الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


لقاءٌ قبلَ الغسَق

دلور ميقري

2023 / 4 / 15
الادب والفن


صباحاً، عندما وجدَ رقيبُ الشرطة العسكرية جثةَ زوجته المذبوحة، سمعَ أولاً صوتَ صرخته، جارُهُ المقيمُ في الحجرة المنعزلة نوعاً والأقرب إلى الحمّام. " هذه الحجرة، ملائمة لشخصية ذلك الشاب الشاميّ، العازب والمنطوي على نفسه وكتبه "ـ كما قال الرقيبُ لأصحابه، ذات مرة، مع ضحكةٍ متهكّمة.
كانت تلك صرخةَ فزعٍ، أكثر منها صرخة تفجّعٍ. لقد وجدها رجلها مبللةً تماماً بالدم، مثلَ قطة ميتة أخرجت تواً من الماء. جرحُ عنقها، العميقُ والمشكّل قوساً على امتداد المسافة بين الأذنين، أوحى على الفور للزوج المفجوع أنه جرحٌ انتقاميّ. ما لم يخطر في باله، بالطبع، أن ذلك الجار كان أولَ من اكتشف الجثة. المُحقق، التابع أيضاً لسلك الشرطة العسكرية، تكفّل لاحقاً بمفاجأة زميله الرقيب بتلك المعلومة: " يؤسفني إخبارك، بأنه أعترفَ بعلاقته مع القتيلة، وكانا في ذلك الصباح على موعدٍ في حجرته "، قالها وليسَ بدون شعور بالتحرّج. وأردفَ بنبرة تأكيد: " إلا أنه، من ناحية أخرى، أثبتَ وجوده مناوباً في قطعته العسكرية ليلة الجريمة. لأنّ تشريح الجثة، بيّنَ أن الضحية قتلت في منتصف الليل ".
الجار، ولنقل أن اسمه " بشير "، نمّ إليه منذ بداية حلوله في المسكن حكايةَ رقيب الشرطة العسكرية مع امرأته. كونها حكايةً، يعرفها تقريباً جميعُ مستأجري العمارة، المتصلة مع كورنيش اللاذقية من خلال شارع مظللٍ رصيفُهُ بأشجار الكاوتشوكة، الصقيلة الأوراق.. يعرفها على الأقل رفاقُ بشير في القطعة العسكرية، الذين شغلوا في العمارة دُورَها الثالث وملحقها. في هذا الأخير، أقامَ في صفاءِ عزلة حجرته، وكان عادةً يغلقُ بابها على نفسه، مستأنساً بصُحبة الكتب. لكنّ بشير عرفَ تفاصيلَ الحكاية من صاحبة الشأن نفسها، وذلك حينَ أصبحت عشيقته. " عزيزة " هذه، كانت بدَورها قد تعرّفت على الرقيب المتطوع، المُنحدر من ريف دمشق، عندما كان يخدم في مدينة حماة بصفة مراسل بريد في فرع الشرطة العسكرية. وقالت لعشيقها، فيما بعد، متندّرة: " يلوحُ أنني افتتنتُ بدراجته النارية، أكثر من هيئته الخشنة ". ثم أضافت: " كان يحملني خلفه على الدراجة في جولاتٍ عبرَ الشوارع الجانبية، بعيداً عن أعين أشقائي. هؤلاء، هم أولياء أمري عقبَ وفاة والدنا، وهم من أجبروني آنذاك على القبول بابن عمتي خطيباً. بالنتيجة، أنهم رفضوا الآخرَ لما تقدم للزواج بي؛ فعمدتُ إلى الهرب معه. قرروا آنذاك الانتقام مني، وفق ما علمته من شقيقتي الصغرى، ما حَمَلَ زوجي على طلب نقله من حماة "
" وأنا، بماذا فتنتكِ؟ "، سألها بشير وهوَ يُعيد إليها سيجارتها بعدما عبّ عدة أنفاس. فتحت فمها الشهوانيّ، لتجيب خِلَل غمامة الدخان: " سأظلُ مفتونةً بعينيك، بشكل خاص. لكنك فضلاً عن وسامتك، في غاية اللطف والظرف. كونك خجولاً ومنطوياً، من الصعب أن يعرف المرءُ ما تتمتع به من خصال جميلةٍ إلا عقبَ معاشرتك "
" أنتِ أول امرأة أعاشرها، وقبلاً لم أجرّب الحبَ سوى من طرف واحد "، أعترفَ لها ببساطة. أسكرتها كلماته كالعادة، فقالت وهي تقبله في فمه: " صدقني أنك الحب الحقيقي في حياتي، وأتمنى أن أنجبَ منك طفلي الأول ". ثم استدركت مبتسمة: " طبعاً بعد زواجنا ". لم يفكّر هوَ حتئذٍ بموضوع الاقتران، وكانَ شاغله دوماً أن يكونَ في غاية الحذر في علاقته معها. فاضطر أن يساومَ معلّمه، المُساعدَ المُرتشي، ليحظى بساعة المتعة نهاراً عندما يكون رجلُ عزيزة في الخدمة. هذا الأخير، فضلاً عن اطمئنانه لناحية جاره ـ لما يراه من خجله وتحفظه ـ كان مرتاحاً لأن مناوباتهما ليلاً كانت متفقة. مع ذلك، دأبَ الزوجُ على قطع مناوباته في بعض الأحيان، مدفوعاً بشعور التوجّس من المستأجرين الآخرين في العمارة. علاوة على ذلك، كان ثمة أولادُ صاحب العمارة، وأصغرهم في عُمر المراهقة. لكن عموماً، كان الرقيبُ يثق بامرأته، وقال لها أكثر من مرة: " كيفَ يُمكنني أن أرتاب في إخلاصك، وقد اقترنتُ بك على أثر علاقة حب مشهودة ".
الرقيب، كان قد تورط في مشكلة، وذلك قبل يوم الجريمة بنحو أسبوعين. ففي الدور الثالث بالعمارة، كان بين المستأجرين ثلاثةُ مجندين من مدينة حماة، يخدمون مع بشير في ذات المُعسكر. أخلاقهم، كانت تسوءُ بمجرّد أن ينتهوا من سهرةٍ يُقارعون فيها أقداحَ العرَق. عندَ ذلك كانت ترتفعُ أصواتهم في كل البناء، وأحياناً كانوا يعربدون. ذاتَ ليلةٍ، وكان الرقيبُ قادماً مع امرأته من السينما، أعترضهما مشهدُ أولئك السكارى وهما يصعدان درجَ العمارة. صمتوا على حين غرة، لكنهم راحوا يلقون نظراتٍ وقحة على المرأة: بدا من تصرفهم عندئذٍ، كما لو أنهم لا يغفرون لمواطنتهم هروبَها مع رجلٍ غريب!
في صباح اليوم التالي، استأذنَ الرقيبُ في مقابلة القائد الأعلى لأولئك العسكريين؛ وكانَ على علاقة طيبة معه، كون شقيقه الكبير عملَ كسائقه الخاص أثناءَ خدمته العسكرية. على أثر المقابلة، استدعى القائدُ ضابطَ الأمن كي يأمره بتأديب المعنيين بعدما أخبره بما عرفه عن سوء مسلكهم في مسكن الإيجار. تم توقيفُ أولئك المجندين في سجن المعسكر، وهنالك نالوا في خلال أسبوع واحد ما لم يختبروه ربما من قساوةٍ في كل مراحل أعمارهم. غبَّ خروجهم من السجن، أجتمعوا مجدداً على زجاجة العرَق للقَسَم على الإنتقام من الرقيب الواشي. لكنهم ما لبثوا أن تركوا العمارة، واستأجروا حجرةً في مسكن آخر بالمدينة.
عزيزة، أعربت مرةً أخرى لعشيقها، حينَ انفردت به، عن اعتقادها بحماقة تصرّف رجلها مع مواطنيها أولئك: " وأخشى أن يتعرضوا لنا بالأذى في يوم ما "، قالتها فيما كانت تنفثُ بتوتر دخانَ سيجارتها. كانَ الوقتُ قبلَ الغسَق، وقد خرجا إلى الشرفة للتمتع بمراقبة الأفق البحريّ، أين ضوءُ الشمس ما فتأ يُضيء السحبَ بلونٍ قرمزيّ. ومن نافل القول، أن بشير كانَ إذاك قد تسللَ من مناوبته في المعسكر، المتفقة مع مناوبة رجل عشيقته. محاولاً التخفيف من قلقها، ردّ بنبرة ثقة: " لقد مضت أيامُ عديدة على المشكلة، ولو أنهم شاؤوا التعرضَ لكما لما انتقلوا من العمارة ". حقّ لبشير أن يتذكّر كلماته هذه، التي نثرها همساً مع طلائع الغسَق، وذلك في صباح اليوم التالي.
وإنه المحقق ذاته، من عادَ واجتمعَ مع زوج الضحية بعد عشرة أيام من وقوع الجريمة. أوضحَ لزميله الرقيب، مُتخففاً هذه المرة من ثقل الحَرَج: " أولئك السكارى، حققوا انتقامهم منك؛ ولكنهم لوثوا أيدي غيرهم بدم الضحية "
" أيدي مَن، تعني؟ "
" فورَ حصوله على إجازة، هُرع أحد أولئك المجندين إلى منزل أسرة قرينتك في حماة، ليُخبر أشقاءها عن عنوان مسكنكما. فوقَ ذلك، زعمَ أن سيرتها المشبوهة كانت على كل لسان في العمارة، أين تسكن هيَ. وبحسب أعترافات أولاد حميك، أنهم حضروا في ليلة الجريمة إلى المسكن، الذي يُترك بابه غيرَ موصد شأن بيوت الإيجار، وكانوا يعرفون مسبقاً حجرتكما. لسوء حظ امرأتك، أنه اختلط عليها حقيقةُ طارق باب حجرتها في ذلك الوقت المتأخر. لعلها ظنت، أنك أنتَ أو.. ". ثم سكت المحقق عند تلك النقطة. دمدمَ الرقيبُ من بين أسنانه: " أو مَن، يا صديقي؟ حسنٌ، في مقدوري إكمال جملتك: لعلها ظنته عشيقها! بلى، ظنته عشيقها، الذي تملصَ من مناوبته الليلية كي يُعاشرها. أليس كذلك؟ ". ثم أضافَ مع ابتسامةٍ مُريعة، أشبه بتكشيرة وحش: " من حقك، بعد كل شيء، أن تشعرَ بالشفقة تجاه الرجل الواقف الآنَ أمامك بعارِهِ "
" ليسَ الأمرُ كذلك، يا صاحبي. إنه كيدُ المرأة، وقد ضربَ لنا القرآنُ الكريم مثلاً بليغاً عنه في سورة يوسف "، ردّ المحققُ بإيمان. وقال مُستدركاً، فيما يدُهُ تشدّ على يد الآخر: " على ذلك، أرى من العبث أن تبادرَ بدَورك للانتقام ممن لوثَ شرفك "
" إنها هيَ الملومة، في آخر المطاف، وليسَ هوَ. ما لم يكن في حسبان أحد، أنّ الأشقاءَ حققوا انتقامي لشرفي دونَ أن ألوث يدي بدم الزانية "، أجابَ مُشدداً على المفردة الأخيرة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أمسيات شعرية- الشاعر فتحي النصري


.. فيلم السرب يقترب من حصد 7 ملايين جنيه خلال 3 أيام عرض




.. تقنيات الرواية- العتبات


.. نون النضال | جنان شحادة ودانا الشاعر وسنين أبو زيد | 2024-05




.. علي بن تميم: لجنة جائزة -البوكر- مستقلة...وللذكاء الاصطناعي