الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


قراءة في قصيدة (” هذا الهوى..يطربني”) للشاعر التونسي القدير: د-طاهر مشي تموجات الحالة النفسية..وتمظهرات الإيقاع الدراميسيكولوجي. (قراءة أسلوبية)

محمد المحسن
كاتب

2023 / 4 / 13
الادب والفن


تصدير : "إذا كان تكرار المفردة يضع بين يديّ المتلقّي مفتاحاً للفكرة المسيطرة على الشاعر، فإنّ تكرار العبارة يخضع للقوانين التي تتحكم في العبارة..سواء أكانت دوافع نفسية،أم تركيبية..."(نازك الملائكية في كتابها قضايا في الشعر المعاصر)

في البدء-(القصيدة)

هذا الهوى..يطربني
يا من هوى الذكرى متى ذكراك؟
فالليل قد ناحت به نجواك
والهمس بالأسحار يغمرني
والنبض في الشريان كالأفلاك
خوفي من الأشواق تهجرني
يا روعة الخلاق ما أبهاك
فالحرف يسحرني لما الخجل
يسعى ونبضي ما عساه رجاك
ضني أنا والليل يلحفني
رحال أسعى في مدى أقصاك
حتى أبوح الحب من وصبي
أمشي على جمر الهوى لأراك
من بهجتي قد بحت موعظة
نذرا بها الأشواق في دنياك
فأتت على زرعي تداعبه
في نبرة المشتاق..ما أقساك
تمضي بنا الذكرى بلا سبب
يا نتفة في القلب ذا سكناك
عشت الهوى نغما ليطربني
يا صحوة المشتاق ما أضناك
جثمت على جرحي فذا عتب
والنبض في تيه كذا إنهاك
فسكبت دمعي في هوى وَجوى
وسكنتها الأحلام كي ألقاك
هذا الهوى تمضي به الافلاك
يا من سبى قلبي بلا إدراك
(د-طاهر مشي )

والآن-(القراءة النقدية)
يعد التكرار من الظواهر الأسلوبية التي تلعب دوراً بارزاً في كشف إبداعية النص الشعري،إذ يصور تموجات الحالة النفسية التي تعتري المبدع،لهذا فإن التكرار يتميز في الشعر الحديث عن مثيله في الشعر القديم بكونه يهدف بصورة عامة إلى الإبانة عن دلالات داخلية فيما يشبه البث الإيحائي،إذ ينزع إلى إبراز إيقاع دراميسيكولوجي.
واللفظ المكرر يمثل بؤرة أو نقطة ساطعة في جسم القصيدة تجذب نحوها الوسائل الفنية الأخرى لتتحد كلها وتسهم في كشف وإزالة الأغلفة التي تحمل في طياتها المعنى الحقيقي،فضلاً عن دوره في إثراء موسيقية النص من خلال الإيحاء بسيطرة العنصر المكرر وإلحاحه على فكر الشاعر وشعوره.
ويقوم التكرار في القصيدة الحديثة بوظيفة إيحائية بارزة،وتتعدد أشكاله وصوره تبعاً للهدف الإيحائي الذي ينوطه به الشاعر،وتتراوح هذه الأشكال ما بين التكرار البسيط الذي لا يتجاوز تكرار لفظة معينة أو عبارة معينة،وبين أشكال أخرى أكثر تركيباً وتعقيداً يتصرف فيها الشاعر في العنصر المكرر بحيث تغدو أقوى إيحاءً.
لقد برزت ظاهرة التكرار بشكل واضح في قصيدة ”د-طاهر مشي“ (” هذا الهوى..يطربني”)،وأخذت عدة مظاهر للحضور خلال النص الشعري،فمنها تكرار الحروف،وتكرار الألفاظ (أسماء وأفعال)،وتكرار العبارات (الشوق..الإشتياق..الهوى ) الأمر الذي يضع بين أيدينا مفتاحاً للفكرة المسيطرة على الشاعر في أعماق اللاشعور،إذ إن إيقاعية التكرار تمثل عوداً نفسياً للمغزى الدلالي اعتماداً على التجانس النفسي في التطابق الصوتي،وبه يصبح تشكيلاً نامياً ذا دلالات خاصة من خلال التشابهات الصوتية للوحدات الإيقاعية.
لقد عمد الشاعر التونسي القدير "د-طاهر مشي"-كما أسلفت-إلى استخدام بعض الحروف وتكرارها في قصيدة بعينها،مما أثرى الإيقاع الداخلي بلون من الموسيقى الخفيفة تستريح له الآذان وتقبل عليه مستمتعة به،ففي قصيدته السابقة (” هذا الهوى..يطربني”) تكرر حرف الهاء (12مرة) وهو صوت لثوى*مجهور،تتكرر فيه ضربات اللسان على اللثة تكراراً سريعاً؛ليعطى رعشة مكررة تجسم ما أصيب به الشاعر من إحساس بالشوق وشعور بالأسى،هذا فضلاً عما لهذا الصوت من قوة ووضوح سمعي يوحيان بالصخب العنيف الذي لا يقوى الشاعر على كتمانه.
ليس معنى هذا أن الصوت المفرد يحمل دلالة ذاتية قبلية كامنة فيه،إذ من الممكن أن يحاكى كل هذه المعاني صوت آخر مختلف في صفاته عن صوت “الهاء”ولكن الشاعر استطاع أن يشحن هذا الصوت بهذا البعد الدلالي من خلال موقعه في السياق.
والشاعر"الطاهر"إذ يسعى إلى استغلال قيمة الإمكانيات الصوتية،فإنما يهدف إلى إيجاد نوع من التماثل الصوتي الذي يساعد على تجسيد التجربة الشعرية،لذا فالشاعر يتعامل مع الأصوات تعاملاً خاصاً يستنطق من خلاله خصائصها السمعية التي تؤثر في إنتاج الدلالة.
من العرض السابق لبنية التكرار بوصفها ـظاهرة أسلوبيةـيتضح لنا كيف تمثل مظهراً من مظاهر الحركة وإثارة الدلالة،كوسيلة إيقاعية تكشف عن إبداعية النص الشعري،فضلاً عما تقوم به من تنويع للموسيقى الداخلية وتعزيز للنغمة التي يستعين بها الشاعر على بث خواطره، حيث يجعل اللفظ وتراً من أوتار عدته الموسيقية داخل العمل الفني.
ومن ثم يعد التكرار تأكيداً للتنوع،وتوقيعاً لفظياً للثراء الدلالي،لكونه مثيراً حسياً لمجموعة من المنبهات الترابطية داخل الذهن الشعري المنتج للقصيدة التي أصبحت-بشكلها هذا-معادلاً رمزياً يوازى فيمة الداخلي الخارجي والخارجي الداخلي،بحيث لا يتضح الفصل ولا تتبين الحدود.
المنهجُ الأسلوبيُّ منهجٌ رحْبٌ،يتّسع لدراسة النصّ الأدبيّ،والشعر خاصة،بمختلف تفاصيله، بدءاً من الصوت-الحرف،وانتهاءً بالتركيب والمقطع الشعري،منطلقاً من النص ذاته،من عناصر بنائه اللغوية والبلاغية،فدراسة النص الأدبي أسلوبياً يكشف،ليس فقط،عن لغة الشاعر،وإنما ايضاً عن الموسيقى الداخلية للقصيدة،وهذا مهمٌّ جداً في قصيدة النثر خصوصاً، حيث الإيقاع والموسيقى ينتجان عن حركة الأصوات والألفاظ وترابطها في التركيب الشعري، لتوليد الدلالة،كما تكشف الأسلوبية أيضاً عن التقنيات البلاغية وطريقة الشاعر في استخدامها وتوظيفها في بناء نصه الشعري،وبثّ عواطفه وهواجسه،وبالتالي رؤياه الشعرية.
وهنا أقول : للتكرار جانبان من الأهمية،فهو يركّز المعنى ويؤكّده،وبذلك يؤدّي دوراً دلالياً غير مباشر،دلالةً لا تحملها الأبيات مباشرةً،ولا تؤديها مفردةٌ بعينها،لكنّه التراكم والدفق الشعري، ويمنح النصّ،من ناحيةٍ ثانية،نوعاً من الموسيقى التي تتوافق مع انفعالات الشاعر.
وقد كشفت قراءتي لقصائد د-طاهر مشي (أزعم أني اطلعت على مجملها)أنّ الشاعر التونسي السامق د-طاهر مشي.،اعتمد كثيراً-في جل قصائده على تكرار الأفعال،لما للفعل من حيويةٍ وقدرةٍ على الانتقال من حالةٍ إلى حالةٍ،سواءٌ انتقالٌ حركيٌّ،أو انتقالٌ شعوريٌّ داخليٌّ،يمكنه التعبيرَ عن التململ والقلق اللذين لا يطيقان السكون أو المكوث في حالةٍ واحدة.
إن الشاعر د-طاهر مشي-موجه بإيقاع مسيطر يطلب تشكيله،وعليه أن يلبى بإخضاع الكلمات لمطالب هذا التشكيل،الذي يستدعى الكلمات ويكسبها قيمتها في أنظمة لغوية تحقق بنية القصيدة ودلالتها الرمزية.
هذا،ويمثل تكرار الألفاظ،الحروف والعبارات ملمحاً أسلوبياً مميزاً في شعر “د-طاهر مشي”، يعتمد عليه كثيراً كأسلوب فني يحتوي على إمكانيات تعبيرية متعددة بواسطة الإلحاح على إعادة هيئة التعبير لاستثارة المخزون والمكبوت النفسي من المشاعر والأحاسيس.
ومن أشكال التكرار في شعر”د-طاهر مشي” ما يسمى بـ (الترديد) وهو تعليق الشاعر لفظة في البيت متعلقة بمعنى،ثم يرددها فيه بعينها ويعلقها بمعنى آخر في البيت نفسه،ويعد التكرار بالترديد من الأساليب التي تتميز بقدرتها على ترتيب الدلالة والنمو بها تدريجياً في نسق أسلوبي يعتمد على التكرار اللفظي،كما أن هذا الأسلوب يجعل المتلقي مشاركاً مشاركة فعلية في استكشاف جماليات التعبير الفني،إذ يدفعه إلى قراءة البيت مرة ثانية ليقف على أثر التوزيع والاختيار اللذين يعدان من أبرز سمات العمل الإبداعي.
ختاماً
هذه قراءة أسلوبية مقتضَبَة لقصيدة الأديب الشاعر التونسي الفذ د.طاهر مشي (”هذا الهوى..يطربني”)،ركّزتْ على بعض الظواهر الأسلوبية،تجاوزت غيرها الكثير،ولا تزال القراءة تحتمل الكثير،وتكشف الكثير،فالمعجم اللغوي للشاعر واسعٌ،والإحالات بالتناصّ،والانزياحات لا تكفيه قراءةٌ محدودة في زمن محدود .



*الأصوات اللَّثَوِيَّة هي الصوامت التي يلامس فيه طرف اللسان اللثة الخلفية للأسنان العليا الأمامية.
يسمِّي الفراهيدي الصوامت اللثوية س،ز،ص «الحروف الأسلية»،كما استخدم اسم «لثوي» للحروف ث،ذ،ظ،التي تسمى أسناني في اللسانيات الآن.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. حصريا.. مراسل #صباح_العربية مع السعفة الذهبية قبل أن تقدم لل


.. الممثل والمخرج الأمريكي كيفن كوستنر يعرض فيلمه -الأفق: ملحمة




.. مخرجا فيلم -رفعت عينى للسما- المشارك في -كان- يكشفان كواليس


.. كلمة أخيرة - الزمالك كان في زنقة وربنا سترها مع جوميز.. النا




.. المراجعة النهائية لطلاب الثانوية العامة خلاصة منهج اللغة الإ