الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


في علاقة النظم السياسية بنظم الذكاء الاصطناعي

لبيب سلطان
أستاذ جامعي متقاعد ، باحث ليبرالي مستقل

(Labib Sultan)

2023 / 4 / 15
العولمة وتطورات العالم المعاصر


في هذه الدراسة المختصرة اجد من المفيد اعطاء القارئ العربي الغير متخصص فهما ولو عاما عن منظومات الذكاء الاصطناعي ومايمييزها عن بقية المنظومات المعلوماتية Information Systems الأخرى التي بدأت تتطور منذ ظهور الكومبيوتر حوالي منتصف القرن الماضي . ان هذه المنظومات تقوم بمعالجة بيانات المعطيات( Data )، وأكثرها انتشارا منظومات ادارة قواعد البيانات Database Management Systems ، حيث يتم حفظ البيانات والمعطيات في الذاكرة وفق نسق يسهل عملية البحث السريع عن المعلومة المطلوبة واظهارها بشكل يسهل استخدامها،وتحديث المعطيات عند اجراء تغيير عليها. مثلا اذا تم حجز تذكرة سفر فتتحدث قاعدة ىالبيانات بمعطيات المسافر كما ويتم تحديث المقاعد المتبقية لهذه الرحلة. وهذه المنظومات تسود اليوم في عمل قطاعات اقتصادية كاملة كالمصارف والمؤسسات الحكومية والمالية ومنظومات ادارة الانتاج والتوزيع في الشركات،وغيرها من المنظومات التي لايعقل اليوم انه حتى يمكن ادارة اي عمل حتى ولو بسيط دونها. انها هي من وقفت اساسا وراء التطور العارم للخدمات الذي شهدناه خلال نصف القرن الماضي وابتداء من السبعينات وادت لرفع الانتاجية لجميع المؤسسات واحداث طفرة نوعية في تطور الاداء الاداري والانتاجي والخدمي والحكومي . وفي المجال الصناعي احدث ادخال هذه المنظومات طفرة هائلة سواء في عملية الانتاج نفسها او في ادارته ، وتم تطوير منظومات الانسان الالي The Robot والذي هو مجموعة منظومات ميكانيكية يقوم كومبيوتر صغير ( ميكرو بروسيسر Micro Processor ( بتشغيلها ويحركها لتقوم باعمال ميكانيكية كان يقوم بها العامل بجهده الفيزيائي . كلا هذين الصنفين من المنظومات الادارية اوالانتاجية كان يعتقد انها تشكل خطرا على المجتمعات ، وترفع البطالة ، ولكن ذلك لم يحدث حيث دفع الدول على زيادة رفع التأهيل التعليمي والتخصصي لطلبتها لتلافي مشاكل البطالة خصوصا في لقطاع الانتاجي، وتوجيهه وفق حاجة السوق تجاوبا مع التقلص المنتظر في فرص العمل اليدوي غير الماهر في الانتاج ( في المصانع ) ، او في الادارة ( مثلا الجهاز الحكومي او ادارة المصارف والمؤسسات) . في المعامل مثلا فان شركة فولكسفاكن استطاعت في نهاية التسعينات تحويل 90% من عملياتها الانتاجية الى الروبوتات ، ومثلها معظم الشركات التصنيعية في الولايات المتحدة واوربا الغربية. كان الامل الانساني بالطبع ان يتم تقليص ساعات العمل من 40 ساعة اسبوعيا الى 20 مثلا ،ولكن هذا لم يحدث لليوم في اي مكان ( الكثيرون حلموا بذلك ،ومنهم انا شخصيا حين تخصصت في مجال هندسة الكومبيوتر منذ بداية السبعينات واستخدامه لتشغيل الروبوتات الانتاجية ولاتمتة منظومات الانتاج قبل انتقالي للتخصص في منظومات الذكاء الاصطناعي مطلع الثمانينات) ، ولليوم بالطبع لم نشهد حدوث ذلك . كانت هذه المسألة تشكل عند الكثيرين ، وعندي شخصيا ، اكبر نقد للنظم الحضارية الرأسمالية القائمة ( وهو ليس كالنقد المؤدلج السائد في عالمنا العربي الذي لايزال يتحدث عن البروليتاريا التي اندثرت عمليا اليوم ولم يصبح لها اي دور في المجتمعات كما كتب ماركس). فهناك ظواهر ومعطيات وتحديات تواجهها المجتمعات امام تطور التكنولوجيا، مثل حلم تقليص ساعات العمل واستخدام العشرين ساعة اسبوعيا مثلا التي ليصرفها الموظف اوالعامل على عائلته او لزيادة معارفه باعتبار ان زيادة الانتاج والثروات ستتم من خلال النظم المعلوماتية، وساناقشها لاحقا. ولكن رغم عدم تحقق هذا الحلم الانساني، تحققت مكاسب عظيمة للمجتمعات أهمها زيادة انتاجياتها وثرواتها ومنها زيادة رفاهيتها من جهة، وسهولة الحصول على الخدمات، خصوصا بظهور تقنيات بروتوكول الانترنت في التسعينات ،وسهولة ربط المنظومات وقواعد البيانات بالمستهلك للحصول على الخدماى المباشرة.
اتت منظومات الذكاء الاصطناعي لتمثل الجيل القادم للمنظومات المعلوماتية منذ الثمانينات . اود ان يعرف القارئ ان الفرق الاساس والاساسي بين هذه المنظومات هو الانتقال من معالجة المعطيات Data الى معالجة المعرفة Knowledge والفرق بينهما كبير جدا. فالمعطيات هي عموما ارقاما مثل طول الشخص او وزنه مثلا ،بينما المعرفة تركز على المعاني ، فهي توضح مثلا معنى طول الانسان وتصفه طويلا، قصيرا ، متوسطا وليس بالضرورة ارقاما، ومنه فجملة واحدة " رجل طويال القامة" يمكن ان تغطي عشرات بل وربما مئات الجمل من المعطيات التي تحدد طول الرجل الطويل بالسنتينترات والمليمات . اضافة لفرق جوهري اخر ان منظومات ادارة قواعد البيانات لايمكنها ان تستنتج معلومة غير ممثلة فيها بدقة ( اي انها تستنسخ بما بها ممثلا ومعلنا من معطيات بكل دقة حرفية) ، بينما منظومات ادارة قواعد المعرفة Knowledge Based Systems يمكنها ان تستنتج معلومات ليست ممثلة فيها حرفيا، ومنها اصبحت ذكية كالانسان الذي يعتمد على معارفه للمفاهيم لفهم المعطيات ، وليس بجمع المعطيات نفسها، وتشكل هذه المنظومات لتمثيل لمعالجة المعرفة اهم منظومات الذكاء الاصطناعي، فهي تمثل المعرفة لغويا ، كما في عقل الانسان، فمعنى " رجل طويل" ممثل فيها لغويا تماما كما عند الانسان ( طويل ،قصير ،متوسط ) وليس رقميا محددا كما في منظومات ادارة البيانات التقليدية السائدة . ومنه فهي لاتحتاج الدقة الرقمية او اللغوية في عملها ،عكس التقليدية . مثالا ذلك يوضح الفرق بينهما ، ففي منظومة Google حيث لو طلبت معلومات عن "أبن رشد" وكتبت " ابن رسد" فالمنظومة لن تعجز كونها تتعامل مع المعنى للمعلومة ، وربما تطرح عليك هل تقصد " ابن رشد" او " رشيد " او حتى " هارون الرشيد" ، فهي تتعامل بالمعاني عند البحث وليس بالنص الحرفي، الذي لو كتبته ابن رسد للبحث في منظومة ادارة البيانات التقليدية ستكون اجابتها " لايوجد سجل عنه" ، بينما تقوم ماكنة كوكل التي تستند على استخلاص المعنى من النص ، مثل معنى "ابن رسد" لتحدد انه اسما لشخص عربي، وتحاول ايجاد علاقة من سؤال البحث مع معلومة اخرى مثل عمله او دوره تاريخيا ،وكل منها يسمح بتضييق فضاء البحث ، فان كتبت " الفيلسوف ابن رسد" ستعطيك كل ماله علاقة عن الفلاسفة العرب القريب لفظا الى ابن رسد وتجد ابن رشد حتى من دون سؤالك، واذا قلت الامير "رسد" فهي ستصحح سؤالك وتعطيك معلومة عن ولي العهد المغربي الامير رشيد، او اذا ذكرت الخليفة " رسيد" فتعطيك عن هارون الرشيد ، ، فهي لاتعجز امام عدم التطابق النصي كونها تأخذ بالمعنى للقيام بالبحث. ان منظومة كوكل اساسا هي طروحة للدكتوراه في جامعة ستانفورد في كاليفورنيا عام 1996 وعلى اساسها اقيمت الشركة عام 1998، وهي احدى النماذج الشائعة لمنظومات تجميع وتمثيل ومعالجة المعرفة لغويا ، وهذه اهم ميزة لمنظومات معالجة المعرفة ، انها تستخدم نماذج رياضية لتمثيل اللغة الطبيعية للانسان لتكوين معارفها ، اي مثل الانسان ، فجميع معارفنا ممثلة في ادمغتنا لغويا. ان كوكل قد ساهمت بشكل لانضير له في تسهيل الحصول على المعلوماى وفي نشر الثقافة والمعرفة في العالم ايضا، على الاقل لن تحتاج للذهاب لمكتبة لاستعارة كتاب لمعرفة حياة فولتير، او قوانين نيوتن مثلا ،او عن كوكب المريخ يكفي ان تكتبه على كوكل وتكون امامك بثوان، هذه هي واحدة من نظم ادارة المعرفة ومساهمتها العظيمة وخدماتها التي غطت العالم باجمعه. بالطبع ان مدى موضوعية ودقة المعارف والمعلومات سيعتمد على من يدير شركة كوكل وسياساتها وسياسة الدولة وثقافة المجتمع التي تعمل فيها ، ومن هنا يمكن تحديد علاقة منظومات الذكاء الاصطناعي عموما بالمجتمع الذي تعمل فيه، وهو ماسأناقشه لاحقا.
وكأمثلة عن منظومات مماثلة متخصصة في مجال محدد ، وليس عاما مثل كوكل، وتسدي خدمات جمة ومفيدة جدا ، مثلا منظومة متابعة مرضى السكري من خلال ثلاثة قياسات وصورة لقزحية العين يقوم بها المريض في بيته شهريا لتقوم المنظومة باصدار كافة التوجيهات اللازمة لمتابعة علاجه ومنها كمية الانسولين مثلا كما لو ان المريض قد زار طبيبا مختصا ،وتساعد هذه المنظومة ( التي قمت شخصيا بالاشراف على تطويرها في جامعة سان دياكو ) عشرات الالاف من المرضى وترفع الضغط عن مئات الاطباء بان واحد، والمعرفة في المنظومة لغوية تماما كما هي لغة الطبيب الاختصاصي ( قارن مع النظم التقليدية التي تحتاج لنموذج رياضي مثل المعادلات لعملها وهو امرا غير ممكنا لوصف خبرة طبيب مختص ) ، ومنظومة اخرى طورت في نفس الجامعة ضمن اطروحة طلبة الدراسات العليا لصالح شركة سيسكو والتي تنتج بها المنظومة عدة تصاميم لمراكز المعطيات مثل عدد الخوادم وانواعها وسعاتها وكيفية ربطها لتكوين Cluster أي مجموعة تعمل كخادم واحد كبير ، اي ان المنظومة تقوم بعمل المصممين لهذه المنظومات ، والتصاميم التي تنتج خلال ساعات، كان المهندس المصمم يستغرق اسبوعا واحيانا اكثر لانتاج نفس التصاميم. ومثلها منظومة كبيرة لادارة غرف السيطرة في المفاعلات النووية الكندية لتوليد الطاقة منذ نهاية الثمانينات قمت بالاشراف على تصميمها وتطويرها ، حيث تساعد على فهم مئات الاشارات والقراءات التي تحتاج الى معالجة سريعة عند حدث طارئ ما ، وربطها مع بعض يحتاج ربما الى ساعات من كادر السيطرة، وامكن تصميم منظومة تفسر لهم مايحدث وما يجب عمله خلال دقائق فقط، مستخدمة معارفهم نفسها وممثلة لغويا في المنظومة . فهي جعلت المفاعلات اكثر امانا وتجنب حدوث كوارث خصوصا الناتجة عن اخطاء بشرية من اي نوع تحت ظروف التعب او الجزع تحت الاجهاد الذهني او الذهول مثلا.ان هذه المنظومات لاتحل محل الاطباء ولا المصممين ولا موظفي السيطرة ، انما تزيل الثقل والجهد عنهم وجعل عملهم يركز على الحالات التي يحتاج لتدخلهم فيه فقط، بدلا من العمل المجهد لمعالجة مئات الحالات. واليوم تنتشر هذه المنظومات الذكية القائمة على تمثيل المعرفة لغويا ومعالجتها لتقدم خدمات عظيمة ومفيدة وفي كافة المجالات تقريبا.
ماهي الابعاد الاجتماعية والسياسية لهذه المنظومات التي سيزداد عددها ودورها تدريجيا في حياتنا وحياة الدول والمحتمعات ؟ سأتناول قضيتين فقط في هذا البحث المختصر.
اولا : تأثير هذه المنظومات على التشغيل والبطالة . ان التجربة السابقة على مدى الخمسين سنة الماضية اشارت انها لاتساهم في زيادة البطالة فعلا، كونها تقوم بخلق فرص عمل جديدة موازية بل واكبر للتي يتم الاستغناء عنها ضمن التحول النوعي في نوع العمالة التي تهدف لتقليص العمل اليدوي للانسان ، وزيادة دور مهاراته وقدراته المعرفية، وهوامر جيد بلاشك ان تزاح اخيرا عن كاهل الانسان الثقل الذي وضعته الثورة الصناعية على عمال المصانع والاعتماد على بيع عملهم اليدوي . وكما طرحت بداية مقالتي، فان مفهوم طبقة البروليتاريا ، اي العامل الغير متعلم الذي يستطيع فقط بيع قوة عمله الفيزياوية ،اما قد اختفى او في طريقه للاختفاء كليا من البلدان الصناعية، وتحول الى العامل المتعلم الذي يستخدم مهارته التخصصية في العمل اكثر من مهارته اليدوية ، وهذا قد تعدى المصانع اليوم ووصل حتى لعمال البناء وحتى الخدمات ، والاعمال الادارية ايضا ،بفضل هذه المنظومات. ان زيادة الانتاجية والثروات والرفاه الناتج عن زيادة القدرات الاقتصادية للدول والمجتمعات هو نتيجة واضحة لدور هذه المنظومات في تطوير اقتصادها. يبقى قائما التناقض الرئيس بين حدود الربح والنمو الاقتصادي الهائل الذي تنتجه هذه المنظومات ، وبين مايتلقاه الانسان منها، صحيح انها جلبت لت الرفاه ، ولكنه بقي يعمل 40 ساعة اسبوعيا بابقاء سقف الربح والنمو مفتوحا. واذ لايمكن تصور وضع حد له، لانه يتنافى مع جوهر العملية الاقتصادية بانتاج الثروات وزيادتها، فمنه برزت الحاجة لوضع سقف اجتماعي عليها ، مثل العمل عشرون ساعة اسبوعيا . انها معادلات جديدة ، غير المعادلة الماركسية التقليدية التي وضعت العامل اساسا للانتاج، فيمكن عمليا اليوم تشغيل مصانع بكاملها دون عمال ( زرت مصانع تنتج سنويا مليون جهاز الكتروني معقد ويعمل بها ربما عشرون عاملا جل مهامهم هي المراقبة والتدخل في حالة حدوث خلل ما لاصلاحه وليس المساهمة في العملية الانتاجية نفسها، واجورهم عالية جدا مما يجعلهم من الطبقة الوسطى في المجتمع بل وربما اعلى) ، ومنه فلا نسمع اليوم حتى بوجود اضرابات الا ما ندر. ولغرض اقامة هذا السقف الاجتماعي على الاقتصادي لايقوم احد اليوم بطرح تحويل ملكية هذه المصانع لادارتها من قبل العمال انفسهم ، فهي لا تمتلك اليوم اي معنى ، حيث انها في اغلب عملياتها مؤتمتة ودور العامل ضئيلا في الانتاج نفسه. اما تحويل ملكيتها للدولة فهو سيناريو يرفضه العامل نفسه والمجتمع، حيث سيجعلهما تحت سيطرة وارادة اجهزة الدولة البيروقراطية و السياسيين المتزلفين، وهذا ما شهده الاتحاد السوفياتي مثلا، اضافة ان الدولة نفسها اليوم ترفض ذلك كونها معنية بالبرامج الاجتماعية ولاتريد الدخول في العملية الانتاجية. وعموما يمكن اظهار ان الطروحات النظرية، كما في الماركسية مثلا ، والتي وجدت ارضا خصبة قبل قرن ، في فهم الاقتصاد والملكية الخاصة والطبقات والعلاقات الاجتماعية الناتجة عنها ، كما طرحها ماركس في القرن التاسع عشر، اثبتت انها لم تعد لها قيمة عملية في واقع اليوم ( طبعا لا زالت السلفية النصية للماركسية كما في عالمنا العربي لاتدرك ذلك ، فهي غير قادرة على تفهم الماركسية وفق افاقها المنهجية ، بل نصوصا ودينا ايديولوجيا ستالينيا او ماويا ) . ان وضع سقف اجتماعي مثلا فوق البراغماتية الاقتصادية لماكنة النمو والربح، يمكن اعتباره منهجا ماركسيا تتناوله الليبرالية بشكل اكثر علمية وواقعية بفرض برامج اجتماعية من اعلى ، من الدولة تفرض مثلا تقليص ساعات العمل وزيادة الاجازات وغيرها . ان من نتائج الفرز الاجتماعي لاجخال المنظومات المعلوماتية في الادارة والانتاج قد افرز نمو الطبقة الوسطى التي اصبحت تمثل قرابة ثلثي المجتمع وهي التي تقود فعلا العملية الاصلاحية الاحتماعية اليوم، وليست الطبقة البروليتارية او العاملة كما قال بها ماركس، ويزداد دورها في المطالب الليبرالية بزيادة الحقوق، ومنها مثلا تقليص ساعات العمل، وخفض سن التقاعد، وزيادة فترات الاجازات السنوية او الظرفية ،وزيادة الضرائب على الشركات لزيادة الانفاق على البرامج الاجتماعية، ومنها نجد ان الليبرالية السياسية هي التي تقود معارك المجتمع الحقوقية ، وهي معركة اليسار الاجتماعي مقابل اليمين المحافظ ، ومنها تنال دعم الناخبين وتقود حركات الاصلاح في المجتمعات .ان هذه الظاهرة تعود لادخال المنظومات الزعلوماتية للادارة والانتاج في حياة المجتمعات والدول.
ثانيا : الربط بين استخدامات المنظومات الذكية وطبيعة نظم الحكم السياسية. ان ادخال منظومات ذكي تتعامل في مجال جمع المعلومات وطرح المعارف العامة ، وكيفية استخدامها وتوجيهها، هي قضية جوهرية لها علاقة بنظم الحكم الديمقراطية او الديكتاتورية وتلعب دورا اساسا فيها.
ساضرب مثالين تساعد في فهم وتحليل هذه العلاقة. الأول لنتصور ان منظومة كوكل قد طورت في الاتحاد السوفياتي سابقا‎، ولنقل " كوكول السوفياتي " ، فهل ستوفر نفس المعارف كما توفرها " كوكل ألاميركي " ،او مجرد "كوكول" اليوم . فالمنظومة السوفياتية ستطرح معارف ومعلومات مؤدلجة تتوافق مع سياسة الدولة، خاصة في مجال السياسة والاجتماع والاقتصاد والتاريخ ،وتطرح مفاهيم مثل الدولة والمواطنة والحريات والديمقراطية مثلا، وفق ايديولوجيتها ، أي معارف منحازة مؤدلجة كالتي يطرحها ماركسيونا العرب على الحوار المتمدن مثلا ، وليست معارف عامة موضوعية وحيادية تطرح حتى تلك المؤدلجة ، فلا يوجد حاجز امني او مخابراتي من الدولة عليها ، كما لايوجد حاجز ايديولوجي عليها. ولو قمنا مثلا بالبحث في "كوكل" تحت اسم "تروتسكي" ستجد كافة انواع المعارف والكتابات عنه، معه او ضده، وتجد ربما في "ويكيبيديا " هي الاكثر حيادية ،أي موضوعية " بينها . ولو بحثت تحت نفس الاسم في "كوكل السوفياتي" ستجد جزء قليلا من المعلومات عنه وانه كان قائدا ثوريا ثم خان وتحول الى عدو الثورة والطبقة العاملة وخائنا للبروليتاريا وللدولة السوفياتية وللشعب السوفياتي وهلمجرا" ،اي ان القارئ حتى لايعرف بالضبط ماهي افكاره ولماذا اعتبر خائنا. ومثل اخر لو اراد القارئ التعرف الى" الديمقراطية" لربما تعطيك معارف مثل " مصطلحا برجوازيا للحكم البرلماني اختلقته الطبقات الاستغلالية لخداع الطبقة العاملة " وغيرها . فهذه المنظومات لايمكنها ان توفر اية معرفة موضوعية تحت سيطرة دول ونظم ايديولوجية ديكتاتورية، والعكس يمكن الحصول على معلومات شبه متكاملة من كافة وجهات النظر في حالة عملها في مجتمعات ودول ديمقراطية. هذه هي اول نتيجة هامة يمكن استخلاصها واثباتها.
المثال الثاني يخص خطر استخدام منظومات الذكاء الاصطناعي من قبل الانظمة الديكتاتورية ايضا. ساتخذ من الصين مثالا، حيث نشرت في مدنها ملايين الكاميرات ( وصل عددها اكثر من 500 مليون كاميرا ، اي قرابة نصف عدد السكان ) تغطي جميع شوارع مدنها الكبيرة وازقتها وبناياتها وترصد حركة أي شخص مدرج في قائمة معدة من مخابراتها تصنف السكان بين غير موثوق وتحت المراقبة ، وموثوق، ونصف موثوق اذا التقى شخصا باخر غير موثوق، وتستخدم تقنيات الذكاء الاصطناعي لتقارن صور الشخص المراقب المحفوظة في المنظومة مع الصور التي تأتي من شبكة الكاميرات وبتطابقها يتم ترصد حركاته وتنقل الى المركز المكان والزمان حيثما تحرك وتقوم بتصنيف اي شخص يلتقيه انه غير موثوق لتقوم عناصر المباحثات بتحليله وربما اضافته الى قائمة تحت المراقبة،. ان النظام الديكتاتوري الصيني .يستغل فقرة وضعها بنفسه في الدستورالصيني يسمح للدولة بمراقبة الاعمال والاشخاص الذين يمثلون خطرا على الدولة والمجتمع. قارن الامر مع الولايات المتحدة حيث يمنع دستورها الدولة واجهزتها بخرق الخصوصية الشخصية للمواطن الا في حالات نادرة حددها مثلا باجازة من قاضي لمراقبة قاتل مجرم مثلا. وكمثال تم ازالة الكاميرات المثبتة على هياكل اشارات المرور لرصد المخالفين مروريا بعد ان قامت بعض المدن بنصبها خلال اشهر بدعوى انها غير دستورية ولا يجوز مراقبة مواطن غير متهم قضائيا.
ان الدول الديمقراطية الليبرالية التي ينص دستورها على الحقوق والحريات لمواطنيها وتسن قوانينها وفق هذه الحقوق والحريات ،ويمارس فيها القضاء دورا مستقلا، والدولة هي اساسا غير مؤدلجة ( اي لا تتبنى عقائدية فكرية ) وتقف حيادية مع اجهزتها عن العقائد والايديولوجيات، فيمكن بحكم قوانينها التي تضمن الحريات اللردية انها لن تشكل فيها المنظومات الذكية خطرا على مواطنيها ومجتمعاتها من قبل اجهزة الدولة نفسها، فالدولة اساسا محايدة تجاه عقائد مواطنيها . يبقى المجال التجاري والاقتصادي حيث تطور الشركات منظوماتها لصالح توسيع تسويقها واعمالها لزيادة ارباحها فهي ايضا محددة بنفس قوانين الدولة ومنه فهي تصمم منظومات تحليلية لاغراض التسويق، وحتى هذه ، او غيرها من منظومات الذكاء الاصطناعي ،يقوم الكونغرس الاميركي الان مثلا بسن قوانين خاصة بهذه المنظومات ينتظر سنها هذا العام، ومنه ستأخذ طريقها لباقي الدول الديمبراطية الليبرالية في اوربا الغربية اوىاليابان.
ان هذا الموضوع بالطبع يحتاج الى دراسات اشمل واعمق ، وسيبقى يشغل الباحثين لسنوات قادمة، ولكن كخلاصة عما نعرفه اليوم، ان استخدام هذه المنظومات المعلوماتية والذكية في ظل دول ديمقراطية تحترم حقوق وحريات مواطنيها ، وتكرسهما في دستورها وقوانينها وتتخذ نموذجا علمانيا بفصل الدولة واجهزتها عن الادلجة العقائدية ، لن تشكل خطرا على الافراد والمجتمعات. عكسها في الدول والنظم الايديولوجية والديكتاتورية ، حيث تزيد هذه المنظومات من قدراتها على بسط بطشها على مواطنيها مثلما نرى اليوم في ايران والصين وروسيا البوتينية ، فهذه المنظومات تشكل خطرا على المواطنين، وعلى المجتمع، بل وحتى على الشعوب الاخرى.
د. لبيب سلطان
استاذ متقاعد، هندسة النظم والذكاء الاصطناعي
من جامعة ولاية كاليفورنيا سان دياكو
===========
شكر على التحفيز
اتت مقالة السيدة حنان بديع " الذكاء الاصطناعي الى اين يأخذنا " وتعليق الاستاذ محمد بن زكري عليها مشكورين وشكلت دافعا لكتابة هذه المقولة فلهم الشكر
وتجد مقال السيدة حنان على الرابط :
https://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=789517








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - للذكاء الاصطناعي أوجه متعددة واحتمالات لا محدودة
زكري ( 2023 / 4 / 17 - 00:30 )
قد تصل قدرات التحليل والاستنتاج و(التعلم) ومن ثَم إنتاج المعلومات بل واتخاذ القرار ، في أنظمة الذكاء الاصطناعي ، إلى قراءة ما يدور في أذهاننا والتنبؤ بما (قد) نفعله ، بل وتوجيه تفكيرنا ، ومن ثم احتمال استقلاليتها وخروجها عن سيطرة البشر . {مستقبلا} ، ما يستدعي ضرورة فرض (قانون أخلاقي دولي) بالخصوص .
على أن الأكثر مدعاة للقلق ، هو الروبوتات في شكلها البشري ، فالأمر هنا يبدو مرعبا .
أما {آنيا} ، فكما قد تُستعمل أنظمة الذكاء الاصطناعي لمصلحة الإنسان (محاولة إنتاج الأدوية بتقنية الطباعة ثلاثية الأبعاد / مثلا) . فقد تستعمل أيضا في برمجيات التجسس (بيغاسوس / مثلا) وبرمجيات التعرف على الوجه وقراءة لغة الجسد ، بما يعنيه ذلك من انتهاك جسيم للخصوصية ، وفي الحروب بأنواعها ، فلا حيادية في الأمر .
وهذا يحيلنا إلى ما نعرفه في الفكر السياسي الحديث والمعاصر ، كفرع من العلوم السياسية (بالتقاطع مع الفلسفة وعلم الاجتماع بفروعه والفكر القانوني) ، كما في (نظرية الدولة) ؛ من أنه أبدا ، ليس ثمة من [ دولة محايدة ] ، فالدولة هي : جهاز لتنظيم القمع ، بأدوات السلطة ، للحفاظ على مصالح القوى الاجتماعية السائدة .


2 - ‎حيادية الدولة هو تجاه عقائد مواطنيها
د. لبيب سلطان ( 2023 / 4 / 17 - 09:50 )
تحية استاذ زكري
كما تعلمون لكل دولة اجهزتها لتنظيم وادارة شؤون الناس في الحياة وفق قوانينها وهذا واجبها كدولة كما هو واجب اجهزة الدولة
مسألة حيادية الدولة واجهزتها هي الحياد تجاه عقائد مواطنيها بما فيها ارائهم واحزابهم وجمعياتهم وافكارهم فلايجوز لها التمييز بين المواطنين وفق العقائد وهذه المسألة حسمت في الدساتير التي ضمنت حقوق وحريات المواطنة مثل الدستورين الفرنسي والاميركي بان واحد تقريبا
منذ مئتي عام واصبحت منذ ذلك الحين امرا ثابتا في عمل وقوانين كل الدول الديمقراطية ومنه يقاس مدى عمق ديمقراطية اي نظام. النظم الديمقراطية الليبرالية تمارسها قانونيا وفي الحياة. الدول الكتاتورية بمنعها التعددية اوبفرضها ايديولوجية معينة على المجتمع ليست حيادية تجاه مواطنيها وعليها يصح تعريفكم انها اداة قمع للحفاظ على مصالح اجتماعية او سياسية محددة فهي لاتنطبق على الدول والمجتمعات الديمقراطية كما ترونها وتعرفونها اليوم بل انطبقت على المانيا الهتلرية والستالينية السوفياتية ومثيلاتها حيث حزب واحد وقائد واحد هو مثل اله واحد ومنه تقمع اي مواطن ذو رأي اخر وتحابي من يصفق لهم
مع الشكر وافضل السلام


3 - الحياد في الدولة والدستور وهمٌ وخديعة
محمد بن زكري ( 2023 / 4 / 17 - 16:56 )
عزيزي د. لبيب
في الفكر السياسي الحديث و المعاصر ، وفي نظرية الدولة ، لا وجود لدولة محايدة ، ولا حياد في إدارة الدولة . في كل العصور ، وفي كل نظم الحكم . هذا بمعزل عن أي تنميط فكري .
وفي أيامنا هذه ، نجد مثلا حيا لذلك في موقف إمانول ماكرون من تعديل قانون التقاعد ، وتمريره لمشروع تعديل القانون - باستغلال ثغرة وضعها ديغول في الدستور - بالضد من إرادة الشعب التي عبر عنها في تظاهرات مليونية ، لكن الدولة قمعت جموع الشعب بقنابل الغاز . كما نجده في التظاهرات الاحتجاجية بالدول الأوربية ، ضد التضخم وغلاء الأسعار ، ورفضا لسياسات التقشف والنكوص عن مكتسبات مجتمع الرفاه .
كما أنه لا وجود فعليا لدستور محايد ، فالدساتير يكتبها ممثلو القوى الاجتماعية السائدة ، أي أن الطرف الأقوى سياسيا واجتماعيا واقتصاديا ، هو الأقوى حضورا وتأثيرا في صياغة نصوص الدستور . وإن حرفا واحدا يُدس في كلمة واحدة ضمن سياق مادة واحدة من الدستور (على أساس مبدأ التوافق) ، قد يفرغ تلك المادة من أي مضمون محدد (سياسيا أو اقتصاديا أو اجتماعيا) . وذلك أمر يعرفه كل طلاب كليات القانون و العلوم السياسية .
مع وافر التقدير والاحترام


4 - سؤال للاخ زكري-هل عشت اوزرت اميركا او كندا او اي ب
الدكتور صادق الكحلاوي- ( 2023 / 4 / 17 - 19:03 )
او اي بلد دمقراطي في العالم وخصوصا في الغرب المتمدن-ام ترى في خطب المروم قذافي ضد الغرب وخاصة ضد بلد العلم والتكنولوجيا والثقافة والرفاه اميركا مرجعية وحيده -هل تعرفت على واقع مصطلح الحكومة خادمة للمجتمع وليست قائدة ولا سيدة للمجتمع-تحياتي


5 - رد للسيد الكحلاوي
زكري ( 2023 / 4 / 17 - 22:02 )
لستُ معنيا بالرد عليك ، نظرا لما نالني - مرارا - من شتائمك . لكن لاباس هذه المرة ..
فأولا : أنا دبلوماسي بدرجة سفير ، وعشت وزرت مرارا وشاركت باجتماعات للجان عليا مشتركة .. في مختلف بلدان العالم ؛ فضلا عما اعرفه بأدق التفاصل الدبلوماسية عن مناحي الحياة بكل الدول من خلال التقارير ، كمسؤول بالخارجية .
وثانيا : نظام القذافي القى بي في السجن (دون محاكمة) تحت نير البوليس الحربي ، داخل زنزانة الحبس الانفرادي ، لأشهر لم أر فيها ضوء الشمس ، وصادر جزء من املاكي (عشرات هكتارات الارض الزراعية ، ومحلات تجارية) ، وفصلني تعسفيا من العمل . واعتذرت عن الاستوزار في نظامه .
وثالثا : قلت لك سابقا أني لا استعمل لقب (دكتور) ، لأنه ليس مدونا لي في شهادة الميلاد . و لا استعمل حر (د) لأني لا أرى حاجة لاستعماله في غير محله ، ولست بحاجة لاستعماله أصلا .
انتهى . نقطة على السطر


6 - الفرق بين الحكومة والدولة
د. لبيب سلطان ( 2023 / 4 / 17 - 23:00 )
استاذنا بن زكري
في فرنسا يخاض صراع اجتماعي بين حكومة ومتظاهرين يمثلون شرائح واسعة من الشعب ترفض قرار تمديد التقاعد ودارت كالعادة معارك بين البوليس والمتظاهرين لم تسمع احدا منهم قتل او اذا جرح فهي بسيطة ..ولكل منهم حجته .. وهو شيئ طبيعي في الديميراطيات فهم لايؤسرون لارائهم كما الديكتاتوريات ..وهذا هو الحياد للدولة ..واذا سقطت حكومة ماكرون في الانتخابات القادمة فتأتي حكومة اخرى تعيد القانون ..وهنا حياديتها مرة اخرى تجاه احترام خيار الناخبين فهي لاتفرض عليهم عقيدة او حزب
وكما علق الدكتور الكحلاوي فالحكومات خدمية ولها برامج اقتصادية او اجتماعية وتنتخب لفترة ليرى الشعب مدى انجازها ليقرر الخطوة القادمة ..اما في مفاهيم الدولة المعاصرة ( وليست الماركسية او الستالينية) فهناك فصلا كاملا بين الدولة ولحكومة ..الدولة تمثل السلطات الثلاثة والحكومة هي واحدة منها، بل هي لاتمثل اساسا اجهزة عديدة هي فوق الحكومة كونها تمثل الدولة وليست احزابا وحكومات ..وهو امر لايدركه الكثيرون في عالمنا العربي ويعتبرونها واحدة لانها فعلا في الدول الديكتاتورية واحدة ومنها تصبح جهازا للقمع..الحيادية هي شرط الدولة المعاصرة


7 - اخ زكري انا كنت استاذ ب3جامعات ليبيه ل14سنه بدء من
الدكتور صادق الكحلاوي- فا ( 2023 / 4 / 18 - 01:00 )
1979 فقد تكون من طلبتي
لذالك فانا اعرف الكثير من الامور والاشخاص في ليبيا ولاتزعل ان اسمك لم يكن واردا اللهم اذذا كنت تستعمل اسما ثانيا وهذا مبرر في بلداننا المسكينة البائسه-تحياتي

اخر الافلام

.. بيسان إسماعيل تحسم الجدل حول - العشر كفوف -


.. نادين الراسي تبكي بسبب الخيانة و اشتياقها لأولادها مع رابعة




.. شبكات | -حرب القيامة-.. نتنياهو يقترح تغيير اسم الحرب على قط


.. شبكات | الحرب على لبنان.. مسعفون ومستشفيات هدف للهجمات الإسر




.. سرايا القدس: استهداف دبابة ميركافا وسط مخيم جباليا