الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


نظام الفساد والإرهاب، لا يبني ديمقراطية.

عزالدين بوغانمي
(Boughanmi Ezdine)

2023 / 4 / 16
مواضيع وابحاث سياسية


البايات والمماليك وأصحاب الحرف وملاك الأراضي من ذرية قدماء الموظفين الأتراك وبعض العبيد الذين تزوجوا بنات البايات، و"الڤياد" الذين يحفظون الأمن ويحتكرون "اللّزمة"، ونظراء الاوحباس، والعلماء الذين بيدهم القضاء الشرعي والتعليم.

بصفة عامة تشكلت الطبقة الحاكمة قبل دخول الاستعمار، وخلال الفترة الاستعمارية، من هؤلاء. ولأن أبناءهم كانوا محظوظين بتلقّي تعليما حديثا في المعاهد والجامعات الفرنسية، فحتى الطبقة الحاكمة بعد الاستقلال، تشكلت منهم أيضا. ولذلك نجحوا في الحفاظ على امتيازاتهم القديمة. مع الإشارة المهمّة إلى أن هذه الطبقة في مختلف مراحل تطورها وارتباطاتها سواء كان بالبايات، او بالمقيم العام الفرنسي، أو بدولة الاستقلال، ظلت على الدوام متميزة بازدراء الأهالي واحتقارهم ومعاملتهم بنوع من التكبّر والتعالي. وكان الأهالي يحتقرونهم ويكرهونهم. ولكنهم كانوا يُنافقونهم ويتقرّبون منهم. ولا يرون سبيلا لتحسين شروط حياتهم إلا من خلال التودّد لهم.

بطبيعة الحال لم يكن التاريخ على شكل خط مستقيم ثابت. بل شهد في كل مراحله تغيّرات كبرى، كاختفاء أسماء وظهور أخرى. ولكن من حيث وظيفة الحكم والدور الاجتماعي، ظلت تلك الطبقة متحكة بقوّة في مجمل النظام الاقتصادي والسياسي. حاولت دولة بورقيبة ضرب الأساس المادي لهذه الطبقة بهدف تفكيكها. ولكنها أخفقت بسبب كون الرّعيل الأوّل الذي أسّس الإدارة وبنا الدّولة الجديدة، ينحدر أساسا من تلك الطبقة. لذلك هُزِم أحمد بن صالح وأُطيحَ به. وعلى إثر ذلك، أي بعد فشل تجربة التعاضد 1969 عادت تلك الطبقة المخزنية بوجه مكشوف، لتُجهض مشروع الاستقلال الاقتصادي، وتُعيد البلاد من جديد إلى ارتباطاتها بالدوائر المالية الاستعمارية التي بدأت رسميا وبشكل واسع آواخر التاسع عشر، مع مصطفى خزندار زمن الأنشطة المصرفية للقناصل الأروبيين.
عادت تلك الفئات المخازنية عبر انتهاج ما سُمّي بسياسة الانفتاح، إلى مهدها الأول بِلُبُوس جديدة، محافظة على جوهرها الطبقي القائم على الجمع بين اقتصاد الرّيع وصُنع السياسة.

احتكرت هذه الطبقة القطاعات الاقتصادية الرئيسية المربحة. وبسبب ارتباطها بالخارج واحتمائها به -في ترتيب اللوحة السياسية المحلية بما يسمح لها بمواصلة احتكار مجالات نشاطها-، لم تساهم في تحديث البنية التحتية للبلاد مثلما فعلت البرجوازية في أروبا. بل ظلت تشتغل -في مجملها- دور الوسيط مقابل ما تقدّمه للدولة من ريوع إقطاعية.

من بين الادلّة على الطبيعتها الاقطاعية لهذه الفئات هي ثقافتها المُحافظة رغم مظاهر التمدّن ومكياج الحداثة. والتملّك العائلي لرأس المال. فهي في النهاية، عائلات يعرفها الشعب، تملك العلامات التجارية والانشطة البترولية وصناعة الكابلات والقطاع السياحي والفنادق والمنتجعات والصناعات البلاستيكية وتربية الأحياء المائية، والتطوير العقاري، والطيران والصناعة الإلكترونية وتجارة السيارات والشاحنات والمعدات الصناعية، صناعة الجلد، وتجارة المواد الإعلامية، وتجارة العقارات والقطاع البنكي والإيجار المالي، والمصحات الخاصة، وقطاع الأدوية، والمقاولات والأشغال والصناعات الغذائية.هذه اللسيطرة الاقتصادية الرهيبة جعل هذه الطبقة تتحوّز على أموال كبيرة، وظّفت جزءً منها في التحكم في السياسة عبر شراء النخب والأحزاب والمنظمات والإدارة والإعلام والأمن والقضاء السوق ومسالك التوزيع...

هكذا تأسست شبكة عملاقة من المصالح، يُطلق عليها التوانسة اسم "لوبيات الفساد والإفساد". أوّلا لأنها رهنت البلاد للخارج، وتقاسمت مقدرات البلد ومرابيحها مع الأجنبي، عوض أن تملأ تلك العائدات خزائن الدولة، فتتخلّى عن الاقتراض والتبعية. وثانيا لأنها تُفسد السياسة وتمنع قيام نظام ديمقراطي حقيقي. وثالثا لأنها تمنع المؤسسات الصغرى والمستثمرين الشباب من النشاط في مجالات نشاطها. ورابعا لأنها مُجبرة، لضمان استمرارها، على فتح الباب أمام الفساد والرشوة والسوق السوداء. لتُفشل كل محاولات الدولة الرامية للتحكّم في مواردها، وكل المحاولات الرامية للإصلاح وإرساء الشفافية والحوكمة في المجال الاقتصادي.

ماهو الحل؟
ليس هنالك حلّ إلا إعادة توزيع مجالات النشاط الاقتصادي، لتقليص الفجوة بين الطبقات، ووضع حد لظاهرة التلاعب بمقدرات البلد.

لأوّل مرّة منذ فشل تجربة التّعاضد، تتوفّر الإرادة السياسية في إصلاح الأوضاع بشكل جذريّ. وهو الأمر الذي جعل جزء من بيروقراطية الدولة تتجرّأ وتساند رئيس الدولة في الإقدام على ضرب الأساس المادي لحكم هذه الأقلية الطبقية.
هذا هو السرّ في ما نشاهده من هجوم سافر على رئيس الجمهورية، ونعته بالفاشي والمجنون والخطير والعنصري ...
إنه هجوم طبقي ضاري يُعبّرّ عن نفسه في هجوم سياسي باستخدام كل الاذرع الحزبية والجمعياتية والإعلامية والإدارية التي تملكها تلك القوى المخزنية المذعورة من فقدان نفوذها.

لهذه الأسباب، تُلاحظون عدّة أمور أحيانًا مُضحِكة، وأحيانا غريبة يصعُبُ فهمها. من ذلك مثلا، الادّعاء بأنّ خطاب رئيس الجمهورية يوم 6 أفريل في المنستير كان "كارثة".
ماذا قال الرئيس يومها؟
في رأيي أتى على ثلاثة أمور مُطمئنة جدّا، تجعل أغلبية الطبقة السياسية والاجتماعية في صفّه.
أولا، رفض الإملاءات، رفض رفع الدعم، رفض بيع المؤسسات العمومية. وهو يعلم أن الدولة محتاجة إلى قرض صندوق النقد الدولي، ولكنّه بصدد استغلال الانقسام الدولي الحاصل في العالم، ممّا قد يُمكّنه من ليّ الاذرع مع الغرب بنيّة الحصول على القرض دون شروط مجحفة. وأعتقد بأنه سينجح في ذلك.
وكما تلاحظون، هذه مسألة تُعتبر جوهر سياسة اليسار عُموما، وجوهر معركة اتحاد الشغل.

ثانيا، ذكّر بمعركة الاستقلال للتأكيد على السيادة الوطنية، وعلى الحفاظ على الدولة التي بُنيت بعد تضحيات ودماء عزيزة.
وهنا، يُجمع التونسيات والتونسيون على هذه المسألة، ما عدا الخوانجية بصفتهم حزب له مشروع أجنبي، وقلّة قليلة جدّا من المجموعات المجهرية المتطرّفة التي لها مشاريع ميتافيزيقة لا علاقة لها بالحياة أصلا.

ثالثا، طمأن التوانسة الواقعين تحت تأثير الدّعاية المافيوزية بأن الانتخابات الرئاسية ستُجرى في وقتها العام المُقبل.

طبعا بالنسبة لجبهة الخلاص والمتعاونين معها، ليس بوسعهم أن يكونوا موضوعيين. ولا يمكنهم اعتبار كلام رئيس الجمهورية إلا كارثة عليهم. ولكن حقيقة لا أفهم أين "الكارثة"؟ أين رآها بعض المعارضين لقيس سعيد، وأخصّ منهم بالذكر أصدقاء محترمين جدا. على الأرجح أنهم رأوها بأعين المافيات لا بأعيُنهم. رأوها في محاكاتهم لهواجسهم ومخاوفهم، النّاجمة عن انخراطهم في معركة ليست معركتهم، بل هي معركة تُحرّكُ خيوطها لوبيات لها مصالح تسعى لحمايتها.

هناك مشكل نفسي في الساحة السياسية التونسية. يجب أن نعترف بذلك. هنالك موقف مُسبق من قيس سعيّد. من أصوله الطبقية. من هيئته. من طريقة كلامه. من بساطته. هذا رجل منحدر من أصول شعبية. ولا ينحدر من تلك الفئات المخزنية التقليدية المُتعالية على الأهالي. هذا في حدّ ذاته شكّل عُقدة نفسية استراتيجية مردُّها صعوبة التخلّص من حكم الأقليات. علما وأن الثورة إذا كان لها معنى، فهو سقوط حكم الأقليات ووضع الحكم بيد الشعب.
إذن يبدو ان هنالك مشكل إعادة استيعاب لحدث وصول فرد من الشعب إلى قصر قرطاج، وما زاد من فقدان التوازن هو أنه يسعى لسلب تلك الأقليات موارد الدولة التي تحتكرها. كل شيء في الكون يبحث عن الاستقرار والتوازن هذه قاعدة فلكية. ونحن في تونس بحاجة إلى الخروج من الكآبة التي سبّبها قيس سعيد، حتى نستعيد التوازن.

التحالف مع الخوانجية والمافيا ليست فكرة فكاهية. بل هي جريمة وطنية يجب مقاومتها.
صحيح ليس من اللائق إجبار الناس على نمط تفكير مختلف عن ثقافتهم ووجدانهم وولائهم التاريخي للمخازنية. ولكن من المهم أن يكون هناك شراكة وتعاون في مكافحة اللصوص والمتطرّفين المتعاونين مع الإرهاب. ولسنا ضد اعتزاز الناس بأن تحكمهم فئة المماليك فهذا شأن شخصي. المهم ألاّ يقفوا مع اللصوص، ومع حركة النهضة كجماعة متطرفة حرّضت على الإرهاب وتورّطت في القتل، وثبت ضلوعها في إغراق المنطقة بالدماء.

المسألة الأخيرة، عبارة "لا رجوع إلى الوراء"، يجب أن نستوعبها جيّدا ودون غرور، لأنها تحوّلت إلى كلمة سرّ عند الشعب التونسي، وليست شعارا خفيفا ترفعه مجموعة من الطلبة في كلّية الحقوق. ومن العبث الاعتقاد أن أقلية مكروهة ومنبوذة شعبيا قادرة على فرض خيارها على الشعب. فلقد علّمنا التاريخ القريب دروسًا قاسية على السياسي ألا ينساها ابدا. رأينا كيف حاول الاتحاد السوفياتي فرض الاشتراكية على شعوب غير قادرة على استيعابها، أو غير مهيّأة لاحتضانها كفكرة وكنظام مجتمعي، أو هي غير قادرة على التكيف معها لأسباب موضوعية. وكيف أن تلك التجربة كانت سببا للعذاب والكوارث بحق شعوب كثيرة، انتهى بها الامر إلى الكفر بالاشتراكية، رغم أنها من أعظم إنجازات البشرية عبر ترحالها الطويل في التاريخ. ونفس الشيء حدث حين حاولت الولايات المتحدة فرض أيديولوجيتها حول الديمقراطية بقوة الاحتلال في العراق. وكيف كانت النتيجة كارثة إنسانية بجميع المقاييس. والامر ذاته تكرّر مع محاولات الإسلام السياسي فرض أفكاره العبثية وتحويلها إلى نظام حكم، وها نحن نشهد دفن آخر بقاياه في تونس.

إن نظام الحكم الذي أُقيم في تونس بعد 2011 هو (نظام فساد وإرهاب مُتنكّر في زيّ ديمقراطي شكلي)، ولم يكن نظاما ديمقراطيا، وتعثّر. ولم يكن نظاما ديمقراطيا ناشئٍا فيه مُجرّد أعطاب متّصلة بمعيقات الانتقال الديمقراطي وصعوباته. ولو كان الأمر كذلك لكان موقفنا من 25 جويلية مختلفا. ونحن مُطّلعون على كل تجارب الانتقال، وعلى كل ما كُتب بشأن نظريات الانتقال. وكتبنا فيها ما يزيد عن كتاب. ولا ينفع نعتنا بقلّة الفهم ولا بالحنين للدكتاتورية.

أول شروط قيام النظام الديمقراطي هو إجماع النّخبة المشاركة في تأسيسه على قواعد هذا النظام. وإجماعها على كون معركة الديمقراطية، ليست مجرد انتخابات بالمال الفاسد ومؤسسات صورية بحكم المحاصصة. بل هي مشروع جبّار يستدعي الاستثمار الفكري والسياسي والاجتماعي والأخلاقي والاقتصادي الطويل، ويتطلب جهداً متواصلا وتعاونا مسؤولا من قبل النخب الاجتماعية وفي طليعتها المثقفون. فالديمقراطية مشروع مجتمعي يتناقض مع امتلاك الحزب الحاكم لجهاز سرّي موازي للدولة. إنها عملية إعادة بناء للوعي ولمنظومة القيم وترميم قنوات التواصل والتفاعل والتضامن بين أفراد المجتمع، وتدريب متواصل للمواطنين على المشاركة في صياغة القرار ضمن قواعد صارمة محميّة بقوّة القانون وتطبيقه على الجميع دون تمييز. وليست عمليّة تحيّل على العدالة من خلال السيطرة على مؤسسة القضاء وتوظيفها لمساعدة الإرهابيين والمجرمين على الإفلات من العقاب.

عن أيّ نظام ديمقراطي تتحدّثون؟
حركة النهضة حركة معادية للدولة المدنية نفسها، وليس فقط للديمقراطية. وهي تحمل مُخطّطًا لهزيمة الديمقراطية. ولذلك حرصت على أن تكون كل المؤسسات فاسدة. فالفساد الذي أدّى بالمواطنين إلى الأكل من القُمامة، هو القادر على تحويل البلد إلى مزرعة إقطاعية يتحكم في مصيرها أمراء الجهل والفِتن، خارج معايير السياسة والقانون والدين والأخلاق.
بأيّ معنى؟
بمعنى أن الفساد هو المسؤول عن تفجير ينابع الانتقام عند الغالبية الفقيرة، وهو المسؤول عن حقدها ورغبتها في تدمير المجتمع والانقلاب على الدولة، تلك الأغلبية التي منذ 2018، لم تعد تحتمل عبارة "النظام الديمقراطي"، بل أصبحت رافضة لقيم الديمقراطية ذاتها، لأن الجوع والخصاصة والفوضى ارتبطت بتبجّح الفاسدين ب"الديمقراطية". ولا يمكن فصل التمرد والانتقام والعصيان والحرقة والالتحاق بالجماعات الإرهابية والجريمة عن نظام الفساد. بل أن كل هذه الآفات الاجتماعية والنفسية تعتبر الذُرّية الشرعية لنظام حركة النهضة. وإذا لم يكن الأمر كذلك، فبماذا يُفسّر السّادة الأفاضل المتباكين على منظومة 24 جويلية عدم اكتراث الشعب بشعارا "الحريات" و"مقاومة الانفراد بالسلطة" التي يرفعونها منذ 25 جويلية؟ ألم تقولو أن هذا شعب عظيم حين رمى بنفسه في معركة الحرية ضد بن علي؟ ولماذا صار ذلك الشعب العظيم الذي صفّق له العالم يسخر من المعارضة ويسميها بنوع من الاستهزاء "جماعة الحريات"؟
الجواب في غاية البساطة أيها السادة: إنّ نظام الفساد والإرهاب -الذي تُسمّونه أنتم بدوافع وغايات وخلفيات مختلفة "الديمقراطية"، كان سببا في تنفير الناس من السياسة، وجعلهم يحتقرون الأحزاب حقًّا وباطِلًا، ويحقدون على "الديمقراطية" لأنها تبدو لهم وكأنّها حيلة يستخدمها السياسيون لتجويعهم وسلبهم مقوّمات العيش الآدمية.
وبهذا المعنى لم يعد الشعب يثق بِنُخبته، بل صار، وللأسف، يضعها كلّها في سلّة واحدة، وينظر لها على أنها مجموعات من التضامنات الفاسدة التي تسعى بكل الطرق للعودة للسلطة من جديد، حتى تضع آياديها على الموارد.

لكل هذه الأسباب مُجتمعة، يبدو أن المزاج الشعبي ماضي في هذا النهج. مُستمرّ في التعويل على الرئيس. ولن يتراجع. ولن يكون مستعدًّا مرّة أخرى للانخراط في أيّ مسار ديمقراطي، إلّا بولادة مشروع سياسي واضح، تقوده وُجوه جديدة، غير تلك التي ألفها الناس، ومن داخل 25 جويلية، حيث يقف الشعب، لا من خارجه.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مؤتمر صحفي لوزير الخارجية الفرنسي ستيفان سيجورنيه في لبنان


.. المبادرة المصرية بانتظار رد حماس وسط دعوات سياسية وعسكرية إس




.. هل تعتقل الجنائية الدولية نتنياهو ؟ | #ملف_اليوم


.. اتصال هاتفي مرتقب بين الرئيس الأميركي ورئيس الوزراء الإسرائي




.. مراسل الجزيرة يرصد انتشال الجثث من منزل عائلة أبو عبيد في من