الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الدفاع عن الارض والعرض شهادة -قصة حقيقية من زمن الارهاب-

نعمت شريف

2023 / 4 / 14
الادب والفن


كانت العمليات الارهابية تمزق المناطق المحيطة بالمدينة هنا وهناك وبعد استشهاد اكثر من الف شبكي في الجانب الشرقي للموصل ومثله من المكونات الاخرى، سقطت المدينة فجأة، بعد ان هرب القادة العسكريون والمسؤولون الكبار من المحافظة. وانسحب البيشمركة من سهل نينوى على حين غرة، حيث بدأت الغزوات على المدن والقصبات المجاورة. كانت سنجار الضحية الكبرى، والان جاء دور شبكستان وكان الوضع الامني متوترا للغاية، وكان الاهالي يحرسون قراهم من فوق الدور والمرتفعات المجاورة لقراهم، استعدادا للمقاومة وافساح المجال امام العوائل من النساء والاطفال والشيوخ. كانوا يتوقعون الهجوم في اية لحظة. كان الدرس من مذابح سنجار درسا قاسيا للجميع. لثلاثة ايام متتالية كانت العوائل الشبكية والمسيحية تتزاحم على مداخل مدن كردستان ولم يكن الاقليم يسمح لهم بالدخول وكان الرجال من المقاتلين اما يحرسون الخطوط الرئيسية باسلحتهم الخفيفة على الاقل لاعاقتهم الدواعش من اللحاق بالعوائل، او كانوا يعملون على ترتيب اماكن آمنة لمواشيهم وممتلكاتهم.
كان جواد علوكة رجلا قد جاوزالخمسين من عمره، قوي الينية، متوسط لقامة، شديد المراس، شجاعا مستقيما لا حد لصراحته، لا يخاف لومة لائم في المواقف الحرجة. كان ابنه الوحيد واخر العنقود كما يقال، لا يزال صبيا، لم يختبر الحياة والمواقف الصعبة بعد، يتربى في كنف والدين يعزونه ويخافون عليه من عواد الدهر. كان جواد لثلاثة ايام متتالية كالاخرين يصطحب عائلته الى حدود كردستان، يقبلهم قبلة الوداع وخاصة ابنه حيدر امله وحامل اسم العائلة ان حدث له شئ. كان يتركهم جميعا في رعاية ابن عم له يثق به ويعتمد عليه في الملمات. كان هذا قد حاول كثيرا ان يثنيه عن عزمه في المقاومة دون جدوى. اوصاه خيرا بالعائلة وخاصة ابنه حيدر. وعاد الى بيته واثقا من نفسه، وانه سيقاوم الى اخر طلقة من بندقيتيه الكلاشنيكوف والبرنو. شعر انه ربما سيكون هذا اخر وقفة له لاحقاق الحق، وكان يعلم انه على حق وان الله ورسوله والائمة والاولياء الصالحين يناصرونه في دفاعه عن ارضه وعائلته، وان مات سيموت شهيدا على ارضه فحب الوطن من الايمان. كان قد سمع في الصباح ان قوات الدولة اللااسلامية قد بدات هجومها في جنوب شرق الموصل من ناحية الكوير، وتستعد للهجوم على قاطع بعشيقة ووجهتهم على شارع الموصل-الشيخان. كان يعلم ان جميع نقاط البيشمركة قد انسحبت والطريق امام القوات الغازية اصبحت مفتوحة الى مفرق الشيخان حيث كان البيشمركة يستعدون للتصدي لهم، وسيكون هذا متزامنا مع الهجوم على منقذ طريق الموصل-اربيل وكان نقاط البيشمركة في منطقة الخازر ايضا تستعد للمقاومة ولمنعم من التوجة الى اربيل. ولكن المشكلة انه هناك حشود من الاهالي الشبك امام النقطتين ينتظرون العبور الى المنطقة الامنة خلف خطوط الدفاع.
بينما كان جواد في طريقه للرجوع الى داره في قريته القريبة من ناحية برطلة، كان غارقا في تفكيره في المواقع التي ستبدأ منها مقاومته للقوات الغازية ويخطط كيف يستطيع الحاق اكبر ضرر بالاعداء، فعزيمته واصراره على المقاومة حتى الرمق الاخير لا ينثنيان. ارتسمت ابتسامة عريضة على وجهه منذ ان ترك عائلته امام منفذ الكلك، وسمع نفسه يردد مع نفسه، هذا يومك يا ابو حيدر فتوكل على الله واطلب الشهادة او النصر، لا الهزيمة او الاسر. ورجع لافكاره بصمت، اذا كان الموت حقا، فليكن بالشهادة في الدفاع الارض والعرض، وقبل ان اموت سأنادي "الله اكبر" كما نادى الحسين (ع) بارض كربلاء. وبينما هو غارق في افكار المقاومة وكيف ستكون اخر لحظاته، وجد نفسه في اطراف قريته، فخفف سرعته خشية ان يقع في كمين داعشي، ولكنه لم ير احدا في القرية، وقد خيم عليها صمت القبور، لا احد هناك ولم يسمع شئا سوى صوت كلب يعوي بعيدا في الجانب الاخر من القرية، فقال في نفسه، هل استشعر هذا الحيوان ان الهجوم على وشك الوقوع. بدأ يفكر في عائلته، وكانت صورة ابنه لا يفارق خياله، وكلما هم بالتفكير بالاخرين كانت صورة حيدر يتزاحم في ذهنه قبل الجميع. تعوذ الشيطان، وترجل من سيارته، وتوجه بخطى واثقة وخفيقة في الازقة الضيقة نحو داره الكائنة في وسط القرية. كان همه الان الوصول الى سلاحه قبل ان يداهمه الاعداء فهم معروفون بخفة الحركة والعمليات الخاطفة المباغتة. وفكر مرة اخرى في ترك سيارته بعيدة عن الدار سيوحي للمهاجمين ان الدار خالية وسيدخلوها "آمنين" وسيباغتهم هو بالنارليرسلهم الى جهنم وبئس المصير.
وصل ابو حيدر الى داره بسلام وتوجه الى غرفته التي لا زالت دافئة واستخرج قطعتي السلاح من مخبئهما مع كامل العتاد والمحازم، واعدهما للاستعمال. حمل رشاشته اولا وتوجه الى الغرفة في الطابق الثاني حيث يمكنه مراقبة الطريق المؤدي الى وسط القرية، وكانت هذه الفرفة اختياره الاول لانها الاقرب الى الدرج المؤدي الى فناء الدار امام المدخل الرئيسي، حيث توجه اليه واغلقها بالكامل حتى لا يباغته احد وهو يؤدي ركعتي الصلاة قبل المباشرة بمهمته. وفعلا وضع رشاشته بالقرب من وبعد ان اكمل الوضوء والصلاة، رن جرس التلفون، وكانت المكالمة من زوجته تبشره بسماح الاقليم للنازيحين للدخول الى مناطق اكثر امانا خلف الخطوط الدفاعية للبيشمركة. وفي طلب اخير قالت زوجته، لماذا لا تلتحق بنا لان الطريق مفتوح طول اليوم، وربما سيغلقونه غدا. هدأ من روعها بقوله: لا تقلقوا علي، فانا صاحب الدار وانا ساحميه، وانتم سيحميكم ربكم ولا تيأسوا من رحمة الله. واضاف قبلي الاطفال، واغلق التلفون قبل ان يكلم اطفاله وخاصة حيدر خشية ان يؤثر على معنوياته وعزيمته.
كانت بندقية البرنو في غرفة الطابق الثاني للدار حين كان قد اعدها للاستعمال كقناص للمسافة البعيدة اذا تطلب الامر، والا سيستعمل رشاشته الكلاشنيكوف اذا تقرب احد من الدار او حاول اقتحامها بهدف السلب والنهب. توجه الى المدخل الرئيسي وفتح الباب قليلا ليوحي بسهولة الدخول للدار وانها مهجورة. شعر وكانه صياد يعد نفسه لاصطياد فرائسه، وشعر بالاسى لانهم من صنف البشر رغم انهم متوحشون كالبهائم. صعد الغرفة الفوقانية وحمل معه قنينة ماء ونسخة من القران الكريم. وضعهما في الغرفة وبدأ يرص بعض اكياس الرمل وبعض البلوك عند راس الدرج المشرف على فناء الدار والمدخل الامامي. كان قلقا لايستطيع الجلوس ومراقبة الطريق لانه يعلم انه يقترب من نهايته اذا قرر الغزاة دخول القريبة. واخيرا قرر ان يبدأ بقراءة القران بصمت امام النافذة حيث يواجه الطريق العام، لانه يعلم ان القران يمنحة الثقة والاطمئنان. كانت الساعة قد قاربت العاشرة صباحا وتذكر انه هناك خبزا وجبنا في المطبخ اذا حان وقت الغداء ولم يظهر احد في الافق. وبعد حوالي الساعة وهو يراقب الطريق ويقرأ القران، وفجأة سمع اصوات اناس يتكلمون بالعربية، فربما دخلوا من طرف آخر للقرية للتمويه على الباقين في القرية ان كان هناك مقاومة. فحمل رشاشته بسرعة خاطفة وانتقل الى مخبئه خلف اكياس الرمل فسمع صرير الباب، وفعلا كانوا ثلاثة من وحوش داعش، وما كان منه الا ان اطلق وابلا من رصاص رشاشته وارداهم قتلى الواحد تلو الاخر، وسمع احدهم يتلكم على جهازما ربما يطلب النجدة، ولكنه ضبط نفسه ولم ينزل اليه، لا للاستكشاف ولالتقاط اسلحتهم، ولكنه تسلل الى الغرفة ثانية فرأى مجموعة من المسلحين في بداية الطريق ولكنه كان متشوقا للاانقضاض عليهم ولم يصبر طويلا فحمل بندقيته البرنو ووجها من نافذة الغرفة وثبتها على الوسط واطلق النار، فسقط واحد منهم ولكن سمع اطلاق الرصاص من الجهة الثانية فعلم انهم شعروا بوجوده، فتحرك بسرعة ودون ترد نزل الى الباب الامامي واحكم اغلاقه تاركا الجثث الثلاثة داخل الدار فلا بد انهم سيحاولون استرداد جثثهم وسيكون لهم بالمرصاد.
مرت دقائق وكانها ساعات ولم يتحرك احد وتوقف اطلاق النار، وقبل ان يستطيع القيام من مكانه، تناهى الي سمعه دوي كبيروتحول داره الى آنقاض وكاد يختنق من الدخان والغبار عندما سمع دويا ثانيا وغرق في سبات اللاوعي. وبعد ايام من غيابه، بدأت عائلتة يسألون عنه كثيرا واخيرا استطاع احد اولاد عمومته التسلل الى القرية و البحث عنه وبالتعاون اخرين استطاعوا ان يتسلوا جثته من تحت الانقاض وقاموا بدفنه سرا في مقبرة القرية ومغادرة القرية مرة اخرى، ولم يستطيع احد العودة الا بعد هزيمة داعش وتحريرالموصل بايدي القوات العراقية بالاشتراك مع والبيشمركة والحلفاء. رحم الله ابا حيدر فقد عاش حرا ومات حرا وانضم الى قافلة الشهداء والصالحين. ولا تحسبن الشهداء امواتا "بل احياء عند ربهم يرزقون."








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كلمة -وقفة-.. زلة لسان جديدة لبايدن على المسرح


.. شارك فى فيلم عن الفروسية فى مصر حكايات الفارس أحمد السقا 1




.. ملتقى دولي في الجزاي?ر حول الموسيقى الكلاسيكية بعد تراجع مكا


.. فنانون مهاجرون يشيّدون جسورا للتواصل مع ثقافاتهم الا?صلية




.. ظافر العابدين يحتفل بعرض فيلمه ا?نف وثلاث عيون في مهرجان مال