الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


العقلنة المشوهة

سعيد الوجاني
كاتب ، محلل سياسي ، شاعر

(Oujjani Said)

2023 / 4 / 14
مواضيع وابحاث سياسية


يرجع العديد من المفكرين نشوء المجتمع الحديث ، الى التبلور التدريجي لعملية يدعونها بعملية العقلنة Rationalisation .
ويعود الفضل على وجه الخصوص ، في تطوير هذه الفكرة المركزية ، الى الفكر الألماني عموما ، والى السسيولوجي الألماني المعروف ب Max Feber .
يميز Feber بين عدة أنماط من السلوك الفردي :
1 ) السلوك التقليدي المرتبط بالأعراف ، والتقاليد ، والتراث ، وهو نمط السلوك الشائع في الحياة اليومية لمعظم المجتمعات .
2 ) السلوك الوجداني الذي تقوده الأهواء والإنفعالات .
3 ) السلوك العقلاني من حيث القيمة ، وهو نمط السلوك الذي لا تقوده وتوجهه الدوافع والغرائز ، بل توجهه القيم العلمية ، والأخلاقية ، والدينية ، والجمالية التي تجعل الافراد ينذرون حياتهم من اجل تحقيق قيمة من القيم ، وترسيخها واشاعتها ، كمنافحة الأرستقراطي عن شرفه ، والفنان عن مذهبه الفني ، والمناضل عن القيم الدينية او السياسية التي يؤمن بها .
4 ) إلاّ ان السلوك العقلاني الحق ، هو السلوك العقلاني وفق غايات من الغايات العملية . وهذا السلوك يقتضي الملاءمة القصوى بين الغايات والوسائل . وهذا الضرب من العقلانية يُدعى بالعقلانية الأداتية الموجهة نحو تحقيق غايات نفعية ، مع اصطناع كل الوسائل الكفيلة للوصول الى هذه الغايات . والمثال النموذجي للعقلانية الأداتية ، هو سلوك صاحب المقاولة او المشروع الرأسمالي ، الذي يتوخى تحقيق أكبر قدر من الربح ، وكذا سلوك المخطط الاستراتيجي العسكري ، الذي ينظم جيشه بهدف تحقيق النصر في المعركة . ان عملية العقلنة بهذا المعنى تعني التنظيم ، والحساب ، والنجاعة او الفاعلية .
الاّ ان عملية العقلنة ، التي رافقت نشأة المجتمع الحديث ، بل توّلد عنها النظام الاجتماعي الحديث ، هي عملية اجتماعية عامة ، تقوم على تنظيم مختلف العمليات الاجتماعية ، تنظيما حسابيا دقيقا ، بهدف تحقيق نتائج ملموسة وناجعة . وقد استندت هذه العملية الى فكرة فلسفية مفادها ، انّ العقل هو الهيأة التي يتعين انْ توجه كافة العمليات الاجتماعية ، وهذه الأخيرة تجد نفسها مضطرة للتخلي عن سيطرة التقليد ، والتراث ، وقيم الماضي ، لتسلك وفق منطق الفعالية والحساب والمردودية ، فكأن هذه العمليات الاجتماعية المختلفة ، الاقتصادية ، والاجتماعية ، والثقافية ، مدفوعة حتما نحو الاستقلال الذاتي ، بهدف الخضوع فقط لمنطق داخلي قوامه النظام ، والحساب ، والفعالية . فمثلا لكي تنخرط المنشأة الرأسمالية في سياق تسيير وتدبير منهجي لنشاطاتها ، فانّ عليها ان تنفصل كليا عن الخضوع للمجموعة العائلية . انّ عملية العقلنة ترتبط اذن لا فقط بالحساب ، والصياغة الصورية ، والفعالية ، بل أيضا بنزع الطابع الشخصي عن العلاقات الاجتماعية . أيْ إعطائها طابعا عما ، يعبر عنه بصيغ قانونية ، ومن ثمة التوازن الضروري بين تقدم العقلنة ، وتقدم التشريع والقوانين ، مع إضفاء طابع شمولي غير شخصي على هذه الأخيرة .
وبعبارة أخرى ، فان العقلنة تعني تنظيم كافة مستويات الحياة الاجتماعية ، تنظيما تحكمه قوانين لا شخصية ، تنظيما يكون فيه كافة الافراد متساوين من حيث المبدأ ، في الخضوع لهذه القوانين ذات البعد الصوري . وتشكل البيروقراطية في هذا المنظور ، الفئة التي يوكل اليها امر تدبير وتسيير هذه العمليات المختلفة .
تفترض العقلنة إذن حداً ادنى من العقلانية ، والصورية ، والمساواة أمام القانون ، والتمييز بين الخصوصي والعمومي . لكن اذا كانت هذه العملية هي الصيغة السائدة في معظم مجتمعات الغرب ، فليس معنى ذلك انها الصيغة الوحيدة القائمة . بل هي الصيغة المهيمنة ، ومن ثمة صرامة القوانين وقدسيتها .
اما في المجتمعات التي داهمتها الحداثة التقنية ، والاقتصادية ، والسياسية ، والاجتماعية ، والثقافية بعنف ، ومن ضمنها المجتمعات العربية ، فقد حدث نوع من الإمتزاج والإختلاط الشديد ، بين المعايير التقليدية ، والمعايير العصرية ، مما أدى الى ان تكون مزيج خلاسي غريب .
فمثلا الوظائف العصرية تختلط فيها بشكل واضح ، العقلنة باللاّعقلنة . فسائق التاكسي Le taxi الذي يتعدى ما يسجله العداد ، ويقلب العلاقة مع راكبه الى استجداء ، ونواح ، وبكائيات ، قد تقوده الى رواية قصته العائلية بكاملها ، نموذج واضح للخلط بين الأجر والإستجداء .
وموظف الدولة الذي يُحوّل المصالح العمومية الى مصالح خصوصية ، أي الى ملكية شخصية يبيع خدماتها ، لقاء أجر إضافي يسمى قدحا رشوة ، مثال آخر على ذلك .
وقد أظهرت البيروقراطية العربية ، قدرة هائلة في تليين العقلنة وتكييفها ، بإعطائها مضمونا ملموسا عبر الزبونية ، والمحسوبية ، والرشوة ، والنهب . وفي أحسن الأحوال ، يقدم لك البيروقراطي العربي خدماته " العمومية " ، مقابل خدمات أخرى إذا كنت " تمتلك " أنت الاخر ، قطاعا آخرا من قطاعات الدولة ، او من القطاع الخاص .
وهكذا تصبح القوانين مساطر رخوة ، مطاطة ، تُقصّ وفق المقاس الشخصي ، كما تتحول الملكية العمومية الى ملكية خصوصية ، وتصبح الرشوة ، والنهب ، والزبونية ممارسات " مشروعة " .
ان كل هذه السلوكات يتحقق فيهاعنصر واحد من عناصر العقلانية الاداتية ، هي المنفعة والفائدة . لكنها منفعة فردية تنتفي فيها معايير الشمولية ، والصورية ، والتخطيط الحسابي العقلاني . انها اذن " عقلانية " فردانية فوضوية ، وهذا يجعلها تحقق فوائد على المستوى الفردي ، لا على المستوى الجماعي العمومي . انها تقدم الافراد ولا تقدم المجموعة .
ومن الأكيد انّ هذا المزيج السلوكي ، هو تعبير عن صراع بين نمطين مختلفين . نمط حداثوي ونمط تقليدوي ، ولكنه صراع ينتج نموذجا ثالثا هجينا ، غير ذي شكل محدد ، ويسهم في احداث نوع من التباطؤ في تراكم العقلانية الصورية ، التي لا يمكن بدونها ان يتحقق تراكم تاريخي إيجابي ..








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أحداث قيصري-.. أزمة داخلية ومؤامرة خارجية؟ | المسائية-


.. السودانيون بحاجة ماسة للمساعدات بأنواعها المختلفة




.. كأس أمم أوروبا: تركيا وهولندا إلى ربع النهائي بعد فوزهما على


.. نيويورك تايمز: جنرالات في إسرائيل يريدون وقف إطلاق النار في




.. البحرين - إيران: تقارب أم كسر مؤقت للقطيعة؟ • فرانس 24 / FRA