفتت يوكاي إلى القدر ، الذي في الموقد ، ورفعت غطاءه ، وحركت ما فيه بملعقة خشبية ، وقالت : لقد نضج الطعام ، ولابد أنك جائع ، فلنأكل الآن .
وصبت الطعام في طبقين ، وضعتهما على المائدة ، وجلست مبتسمة ، وأشارت ليوهيرو بالجلوس ، وهي تقول بصوت هادىء : تفضل ، اجلس ، سيعجبك الطعام ، إنني طباخة ماهرة .
وتوقف يوهيرو متردداً ، وتراءت له أمه ، تقف خلف يوكاي ، وأشارت له أن يجلس ، وأن يتناول الطعام معها ، فجلس قبالة يوكاي ، ونظر إلى الطعام ، ثم قال : يبدو أنه طعام لذيذ .
وضحكت يوكاي ، وقالت ، وهي تمسك بالملعقة : تذوقه ، وستعرف أنه لذيذ فعلاً .
وتذوق يوهيرو الطعام ، ثم نظر إلى يوكاي مبتسماً ، وقال : لذيذ حقاً ، أنتِ طباخة ماهرة فعلاً .
وبدت يوكاي مرتاحة ، وراحت تأكل ، وقالت : لابدّ أنه يذكرك بطباخة ماهرة تحبها .
ونظر يوهيرو إلى أمه ، ورآها مبتسمة سعيدة ، فقال : نعم ، إنه يذكرني بأمي .
وتوقفت يوكاي عن تناول الطعام ، وقالت بصوت حزين : أمكَ الآن للأسف غير موجودة .
فتوقف يوهيرو بدوره عن تناول الطعام ، وقال : نعم ، لقد رحلت قبل أشهر .
ونهض يوهيرو عن المائدة ، فقالت يوكاي : يوهيرو ، أنت لم تكمل طعامك .
فردّ يوهيرو قائلاً : أشكركِ ، لقد شبعت .
ولاذ يوهيرو بالصمت برهة ، وراح ينظر إلى النار المشتعلة في الموقد ، وقال كأنما يحدث نفسه : وأبي ، كان صياداً ماهراً ، وقد رحل قبل أمي بسنوات ..
وتنهد يوهيرو ، ثمّ تابع بصوت حزين : خرج للصيد مرة ، وكانت الغابة مغطاة بالثلوج ، ويقال أنه رأى غزالة جميلة ، وأراد أن يصطادها ، لأنه وعدني بإحضار غزالة لي من الغابة ، وتوغل وراء تلك الغزالة ، في أعماق الغابة ، ولم يعد .
وصمت مرة أخرى ، ثم نظر إلى يوكاي ، وقال : ولأيام عديدة ، بحث أهل القرية عن أبي ، في جميع أرجاء الغابة ، ولم يقعوا له على أثر .
وصمت يوهيرو ، وصمتت معه يوكاي ، وفي الخارج كان الثلج يتساقط بغزارة ، والعاصفة ، التي قدمت من الأصقاع المتجلدة ، كانت تعوي بين الأشجار المثقلة بالثلوج ، وكأنها قطيع من الذئاب الجائعة .
ونظر يوهيرو إلى يوكاي ، وقال : يبدو أن الثلوج ما زالت تتساقط بغزارة .
وردت يوكاي قائلة : ولن تتوقف قريباً .
وجلسا متقابلين قرب الموقد ، وهما يتبادلان النظر صامتين ، وقال يوهيرو : يوكاي ..
وقالت يوكاي مبتسمة : نعم .
وتابع يوهيرو قائلاً ، وهو ما زال ينظر إليها : الفتيات في قريتنا ، معظمهن بيضاوات ، ولكن ليس بينهن فتاة في بياضكِ أنتِ ، يا يوكاي .
وابتسمت يوكاي فرحة ، ومالت عليه ، وقالت : أنا يوكاي ، ابنة الثلج والقمر .
وحدق يوهيرو فيها ، نعم ، إنها بيضاء كالثلج ، وشفافة ، وشاحبة بعض الشيء كضوء القمر ، فابتسمت ، وقالت : ستكون لك طفلة تشبهني .
وردّ يوهيرو قائلاً : لكني لستُ متزوجاً .
وقالت يوكاي : أعرف .
ونظر يوهيرو إليها مندهشاً ، فتابعت يوكاي قائلة بصوتها الهادىء : ستحبها كثيراً ، ولن تقوى على فراقها لحظة واحدة ، مهما كلف الأمر .
وصمتت يوكاي برهة ، وهي مازالت تحدق فيه ، ثم قالت : يوهيرو ..
فقال : نعم .
وقالت يوكاي : لا أريد أن يعرف أحد ، مهما كانت الظروف ، بأنك التقيت بي هنا في هذا الكوخ ، وأننا تبادلنا الحديث ، وإلا ..
ونظر يوهيرو إليها صامتاً مصدوماً ، فتابعت قائلة : لا أريد أن تتأذى ، لا أنت ، ولا ابنتك القمر .




4
ـــــــــــــــ
فتح يوهيرو عينيه المتعبتين ، وإذا نور النهار الخافت ، يصله عبر كوة الكوخ الصغيرة المضببة ، وأنصت ، أنصت ملياً ، لا شيء غير الصمت ، يبدو أن العاصفة قد توقفت ، ولعل الثلج نفسه قد توقف عن السقوط .
واعتدل في فراشه ، دون أن يصدر أي صوت ، ونهض بهدوء شديد ، وتسلل نحو الباب ، وفتحه بحذر ، مخافة أن تستيقظ يوكاي ، وتحاول استبقائه معها في الكوخ ، بأي طريقة من الطرق ، وتسلل إلى الخارج ، وأغلق الباب وراءه بحذر شديد .
كانت العاصفة ، التي كانت تعوي ليلاً كقطيع من الذئاب الجائعة ، قد توقفت فعلاً ، ولم يعد الثلج يتساقط ، وإن كانت السماء رمادية ، باردة ، كما كانت يوم أمس ، عندما غادر كوخه ، وتوغل في الغابة للصيد .
وحثّ خطاه ، ليمضي مبتعداً عن يوكاي وكوخها الغريب ، الذي أنشأ في هذا المكان المنقطع الموحش من الغابة ، ولم يكد يخطو بضع خطوات ، حتى توقف جامداً ، وقلبه يخفق بشدة ، إذ جاءه صوت يوكاي ، تناديه بصوتها المميز : يوهيرو .
واستدار ببطء شديد ، وقد تملكه الرعب ، نحو مصدر النداء ، وتوقف مصعوقاً ، وراح يتلفت حائراً مذعوراً ، إذ لم يجد أثراً لا ليوكاي ، ولا للكوخ نفسه .
وتراجع يوهيرو مرعوباً ، وتعثر غير مرة ، وكاد يتهاوى على الثلج ، ثم استدار ، ومضى مسرعاً، محاولاً الابتعاد عن هذا المكان الموحش المنقطع ، وانتبه إلى أنه لا يحمل عدة الصيد ، وحاول أن يتذكر ، أين وضعها ، في الكوخ ؟ وحثّ خطاه ، أي كوخ ؟ وحثّ خطاه أكثر وأكثر ، ليصل إلى مكان يعرفه ، يقوده إلى برّ الأمان ، بعيداً عن يوكاي وكوخها الشبح .
ورفع عينيه المرعوبتين إلى ما فوق الأشجار العالية ، المكللة بالثلوج الناصعة البياض ، إلى السماء التي بدت له رمادية ، متجلدة ، وخمن أن الثلوج قد تتساقط من جديد ، في وقت قريب من هذا النهار .
وبالفعل ، بدأ الثلج يتساقط بعد قليل ، كما كان يتساقط ، عند دخوله الغابة يوم أمس ، قبل أن يتوغل في الغابة ، وكأن قوة سحرية تدفعه إلى ذلك ، ومن ثمّ رؤيته للغزالة الفتية ، ومطاردته لها ، حتى التقى بيوكاي .
وتوقف يوهيرو متوجساً ، وأنصت ، أنصت متردداً خائفاً ، فقد تناهى إليه ، كما في يوم أمس ، وقع أقدام خلفه على الثلج ، وتوقف وقع الأقدام حين توقف ، أهذه الغزالة مرة أخرى أم يوكاي أم .. ؟
لعله واهم ، وما حدث البارحة ، أكان حقيقة ؟ ومضى يسير منصتاً ، وخفق قلبه بشدة ، حين عاد وقع الأقدام على الثلج ثانية ، كما حدث يوم أمس ، والتفت إلى الوراء ، دون أن يتوقف ، وصعق مرعوباً إذ رأى الغزالة نفسها ، التي رآها البارحة ، تتأثر خطاه على نفس المسافة ، لا أكثر ولا أقل .
وتوقف يوهيرو ، وتطلع إليها من بعيد ، لكنه لم يفكر في الاقتراب منها ، كما فعل من قبل ، إن خطأ البارحة لن يتكرر ، يكفي ما لقيه من يوكاي .
وابعد عينيه عنها ، وواصل سيره بخطوات سريعة متعثرة ، وهو يتابع مصغياً إلى خطواتها ، التي تتوافق مع خطواته ، وبدا له أن الطريق لن ينتهي ، وهذه الغزالة لا تريد أن تتركه ، لقد اصطادته البارحة ، ولن يدعها تصطاده اليوم ، مهما كلف الأمر .
وحوالي نهاية النهار ، وجد يوهيرو نفسه خارج الغابة ، وتنفس الصعداء ، حين لاحت له من بعيد أكواخ قريته الصغيرة ، الجميلة ، وانتبه إلى أن وقع الأقدام على الثلج ، الذي رافقه طول الطريق ، قد توقف واختفى ، فتوقف ، ثم استدار ، وشعر بالراحة والاطمئنان ، عندما لم يرَ للغزالة الفتية أي أثر وراءه .
وعلى الفور ، اتجه بخطوات المتعبة ، لكن المطمئنة ، الفرحة ، تاركاً الغابة ، وما جرى له فيها ، وراء ظهره ، وعلى مقربة من كوخه ، لحقه الشيخ ساواكي ، وهو يتوكأ على عكازه ، وبادره قائلاً بصوته الشائخ المبحوح : يوهيرو .. يوهيرو ..
وتوقف يوهيرو ، واستقبله متهللاً رغم شعوره بالتعب ، وقال : أهلاً بالعم العزيز ، أهلاً ومرحباً .
وتوقف الجد ساواكي على مقربة منه ، وقال لاهثاً : جئتك عدة مرات ، خلال الأيام الأخيرة ، ولم أجدك في الكوخ مرة واحدة .
وكتم يوهيرو دهشته وحيرته ، وقال بصوت حاول أن يجعله هادئاً طبيعياً : لقد رأيتني البارحة صباحاً ، أذهب إلى الغابة للصيد ، وها أنا أعود اليوم .
واتسعت عينا الشيخ ساواكي ذهولاً ، وقال : البارحة ! لقد رأيتك آخر مرة ، عندما ذهبت للصيد في الغابة ، قبل أكثر من عشرة أيام .
ولاذ يوهيرو بالصمت حائراً ، وقد بدا عليه الإرهاق ، فقال الشيخ ساواكي : لا عليك ، أنت متعب اليوم ، قد ازورك قريباً ، اذهب إلى كوخك ، وارتح .
واستدار يوهيرو ، وقد تملكته الحيرة ، ماذا جرى ؟ لعل الشيخ ساواكي قد شاخ جداً ، وبدأ يخرف ، أم أن ما قاله هو الحقيقة ، من يدري .
وفتح باب كوخه ، وأوى إلى فراشه ، دون أن يشعل النار في الموقد ، رغم أن الثلج كان يتساقط ، وسرعان ما استغرق في نوم عميق .

5
ـــــــــــــ
أفاق يوهيرو على أمه تناديه : يوهيرو .
لم يفتح يوهيرو عينيه ، وإنما أجاب بصوت مثقل بالنعاس والتعب : إنني متعب ، متعب جدا ، يا أمي ، دعيني أرتح قليلاً .
وخاطبته أمه ثانية ، لكن دون أن تهزه ، كما كانت تفعل في الماضي : أيها الكسول ، الشمس أشرقت اليوم ، انهض واعد طعام الإفطار ، وإلا أعددته لكَ .
وفتح يوهيرو عينيه المتعبتين ، وتراءت له أمه ، تقف قرب المنضدة ، فابتسمت له ، وقالت : كوخك كان بارداً جداً ، وليس لك من يدفئكَ ، فأشعلتُ لك النار فيه .
واعتدل يوهيرو في فراشه ، ونظر إلى الموقد ، كانت النار تشتعل فيه ، ويبدو أنها كانت تشتعل منذ ساعات ، فجو الكوخ كان دافئاً ، وحاول أن يتذكر ، متى أشعل النار في الموقد ، لكن دون جدوى .
ونظرت أمه مبتسمة إليه ، وقالت : يبدو أنك لم تصطد الغزالة ، التي أردت اصطيادها .
ونظر يوهيرو إليها ، إنها تعرف بأمر الغزالة ، وهمّ أن يسألها ، عن حقيقة تلك الغزالة ، وما جرى له يوم أمس ، لكنه خشي أن يظنّ نفسه مجنوناً ، فنهض من فراشه ، وانهمك في إعداد الطعام ، ثم جلس إلى المائدة ، وراح يأكل شارداً ما أعده من طعام .
وتابعته أمه بنظرها ، وهو يلتهم الطعام ، وقالت : لا تستعجل في تناول طعامك ، النهار ما زال في أوله ، أم أن لديك مهمة خاصة .
وتوقف يوهيرو عن تناول الطعام ، ونهض عن المائدة ، وقال : هذا يوم السوق ، وسأذهب إلى الساحة ، لعلي أجد ما أحتاجه .
وقالت أمه مبتسمة : لا أظنّ أنهم يبيعون الغزلان في السوق ، لكن اذهب لعلك تجد غزالتك .
وتوقف يوهيرو عند الباب مفكراً ، غزالتك ؟ إنها تعرف بأمر الغزالة بالتأكيد ، فليسألها عن تلك الغزالة ، ولا شك أنها ستخبره بكل شيء عنها .
واستدار إليها ، حيث كانت تقف قرب المنضدة ، لكنه لم يجدها ، وتلفت في الكوخ بحثاً عنها ، فلم يجد لها أثراً في أي مكان .
وخرج يوهيرو من الكوخ ، وأغلق بابه ، بعد أن أطفأ النار في الموقد ، ومضى نحو ساحة السوق وسط القرية ، وهو ممتلىء بالغابة والثلوج والعاصفة الشديدة البرودة .. والغزالة و .. وتلك الفتاة التي قالت ، إن اسمها ..يوكاي .. أهو حقيقة كلّ ما رآه في الغابة ، وخاصة تلك الفتاة .. يوكاي .. أم .. ؟ من يدري .
وتوقف يوهيرو ، حين سمع أحدهم يخاطبه : يوهيرو .
وعرفه من صوته الشائخ المبحوح ، إنه الشيخ ساواكي ، صديق أبيه الراحل ، والتفت نحو مصدر الصوت ، إنه هو الشيخ ، وها هو يقبل عليه متوكئاً على عكازه ، فرحب به قائلاً : أهلاً ومرحباً بالعم العزيز .
وتوقف الشيخ ساواكي على مقربة منه ، وقال : آه اليوم أنت أفضل ، البارحة عندما رأيتك قرب الكوخ ، كنت متعباً جداً ، وقد قلقتُ عليك .
وابتسم يوهيرو ، وقال : نعم ، كنت متعباً ، فقد ذهبت للصيد في الغابة ، وأنت تعرف أن الجو كان قاسياً ، وقد عانيت منه بشدة .
وربت الشيخ ساواكي على كتف يوهيرو ، وقال : هذا يوم مناسب للصيد ، اذهب ، لعلك تصيد غزالتك .
ومضى الشيخ ساواكي متوكئاً على عكازه ، وظل يوهيرو في مكانه برهة ، غزالتك ؟ أية غزالة ؟ لعله خرف ، وأمه ؟ آه ربما كان الأمر صدفة .
واستأنف يوهيرو سيره نحو السوق ، وعند مدخل الساحة ، توقف ، وقلبه يخفق بشدة ، حين تناهى إليه صوت ، خيل إليه أنه يعرفه ، يناديه : يوهيرو .
واستدار يوهيرو نحو مصدر الصوت ، وإذا بفتاة شابة ، لا تشبه فتيات القرية ، أو القرى المجاورة ، ترتدي ملابس عادية مما تلبسه الفتيات في القرية ، تنظر إليه ، فقال لها متسائلاً : أنتِ ناديتني ؟
فهزت الفتاة رأسها ، وقالت : نعم .
واقترب يوهيرو منها ، وهو يتأملها جيداً ، وقال : لقد ناديتني باسمي .
وابتسمت الفتاة ، وقالت : سمعت الشيخ ، الذي كان يتحدث إليك ، يناديك ، فعرفتُ اسمكَ .
وهمهم يوهيرو ، وهو ما زال يتأملها ، ويحاول أن يتذكر ، أين سمع صوتها : هم م م م م .
ثم قال لها : يخيل إليّ أنكِ تعرفينني .
فقالت الفتاة : لقد وصلتُ اليوم إلى هذه القرية ، وقد أواصل طريقي قريباً .
وأراد أن يسألها ، من أين جاءت ؟ لكنه صمت ، حين قالت له : إنني متعبة ، وجائعة ، يا يوهيرو .
وحدق يوهيرو فيها ، دون أن يتفوه بكلمة ، فتابعت قائلة : نادني .. يوكاي .
وتمتم يوهيرو مذهولاً : يوكاي !
وقالت الفتاة : هذا اسم غريب هنا على ما يبدو .
وصمتت ، ثم قالت : إنني جائعة .
ونظر يوهيرو إليها ، وقال : كوخي صغير ..
وصمت برهة ، ثم قال : وليس لي فيه أحد ، وأنا أطبخ عادة لنفسي ..
وقاطعته الفتاة قائلة : أنا سأطبخ لك ..
وحدق يوهيرو فيها ، فأضافت قائلة : سيعجبكَ طبخي .

6
ــــــــــــــ
لقد أعجب يوهيرو بطبخها فعلاً ، وأعجبه أكثر حضورها في حياته ، هذه الأيام القليلة ، التي قضتها معه في كوخه .
ولم تغب أمه عنه هذه الفترة ، فقد كانت تتراءى له ، بين حين وآخر بابتسامتها الفرحة المشجعة ، وقالت له أكثر من مرة : بنيّ يوهيرو ، هذه هي غزالتك .
ويبدو أن الطبيعة ، كانت إلى جانب يوهيرو ، ورغبته في بقاء يوكاي معه في الكوخ ، فقد راحت الثلوج تتساقط بغزارة ، وبدون انقطاع تقريباً ، ورافقتها لأكثر من يوم ، عاصفة هوجاء ، أجبرت الجميع على البقاء في أكواخهم ، قرب مواقد النار .
ويوهيرو نفسه ، هل يمكن أن يفكر في الخروج ، وكلّ شيء متوفر عنده في الكوخ ؟ أخشاب للموقد ، وطعام وفير ، و .. ويوكاي ، آه يوكاي .
وطوال ساعات هذه الأيام ، المنعم فيها بالدفء والأمان وحضور يوكاي ، كان يسترق النظر ، بين حين وآخر ، إلى يوكاي ، أهي صدفة أنها تحمل الاسم نفسه ، ونفس الملامح تقريباً ؟ من يدري .
وطبعاً لم يفكر أن يسألها ، فقد حذرته يوكاي ، ابنة الثلج والقمر ، من الحديث إلى أي شخص عنها ، وإلا .. وهو ليس مجنون ليتحدث ، فقد تختفي يوكاي الحاضر من حياته تماماً ، وهذا ما لن يحتمله .
وهدأت العاصفة بعد أيام ، وتوقفت الثلوج عن التساقط ، بل وراحت الشمس تطل أحياناً على استحياء ، من بين الغيوم ، وبدأ الناس يدبون بحذر خارج أكواخهم ، يتجولون في أطراف القرية ، ويتفقد بعضهم البعض الآخر ، كوخ واحد لم يُفتح بابه ، هو كوخ يوهيرو .
وحوالي منتصف نهار أحد الأيام ، طرق باب الكوخ ، ونظر يوهيرو إلى يوكاي ، وكانا جالسين جنباً إلى جنب قرب الموقد ، الذي تتصاعد فيه ألسنة الدفء ، وبخار الطعام ، الذي يوشك أن ينضج .
وقالت يوكاي : ترى من يكون ؟
وطرق الباب ثانية ، فنهض يوهيرو ، وقال : ابقي أنتِ في مكانك ، سأنظر من يكون .
وفتح يوهيرو الباب ، وفوجىء بالشيخ ساواكي يقف متوكئاً على عكازه ، وقبل أن ينطق يوهيرو بكلمة ، بادره الشيخ ساواكي قائلاً : بنيّ ، لقد قلقتُ عليك .
وقال يوهيرو متردداً : أشكرك .
وتابع الشيخ ساواكي قائلاً : لم أرك منذ أن التقيت بك قرب السوق ، قبل فترة طويلة .
فقال يوهيرو متردداً ، محاولاً تبرير موقفه : كما تعرف ، أيها العم العزيز ، كان الثلج يتساقط ، طوال هذه المدة ، والعاصفة كانت على أشدها .
ونظر الشيخ ساواكي إليه ، وقال : لكن العاصفة توقفت منذ أيام ، والثلج نفسه توقف البارحة ، حقاً أقلقتني ، أنت عزيز عندي ، وجئتُ لأراك ، وأطمئن عليك .
وتنحى يوهيرو عن الباب قليلاً ، وقال : الجو بارد في الخارج ، تفضل ، وارتح قليلاً قرب الموقد .
ودخل الشيخ ساواكي ، وجلس إلى المائدة ، قريباً من الموقد ، ونهضت يوكاي ، ووقفت جانباً ، ومال يوهيرو على الشيخ ، وقال له : ابقَ اليوم عندنا ، وتغدّ معنا .
فضحك الشيخ ساواكي ، وقال : أشكرك ، إن عجوزي طبخت لي اليوم حساء أحبه ، وهي لن تأكل إذا لم آكل معها ، وأنا أريدها أن تأكل .
ولاذ يوهيرو بالصمت ، وصمت الشيخ ساواكي أيضاً ، ثم قال الأخير ، ربما ليكسر الصمت ، الذي خيم عليهما : منذ فترة طويلة ، لم أذهب إلى الغابة ، طبعاً أنا لا أستطيع أن أصطاد ، وإن كنتُ في شبابي صياداً ماهراً ، أصطاد أقوى الغزلان وأجملها .
ورمق يوهيرو يوكاي بنظرة سريعة ، فحدقت في الشيخ ساواكي ، لكنها لم تتفوه بكلمة ، وتابع الشيخ ساواكي قائلاً : أريد منكَ ، يا يوهيرو ، أن تأخذني معكَ إلى الغابة ، إذا خرجت للصيد .
فردّ يوهيرو قائلاً : على الرحب والسعة ، هذا من دواعي سروري ، سنترافق في أقرب فرصة ، ومن يدري ، فقد أصطاد غزالاً ، وأهديك نصفه .
ونهض الشيخ ساواكي ضاحكاً ، وقال : هذا سيفرح عجوزي ، إنها تحب لحم الغزلان .
ثم اتجه نحو الباب ، وهو يقول : يوهيرو ، الجو بارد اليوم ، وقد يتساقط الثلج هذه الليلة ، ابقّ في كوخك ، فهو على ما يبدو ، مريح ودافىء .
ومضى الشيخ ساواكي متوكئاً على عكازه ، وأغلق يوهيرو الباب ، ونظر إلى يوكاي بشيء من الدهشة ، ربما لأن الشيخ ساواكي ، لم ينتبه إليها ، أم أنه لم يرها ؟ لكنه قال : الشيخ ساواكي إنسان طيب ، وقد كان صديقاً لأبي الراحل طوال عمره .
واقتربت يوكاي من الموقد ، وقالت : لقد انتصف النهار ، وآن لنا أن نتناول طعام الغداء .
فقال يوهيرو : كما تشائين .
ونظرت يوكاي إليه ، وقالت : يوهيرو ..
فقال يوهيرو : نعم .
وتابعت يوكاي قائلة : هذه الليلة ، أريد أن أتحدث معك في أمر هام ، يخصنا نحن الاثنين .
ونظر يوهيرو إليها ، وقلبه يخفق قلقاً ، لكنه لم يتفوه بكلمة واحدة .

7
ـــــــــــــ
بعد أن تناولا طعام العشاء ، وقد خيم ليل متجلد في الخارج ، والثلج يتساقط ، وسط أنين الريح ، جلس يوهيرو ويوكاي جنباً إلى جنب أمام الموقد ، الذي كانت ألسنة اللهب تتصاعد قيه ، مشيعة في الكوخ ، عند يوهيرو ، جواً من الدفء والغموض والقلق .
ولاحظت يوكاي ، خلال ذلك النهار ، وخاصة بعد أن قالت له ، بأنها تريد أن تتحدث معه في أمر هام ، أن يوهيرو يبدو قلقاً متوتراً ، حتى وهو مطرق ، أو يصغي إلى حديثها ، دون أن يردّ بكلمة واحدة .
وفي داخله ، ودون أن ينظر إليها ، كان يفكر فيما يمكن أن تتحدث فيه ، وكم خشي أن تتحدث عن رغبتها في مغادرته ، ومواصلة طريقها ، إلى الجهة التي لم تحددها ، أو تعود من حيث أتت .
ورفع يوهيرو عينيه القلقتين ، ونظر إليها ملياً ، لعلها تبدأ الحديث ، فرفعت عينيها هي الأخرى ، ونظرت إليه ، لكنها لم تنبس بكلمة ، فقال : يوكاي ..
وتمتمت يوكاي ، وكأنها تردّ عليه من مكان سحيق : نعم ، يا يوهيرو .
وتابع يوهيرو حديثه قائلاً : قلتِ ظهر اليوم ، أنك تريدين
أن تتحدثي معي في أمر هام هذه الليلة ..
ونظرت يوكاي إليه ، دون أن تتكلم ، فقال يوهيرو : إنني أصغي إليكِ ، يا يوكاي .
واستمرت يوكاي على صمتها برهة ، ثمّ تنهدت ، وقالت بصوت هادىء : في الفترة الأخيرة ، فكرت بأن الأوان قد حان لأن أغادرك ، وأواصل الطريق ..
وخفق قلب يوهيرو توجساً وقلقاً ، وقال بصوت مضطرب : لا تقولي هذا ، يا يوكي .
ولاذت يوكي بالصمت ، فنظر يوهيرو إليها ، وقال : أرجو أن لا يكون قد بدر مني ما عكرك ، أو أزعجكِ ، وهذا ما لن أغفره لنفسي أبداً .
وسارعت يوكي قائلة : لا يا يوهيرو ، أنت المثال ، الذي تحلم به أية بنت .
وتساءل يوهيرو حائراً : ما الداعي إذن ، لتفكري فيم تفكرين فيه ، يا يوكي .
ولاذت يوكي بالصمت لحظة ، ثم قالت : قدري أن أسير حياتي كلها ، في الثلوج ، والعواصف ، والأخطار ، لكن اطمئن ، لقد حدث ما أرجأ هذا القدر .
ونظر يوهيرو إليها حائراً ، وقال : يوكي ..
فقالت يوكي بصوت متعب بعض الشيء : إنني حامل .. يا يوهيرو ..
وتمتم يوهيرو مذهولاً : حامل !
فتابعت يوكي قائلة : سيكون لنا طفلة .
وتمتم ثانية بذهول أشد : طفلة !
وتفتحت ابتسامة شاحبة على شفتيها ، وقالت : وستكون كالقمر والثلج .
وحدقت يوكي فيه ، وقالت :يوهيرو ..
وردّ يوهيرو : نعم ، يا يوكي .
فتابعت يوكي قائلة : إنها ابنتي ، يا يوهيرو ، وستكون وديعة عندك ، وأريد أن تحسن التعامل معها .
ونهض يوهيرو ، ومدّ يديه ، وأنهض يوكي ، وقال : تعالي ، يا يوكي ، أنتِ تحملين طفلتنا ، تعالي وتمددي في الفراش ، ومنذ اليوم سأعمل أنا في هذا الكوخ ، من أجلكِ ومن أجل طفلتنا الثلج والقمر .
وتمددت يوكي في الفراش ، مغالبة ضحكها بصوت متعب ، ودثرها يوهيرو جيداً ، وقال : إنني إلى جانبكما ، أنتِ وطفلتنا ، وسأكون في عونكما حتى النهاية .
وابتسمت يوكي متعبة ، فمدّ يوهيرو يده ، وراح يمسد شعرها الذهبيّ ، وقال بصوت فرح : ماذا سنسمي ابنتا ، المنتظرة ، يا يوكي ؟
وردت يوكي قائلة بصوتها المتعب : وماذا يمكن أن تُسمى ابنتنا القمر ، يا يوهيرو ؟
وقال يوهيرو : قمر .
فأغمضت يوكي عينيها ، وقالت : لتكن إذن .. قمر .

8
ـــــــــــــ
مثلما يولد القمر في السماء هلالاً ، ثمّ ينمو يوماً بعد يوم ، في طريقه إلى التشكل والاكتمال ، لاحتْ قمر ليوكاي ، وهي تتشكل وتنمو في سماء رحمها ، لتصير في الموعد المحدد .. القمر الموعود .
وعلى ما وعدها يوهيرو ، لم تقم يوكاي بأي عمل داخل الكوخ ، إلا التمشي في فضائه الدافىء الآمن ، أو الجلوس أمام المائدة لتتناول الطعام معه ، وإن كانت تتناول معظم وجبات الطعام في الفراش .
وطالما حثها يوهيرو ، أثناء تناولها للطعام ، في أي وقت من الأوقات ، قائلاً لها : كلي ، يا يوكاي ، كلي ، كلي مضاعفاً ، فأنت لا تأكلين لنفسكِ فقط ، وإنما تأكلين لابنتنا قمر أيضاً .
ولم يكن يوهيو يغادر الكوخ ، والابتعاد عن يوكاي ، إلا للضرورة القصوى ، وعلى العكس ، كانت يوكاي تحثه على الخروج من الكوخ ، وزيارة بعض الأصدقاء المقربين ، ورؤية العالم ، فيقول لها مازحاً : ما حاجتي إلى العالم ، يا يوكاي ، أنتِ عالمي .
وذات أمسية ، زاره الشيخ ساواكي ، ودعاه يوهيرو إلى داخل الكوخ ، وأجلسه إلى المائدة ، قريباً من الموقد ، ويوكاي راقدة في فراشها .
ونظر الشيخ ساواكي إلى يوهيرو ، وقال له : الجو صحو ومعتدل هذه الأيام ، ما رأيك أن نذهب غداً إلى الغابة ، لعلك تصطاد لنا غزالة .
ورمق يوهيرو يوكاي بنظرة خاطفة ، ثم قال للشيخ ساواكي : لقد وعدتك أن نذهب ذات يوم إلى الغابة ، وأنا عند وعدي ، وهذا أمر يفرحني ، لكني هذه الأيام بالذات ، مشغول بعض الشيء ، وحالما تتاح لي الفرصة ، سأمرّ عليك ، ونذهب معاً إلى الغابة .
وحدق الشيخ ساواكي فيه ، ثم قال : مشغول ! آه .. لقد قلقت عليك ، وسألني عنك أكثر من صديق ، إنّ أحداً لم يعد يراك خارج الكوخ ، يا يوهيرو .
وحاول يوهيرو أن يبتسم ، وهو يتبادل النظر مع يوكاي ، وقال : اطمئن ، أيها العم العزيز ، إنني بخير كما ترى ، وقل للأصدقاء إنهم سيرونني قريباً ، حالما أنتهي من بعض مشاغلي الهامة .
وصمت يوهيرو ، وأطرق رأسه ، ومعه صمت الشيخ ساواكي ، وبعد قليل تحامل ساواكا على شيخوخته ، ونهض متوكئاً على عكازه ، وقال : يجب أن أذهب الآن ، مازال الظلام يهبط مبكراً ، لابدّ أن عجوزي المسكينة تنتظرني ، وقد أشعلت النار في الموقد .
وبعد أن غادرا الكوخ ، توقف الشيخ ساواكي ، وحدق في يوهيرو ، وقال : بنيّ ، أنت تعرف مكانتك عندي ، صارحني ، إذا كان هناك ما يشغلك ، وتعاني منه .
وربت يوهيرو على كتف الشيخ ساواكي مبتسماً ، وقال له : لا .. لا .. اطمئن ، صدقني إنني بخير ، وسأزورك في أقرب فرصة ، لنذهب معاً إلى الغابة .
ووقف الشيخ ساواكي متردداً ، ثمّ هزّ رأسه ، ومضى متوكئاً على عكازه ، وهو يقول : أتمنى أن تكون بخير فعلاً ، فأنت بمثابة ابني .
وأغلق يوهيرو باب الكوخ ، وعاد إلى الجلوس قرب يوكاي ، دون أن يتفوه بكلمة واحدة ، وتطلعت يوكاي إليه ، وقالت : تأخرت مع الشيخ في الخارج .
فنظر يوهيرو إليها ، وقال : أنت تعرفين الشيخ ساواكي ، والحقيقة إنه قلق عليّ .
وقالت يوكاي : لقد طلبت منكَ مراراً ، أن تخرج من الكوخ ، بين فترة وأخرى ، وتزور بعض أصدقائك ، ومنهم الشيخ ساواكي بالذات .
ولاذ يوهيرو بالصمت ، ثم مدّ يده ، وراح يتحسس بطن يوكاي المرتفعة ، ويداعبها ، ثم قال : يوكاي ، لن أتركك وحدك في الكوخ .
وابتسمت يوكاي ابتسامتها الشاحبة الضعيفة ، وقالت : لستُ وحدي ، قمر معي .
وابتسم يوهيرو بدوره ، وقال : وهذا ما يجعلني أبقى في الكوخ ، ولا أغادره .
ثمّ أحنى رأسه ، ووضع وجهه على بطنها المرتفعة ، وقال : قمر ، حبيبتي ، أظنّ أنكِ اكتملتِ ، تعالي ، أطلي عليّ ، إنني أنتظركِ .
وضحكت يوكاي ، وقد بدا عليها التعب ، لكن سرعان ما شهقت متوجعة ، وتمتمت مستغيثة : يوهيرو ..
ومال يوهيرو عليها ، وقال : يوكاي ...
فقالت يوكاي وهي تتألم : يبدو أن القمر ، يريد أن يغادر سماءه ، ويطل عليك .
واعتدل يوهيرو ، وقال : أهلاً بالقمر .
ونظر إلى يوكاي ، وقال لها : إذا اشتدّ عليكِ الألم ، سأذهب إلى قابلة نساء القرية العجوز ، و ..
وقاطعته يوكاي ، متمتمة : لا ..
وحدقت فيه معاتبة ، فصمت لحظة ، ثم نهض ، وهو يقول : لابدّ أنك جائعة الآن ، سأعد لك بعض الحساء ، فأنت بحاجة إلى طعام .

9
ـــــــــــــــ
أغفت يوكاي مع أول الليل ، بعد أن تناولت قليلاً من الحساء ، تحت إلحاح يوهيرو ، الذي جلس قرب الموقد ، ولم يغمض له جفن ، فقد كانت يوكاي تتململ في نومها ، ويصدر عنها أنين خافت متوجع .
وتراءت له أمه ، على مقربة من الباب ، وقالت له : بنيّ يوهيري .. ستطل قمر ..
وعلى غير المتوقع ، لم تكن أمه فرحة ، يا أمي ، أنا فرح مادام القمر سيطل قريباً ، فلماذا لا تفرحين أنت ؟ آه منك ، انظري ، إن غزالتي نائمة ، وبعد حين ، وكما قلتِ أنتِ ، ستطل قمر ، وتملأ حياتنا بالأنوار ، والأفراح ، و ..
وانقلبت يوكاي على جنبها بصعوبة ، وهي تئن متوجعة ، يا ليوكاي ، قبل أن تغفو ، قال لها يوهيرو مازحاً : نامي ، وقولي للقمر أن تنام أيضاً .
وردت يوكاي بصوت ناعس متوجع : هذه القمر ، ستوقظني في الليل ، على ما يبدو .
وتحقق ما توقعته يوكاي ، فقد فزّت مستيقظة عند حوالي منتصف الليل ، على ألم شديد ، لم تحس بمثله من قبل ، وما إن فتحت عينيها ، وهي تتأوه ، وتتوجع ، حتى أسرع يوهيرو إليها ، وقال مغالباً قلقه : حان الموعد ، فلأذهب إلى القابلة العجوز .
ومدتْ يوكاي يدها ، وأمسكت يده ، وحدقت فيه معاتبة ، ثم قالت : يوهيرو ، قلتُ لك لا أريد قابلة ، ولا أي امرأة أخرى ، ستهل قمر ، اطمئن .
وربت يوهيرو على يدها ، وهو حائر قلق ، وقال : يوكاي ، ماذا تريدينني أن أفعل ؟ إنني لا أستطيع أن أراكِ تتألمين هكذا .
وهدأت يوكاي بعض الشيء ، وبدا أن الأم قد خفّ ، ولو إلى حين ، ونظرت إلى يوهيرو ، وقالت مبتسمة بصوت متعب : تقول أمي ، إن الرجل يتألم ، حينما تضع زوجته ، أكثر من الزوجة نفسها .
وصمتت لحظة ، ثم قالت : سيعود الألم بعد قليل ، ولابد أنه سيشتد ، آه .. قمر .
وضمّ يوهيرو يدها بين يديه ، وقال : جدتي ولدت أحد عشر ولداً ..
وقالت يوكاي مندهشة : أحد عشر .. !
وتابع يوهيرو قائلاً : وعند كلّ ولادة ، تقسم أن لا تحمل مرة أخرى ، لكنها سرعان ما تنسى قسمها ، وتحمل مرة أخرى .. وأخرى .. وأخرى .
وابتسم يوكاي ، وقالت بصوتها المتعب المتوجع : لن أقسم .. يا يوهيرو .. أنا أعرف .. أنني لن أحمل ثانية .. ليس بعد قمر .. قمر آخر .
وقبل أن يقول يوهيرو أي شيء ، شهق عندما شهقت يوكاي متوجعة ، وبدا كما لو أن أنفاسها تضيق ، وتحتبس في صدرها ، وهمّ أن ينهض ، وإن كان لا يعرف ، ما الذي عليه أن يفعل ، لكن يوكاي تشبثت بيده ، وقالت بصوت متوجع : لا تذهب ، يا يوهيرو ، سيتراجع الألم بعد قليل ، لم يحن الأوان بعد .
وتراجع الألم بعد قليل فعلاً ، ونظر يوهيرو إلى يوكي قلقاً ، ومسح العرق برفق عن وجهها ، الذي بدا مرهقاً جداً ، وحدقت يوكاي فيه ، وقالت : يوهيرو ..
ومال يوهيرو عليها ، وقال : نعم .
وتابعت يوكاي قائلة ، وهي مازالت تحدق فيه : أنت تعرف يوكاي ..
وهزّ يوهيرو رأسه ، وقل : نعم .
وثانية تابعت يوكاي قائلة : خلال هذه الفترة ، التي قضيناها وحدنا في هذا الكوخ ..
وصمتت لحظة ، ثم قالت بصوتها المتعب : وهي أسعد فترة قضيتها في حياتي ..
وتقلصت ملامحها ، وبدا وكأن موجة جديدة من الألم ستهاجمها ، لكنها تماسكت ، وقالت : توقعت أن تحكي عنها ، عن يوكاي التي تعرفها ، والتي أعرف أنك تعرفها جيداً ، ليس الآن فقط ، وإنما منذ مدة ، لم تحكِ لأحد ، بل لم تحكِ لي أنا نفسي ، وإن كانت عيناك حكت وتحكي الكثير والكثير ..
وصمتت ، وقد بدا عليها بوادر موجة أخرى من الألم ، لكنها رغم ذلك ، نظرت إلى يوهيرو ، وقالت : وبدل أن تحكي أنت ، وهذا ما حذرتك منه ، وأنت تدري أين ومتى ، حكيت أنا .. آآآي ي ي .
وشهقت مرة أخرى ، شهقة طوية موجعة ، وراحت تتلوى وتتأوه ، وهي تتابع كلامها قائلة بصوت متعب مضطرب لا يكاد يُفهم : لو أنك أخطأت ، وحكيت ما جرى ، حتى لو حكيته لي ، لذبت أنا والقمر ، كما يذوب الثلج إذا مسه لسان من النار .
وهاجمها الألم بصورة أشد ، فراحت تتأوه وتطلق صرخات متوجعة مستغيثة ، فهبَ من مكانه لا يدري ماذا يفعل ، وتلفت حوله ، وهو يتمتم متألماً .. مستغيثاً : أمي .. أمي .. أمي .
لكن أمه ، ويا للغرابة ، لم تحضره في هذه اللحظة الحرجة ، ووجد نفسه ينطلق إلى خارج الكوخ ، وهو يتمتم حائراً : لم أعد أحتمل ، سأخسر يوكاي ، وأخسر معها قمر ، فلأذهب إلى القابلة .
ومضى في الليل والعتمة ، يضرب في الطريق وحده ، والسماء فوقه معتمة ، لا تتغامز في فضائها الأعمى نجمة واحدة ، ووصل إلى بيت القابلة العجوز ، وهمّ أن يطرق الباب ، لكنه توقف ، وتراءى له أنه يسمع ما يشبه صوت يوكاي ، تخاطبه قائلة : يوهيرو .. لا تطرق الباب .. تعال .. هناك من ينتظركَ .
وتراجع يوهيرو ، دون أن يطرق الباب ، وماذا لو طرقه ، وخرجت القابلة العجوز إليه ؟ ماذا سيقول لها ؟ إن الشيخ ساواكي ، زاره مرتين ، وجلس في الكوخ بحضورها فترة ليست قصيرة ، لكنه لم بنتبه إليها ، أو بالأحرى لم يرها ، فكيف يمكن أن تولد القابلة العجوز ، امرأة لا تراها ؟
وعند باب كوخه ، والليل قاتم ، لا نجمة فيه ، صامت ، توقف يوهيرو مذهولاً ، يداخله فرح غامض ، فقد تناهى إليه من الداخل ، صراخ طفل حديث الولادة .
وعلى الفور ، دفع باب الكوخ ، ومضى إلى الداخل ، متمتماً بفرح : يوكاي .. يوكاي .. القمر أطل أخيراً .. يا عزيزتي يوكاي ..
وتوقف يوهيرو مصعوقاً ، فلا يوكاي في الفراش ، ولا في أي مكان آخر من الكوخ ، ولم يرَ في مكانها غير طفلة تصرخ ، وقد ُلفتْ بقماط يشبه ثياب يوكاي ، التي رآها ترتديها ، في كوخ الغابة ، فمدّ يديه ، وحمل الطفلة ، وعيناه تغرقان بالموع ، وهو يتمتم : يوكاي .. يوكاي .

17 / 9 / 2020








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تسجيل سابق للأمير الشاعر بدر بن عبد المحسن يلقي فيه أبيات من


.. الفنانة غادة عبد الرازق العيدية وكحك العيد وحشونى وبحن لذكري




.. خلال مشهد من -نيللى وشريهان-.. ظهور خاص للفنانة هند صبرى واب


.. حزن على مواقع التواصل بعد رحيل الأمير الشاعر بدر بن عبدالمحس




.. بحضور شيوخ الأزهر والفنانين.. احتفال الكنيسة الإنجيليّة بعيد