الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


النحات الأمريكي (كوتزن بورغلم) ونُصب الرؤساء في جبل روشمور

تحسين الناشئ

2023 / 4 / 14
الادب والفن


في ولاية ساوث داكوتا الواقعة في الغرب الأوسط من الولايات المتحدة الأمريكية وعلى واجهة أحد أعلى جبال الولاية يوجد نُصب نحتي مثير يضم وجوه أربعة من رؤساء الولايات المتحدة تم نحتها في تلك الجبال الصخرية بأحجام هائلة، هذا النصب الفريد تحول فور إنجازه الى رمز وطني والى مزار سياحي عالمي يؤمه بشكل متواصل السواح والفنانون الذين يَفِدون من كل مكان رغبة منهم في مشاهدته والتمعن بتفاصيله وطمعا في كشف سر تلك اللمسات العبقرية التي طبعته بسحرها ومحاولة تتبع آفاق تلك الأرادة الخلاقة التي صنعته، فهذا الجبل أصبح اثمن جبل في بلاد المعمورة، وصار هذا الأنجاز الفني الخارق حافزا للفنانين في كل مكان ولجميع اجيالهم مانحا اِياهم قدرا كبيرا من الألهام والتحدي.
فما قصة ذلك النصب الجبار، وكيف اُنجز، وفي أي زمن، وما القدرات والأمكانيات التي كُرست له، وكم استغرق العمل به؟ ومن هو الفنان العبقري الذي كان وراءه؟

تم التخطيط لهذا المشروع الفني الكبير عام 1925 بمناسبة مرور 150 عام على تأسيس الولايات المتحدة، وجاءت فكرة العمل في ذهن مؤرخ معروف من ولاية ساوث داكوتا يدعى دون روبنسون Doane Robinson حيث اقترح ان يتم نحت تماثيل نصفية لأبرز مشاهير البلاد من سكان أميركا الأصليين وشخصيات من الغرب الأمريكي بأحجام غير تقليدية على أحد جبال ساوث داكوتا لغرض تشجيع السياحة، واختار لهذا الغرض جبل يسمى Needlelike rock في منطقة كوستر ستيت بارك Custer State Park . ولغرض تنفيذ فكرته ولتحقيق مثل هذا المشروع الصعب والكبير كان لابد لروبنسون ان يجد فنانا (نحات) جدير ومؤهل يأخذ على عاتقه انجاز تلك المهمة غير الأعتيادية وغير التقليدية، وكان روبنسون على اطلاع على إنجازات ونجاحات النحات المعروف كوتزن بورغلم Gutzon Borglum وعلى علم تام بكفاءته ومستوى امكانياته الفنية وموهبته، فكتب اليه عام 1923 طارحا عليه فكرته الكبيرة وداعيا اِياه للقدوم الى ساوث داكوتا، فلبى بورغلم الدعوة وكان في سن السابعة والخمسين حين قَدِم الى ولاية ساوث داكوتا، ووافق مبدئيا على تنفيذ المشروع.

وكوتزن بورغلم نحات أمريكي جريء يمتلك إمكانيات غير عادية، وُلِد في ولاية ايداهو من عائلة من أصل هولندي عام 1867 ، درس الفن في باريس في اكاديمية جوليان Academy Julien الملحقة بمدرسة البوزار الشهيرة، وخلال فترة دراسته لاقت أعماله الأولى نجاحا في صالات العرض واُتيحت له الفرصة للتعرف على الوسط الفني في باريس وربطته صداقات مع بعض الفنانين وخصوصا مع النحات الفرنسي الشهير رودان Rodin، وبعد اتمامه الدراسة غادر فرنسا نحو اسبانيا حيث أمضى فيها عاما كاملا في ثم عاد الى الولايات المتحدة وأقام في كاليفورنيا، لكنه مالبث ان غادر مجددا الى إنكلترا عام 1896 ولاقى هناك نجاحا حيث عرضت بعض أعماله في قلعة وندسور الشهيرة تحت رعاية الملكة فكتوريا.

في عام 1901 عاد بورغلم الى الولايات المتحدة وأقام في نيويورك وهناك انتج مجموعة من أعماله الرائعة، منها عمله المثير فرسان ديوميدس (Mares of Diomedes) وهو نحت كبير من البرونز يمثل ثلاثة خيول في حركة رائعة، هذا العمل تم اقتناؤه من قبل متحف المتروبوليتان الشهير في نيويورك ويعتبر اول عمل لفنان أمريكي يقتنيه المتحف. وفي عام 1908 أنجز تمثالا نصفيا هائلا من الرخام للرئيس ابراهام لينكولن، يعتبر هذا التمثال بمثابة قطعة فنية نادرة لأنه صيغ بمستوى فني متقدم وهو معروض حاليا في واشنطن. كما انجز عملا جداريا بعنوان (الحواريون الأثني عشر) لحساب كاتدرائية سانت جون في نيويورك، ومن أعماله المعروفة أيضا عمل نحتي كبير من البرونز لفارس يمتطي جوادا يمثل الجنرال فيل شيريدان Phil Sheridan أحد ابطال الحرب الأهلية، قام الرئيس الأمريكي ثيودور روزفلت بازاحة الستار عنه بنفسه، هذا العمل ينتصب حاليا في احدى ساحات العاصمة واشنطن، أنجزه بورغلم قبل تكليفه بعمل نصب الرؤساء. وكانت بعض أعماله تثير جدلا بسبب أسلوبه ونمط رؤيته الفنية.

حين قرر دون روبنسون عقد اتفاق مع بورغلم لتصميم وتنفيذ المشروع لم يتردد الأخير في قبول المهمة لكنه اقترح ان يتم نحت وجوه أربعة من رؤساء الولايات المتحدة المميزين ليكون النصب وطنيا، يتم اختيارهم من المرحلة التي تشكل أول 150 عام من تأريخ الولايات المتحدة، وان يتم النحت على سلسلة جبال بلاك هيلز Black Hills الشهيرة في الولاية ذاتها وتحديدا على جبل روشمور Rushmore بدلا من Needlelike rock (جبل الأبرة) القريب منه والذي كان اقترحه روبنسون، وذلك لكون صخور هذا الأخير من النوع المتحول ودائمة التآكل، أما جبل بلاك هيلز (ارتفاعه 1745 متر عن سطح البحر) فيتشكل من أحجار الكرانيت الصلبة المستقرة، وأحجار الكرانيت مثلما هو معروف تتميز بصلادتها ومقاومتها للعوامل الجوية، وهي مناسبة تماما لنحت تماثيل عملاقة كهذه.

الرؤساء الأربعة الذين وقع الأختيار عليهم هم:
1. جورج واشنطن لكونه أول من وحد الأمة الأمريكية وأول رئيس للولايات المتحدة.
2. توماس جيفرسون بسبب تحريره بيان الأستقلال، وكان الرئيس الثالث للولايات المتحدة.
3. ثيودور روزفلت بسبب مساهمته في انشاء سوق الأعمال وجهوده في حماية البيئة وبناءه قناة بنما، وهو الرئيس السادس والعشرين للولايات المتحدة.
4. ابراهام لينكولن بسبب إنقاذه البلاد من التفكك ابان الحرب الأهلية ولقضائه على العبودية، وهو الرئيس السادس عشر.

تمت المباشرة في المشروع في 4 أكتوبر عام 1927 بمشاركة 400 عامل ونحات، وتم الأستعانة بعدة شركات مساعدة، فكانت هنالك شركة متخصصة لتزويد الطاقم يوميا بمئات من رؤوس الحفر والأجهزة والمطارق الهوائية وأقلام الحفر اليدوية... وشركة اخرى مهمتها تهيئة الرافعات والكراسي المعلقة والغرف المعلقة، وشركة ثالثة للحسابات لأدارة الشؤون المالية وأجور العمال ومصروفات العمل، وشركة رابعة مهمتها إزالة الصخور الخارجية وقطع الكتل الكبيرة بواسطة الديناميت. وقد توقف العمل في مراحل منه بعد ان واجه المشروع صعوبات عديدة أهمها نقص التمويل الدوري (الأموال) من قبل الجهات الداعمة رغم دعم الرئيس الأمريكي حينذاك Calvin Coolidge للمشروع. كذلك مشكله تتعلق بوجه توماس جيفرسون (الثاني من اليسار) حيث اِقترح البعض اَن يكون موقعه الى الجهة الأخرى من النصب.

وكان كوتزن قد صنع مجسما أوليا (ماكيت) للنصب من مادة الجبس بحجم يقارب عشرة أمتار للأستعانة به في قياس نسب الوجوه المنحوتة وكان بمقاس 1/ 12 من حجم النصب الأصلي، فكل اِنج (2.5 سم) في المجسم الأولي كان يعادل قدما (30 سم) على الجبل.

عند بدء العمل كانت الخطورة تتمثل بتفجير الديناميت وتطاير الكتل الحجرية وتساقط الصخور، اِذ تم إزالة حوالي 90% من الصخور عن طريق الديناميت، كما تم تشذيب الطبقة الخارجية للصخور قبل المباشرة بالنحت وذلك بإزالة قشرتها بعمق 15 سنتمتر، ثم أجريت عملية تنظيف شاملة للجبل تم خلالها ازالة بقايا الصخور والأتربة والأحراش قبل مباشرة العمل. وجدير بالذكر ان جبل ريشمور الذي أصبح اشهر جبال أميركا بعد أقامة النصب العملاق، يقع في منطقة جبلية تزدان بأشجار برية غالبيتها من أشجار الصنوبر وأشجار الحور الرجراج، وتنتشر في المكان حشائش وأعشاب وزهور برية متنوعة، وتعيش في رحابها انواع من الغزلان والماعز وهي اكثر أنواع الثدييات انتشارا هناك، كما يعيش في المناطق المجاورة حيوانات أخرى كالأسد البري المسمى بوماس Pumas والثور البري، كما تعتبر بيئة حاضنة للسناجب (جمع سنجاب)، إضافة لشتى أنواع الطيور. فهي اذن منطقة برية حيوية عامرة بالحياة.

كانت طريقة العمل والتكنيك التي انتهجها بورغلم في النحت تعتمد أولا على إزالة أكبر قدر من الكتل بواسطة الديناميت ثم اِتبع تكنيكا خاصا سماه جوف العسل (Honey Coven) وهو يقتضي عمل أكبر عدد من الثقوب في جدار الجبل (الوجوه المنحوتة) ثم القيام بعملية طرح الكتل الحجرية الزائدة شيئا فشيئا الى اَن يصبح السطح صقيلا ثم يُنحت لتأخذ الملامح شكلها النهائي. لقد تمت إزالة حوالي 450000 طن من الصخور خلال سنوات العمل، حيث كانت كِسر الأحجار تتجمع في أكوام عند قاعدة النصب. وكان الحفارون يضعون طوال فترات عملهم اقنعة واقية على أنوفهم تقيهم غبار الكرانيت المتطاير الخطر.

خلال سنوات العمل كان العاملون في الموقع يرتقون صباح كل يوم سُلما مؤلفا من 700 درجة لغرض الوصول الى مقر العمل في أعلى الجبل لتسجيل حضورهم اليومي (يبلغ ارتفاع النصب حوالي 150 مترا عن سطح الأرض)، يستقلون بعد ذلك كراسي معلقة بحبال فولاذية تنقلهم الى واجهة الجبل (الجزء المنحوت) وهو بعرض يقارب 120 مترا، ليباشروا العمل كل بمهمته الموكلة له. وقد استخدم الحفارون آلات ثقب وتكسير الصخور (Jackhammer) والمطارق الهوائية وأزاميل النحت Chisels في عملية نحت الصخور وصقلها، وبلغت أجرة العامل الأعتيادي (الحفار) ثمانية دولارات في اليوم وهو مبلغ جيد في ذلك الزمن، أما النحاتون فكانوا يتقاضون ضعف هذا المبلغ.

بعد ثلاث سنوات من العمل، أي في عام 1930 اكتمل نحت رأس جورج واشنطن وكان موقعه الأول الى جهة اليسار بحسب النموذج الذي وضعه كوتزن، ثم اكتمل رأس جيفرسون عام 1936 ، ولنكولن عام 1937 وموقعه الأول من جهة اليمين، وأخيرا اُنجز رأس روزفلت عام 1939 ، وبلغ حجم كل رأس حوالي 60 قدم (18 متر) طولا، وهو حجم كبير جدا بكل المقاييس، أما حجم ملامح الوجه فاذا أخذنا نموذج جورج واشنطن كمثال فان عرض الفم يبلغ حوالي 18 قدم، وعرض العين 11 قدم، وطول الأنف 21 قدم... وكانت الفكرة بداية المشروع ان يتم نحت كل شخصية بشكل نصفي، أي الرأس مع الصدر، وهذا ماتم مع جورج واشنطن الذي كان اول الشخصيات المنحوتة، اِلا ان نقص التمويل وقلة التخصيصات المالية جعلت المشروع يتجه اتجاها آخر وذلك بأن يتم اختزال نحت النماذج وجعلها مقتصرة على نحت الرؤوس فقط.

ان انجاز عمل نحتي بهذا المستوى هو أمر بالغ الصعوبة، فإضافة الى الحجم الهائل للنصب ككل، وكذلك مشكلة الأرتفاع الكبير فالحفارون كانوا يعملون معلقين في الهواء وليسوا مستقرين على الأرض، فان مسألة النحت على صخور كرانيتية بالغة القساوة كانت تمثل تحديا كبيرا أمام النحاتين فكانت سواعدهم وأياديهم تتعب بسرعة، هذا من جهة، ومن جهة أخرى فان النحت على تلك الصخور القاسية كان يؤدي الى استهلاك رؤوس الحفر وأزاميل النحت خلال فترة وجيزة، الأمر الذي يستوجب ابدالها أو سنها بشكل مستمر طوال يوم العمل مما يتطلب توفر أعداد كبيرة من أدوات النحت وبشكل دائم. كما كان للظروف الجوية القاسية تأثيرا سلبيا على مجريات العمل وقاسيا على العاملين في الموقع، اِذ كان يتوجب مواصلة العمل تحت جميع الظروف، في الشتاء القارس وفي الصيف شديد الحرارة، سوى وان العمل كان يجري في منطقة غابات مكشوفة وعلى ارتفاع يقارب 1700 متر عن سطح البحر. ورغم المخاطر التي كانت تحيط بهم، لم يُقتل أي عامل في المشروع خلال فترة العمل التي استغرقت 14 عام.

توفي النحات العملاق (كوتزن بورغلم) منفذ هذا المشروع الجبار في السادس من آذار عام 1941 في مدينة شيكاغو نتيجة مضاعفات عملية جراحية وذلك قبيل عيد ميلاده الرابع والسبعون بأيام قليلة وقبل اكتمال النصب بشهور ودفن في مقبرة Forest Lawn في كاليفورنيا، وتولى ابنه لينكولن بورغلم Lincoln Borglum إتمام العمل في المشروع حيث وضع عليه اللمسات الأخيرة حسب رؤية ونهج والده، وأتم العمل به في أكتوبر 1941. واذا مااِستثنينا فترات التوقف العديدة فان انجاز هذا المشروع الفريد استغرق حوالي ست سنوات ونصف من العمل الفعلي المتواصل بتضافر جهود مئات العمال والفنيين والنحاتين.

تم افتتاح النصب رسميا في 31 أكتوبر عام 1941 وبلغت تكلفته حوالي مليون دولار (يقارب 17 مليون حاليا) وهو مبلغ جيد قياسا لحجم المشروع والفترة التي استغرقها العمل وعدد العاملين المساهمين، وقد تحملت الحكومة الفيدرالية نسبة 84% من هذا المبلغ والباقي جاء بصورة تبرعات من أفراد. واليوم يدر هذا الموقع السياحي أرباحا تقارب 27 مليون دولار سنويا، ويستقطب حوالي مليوني (2 مليون) زائر كل عام، ويُعد من أكثر المواقع السياحية جذبا للزوار في الولايات المتحدة.

تم تخليد النحات العملاق كوتزن بورغلم من خلال إقامة متحف خاص لأعماله المتعلقة بهذا النصب في نفس موقع المشروع، سمي متحف لينكولن بورغلم وهو اسم ابنه الذي أتم العمل بعده، هذا المتحف الذي اُفتتح عام 1939 يحكي تأريخ النُصب وكل مايتعلق به من وثائق ونماذج نحت وأدوات وعُدد، اِذ تُعرض فيه الأدوات التي تم استخدامها في نحت هذا العمل الجبار، مع المجسم الأولي (ماكيت) الذي بناه كوتزن واستعان به في نقل مقاسات وأبعاد النماذج المنحوتة. وإضافة الى هذا المتحف فان كوتزن بورغلم قد خلد نفسه بنفسه مسبقا من خلال اِنجازه هذا النصب العملاق الفريد.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ظافر العابدين يحتفل بعرض فيلمه ا?نف وثلاث عيون في مهرجان مال


.. بيبه عمي حماده بيبه بيبه?? فرقة فلكلوريتا مع منى الشاذلي




.. ميتا أشوفك أشوفك ياقلبي مبسوط?? انبسطوا مع فرقة فلكلوريتا


.. ياحلاوة شعرها تسلم عيون اللي خطب?? يا أبو اللبايش ياقصب من ف




.. الإسكندرانية ييجو هنا?? فرقة فلكلوريتا غنوا لعروسة البحر??