الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


اليهودي الأبدي

دلور ميقري

2023 / 4 / 13
الادب والفن


1
منذُ سالفِ الأزمان، وشهرُ رمضان يَدور دورتُهُ الفلكيّة المُعتادة كي يعودَ مُجدداً في أوج فصل الصيف. ربما منذ ذلك الوقت، وأهلُ المدن الداخلية ( أعني الموسرين منهم )، قد اعتادوا على قضاء الشهر الفضيل في مدينة الصويرة، وذلكَ هرباً من الحرّ القائظ. هذه المعلومة، يعرفها " زيري "، بالرغم من قلّة معارفه بشكل عام؛ هوَ مَن لم يَصلح قط للمدرسة، فأخرجه والده منها كي يجولَ معه على عربة الكوتشي، المشدودة بالخيل، وكانت في تلك الأيام مصدرَ رزقهم الوحيد. عقبَ موتِ الأب، مَديوناً، صودرت العربةُ مع خيلها من لدُن السلطات. منذئذٍ، صارَ الفتى يمقتُ رجالَ الشرطة، اللذين تولوا مُهمّة المُصادرة. كان آنذاك في الخامسة عشرة من عُمره، وأمضى العقدَ التالي شبهَ مُتبطّل. كانَ قد مارسَ أعمالاً عديدة، طُرد منها جميعاً تقريباً. وهوَ ذا الصيفُ يؤوب مجدداً، ساحباً معه رمضانَ والبطالةَ المُزمنة. لاحظ زيري ذاتَ ظهيرة، وكانَ يوم جمعة، أنّ السيّاح النصارى أضحوا أكثرَ عدداً من المواطنين في ساحة الحَسَن؛ ثمة، أينَ كانَ يجلسُ في أحد مقاهيها الشعبية، المُنزوية عند الدرب الخانق، المُفضي إلى القلعة البحرية ( أو السقالة ). وتذكّرَ أنه عملَ لفترةٍ في مكتبة هناك، بأول ذلك الدرب، يمتلكها رجلٌ يهوديّ، وكانت مهمته الأساس نفضَ الغبار عن الكتب، وغالبيتها باللغات الأجنبية.
" كانَ للحق رجلاً طيباً وكريماً، على عكس ما يُشاع عن أبناء ملّته "، قالها زيري في نفسه. وحقّ له أن يتنهّدَ على الأثر، لشعوره قليلاً بالذنب: التاجرُ اليهوديّ ضبطه يوماً وهو يمدّ يدَهُ إلى الصندوق، إلا أنه صرفه بهدوء بعدما نقده أجرته. لاحَ أنه انتبه من قبل لفقدان بعض الأوراق المالية من الصندوق، وبما أنّ الزبائنَ أناسٌ من المُفترض أنهم على قدَرٍ كبير من الثقافة، فإنه قررَ مُراقبة أجيره عن كثب.
ما عتمَ زيري أن طردَ الذكرى المُشينة، وذلك حينَ شعرَ بتَوقٍ إلى إشعال سيجارة: " ليسَ بمقدوري التدخين، ولو فعلتُ ذلك لطردني النادلُ من المقهى. أصلاً هو يَمقتني، كوني عادةً لا أدفع بخشيشاً. اللعنة عليه وعلى بخشيشه! " . راحَ زيري يعبّ من أنفه دخانَ السجائر، الذي يُبدده النصارى في هواء الترّاس، والمُختلط مع رائحة البحر الحرّيفة وعبق المشاوي الآتي من المطعم المجاور. عادَ زيري لمُخاطبة داخله: " لو أنني لا أُظهِرُ سيجارتي، فعلى أغلب تقدير لن ينتبه النادل في غمرة دخان سجائر أولئك الزبائن ". حَذِراً، أشعلَ زيري سيجارته وأخذَ أولَ نَفَس بمتعةٍ عالية، فاقت متعته بتأمل عُريّ سيقان السائحات. في النفس الثالث أو الرابع، قُمعت متعتُهُ على حين فجأة: " تعال معنا "، أمرَهُ أحدُ الشرطيَيْن بنبرة صارمة. مع حذرهِ من النادل، لم ينتبه زيري إلى هذين الرجلين، اللذين لا بد ولمحاه في أثناء خروجهما من مدخل درب السقالة: " كانا هناك، على الأرجح، يُساومان أصحابَ حوانيت الهدايا التذكارية، المنفتحة على جانبيّ الدرب. اللعنة على هذين الشيطانين وعلى جشعهما! "، قالها في نفسه فيما ينصاعُ للأمر.

2
ثمة بالقرب من طاولة الشاب، العاثر الحظ، كان " آزاد " يجلسُ ويحتسي قهوته الممزوجة بالحليب. إنه رجلٌ في نحو الخمسين، ولمَحض المُصادفة أنه تواجدَ قبل نحو ساعة في متجر الكتب ذاك، الذي خدمَ فيه زيري لفترةٍ من الوقت. لقد راقبَ هذا الأخير، ولم يفهم للوهلة الأولى داعي القبض عليه. إلى أن سمعَ الشرطيّ، يُخاطب الموقوفَ بصوتٍ منخفض لكنه حازم: " تفطر علناً؛ وفي يوم الجمعة، أيضاً! ". إتفاقاً كذلك، أنّ نادلَ المقهى انتبه قبل قليل إلى قراءة آزاد بالعربية في هاتفه الجوال، وكان قبلاً قد ظنّ من شكله أنه أوروبيّ. فسأله بنزَق وبصوت دُعاة الدين، المألوف: " ألستَ مُسلماً؟ "
" ربما. ولِمَ السؤال؟ "
" لأننا محظورٌ علينا تقديمَ الطلباتِ للمسلمين في شهر الصوم "
" أنا سائحٌ، كما ترى، ولستُ مغربياً. وقد أكونُ مسلماً، لكنني مريضٌ. فما المشكلة؟ "
" المسلمُ المريضُ، عليه ألا يُظهر إفطارَهُ بمكانٍ عام "
" اعتَبرني إذاً يهودياً، لو شئتَ، وآتِني بفنجان قهوة مع الحليب! "، ردّ عليه آزاد. ثم أضافَ بنبرة هادئة وشديدة في آنٍ واحد: " وإلا فإنّ لي كلاماً آخر مع معلمك ". لقد عرّفَ نفسَهُ بذلك النّسَب اليهوديّ، سخريةً من النادل، كونه آتٍ لتوّه من المكتبة. هناك أيضاً ـ فكّرَ آزاد ـ حصلَ معه سوءُ فهم. وكانَ قد انتبهَ إلى وجود تلك المكتبة، أثناء عودته من زيارة القلعة البحرية، فقررَ السؤالَ عن كتبٍ مُتخصصة بتاريخ الصويرة. كانت هذه زيارته الأولى للمدينة، التي حازت على اهتمامه بأسوارها وقلعتها وأبنيتها الأثرية الأخرى؛ كالقَصَبة والمَرسى والسوق. بعدما جالَ قليلاً على أرفف الكتب، توجهَ إلى مَن لاحَ أنه صاحبُ المكتبة كي يستفهم منه عن طلبه. لاحظَ أنَ هيئةَ هذا الأخير، غريبةٌ بشكل من الأشكال. آزاد، علِمَ مُسبقاً أن اليهود كانوا أقليةً مهمة في الصويرة، فأجازَ لنفسه الأعتقاد بأن التاجرَ من ملّتهم. هذا بالرغم من عدم وجود علاماتٍ في هيئة الرجل، المُراوح بينَ سنّ الشباب والنضوج، تدلّ على يهوديته؛ كالسترة السوداء والقبعة الدقيقة المُستديرة وجَديلتيّ الشَعر. هزّ الرجلُ رأسَهُ، قائلاً باقتضاب: " لا يتوفر لدينا هكذا كتب باللغة العربية "
" أليسَ بمقدورك تأمينها لي من مكان آخر؟ "
" آسف "، ردّ بشيءٍ من الجفاف. حينئذٍ، زادَ يقينُ آزاد بيهوديّة التاجر: " لقد انتبهَ، على الأرجح، للهجتي السورية! ". فبادرَ يُعرّفه على نفسه: " أنا كرديّ من شمالي سورية، دارسٌ للتاريخ ". مثلما أمِلَ آزاد، تمّ الترحيبُ به بحرارة لافتة: " عُد إليّ غداً في مثل هذا الوقت، لعلني أوفّق في العثور على مطلوبك "، قالها التاجرُ. ثم ما لبثَ أن راحَ يسأل الزبونَ عن اهتماماته التاريخية، وأيضاً عن الوضع عموماً بشأن القضية الكردية. لم يكن ثمة زبائنٌ آخرين في المكتبة، ما جعل حديثهما يمتد لنحو ساعة. في سياق الحديث، تساءلَ آزاد عما جعلَ الرجلَ يمتنعُ عن الهجرة لإسرائيل، شأن غالبية اليهود المغاربة. ابتسم هذا الأخير، مُجيباً بنبرة مُكدَّرة أو حزينة: " لأنني أرفضُ أن أكونَ اليهوديّ الأبديّ، المكتوبَ عليه بحَسَب زعم رجال الكنيسة أن يبقى تائهاً إلى وقت حلول القيامة. وبالتالي، أرفضُ الدولةَ الدينية الأحادية وأرغبُ بمواصلة العيش في مجتمع متعدد ". هذه الأمورُ، استعادها إذاً آزاد عقبَ شهودِهِ توقيفَ ذلك الشاب المغربيّ بمُسوّغ الإفطار العلنيّ.

3
تمّ سوقُ زيري إلى قسم الشرطة، الكائن في القصبة، غيرَ بعيدٍ عن المقهى. كانت هيَ المرة الأولى، يغشى فيها الشابُ هكذا مكانٍ مَرهوب. إنه بغض النظر عن بطالته، وميله أحياناً لمخالفة القانون، لم يحتك قط بالسلطات. اطمأنَ نوعاً خلال الطريق لحُسن معاملة الشرطيين، لكنهما سرعانَ ما تحولا إلى وحشين هائجين حالما صارا في عرينهما. انهالا عليه ضرباً، بمجرد أن أجابَ على السؤال الأول. إذ قالَ بنبرة استهتار: " أنا منَ الملّاح؛ منْ يهود ذلك الحيّ! ". خطرت له الفكرةُ، وذلك على خلفية عملِهِ سابقاً في المكتبة. على أثر ردة فعل الشرطيين، تمنى زيري أنه لم يلجأ للكذب المجانيّ. لكنه بسبب سوء المعاملة، أصرّ بعناد على إدعائه، لدرجة أن أحد الشرطيين سألَ زميله: " نكشف عن عورته كي نرى إذا كان مُطهّراً أو لا؟ ". فردّ عليه زميله: " يا جاهل، اليهودُ أيضاً يختنون أولادهم! " ولم يُنقذ زيري من براثن الشرطيين، إلا حضورُ مُعلّمهما. سألهما الضابطُ عن دافع ضربهما للشاب، فأوضحَ أحدهما جليّة الأمر. صرفهما الضابط، وما عتمَ أن توجّه للموقوف هذه المرة، مستفهماً بنوع من التهكّم: " أيُمكنك أن تُسمعني صلاةَ اليهوديّ؟ "
" لا، ليسَ بمَقدوري يا سيّدي "
" لأنكَ مسلمٌ، أليسَ صحيحاً؟ "
" بلى "، أعترفَ زيري أخيراً وليسَ بدون شعور من الخجل. قال الضابط، مُستعملاً نبرةً مُوبّخة، مُتماهية مع الشعور بالشفقة: " أنتَ بذلكَ الإدعاء الباطل، أضفتَ لنفسك ذنباً أمام الله علاوةً على مُخالفتك للقانون. لنغض الطرف عن افطارك في رمضان، وهوَ ذنبٌ آخر. ولكن ألم يعلموك في المدرسة، أنّ الله كتبَ على اليهود التيه الأبديّ لأنهم عَصُوا سيّدنا موسى؟ "
" لا، لقد تركتُ المدرسة مُبكراً "، أجابَ زيري. ثم أضافَ وعلى شفتيه ابتسامةٌ ساخرة: " غير أنني، يا سيّدي، أعلمُ حقيقةً أخرى؛ وهيَ أن يهودَ الملّاح عادوا أغنياءً من إسرائيل، بعدما كانوا يعانون مثلي من الفقر ".








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أمسيات شعرية- الشاعر فتحي النصري


.. فيلم السرب يقترب من حصد 7 ملايين جنيه خلال 3 أيام عرض




.. تقنيات الرواية- العتبات


.. نون النضال | جنان شحادة ودانا الشاعر وسنين أبو زيد | 2024-05




.. علي بن تميم: لجنة جائزة -البوكر- مستقلة...وللذكاء الاصطناعي