الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


هل التعدّد المذهبي والطائفي والثقافي هو سبب تخلّف العرب؟

عزالدين بوغانمي
(Boughanmi Ezdine)

2023 / 4 / 13
مواضيع وابحاث سياسية


لا يوجد مجتمع على الاطلاق اليوم على وجه الارض غير مكون من جماعات متعدّدة دينية وعقائديّة وقومية. وحتى داخل الاديان نفسها هنالك جماعات متعددة. ولعل أفظع الحروب التي حدثت في التاريخ هي الحروب الدينية التي انفجرت في قلب المسيحية بين حركه البروتستانت والكاثوليك. وجزء من تلك الصراعات التي لفظتها أروبا خارج حدودها كان وراء ولادة الولايات المتحدة الأمريكية. وليس هنالك اليوم مجتمع مكون من عرق إتني واحد ومن ثقافه واحده ومن لغه واحده ومن مذهب واحد لأن التنوع هو سمة من سمات الحياه وسمات المجتمعات الانسانية.
لماذا؟
لأن كل الدول السلطانية والامبراطوريه القديمة حيث لا دخل للنّاس في أمور السياسة، وحيث كان الحاكم الوحيد ملك أو قيصر أو سلطان مطلق الصلاحيات، يفرض سيطرته على مناطق شاسعة من الأرض حسب قوته العسكرية وقدرته على التوسّع الجغرافي، هي بالضرورة امبراطوريات متعددة السكان، وبالتاكيد ليس لهم نفس الثقافة ولا نفس الدين ولا نفس اللغة ولا نفس العادات ولا نفس المذهب ولا نفس القيم. بمعنى أنّ التعدّد ليس سمة من سمات العرب، بل كل الدول الامبراطورية التاريخيه تكونت من مجموعات عرقيه متعدد. ولمّا انتهى زمن الامبراطوريات وولدت الدولة الحديثة، وورثت جزءً من أرض الامبراطورية، فكان من الطبيعي أن ترث معها التعدد البشري الثقافي والعرقي. في ذات السياق، لدينا أهم دولة في التاريخ الحديث أطلقت أكبر ثورة سياسية كونية وتمسكت بفكرة الدولة القومية ووحدة سكانها هي فرنسا، التي تتعايش فيها اليوم سبعة شعوب على الأقل: غاليين، وشعوب مائل، وجرمان، والقوط الغربيين، والسويبيون، والبورغندين، والنورماند، والكورسيك. علاوة على وجود أقليات عرقية إقليمية لها سلالات ولغات وثقافات متميزة مثل البروتون، والأوكسيتان، والباسك، والكتالون، والألزاس ... وعلى كل حال فرنسا منذ فترة طويلة ظلت خليطًا من العادات والتقاليد واللهجات. هذا بالإضافة إلى الهجرات الحديثة الواسعة والمتنوعة، إذ تتألف من الطليان، والبرتغال، والاسبان، والعرب، واليهود، والأفارقة، والصينيون، والهنود، والشعوب الأخرى من أمريكا اللاتينية، والشرق الأوسط، وشرق آسيا. بصفة عامة كل الدول الحديثة قائمة على التنوع، ببساطة لأن الدول القديمة، لقرون طويلة، ضمت جماعات مختلفة ومتنوعة بتنوع الحياة والأعراق واللغات والديانات. ولقرون طويلة كان القصر أو المخزن الذي هو مؤسسة الدولة يهتم بشؤون الحرب وجمع الضرائب والتنظيم العام للامن. أما الجماعات المتنوعة فلقد كان لها وُجهاء محلّيون، ودُعاة، ورجال دين يديرون شؤون المجتمع حسب المذهب أو العشيرة أو القومية. هكذا كان الشكل الرئيسي لتنظيم المجتمع ضمن قواعد وقيم تعايش موروثة منذ قرون.

لِتفسير وضع الخراب الذي تمرّ به المنطقة العربية، وعجز دولها، بعد مئة عام من ولادتها، على أن تكون دول قانون توحد سكانها وتبني الديمقراطية والتنمية وتساعد شعوبها على الانخراط في العصر بثقة، مثلما هو حال كلّ أمم الأرض، تذهب بعض الآراء العنصرية في الغرب على وجه الخصوص، وحتى في بلادنا العربية على أن الأسباب تعود أساسًا إلى طبيعة الدين الإسلامي وإلى الانقسام الطائفي والعرقي.
فهل منع الإسلام والانقسام المجتمعات العربيه من أن تبني دولا حديثة؟
وهل الدولة الحديثة مُضادة للإسلام ولا تُبنى على الانقسام المذهبي والعرقي؟

الجواب، قطعًا لا. لأن الدولة الحديثة عندما ولدت في المهد الأروبي لم تُلغ الأديان ولم تُحارب المذاهب ولا الأقلّيات. ولم تكن دولة ديانة على حساب ديانة أخرى، ولا هي دولة مذهب أو أقلية ثقافية على حساب بقية المكوّنات. إنما كان هدفها بناء رابطة سياسية جديدة فوق رابطة العقيدة والطائفة والجهة والعائلة. يعني أن الفرد عنده معتقد ديني، وعنده طائفة وقبيلة وعائلة، ولكن أيضا له وطن يقع فوق الانتماء الطائفي والعقائدي والقبلي الضيّق. أي إضافة إلى دوائر الانتماء التقليدية الصغيرة التي كانت سائدة في العهود الامبراطورية، هنالك رابطة أخرى جديدة أوسع هي الرابطة الوطنية. فأنا أختلف معك في المذهب وأختلف معك في العقيدة. ولكن نحن منتمون إلى شيء آخر إسمه الوطن أو الأمة بقطع النظر عن أصلي العرقي وأصلك الديني. وفي هذه الرابطة الجديدة عندنا نفس الحقوق ونفس الواجبات على قاعدة دستور اتفقنا على صياغته، وقوانين تضمن حقوقنا الجماعية والفردية دون اعتبار العقيدة والأصل والجنس ولون البُشرة والموقع الاجتماعي.

نحن في تونس، لظروف خاصة وعوامل محيطية، سبقنا الجميع من خلال دستور عهد الأمان (1861) الذي ضمن حقوق الأجانب والأقليات ومنع العبودية قبل الأمريكان والفرنسيين والأتراك.
في مصر أيضا وفي دول المشرق العربي التي نشأت مباشرة بعد السقوط المضموني للخلافة العثمانية، بموجب اتفاقية سايكس بيكو، مثل دولة سوريا ودولة العراق ودولة لبنان، كان شعار الدولة في نسختها الأولى قبل أن يتمّ اختطافها وتشويهها: "الدين لله والوطن للجميع". بمعنى أنها توجِب احترام معتقدات الناس وخصوصياتهم الثقافية وعاداتهم، ولكن في مستوى علاقتهم بالدولة، كلهم مواطنون متساوون.الوطن للجميع يعني أن الدولة بوصفها دولة الجميع ستعامل مواطنيها على قدم المساواة، وتكفل حقوقهم الفردية، وحقوقهم الجماعية أيضا. وليست أبدا بديلا على معتقداتهم، ولا هي بديل على القبيلة. إنها ببساطة رابطة جديدة مختلفة تماما، وأكثر أهمية من جهة كونها تجعل اختلافاتنا ثراءً وتفتح باب التعاون الجماعي على مواجهة قضايا التنمية والتعليم والصحة، وتخلق فرص عمل أوسع، وترفع من مستوى عيش الفرد، وتعطيه مكانة أعلى. وبهذا المعنى لا تعود هنالك أهمية كبرى لإصرار الفرد على تعريف نفسه على أنه شيعي أو سُنّي أو دُرزي أو بربري طالما هو يتمتع بحقوق المواطنة التي تتضمن حقه كاملا في ممارسة شعائره الدينية وتكلم لغته ونحو ذلك من الحقوق المكفولة بالقانون. فالأهمّ من ذلك والأكثر منفعة، هو الحق في المشاركة في القرار السياسي الذي يهمّ مصير المجتمع برُمته وبجميع مُكوّناته. وهذا الامتياز المواطني لم يفتكّه الفرد على حساب الإسلام أو من ذلك المُكوّن أو من تلك العشيرة، بل هو امتياز إضافي يُطوّر حياته ويوسّع آفاقه ويصون حرّيته. وهذا ما يُعزّز الشعور بالوطنية وفخر الانتماء إلى هذه المؤسّسة الجديدة التي تفرض الإيخاء والتعاون والتعايش والسلم الأهلي.

بناء على ما سبق، لا يشكّل التعدّد عائقًا أمام بناء الدولة الحديثة، طالما كلّ الشعوب على وجه البسيطة تحتوي انقسامات. وحتى بقلب الدين الواحد والمذهب الواحد والطائفة الواحدة، وأحيانا المدينة الواحدة توجد انقسامات موروثة عن المجتمعات القديمة. وقد أثبتت تجارب التاريخ أنّ الدولة الحديثة لعبت دورا جوهريا وغير مسبوق في الارتقاء بحياة البشرية من خلال تنمية الموارد ونشر العلم والتغلب على الأوبئة وتطوير القوانين. ومن خلال تثببتها لعلاقه جديدة بين الأفراد على أساس المشترك القائم على التعاون فيما بينهم لتنظيم شؤون حياتهم والارتقاء بشروط وجودهم الانساني. وما كان لهذه الدولة أن تستمر وتتوسع لولا أنها أثبتت قدرتها على تحويل قيمة المساواة في الحقوق والواجبات إلى واقع. وجعل الرّفع من شروط حياة السكان البرنامج الرّئيسي على جدول أعمالها. هنا بدأت الجماعات المختلفة تشعر أن هنالك مكاسب كبرى جديده تحققت بالانتماء للدوله الحديثة. فهذا الارتقاء في حياة الناس، وهذه المكاسب المادية والاجتماعية والسياسية هي التي شكّلت قاعدة التعايش والبناء المتين لتحقيق الإجماع الداخلي على القضايا الاستراتيجية المتعلقة بالموارد والتنمية وقواعد النظام السياسي والأمن والعلاقة بالجوار وبالعالم... هذه القضايا التي بِحسم الإجماع الداخلي حولها قامت الدول الأروبية الحديثة واستقرّت مجتمعاتها. وبالتدريج، ومع تراكم المكاسب المادية والمعنوية، وتعمّق الرّابطة الوطنية، بدأت الانتماءات القديمة الضيّقة تتضاءل أهميّتها. وبدأت العصبيات تتلاشى. وما عاد الفرد يهمّه كثيرا من أيّ عِرق انحدر، ولا إلى أي طائفة ينتمي أبواه، بقدر ما صار يهمّه انتماءه للوطن، لفرنسا، لانقلترا لسويسرا ... حيث هذا الانتماء الأرحب يحسّن شروط حياته، ويفتح له افاق مادية ومعنوية وفكرية وثقافية، وما عاد له أية منفعة في التمسك بتقديم هويته الصغيرة على هويته الوطنية التي جعلته أكبر وأهمّ.

إذا كان هذا هو الجوهر الفلسفي للدولة الحديثة. وهذه هي رسالتها الأخلاقية ووظيفتها التاريخية. فلماذا عجز العرب على بناء دولة حديثة توحّد السكان وتحسم الإجماع الداخلي حول قضاياها المصيرية؟
وكيف تحولت الدولة العربية الحديثة إلى أداة لتقسيم المجتمع بدل توحيده؟
ولماذا فشل العرب حيث نجحت الشعوب في الغرب في تجاوز انقساماتها وبناء دولة مواطنين؟

في رأيي هنالك أسباب مباشرة مرتبطة بلحظة ولادة الدولة وبأحداث بداية القرن العشرين. وهنالك أسباب أخرى أعمق، ولها جذور بعيدة نسبيا.

الأسباب المباشرة: الإشكالية الأولى هي أنّ مُعظم هذه الكيانات أُنشئت على إثر تقسيم استعماري للمنطقة بموجب اتفاقية "سايكس-بيكو". وهذا التقسيم نتجت عنه سلسلة من الأعطاب والعاهات في بنية هذه الدولة:

١/ التمزيق العشوائي للجغرافيا وللديمغرافيا الطبيعية لهذا المجال تمّ خارج إرادة الشعوب، فالسكان لم يشاركوا بتاتا لا في خيار التحديث، ولا في خيار إنشاء دولة سوريا، ودولة الأردن، ودولة العراق، ودولة لبنان،،، ولا في انفصال السودان على مصر ولا في ضمّ نجد للحجاز، إنما وُلدت كل هذه الدول بقرار بريطاني فرنسي.

٢/ قيام حدود قسرية وغير طبيعية بين هذه الكيانات، نتج عنه تقسيم قبائل وأُسَر تعيش منذ قرون في نفس المكان بين دولتين أو ثلاثة. ونتيجة للتوتّرات المستمرة وغلق الحدود بين معظم هذه البلدان تفكّكت الرّوابط الإنسانية بين هذه الأُسر والعشائر، وهذا أدّى إلى توتّرات على الحدود بين هذه الكيانات، وإلى حروب ومآسي إنسانية، واستنزاف وهدر مادي وبشري مستمرين.

٣/ بعض الولايات والأقضية كانت لقرون مراكز عمرانية ومعابر تجارية كبرى، ولها موارد زراعية وبشرية في علاقة بتضاريسها ومناخها وامتداداتها الجبلية والنهرية، وبالتالي لها أنظمة اقتصادية وثقافية، تمّ تكسيرها وتقطيع أوصالها وتحويلها إلى مناطق ظلّ معطوبة وفقيرة. ولتسهيل فهم هذه القضية، نعطي مثال حلب قبل 1916 كانت ثالث مدينة بعد اسطنبول والقاهرة. وكولاية عثمانية كان لها منفذ على المتوسط شمال رأس البسيط، وتمتد من حدود الأناضول لتشمل لواء الاسكندرونة وأنطاكية وحلب ومعرة النعمان ومرعش وغازي عنتاب والموصل وصولا إلى الرقّة. وبموجب اتفاقية لوزان تم ادخال بعض التعديلات على تقسيم سايكس بيكو، فسُلخت أغلب مناطقها وضُمّت إلى تركيا في مرحلة أولى، ولاحقا زادوها لواء الاسكندرونة عام 1939 كرشوة مقابل بقاءها في الحياد حتى لا تدخل الحرب إلى جانب المحور مثلما كان الحال في الحرب العالمية الأولى. وبالنتيجة صارت حلب الجمهورية السّورية منطقة صغيرة أصغر من عُشر حلب التاريخية.

٤/ بسبب التقسيم العشوائي وُلدت أغلب هذه الدول فقيرة، بلا مقدّرات، شحيحة الموارد، وبالتالي ليس لها مقوّمات الدولة، ولهذه الأسباب ظلت عاجزة عن تلبية حاجيات الناس المادية، وهذا أدّى إلى تكرّر الانتفاضات والنزاعات وعدم الاستقرار داخل هذه الدول، وخارجها، أي مع جيرانها.

٥/ الخلل الكبير الحاصل بين الموارد وعدد السكان. بحيث هنالك دول عدد سكانها كبير ومواردها ضعيفة جدا. وأخرى مساحتها ومواردها كبيرة جدا وعدد سكانها صغير جدا مثل ليبيا والسعودية ...هذه العاهات خلقت عدد لا يُحصى ولا يُعد من الحروب بين هذه الكيانات بسبب الحدود وبسبب سوء إدارة التعدد واحتواء الأقليات المذهبية والعرقية، وفي مراحل أخرى بسبب الموقف من الوحدة ومن الاستعمار ومن الوُجود الصهيوني. ولقد شهد القرن العشرين حروبا وتوترات متفاوتة الحدّة، ولا تُحصى ولا تُعد:
* حرب بين الجزائر والمغرب حول قضية الصحراء الغربية التي استنزفت البلدين وعطلت الاندماج بين دول المغرب العربي.
* حرب بين ليبيا ومصر وصلت حدود العمل العسكري والقصف وقطع العلاقات لسنوات طويلة.
* حرب بين مصر والسعودية بداية الستينات في اليمن.
*حربان بين السعودية وأبو ظبي.
*حرب كبرى اندلعت بين السعودية واليمن في الثلاثينات وانتهت على إثر وساطة الحاج أمين الحسيني وشكيب أرسلان. وبموجب تلك الوساطة ضمت السعودية مناطق نجران وجنوب عسير التي لازال اليمنيون يعتبرونها منتزعة منهم.
*حرب بين العراق والكويت مازالت المنطقة تعاني آثارها إذ أدت إلى عودة القواعد الأجنبية، وتداعيات أخرى كبرى ..
* حرب بين الأردن والسعودية.
*توتّر شديد بين تونس وليبيا حول الجرف القارّي.
* توتر بين العراق وسوريا تجاوز نصف قرن.
*توترات بين المغرب وموريطانيا دامت سنوات طويلة ولم تنتهِ الا في السنوات الأخيرة.
*توتّر وعمليات مسلحة بين سوريا ولبنان، أدت إلى نوع من الوصاية الأقرب الى الاحتلال..

الإشكالية الثانية، هي أن هذه الدول بلا استثناء حكمتها أقليات. بحيث شكّلت الأقليات الورقة الأكثر أهمية بيد الاستعمار لمواصلة السيطرة على المنطقة بعد استقلال بلدانها. هذه الأقليات كانت طائفية أحيانا. فعلى سبيل المثال بسبب التركيب الخاص الذي قامت به فرنسا لإعطاء الأولوية للأقليات، تمكنت أقلية مهمّشة منذ قرون اسمها العلويين من الاستيلاء على الحكم. وأحيانا كانت أقلية دينية/ طائفية مثلما حدث في لبنان، حيث أعطت فرنسا الأولوية للمسيحيين، وداخل المسيحيبن أعطت الأولوية الأكبر للطائفة المارونية. وفي عدة دول كانت أقلية اجتماعية من خلال وضع السلطة والحكم بيد أبناء أعيان المدن الذين تلقوا تعليما حديثا في المدارس الغربية خلال فترة الاستعمار. وفي وقت لاحق ستكون هذه الأقليات فئوية من خلال جعل الحكم بيد ضباط العسكر. فمنذ الانقلاب العسكري الأول الذي قاده بكر صدقي في العراق سنة 1936، دخلت بلدان عديدة في مرحلة حكم العسكر، واستمرت هذه الفئة الأقلية في السلطة في بعض البلدان إلى اليوم. وليس أدلّ على ذلك ما حدث في مصر بلد الثقل الرئيسي سنة 2013...

هذا العطب الكبير الذي رافق الدولة العربية من اللحظة الأولى، هو أخطر الأعطاب على الإطلاق. ذلك أنّ رموز هذه الأقليات التي شكّلت الطبقة الحاكمة يعرفون أنهم أقلية. وواعون بأنهم وصلوا إلى الحكم دون انتخابات وبدون شرعية شعبية. وهذا فاقم شعورهم بالتهديد. وكان ذلك السّبب الرئيسي في تغوّل الدولة وتضخّم الأجهزة الأمنية، وبالتّدريج صار النصيب الأعظم من الموارد يُنفق على المخابرات والأجهزة القمعية وعلى أركان النظام وأعوانه على حساب وزارات التنمية والتعليم والصحة والسكن والمواصلات والتموين ... وتغوّل الدولة تمظهر في عدّة أشكال، وتسبّب في عديد الإشكالات الفرعية التي ميّزت الطبيعة الاستبدادية للدولة:
أ/ منع نشوء مُعادل مدني لسلطة الدولة العربية على خلاف المعادل المدني الذي تشكّل في مواجهة الدولة الحديثة منذ نشأتها في أروبا في منتصف القرن السابع عشر. وهنا يكمن الفارق الجوهري. فالدولة الأروبية في بداياتها كانت دولة البرجوازية الصاعدة ذات الطموح، وذات المصلحة في توحيد السكان وتوحيد السوق. لذلك بدأت ليبيرالية، ثم توسعت بالتدريج في اتجاه إدماج مواطنيها في الدورة الاقتصادية، وكان ذلك الأساس المادي للمشاركة السياسية، وتحوّل الفضاء الأروبي إلى فضاء ديمقراطي ساعد على حماية المجتمع المدني وولادة الأحزاب المعارضة والنقابات والجمعيات الأهلية،،، بحيث شكّلت هذه الهيئات الأهلية والقطاعية مُعادلا مدنيا للدولة، يحدّ من سطوتها ونفوذها ويمنع تغوّلها. وينظم حركات جماهيرية ومظاهرات احتجاج، ويفرض إصلاحات، ويعترض على سياسات، ويُسقط حكومات ... الخ. أما في تجربة الدولة العربية الحديثة، فالطبقة الحاكمة المذعورة، لم يكن بوسعها الحفاظ على السلطة، دون ضرب مساحات الحرية التي تسمح بتطور المجتمع المدني، وإن صادف ووُجد مجتمع مدني فلا قيمة له، طالما الطبقة الحاكمة ستعمل بكل الوسائل لإلحاقه وتحويله إلى جهاز مخابرات تابع لها.
ب/ في الدولة الحديثة في مهدها الأروبي، كان هنالك دائما مساحة كافية وآمنة بين الطبقة الحاكمة وجهاز الإدارة البيروقراطي. بمعنى أن الإدارة صحيح تُنفّذ سياسات الحكومة المنتخبة لمدة محدّدة. ولكنها جهاز قارّ له قوانين وصلاحيات، وله مواريث، ووظيفته ليست فقط تنفيذ سياسات الحكومة، بل أيضا عقلنة هذه السياسات. بحيث ليست خاضعة بشكل مطلق للحاكم المنتخب، ولا تسمح له بأن يتصرّف خارج القانون أو خارج إمكانيات الدولة ومصالحها. ومع الوقت أصبح الجهاز الإداري مستقل إلى حدّ بعيد، يحكمه القانون، ولا تحكمه رغبات الرئيس أو الوزير. وأصبحت السلطة القضائية مستقلة فعلا وتمارس وظائفها ضمن القوانين وبما يخدم قضية العدالة حصرا. في الدولة العربية، حدث العكس. ففي تجربة الدولة العراقية التي استقلت سنة 1932، وتجربة الدولة المصرية التي أصبحت مستقلة إلى حد كبير سنة 1936 على إثر المعاهدة التي وقّعها النحّاس باشا مع الانقليز، وتجربة استقلال سوريا ولبنان سنة 1943، كان هنالك جهاز إداري وسلطة قضائية تتمتع بنوع من الاستقلالية وشبيهة بما كانت عليه في مهدها الأروبي. ولكن سرعان ما اختطفت الطبقة الحاكمة جهاز الدولة، وحوّلته إلى ملك خاص. ففرضت التبعية على القضاء، وفي بعض التجارب جُرّد القضاة من وظائفهم لأنهم رفضوا أن يكونوا مجرد موظفين عند رئيس الدولة أو رئيس الحكومة. تمّت السيطرة على القضاء في مصر حين قررت السلطة فرض انتماء القضاة للاتحاد الاشتراكي. ولمّا تمسّك مئات القضاة برفض الانخراط في الحزب الوحيد تمّ تجريدهم من وظيفتهم كقُضاة وإلحاقهم بوزارات أخرى. وكما هي طبيعة المنطقة، دائما يفيض ما يحدث في بلد الثقل الرّئيسي على محيطها، ففي منتصف سبعينات القرن الماضي لم يعد هنالك قاضي واحد مستقلّ في الوطن العربي.
باختصار، بسبب حكم الأقليات، وما ترتّب عن ذلك من عاهات رافقت الدولة العربية الحديثة منذ الولادة، بدأت الموارد تنسحب بالتّدريج من الخدمات ومن المؤسسات المعنوية كالتعليم والصحة والسكن والثقافة، لصالح المؤسسات القهريه، أي مؤسسات الأمن والجيش والبوليس والمخابرات. وهذا أدى - مع عوامل أخرى أهمها تواصل السيطرة الاستعمارية على ثروات العرب، على أسواقهم، وعلى سياساتهم العمومية - إلى هذه الأوضاع المريضة التي تتخبط فيها الشعوب على امتداد ساحة ممزقة ودول هشّة ومنكوبة، وقبل هذا وبعده معظم هذه الدول تشتغل ضد مصلحة الناس، وبالتالي ضد نفسها.

لذلك فالفكرة الرائجة التي تقول بأن سبب تخلّف العرب هو كونهم مجموعة لا متناهية من المذاهب والطوائف، وبكون الشعوب المسلمة متشبّثة بقيم الماضي ورافضه للتقدم هي فكرة سخيفة من وجهة نظر العلم والتاريخ، علاوة على أنها فكرة استعمارية عنصرية متخلّفة.
هذه هي باختصار عوامل التخلف التي رافقت الدولة العربية منذ الولادة، وحكمت مسار تطوّرها، ولا دخل للإسلام ولا للتعدد المذهبي في هذه القضية. وعليه أعتقد أن الذين يستسهلون رمي المسؤولية على عقيدة شعبهم، أو على التعدد الثقافي لمجتمعاتهم، هم في رأيي ليسوا لا تقدّميين ولا حداثيين. .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مظاهرات في لندن تطالب بوقف الحرب الإسرائيلية على غزة


.. كاميرا سكاي نيوز عربية تكشف حجم الدمار في بلدة كفرشوبا جنوب




.. نتنياهو أمام قرار مصيري.. اجتياح رفح أو التطبيع مع السعودية


.. الحوثيون يهددون أميركا: أصبحنا قوة إقليمية!! | #التاسعة




.. روسيا تستشرس وزيلينسكي يستغيث.. الباتريوت مفقودة في واشنطن!!