الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ولادة الفلسفة التحليلية من أجواء المكارثية

دلير زنكنة

2023 / 4 / 14
اليسار , التحرر , والقوى الانسانية في العالم


كريستوف شورينغا
ترجمة دلير زنگنة

غالبًا ما تفكر الفلسفة التحليلية ، الاتجاه المهيمن في الفلسفة في الولايات المتحدة ،في نفسها كأنها فوق التاريخ والسياسة. لكن صعودها وتأثيرها الدائم يرجعان إلى المكارثية ، التي أزاحت الراديكاليين من فلسفة ما بعد الحرب.
______________________________________

يكتشف أي شخص يتعامل مع الفلسفة الأكاديمية اليوم بسرعة أن المجال يهيمن عليه أسلوب معين. الأسلوب كلام مباشر ولكنه مثقل بالمصطلحات الخاصة . يتم صياغة الحجج بدقة وتأخذ المناقشة شكل تبادل الاعتراضات والردود المتوالية . الأسئلة الثقيلة التي قد يتخيل المرء انها محورية في الفلسفة تتلاشى بسرعة إلى ألغاز بسيطة . هذه هي الفلسفة التحليلية.

الفلسفة التحليلية اليوم في حالة غريبة. ينعكس هذا في ميل الفلاسفة التحليليين إلى الاعتراف بأن الفلسفة التحليلية لم تعد موجودة. هذه الظاهرة أكثر إثارة للاهتمام مما تبدو. قد يبدو الأمر كما لو أن الفلاسفة المحترفين أصبحوا الآن أكثر استرخاءً بشأن الانصياع إلى نهج محدد بدقة ، وربما أكثر انفتاحًا على المناهج التي كان أسلافهم قد صارعوا ضدها. من المؤكد أن هذا من شأنه أن يتناسب مع قصة يرويها فلاسفة التحليل لأنفسهم ، والتي وفقًا لها في الماضي كان هناك "برنامج تحليل" واضح المعالم ، ولكن ما نتج عنه كان متنوعًا ودقيقًا لدرجة أنه يستعصي على التعريف.

يتطلب فهم هذه الحالة الغريبة لوضع التقليد الفلسفي المهيمن في أمريكا اليوم ، رؤية معاكسة الى حد ما لما تدعيه هذه القصة. لم يكن الأمر و كانه في الأيام الخوالي ، كان هناك "برنامج تحليل" يمكن تحديده بوضوح والذي استبدل بتنوع أكبر. بالعكس تماماً. قبل الحرب العالمية الثانية ، لم يكن هناك شيء يمكن تحديده و إطلاق تسمية "الفلسفة التحليلية" عليه(ولم يتم استخدام المصطلح). بدلاً من ذلك ، كانت هناك مجموعة من الاتجاهات المتميزة والمتنافسة. تم دمج هذه الاتجاهات معًا بعد الحرب العالمية الثانية، في ظل ظروف سياسية وثقافية محددة للغاية في الولايات المتحدة. تم تدشين "الفلسفة التحليلية" لترسيخ الحركات المتميزة سابقًا في مزيج جديد. كان تاريخ هذا الإبداع الجديد - على عكس القصة المفضلة لانصار التحليل - فعل تجميد وليس تنويع.

أصول الفلسفة التحليلية

تميل الفلسفة التحليلية ، و الحركات السالفة التي جمعت من أجل إنشائها ، إلى التفكير في نفسها على أنها معلقة فوق المشاهد المتغيرة للتاريخ. لكن من المستحيل فهم الحالة الحالية للفلسفة التحليلية دون إخضاعها لنوع من المعالجة التي تنفر منها: دراسة القوى الاجتماعية والسياسية التي شكلتها.

العامل الحاسم في القصة هو التحول الزلزالي في تكوين العالم الفكري من الثلاثينيات إلى أواخر الأربعينيات من القرن الماضي . اتسم المشهد السياسي في الثلاثينيات بالصراع بين الفاشية والشيوعية. اعتنق العديد من المثقفين الشيوعية في هذه الفترة. حتى فلاسفة أكسفورد من الاتجاه السائد ،ناقشوا المادية الديالكتيكية بنشاط. بحلول عام 1945 ، عندما ظهرت الولايات المتحدة باعتبارها المنتصر البارز الذي لا لبس فيه من الحرب العالمية الثانية ،وأصبحت النيوليبرالية الأمريكية مهيمنة على الهيكل الاقتصادي والسياسي للعالم "الحر" ، اصبح كل شيء مختلفًا.

قبل عام 1945 ، لم يكن هناك اتجاه واحد بإسم"الفلسفة التحليلية". (إذا تم استخدام المصطلح على الإطلاق ، فقد كان بازدراء ، كما فعل الفيلسوف الإنجليزي آر جي كولينغود RG Collingwood في عام 1933 ،لجمع أولئك الفلاسفة الذين اعتقد أنهم متحدون في ارتكابهم الخطأ.) بدلاً من ذلك ، كان هناك مجموعة من الأساليب المختلفة التي يمكن رؤيتها بأثر رجعي على أنها تصنف تحت راية "التحليل".

في كامبريدج ، تعاون برتراند راسل وجي إي مور في الدعوة الى فلسفة جديدة في عام 1898 ، لكن سرعان ما تباعد الاثنان عن بعضهما البعض. راسل ، الذي بدأ كعالم رياضيات ، تصور "منهجه التحليلي المنطقي" كأداة لبناء فلسفة "علمية" جديدة وطموحة. مور ، وهو في الأصل كلاسيكي ، حرض على "التحليل المنطقي" للتخفيف الى حد ما من التصريحات الطموحة للفلاسفة. كان للتقدم التقني الذي أحرزه راسل تأثير هائل ، لكن مشروعه الفلسفي ، كان يُنظر إليه على نطاق واسع على أنه فاشل ؛ على النقيض من ذلك ، مارس مور تأثيرًا مؤسسيًا هائلاً ، وتشكلت فلسفة كامبريدج بشكل أو بآخر في صورة "التحليل الموري" ، ومن خلال السؤال الملح الذي طرحه مور في المناقشة: "ولكن ماذا تقصد بالضبط ؟"

كان المكان الذي درس فيه بحماس "المنطق الجديد" و الذي ساهم راسل مساهمة عظيمة في انشاءه، هو فيينا. تجمع هنا مجموعة من العلماء من جميع المشارب (فيزيائيون ورياضيون وعلماء اجتماع) حول موريتز شليك لمناقشة القضايا الفلسفية المتعلقة بأساسات العلوم. من مناقشات هذه المجموعة ، التي أطلقت على نفسها اسم حلقة فيينا ، ولدت "الوضعية المنطقية".

كانت الوضعية المنطقية حركة حداثية صاخبة تسعى إلى التخلص من الزخرفة الزائدة التي ميزت النمسا-المجر في عهد هابسبورغ. تبنى أعضاؤها بحماس الفرص لإلقاء محاضرات في باوهاوس في ديساو. كان برنامجها الطموح للغاية هو تحقيق "وحدة العلم" جنبًا إلى جنب مع مجتمع سعيد ومنظم بشكل عقلاني. ربطت هذه المشاريع معًا : كان يُعتقد أن التطبيق الصارم للتجريبية في كل العلم، يتماشى مع تربية السكان المستنيرين من خلال "التنشئة الاجتماعية الكاملة" بواسطة التعليم الشامل والإسكان.

تفاوت الحماس بشأن المشروع الاجتماعي بين أعضاء المجموعة (البعض فضل "البقاء على المنحدرات الجليدية للمنطق") ، لكن عالم الاجتماع أوتو نيورات كان ملتزمًا به بما يكفي ليعمل كمخطط اقتصادي للجمهورية السوفيتية البافارية قصيرة العمر. . تميزت حلقة فيينا بفرق مهم عن كل من راسل ومور في الكيفية التي ينظران بها إلى الفلسفة. بطريقة أكثر وضوحا مما يمكن لأي من الإنجليز قبوله ، قصرت حلقة فيينا الفلسفة إلى دور مجرد فحص وتنظيم وتوجيه البيانات التي قدمتها العلوم التجريبية. لم تعد الفلسفة ملكة العلوم: لقد كانت مجرد خادمتها.

في فيينا ، كان يُنظر إلى الوضعيين المنطقيين على أنهم حركة راديكالية - وهذا صحيح ، بسبب سعى برنامج الحلقة إلى معارضة قوى اللاعقلانية الشعبوية التي أطلقها النازيون. بحلول الحرب الأهلية النمساوية عام 1934 ، ونتيجة لها تم استبدال المستشار الفاشي إنجلبرت دولفوس مع فاشي اخر هو كورت شنوشنيج ، أصبح وضعهم لا يطاق بشكل حاسم. وكما قال الشاعر إنجبورج باخمان لاحقًا ، في فيينا نفسها ، ماتت حلقة فيينا. هاجر العديد من أعضائها إلى الولايات المتحدة. في الولايات المتحدة أعادوا اختراع أنفسهم كفلاسفة للعلم. كان هذا عمومًا ما لم يكونوه أبدًا: لقد كانوا علماء. لكن الأهم من ذلك أنهم جاءوا الآن لتشكيل أقسام الفلسفة وبالتالي الانضباط المؤسسي للفلسفة.

من مائة زهرة إلى زهرة واحدة فقط

كان المشهد الذي وجده المهاجرون الأوروبيون في أمريكا، كثرة من المناهج الفلسفية. احتوت المجلات على جهود بناء نظم كبرى من قبل المثاليين التأمليين، ولكن كان هناك أيضًا الواقعيون النقديون والبراغماتيون. ثم كان التوميون Thomists ، الفلاسفة الذين يعملون بالتقليد الأرسطي كما شكله عالم اللاهوت القديس توما الأكويني. حتى النتاجات المعاصرة- على عكس القديمة- من قبل الفلاسفة الهنود ، كانت تناقش على صفحات مجلة مراجعة فلسفية Philosophical Review ، التي كانت آنذاك واحدة من أكثر المجلات شهرة في هذا المجال.

كل هذا سيتغير بسرعة ، حيث لعب الوضعيون المنطقيون دورًا رائدًا في إعادة تشكيل الفلسفة. ما فعلوه هو في الأساس ربط نهجهم الخاص مع الآخرين الذين شعروا أنهم يتعاطفون بدرجة ما معهم. في هذه المجموعة، تم جمع أعمال راسل ومور ، و الفيلسوف النمساوي لودفيج فيتجنشتاين الذي تلقى تعليمه في كامبريدج (بمعنى ما جسر بين راسل و هؤلاء ) ، وعناصر من التقاليد البراغماتية الأمريكية.

خضعت الفلسفة الأمريكية لتحول سريع. من نظام "دع مائة زهرة تتفتح" الذي كان سائدًا قبل الحرب العالمية الثانية ، استحوذت الفلسفة التحليلية الجديدة بسرعة على أقسام الفلسفة والمجلات. و بالنظر إلى مكانة أمريكا المهيمنة في العالم ، فإن هذه الفلسفة التحليلية الجديدة ستحدد الآن النغمة في البلدان الأخرى الناطقة باللغة الإنجليزية وخارجها (خاصة الدول الاسكندنافية).

لماذا تم ذلك بهذه السهولة والسرعة؟ لا يمكن تفسير ذلك من خلال "قوة الأفكار" وحده، ولكن يجب فهمه من منظور المناخ السياسي الذي ساد في الولايات المتحدة ، بدءًا من الأربعينيات. ينعكس هذا في التحول الذي مر به الوضعيون المنطقيون عندما تم نقلهم من أوروبا إلى الولايات المتحدة. شخصيات مثل رودولف كارناب (أحد رواد حلقة فيينا) وهانس رايتشنباخ (الذي ترأس حلقة برلين الشبيهة ) كانوا اشتراكيين صريحين في أوروبا. في أمريكا احتفظوا بالسكوت فيما يتعلق بسياساتهم ، واختفى البعد الاجتماعي من عملهم.

الفلسفة التحليلية و "الرعب الأحمر"

عندما سعت الولايات المتحدة إلى ترسيخ هيمنتها الجديدة في العالم ، في مواجهة مجال النفوذ السوفيتي ، دخلت فترة من السيطرة السياسية الصارمة على الأكاديمية. واللقب الذي يطبق عادة على عصر الاضطهاد والبارانويا هذا هو "المكارثية" ، لكن الظاهرة أوسع مما يوحي به المصطلح. امتد الاضطهاد إلى ما هو أبعد من لجنة الأنشطة غير الأمريكية (HUAC) السيئة السمعة التي رأسها مكارثي. كان المحرك الرئيسي للمراقبة والاضطهاد ، في الواقع ، هو جي إدغار هوفر [مدير مكتب التحقيقات الفيدرالي FBI]. تعرض كل من كارناب وريتشنباخ للمراقبة والمضايقات من مكتب التحقيقات الفيدرالي. و لان مكتب التحقيقات الفيدرالي كانت تعترض الرسائل بانتظام ، فقد أصبحت دائرة شكهم يشمل اي شخص (لقد وصلوا إلى كارناب من خلال قراءة مراسلات عضو آخر في حلقة فيينا ، فيليب فرانك). قد يكون مجرد شم ريحة القرب من افكار أو نشاطات شيوعية كافياً لتبرير إثارة قلقهم.

كان مناخ الخوف يعمل وفق منطق بسيط للغاية. تم استدعاء الأكاديميين المشتبه في كونهم شيوعيين أمام HUAC ، أو أمام لجان مختلفة مرتبطة (لجنة Rapp-Coudert في نيويورك ، لجنة Canwell في ولاية واشنطن). تم استدعاؤهم كشهود ، لكنهم في الواقع كانوا مدعى عليهم. إذا ثبتت إدانتهم ، إما لأنهم اعترفوا بأنهم كانوا شيوعيين ، أو كانوا صامتين ، فإن الفصل[من الوظيفة ] يتبع ، عن طريق الحجة المباشرة التالية ، التي وضعها فيكتور لوي في صفحات  مجلة الفلسفة :

(1) البروفيسور (س) شيوعي.

(2) الشيوعي لا يحترم حرية البحث أو الموضوعية في التدريس. بعبارة اخرى ، فإنه يلقن مبادئ خط الحزب والديكتاتورية السوفيتية.

لذلك (3) لا يصلح (س) ليكون بروفيسوراً.

بعبارة أخرى ، لا داعي لفحص الآراء السياسية الفعلية للبروفيسور ، ولا سجله التعليمي. (في حالة الفلاسفة الذين خضعوا لهذه المعاملة ، كانت سجلاتهم التعليمية لا تشوبها شائبة ؛ في الواقع ، كانوا من بين أكثر الاساتذة شعبية ونجاحًا في كلياتهم .) كانت الصورة كما صورت في فيلم المرشح المنشوري The Manchurian Candidate. كان الشيوعي ، بحكم تعريفه ، دمية يتم التحكم فيها من موسكو دون أي سلطة فكرية مستقلة خاصة به.

ظهور الفلاسفة أمام اللجنة

إن الفلاسفة الذين ظهروا بالفعل أمام مثل هذه اللجان ، وكانوا نتيجة لذلك قد طردوا جميعًا من وظائفهم ، لا يمثلون سوى النهاية الحادة للإسفين. كانت الوظيفة الأكثر أهمية للمكارثية هي نشر الخوف العام حتى يتم التراجع إلى تبني السياسات السائدة ، و اعتبارها أفضل سياسة، في الفكر والعمل. من المستحيل الآن قياس مناخ الخوف العام ، على الأقل بسبب حجاب السرية المفهوم الذي وضع منذ ذلك الحين ،على ظاهرة المكارثية في الأوساط الأكاديمية. في ضوء ذلك ، فإن أفضل إحساس يمكن أن نحصل عليه عما كان عليه الحال هو الاستماع الى شهادة وتجربة الضحايا المباشرين لعمليات التطهير.

من بين الضحايا المباشرين ، كان بعضهم ماركسيين في فلسفتهم ، بينما بالنسبة لآخرين لم يدخل التزامهم السياسي في عملهم. مثال على النوع الأخير كان المنطقي البارز ويليام تي پاري William T. Parry، الذي انضم إلى الحزب الشيوعي بعد أن شهد إغلاق جامعة فيينا بسبب أعمال الشغب الفاشية في الثلاثينيات. عوقب پاري بشكل خفيف نسبيًا بعد ظهوره أمام HUAC: ألغيت خدمته الدائمة* tenure ،و توظيفه "تعيين سنوي" كأستاذ مساعد. كان المؤشر الوحيد على مغازلة الماركسية في مسيرته الفلسفية هو الورقة التي كتبها مع ضحية أخرى للمكارثية ، ڤي جي ماكجيل VJ McGill ، بعنوان "وحدة الأضداد". فصل ماكجيل من كلية هانتر ، نيويورك ، في عام 1956 ليس لكونه هو نفسه شيوعيًا ، بل رفضه "تطهير نفسه" عن طريق اعطاء اسماء اعضاء في الحزب الشيوعي.

*[تعد الخدمة الأكاديمية الدائمة Tenure في الولايات المتحدة وكندا حقًا تعاقديًا يمنح التدريسي أو الأستاذ منصبًا دائمًا في العمل في مؤسسة أكاديمية مثل جامعة أو مدرسة. يقصد بها حماية التدريسي من الفصل دون سبب عادل ، والسماح بتطوير الآراء أو الأفكار التي تعتبر غير شعبية أو مثيرة للجدل في المجتمع. في أمريكا الشمالية ، تُمنح الخدمة الدائمة Tenure فقط لهؤلاء الذين يعتبر عملهم مثمرًا ومفيدًا بشكل استثنائي في حياتهم المهنية-المترجم]

في حالة أولئك الذين اتبعوا النهج الماركسي في عملهم الفلسفي ، من الواضح أن القوة المضادة المباشرة للفلسفة التحليلية ،قد أصيبت بجروح خطيرة في فعاليتها، بسبب قمع المكارثية لحياة انصارها المهنية. ومن بين هؤلاء كان باروز دنهام Barrows Dunham وستانلي مور Stanley Moore، اللذين انضما إلى الحزب الشيوعي في الثلاثينيات. جعل دنهام نفسه مثال اختبار أمام HUAC من خلال رفض الإجابة على جميع الأسئلة باستثناء تلك المتعلقة باسمه وعمره وعنوانه ، ثم التذرع بالتعديل الخامس [من الدستور] (الذي يحمي من تجريم الذات).

تم فصله حسب الأصول من قبل جامعة تمبل. في أعقاب ذلك ، سرعان ما تلاشى الدعم السابق لدنهام. أشهر فيلسوف براغماتي أمريكي ، جون ديوي ، قد أيد بحماس عمل دنهام الماركسي للتاريخ الفكري "الانسان ضد الأسطورة" Man Against Myth ، عندما أرسل إليه في مرحلة التقييم قبل نشره. أدرك ديوي بعد ذلك أن دنهام كان في مشكلة مع صيادي الحمر، فجأة لم يعد يتذكر أنه أعطى تأييده وسحبه. لم تتم اعادة دنهام إلى منصبه في تمبل حتى عام 1981.

تمكن دنهام من إعالة نفسه ككاتب مستقل لبقية حياته. فيلسوف ماركسي آخر هو ستانلي مور Stanley Moore ، تم استدعاءه أمام HUAC ، تمكن من ترتيب عمل [في نفس المجال] بعد أن طردته كلية ريد في بورتلاند ، أوريغون. آخرون لم يحالفهم الحظ.طرد هربرت ج. فيليبس Herbert J. Phillips، و كان من أوائل ضحايا المكارثية ، من منصبه في جامعة واشنطن لمجرد عضويته في الحزب الشيوعي. كان من الواضح أن فيليبس كان مدرسًا ممتازًا و منفتحًا في آرائه الماركسية وناقشها بحرية مع الطلاب ، لم يكن من الممكن توجيه الاتهام إليه إلا لعضويته في الحزب ؛ ساعدت قضية فيليبس في تشكيل النهج العام الذي سيتبناه إدارات الجامعات لاحقًا ، وفقًا لذلك ، فإن كونك شيوعيًا يساوي عدم القدرة على التفكير بشكل مستقل وبالتالي دعم حرية التعبير التي تتميز بها الحياة الجامعية. عمل فيليبس لاحقًا في مصنع للأثاث وفي مجال البناء. قدم الضحية الأصغر سنًا ، موريس جَدْ Morris Judd، الأستاذ الموهوب في جامعة كولورادو في بولدر الذي تمت ترقيته بالإجماع إلى منصب مرموق من قبل قسمه ، أداءً صاخبًا أمام HUAC. أدى ذلك إلى إنهاء عمله. عمل جَدْ لبقية حياته في بيع قطع الغيار المستعملة .

هؤلاء الفلاسفة ، بالطبع ، غير معروفين الآن تمامًا. الشخص الذي اختفى دون أن يترك أثرا بعد بداية ميمونة هو فورست أو.ويغينز Forrest O. Wiggins. كان ويغينز قد صنع التاريخ عندما أصبح أول شخص أسود يشغل منصبًا بدوام كامل في مؤسسة "بيضاء" عندما حصل على منصب في قسم الفلسفة في جامعة مينيسوتا. تم الإعلان عن هذا في ذلك الوقت في الصحافة باعتباره تقدمًا كبيرًا.

ومع ذلك ، في عام 1951 ، أصبح ويغينز عنوانًا رئيسيًا لسبب مختلف. ألقى خطابًا في الحرم الجامعي بعنوان "إيديولوجيا المصلحة " ، حيث بنى حجة قوية تربط بين الرأسمالية والعنصرية والحرب الإمبريالية (كما فعل في نشاطاته الانتخابية من أجل حملة هنري أ. والاس للرئاسة عام 1948). كان الخطاب كافياً لفصل ويغينز ، على الرغم من أن الأسباب المعلنة كانت (و بلا معقولية صارخة) نقصًا في الكفاءة المهنية و البحوث العلمية.

في السابق ، قام مكتب التحقيقات الفيدرالي بنشر شائعات بأن ويغينز كان مثليًا جنسيًا ، وأيضًا أنه مارس الجنس مع طالبات بيض. أثارت قضية ويغينز ضجة كبيرة بين الطلاب ، حيث وقّع أكثر من ألفي منهم على عريضة احتجاج إلى رئيس جامعة مينيسوتا. سيتم إدراج العديدين من هؤلاء الطلاب في وقت لاحق على القائمة السوداء. شاركت الرابطة الوطنية لتقدم الملونين (NAACP) أيضا . لكن ويغينز لم يكن لديه أي فرصة. طلقته زوجته ، و تدمرت حياته المهنية.

يجب ألا نتخيل أن الاضطهاد المكارثي لأساتذة الفلسفة انتهى بوفاة جوزيف مكارثي في عام 1957. وصفت الفيلسوفة الراديكالية الماركسية السوداء أنجيلا ديفيس في سيرتها الذاتية بمهارة العملية التي أدت إلى طردها من جامعة كاليفورنيا ، لوس أنجلوس ( UCLA) ، في عام 1969 باعتبارها "محاكم تفتيش على طريقة مكارثي".

ومع ذلك ، تشير قضية ديفيس إلى الكيفية التي تغيرت بها الأمور من نواحٍ مختلفة. لسبب واحد ، تم تعيينها من قبل قسم يتبنى اتجاها تحليليا راسخًا في جامعة كاليفورنيا (بعد أن حاول دونالد ديفيدسون قبل ذلك بعام ، دون جدوى ، توظيفها في قسم مماثل في جامعة برينستون). من ناحية أخرى ، كون الشخص شيوعيًا لم يعد الآن كافيًا للفصل. دافيس ، التي فصلت في الواقع ليس مرة واحدة بل مرتين ، حرصت على إثبات ذلك. في المرة الأولى ، ردت على رسالة من مكتب العميد تطلب منها أن توضح ما إذا كانت عضوة في الحزب الشيوعي أم لا ، من بالاجابة بجرأة أنها كذلك. نقضت قرار فصلها. لكن في المرة الثانية ، لم توجه إليها تهمة الشيوعية ولكن الإدلاء بتصريحات غير متوافقة مع الحياة الجامعية. في إحدى الخطب التي ألقتها حول الحرم الجامعي ، وصفت ديفيس - بطريقة شائنة - الحرية الأكاديمية بأنها "مهزلة حقيقية" ما لم تُستخدم "لكشف النقاب عن الأفكار والأفعال القمعية السائدة في هذا البلد".

من الواضح بما فيه الكفاية أن المكارثية وإرثها كانا كافيين لجعل الحياة صعبة بالنسبة لاتجاه معين, كان ماركسيا بشكل عام، معارض للتيار التحليلي السائد الذي يتميز بالتزامه العام بالتجريبية والليبرالية. لكن قوتها في ترسيخ الاتجاه التحليلي السائد تجاوزت ذلك. كان الاتجاه العام في تلك الفترة هو حجب البدائل عن الاطار النظري (البارادايم) paradigm الذي امتد عبر مختلف التخصصات. هذا الاطار النظري ، الذي يتألف من منهجيات تم تطويرها لأغراض البحث والتطوير في الحرب الباردة ، مثل نظرية الاختيار العقلاني rational choice theory، وبحوث العمليات operations research، ونظرية اللعبة game theory ، تعمل على تعزيز رؤية للمجتمع ، و للأبحاث، بالاعتماد على الفكرة الليبرالية الكلاسيكية عن الفرد العقلاني المستقل باعتباره الوحدة الأساسية للمجتمع.

وفقًا لهذه النظرة للعالم ، يرحب بكل مشارك لدخول سوق الأفكار وتقديم بضاعته على النحو الذي يراه مناسبًا. كانت الفلسفة على ما يبدو هذه الساحة في أنقى صورها. كل ما يهم فيه هو منافسة الأفكار ، الذي يحدث في فضاء خالي من مصالح القوى. ما تتجاهله هذه، بالطبع ، هي البصيرة المركزية التي تجد الماركسية ،ونظرية العرق النقدي ،والنسوية ،وغيرها من انتقادات النظام الاجتماعي صعوبة في اقناع الفلاسفة التحليليين: أن علاقات القوى تحدد بنية السوق قبل أن يدخله أي شخص.

لم تكتسب الفلسفة التحليلية فلسفة سياسية خاصة بها إلا في عام 1971 ، بعد عقود من العقم ، في نظرية العدل لجون راولز John Rawls. ليس من المستغرب أن يأخذ هذا العمل ، الذي في إطاره، تم القيام بجميع الابحاث الفلسفية السياسية التحليلية اللاحقة ، شكل تبرير واسع لليبرالية الأمريكية. في سعيه وراء ما أسماه "مجتمع منظم جيدًا" ، افترض رولز ببساطة مصفوفة من الأفراد يتابع كل منهم رؤيته للحياة الجيدة ، ثم ابتكر مخططًا تفصيليًا لتخصيص الموارد لهم. كان على الأفراد أن يفعلوا ذلك بوضع أنفسهم تحت "حجاب الجهل" الذي منعهم من معرفة موقعهم في المجتمع. لم يؤخذ في الاعتبار أبدًا مصداقية عمل الأفراد في مثل فراغ السلطة هذا.

ليست الفلسفة السياسية فقط ، التي تعاني من انقباض القالب التحليلي المفروض ذاتيًا . إن مشكلة الفلسفة التحليلية التي نشأت في أواخر الأربعينيات ، حيث اندمجت الوضعية المنطقية مع الحركات الفلسفية الأخرى وتخلصت من بعدها السياسي ، هي أن خطابها كله يحدث في فضاء السوق الليبرالي للأفكار. يفسر هذا التوترات الغريبة التي تمر بها الفلسفة التحليلية حاليًا في محاولاتها لدمج رؤى منظري العرق النقدي و النسوية. قد تكون أكثر تقبلاً الآن مما كانت عندما سعى ويغينز أو ديفيس لتقديم رؤى مماثلة في الخمسينيات أو الستينيات. لكن مع ذلك ، لا يسعها سوى إعادة طرح هذه الأفكار في شكل مشوه بشكل غريب: كاتجاهات في السوق الليبرالية للأفكار ،التي يسعى هؤلاء المفكرون على وجه التحديد إلى تخريبه وإنهائه .
______________

كريستوف شورينغا أستاذ مساعد في الفلسفة بجامعة نورث إيسترن بلندن ومحرر نشرة هيغل . مؤلف كتابين سيصدران قريباً: "التاريخ الاجتماعي للفلسفة التحليلية" من دار نشر فيرسو و "كارل ماركس وتفعيل الفلسفة " من مطبعة جامعة كامبريدج.

المصدر
جاكوبن








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كيف ساهمت تركيا في العثور على مروحية الرئيس الإيراني المحطمة


.. كأس الاتحاد الأفريقي: نادي الزمالك يحرز لقبه الثاني على حساب




.. مانشستر سيتي يتوج بطلا لإنكلترا ويدخل التاريخ بإحرازه اللقب


.. دول شاركت في البحث عن حطام مروحية الرئيس الإيراني.. من هي؟




.. ما المرتقب خلال الساعات المقبلة حول حادثة تحطم طائرة الرئيس