الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


محنة الماركسيين التوانسة في علاقتهم بمقولتي -الدولة- و -الديمقراطية-.

عزالدين بوغانمي
(Boughanmi Ezdine)

2023 / 4 / 16
مواضيع وابحاث سياسية


هذا الموضوع حاولت إثارته منذ مُدّة. وها أنا مُجبر على إعادة طرحِه مرّة أُخرى، بسببِ تعليقٍ ساخرٍ، يستغرب صاحبه قائلًا: "ماركسي ويدافع على الدولة". والمحزن أن كاتب هذا الرأي عضو مكتب سياسي لحزب عريق. وكنت قبل هذا التعليق بأيّام قرأتُ على صفحة أحد الماركسيين النُّجباء، ما معناه "الديمقراطية خِدعة بُرجوازية". ولا أدري، وهو الذي قرّر أن الديمقراطية بالإطلاق خِدعة غير صالحة، ما الذي يجعله مناهضًا للرئيس؟

حلّ القرن الثامن عشر بإعلان الإنسان نفسه قوة عاقلة تتصرّف من علياء وحدتها واستقلاليتها عن كل الشأن الأنطولوجى والمعرفي والأخلاقي. ولذلك تميز القرنين السابع عشر والثامن عشر بقدرة غير مسبوقة للإنسان/ العقل على التحرّر من كلّ أشكال التبعية الدينية والاجتماعية، والعودة فقط لذاته أساسا لكل تشريع، ومعيارا لكل تمييز. بمعنى أن لحظة الحداثة هي لحظة تأسيس المعرفى والأخلاقى والسياسى على فك الاشتباك مع الدينى والاجتماعي، بحيث ستُمنح كل الصلاحيات للعقل وحده ..
سينشأ العلم الحديث مع قاليلاي بالقطع مع المعتقدات الكنسية، وإحلال فهم رياضي للمكان وللمادة ، وستؤسس أخلاقية الفعل مع كانط بالقطع مع المعايير الدينية والنفعية، وإحلال شروط عقلانية كونية. وستُقام هندسة جديدة للوجود السياسي بالقطع مع أشكال الحكم التيوقراطية، وما تؤدي إليه من إذلال لكرامة الإنسان وتكريس استعباده، وإحلال فكرة التّعاقد القائمة على الإرداة الحرة والقرار العقلاني الطوعي للانسان، بالاضطلاع بتنظيم ذاته سياسيا، وادارة الصراعات سلميا، وتحمل مسؤوليته كاملة في إيجاد آليات ناجعة في ذلك.

إذن، بهذا المعنى تجسّمت الحداثة في كون الإنسان هو محور الوجود. وبالتالي فالعقل هو محور المعرفة ومفصلها، وهو المنبت الوحيد لتأسيس المعنى. من هنا كان الثامن عشر، قرن الأنوار، قرن الأنساق الكبرى ذات الطابع النظري التصوري، التي تنطلق من مُسلّمة العقل، وتضعه في قلب كل تاسيس ضامنا وحيدا للمعنى.

بعد ذلك حلّ القرن التّاسع عشر بأحداثه الكبرى، لكى تقف تلك التأسيسات على محدودية ادّعاءاتها. أو إذا جاز التعبير ليقف العقل على غروره. إذ تبيّن أن التاريخ بوقائعه له إكراهاته ومُعوّقاته ومطبّاته، وأنّ العقل نفسه ليس إلّا إحدى منتجات التاريخ.
لقد حمل القرن التّاسع عشر الثورة الصناعية، وما انجرّ عنها من مراكمة لرأس المال، ومن تقدم علمي، فكانت الدراسات البيولوجية الصّادمة. ثم ظهرت العلوم الإنسانية، وتنامت النظرة المادية للانسان... وتحت تاثير تلك التطورات، وُلِدت حساسيّة غير معهودة تجاه التاريخ. أدّت في النهاية إلى ظهور وعي جديد بمحورية التاريخي وأساسيته وخطورته، وقوة تداخله انطولوجيا مع العقل...

كل هذا سيقرر مسارا فكريا جديدا، اصطُلح عليه ب"ولادة فلسفات التأويل". وهي مرحلة توقف فيها العقل عن إنتاج الأنساق الكبرى، وانشغل بنفسه. عاد يفحص بداهته ويشكك في إطلاقيته، ليُعيد تعريف نفسه على أساس فعّالية التاريخ.. لذلك يمكننا القول بأن القرن التاسع عشر، هو عبارة عن سلسلة من المراجعات القاسية لمُسلّمة العقل ولبداهته واستقلاليته ولادّعائه القِوامة المطلقة للوعي على المعنى...

هنا، جاء كارل ماركس ليكشف واقعة الاستغلال، والصراع الطبقي، وارتباط الوعي بالموقع من علاقات الانتاج ضمن هذا الصراع.
وجاء نيتشه ليكتشف أساسية الصراع الأنطولوجى بين القوى، وارتباط الوعى والحقيقة والقيم بالموقع في هذا الصراع.
وجاء فرويد ليكشف عن أساسية الصراع بين مكونات الشخصية، وانبثاق الوعى كتعبيرة عن هذا الصراع.

هؤلاء، سمّاهم بول ريكور "فلاسفة الظنّة". يعني الفلاسفة الذين تظنّنوا على إطلاقية الوعى، وطعنوا فيها، واقترحوا تأويل الوعي بإعادته في كل مرة إلى سياقاته ومحدداته التاريخية التي هي شرط انبثاقه، وهي التي تملي عليه وضعا بعينه.

أصل الآن إلى إعادة طرح سؤال الدولة، وسؤال الديمقراطية عند كارل ماركس. وما يعنينا ممّا تقدّم، هو النظر في التأويل الماركسي للوعى واستتباعاته في المسألة السياسية.
انطلق ماركس من واقعة التاريخ باعتبارها منبت كل وعي. ويقصد بالتاريخ ما يُسميه على وجه الدقة (علاقات الانتاج) أو النشاط المادي للمجتمع. وهو مجموع الفعاليّات المادّيّة التى تتكوّن في إطار العمل وتحويل الطبيعة، وإنتاج القيمة، وتأمين الوجود الحيوى للبشر، المبنية على أساس علاقات إنتاج مُحدّدة. ولأن فعالية الإنتاج كانت تاريخيّا قائمة على الملكيّة الخاصّة لوسائل الانتاج، فلقد كان هناك دائما أقلية تملك ولا تعمل، وأغلبية تعمل ولا تملك. ولذلك أعتبر ماركس ان التاريخ البشري هو سلسلة من أنماط إنتاج توالدت على التوالي نمطًا من رحم الذي سبقه. وكلّ نمط إنتاج هو مرحلة تتقوّم بفعاليّتين متناقضتين: من جهة، قوى الانتاج (قوة العمل + وسائل الإنتاج). ومن جهة ثانية علاقات الانتاج (التناقض بين أقلية تملك وسائل الإنتاج وتراكم الأرباح وتوسع الملكية وتزداد ثراء، وبين أغلبية تبيع قوّة عملها مقابل أجر يُبقيها على قيد الحياة لكي تستمر في الإنتاج). هذا التناقض الاجتماعى بين المالكين وغير المالكين، يُنتج تناقُضًا في المصالح بين الفئتين، وتناقُضا في ظروف العيش، وفي التربية، وفي النظر للذات وللعالم، وبالتالي في الوعي. هذا هو ما يجعل الصراع الطبقي مضمون الواقع، أو هو "التاريخ" بالمصطلح الماركسي. وفي هذا السياق تتنزّل مقولته المركزية: "إن الواقع الاجتماعي يُحدّد الوعي الاجتماعي".
ولما كان هذا التاريخ هو منبتُ الوعي. ولما كان مُنشقًّا إلى طبقات متصارعة، فإن الوعي المنبثق عنه منشقا ايديولوجيا أيضا، ومُعبِّرا عن موقع معيّن داخل الصراع. وإذن فالوعي تاريخي، وغير متجانس، بل هو وعي محافظ يسعى لاستمرار تلك العلاقات الاجتماعية بين أقلية تملك واغلبية تعمل. ووعي ثوري يسعى للتغيير وتحقيق العدالة الاجتماعية على أساس "كُلّ حسب طاقته، ولكلّ حسب حاجته".

على هذا الأساس يقوم ماركس بربط تَشَكُّل الوعى بمقولة سابقة عنه وهى التاريخ، داحضًا بذلك اعتقاد الحداثة أن العقل واحد ومطلق وبديهى ومتجانس. كاشِفًا زيف هذه الإطلاقية. مُستنتِجًا أن "التّجانس" ليس أكثر من وهم وادّعاء. وكما أنّ واقعة الاستغلال الطبقي هي واقعة تاريخية وليست مُعطى ربّانيا، فإن الوعي لا يُنشئُ نفسَه بنفسِه، بل هو نتاج لموقعه ما في الصراع الاجتماعي.

هذا التأويل للوعى ستَتَرتّبُ عنه نتائج نوعية في علاقة بتصوّر الدّولة ، فحيث انتهت الأنوار إلى تأسيس الوُجود السياسي برمته على فكرة التّعاقد الطّوعي، المُستند الى مُسَلَّمَةِ العقل والارادة الحرّة ، صار السؤال مع ماركس : من يؤسّس الدّولة ومن يتعاقد مع من؟ وعلى ماذا التّعاقد؟ ومن أين جاء هذا الطرف أو ذاك؟ وماموقعه في الصراع الطبقي ؟
يكتشف ماركس أن العقد المزعوم ليس مشروعا طالما لا يُبرمه الجميع. بل لا يمكن من حيث بنية المجتمع أن يُبرمه الجميع ، فحيث هناك طبقة تملك الثروة وتسيطر على وسائل الانتاج ، هناك طبقة مستغَلّة يجب ايجاد كلّ الآليات لاستدامة استغلالها وإعادة انتاج شروطه. وإذن فالدولة هي تأسيس برجوازي يندرج بالضّبط في هذا الاطار .

إنّ تأسيس الدولة على تعاقُدٍ يُقنِّنُ المظلمة الطبقية، لا يمكن أن يجري إلّا في حدود مصلحة الطبقة البرجوازية المالكة لرأس المال. ولا يمكن لها أن تقوم إلا بوصفها أداة لشرعنة القمع السياسي، وكآلية للحفاظ على واقع الاستغلال واعادة إنتاج شروطه قانونيا.

النتيجة: انتهى ماركس الى أن التحرّر من الاستغلال إنما يمرُّ عبر تفجير المؤسّسات التى تُبرّرُ الاستغلال وتُنتِجه، وتقوم على حمايته وتقنينه. وطالما الدولة جهاز قمعي من أجهزة رأس المال فهى في مرمى كلّ فعل للثّورة .

والسؤال حينئذ : كيف يمكن استحضار ماركس في الألفية الثالثة ؟
كيف نفهم ماركس اليوم ؟
هل هو منظومة فكرية وسياسية عفا عنها الزّمان وفقدت كل وهج وراهنية ؟ خاصة حين ننصت الى أدبياته العولمة وما تروجه من تيئيس من كل فكر جذري لصالح تغول لا مشروط لراس المال ؟
أم أن الماركسية موقف شديد الأصالة والراهنية طالما تمادت آلة رأس المال في التهام لحم الحق والعدل والإنسان؟
ولن يكون هناك أُفق في التحرر من الاستغلال وطنيا وعالميا إلا بمقاومة راس المال ومقاومة الدولة باعتبارها آلته النوعية في تبرير الاستغلال؟
و هل نيأس من ماركس مطلقا ؟ أم نتشبث به مطلقا؟

يبدو أن هذا السؤال مغلوط وطريق – مثلما يقول هيدغر – لا يؤدى إلى أي مكان .. وفعلا لم يؤدّ إلى أي مكان ..( على الاقل في واقعنا المحلى التونسي ).

فالخيار الليبرالي الذي اعتبر الطرح الماركسي منتهيا ومضى في إرساء وضع اقتصادى راسمالي متمحور على المصلحة الخاصة، انتهى الى مشهد اجتماعي وسياسي متوحّش وشديد العنف وفاقد لأدنى معايير الإنساني والعيش المشترك .

واما الخيار اليساري الذي تشبث بعدائه للدولة وبقي متمترسا في مقولاته الجذرية الرافضة مطلقا لمؤسساتها على أساس أنها آلة قمع وتبرير للاستغلال .. هذا اليسار انتهى إلى حالة تذرّر وقطيعة مع الناس و مع تحولات الواقع ، وانكفاء على الذات في ما يشبه الهذيان.. ومن ثمة فشل فشلا ذريعا في الفهم والفعل وفي الحصول على مقبولية تمكنه من تغيير الواقع ..

إن هذا الفشل هنا وهناك، ناتج عن كوننا نطرق في كلا الحالتين بابا خاطئا. أعني أننا نطرح سؤالا مغلوطا. ففي السؤال: كيف استحضار ماركس الآن وهنا ؟ لا ينفع ال(مع) و(الضد) .. أو ال(نعم) وال(لا).. فحين نكون أمام فكرة أصيلة أحدثت منعرجا في تاريخ البشرية. وغيرت وجه العالم لِما يقرب من أكثر من مئة سنة، لا يمكننا أن نجيب كما في لعبة اليانصيب بالنعم او اللا. لأن اكتشاف واقع الاستغلال ومفهمته وبناء أفق إيتيقي على أساس هذه المفهمة، عنوانه العدالة في تقسيم الثروة، والحق في العيش بكرامة وحرية .. هذا مشروع يحتاج إلى ماوراء القبول أو الرفض .. إنه يحتاج للتأويل. ونعنى بالتأويل القدرة على استئناف المشروع الثوري في واقعنا وسياقنا. وجعله يتكلم لغتنا نحن. ويشتغل لحساب رهاناتنا نحن الآن وهنا ...
ولكن قبل ذلك، التأويل أيضا اقتدار على استنطاق النص واستخراج قول في طياته لم يتمكن كاتبه من قوله صراحة .
فحين نعود إلى صريح النص الماركسي نجد تشخيصا للآلة الرأسمالية، وتَتَبُّعًا لميكانيزمات تَشكُّل رأس المال، وكشفا موضوعيا لآلية الاستغلال بما هو العصب الرئيس لمراكمة رأسالمال، ومن ثمة الانتهاء إلى أن الدولة آلية بيدهِ تُقنِّن الاستغلال وتُبرِّره وتُحصِّن شروط إمكانه وهي لهذا السبب هدف استراتيجي لأية قوة ثورية.

هذا التشخيص الماركسي يندرج كما ذكرنا سابقا في إطار سلسلة المراجعات للتأسيسات الكبرى في الأنوار التى دشنها القرن التاسع عشر، ونعنى ههنا أن ماركس يعود في مشروعه نقدا على الدولة التعاقدية التى أنتجها فكر الأنوار بما في ذلك النموذج الديموقراطي الذى ورد في العقد الاجتماعي لجون جاك روسو . فإذا استحضرنا هذا السياق بالذات يمكن لنا أن نستنتج بضرب من التأويل الذي ذكرنا أن دعوة ماركس للثورة على الدولة باعتبارها آلة قمع ليست أبدا ثورة على الدّولة من حيث المبدأ وفي مطلق أحوالها. وإنما ثورة على الدولة في تعيّنٍ محدّدٍ من تعيُّناتها: أي التّعين الرأسمالي، حيث تتحوّل إلى أداة في يد رأسالمال من أجل استدامة شروط الاستغلال وتبريرها.. ثورة على الدولة التى تؤسس من أجل أن توظّف ضد عموم المواطنين ولحساب الطبقة المالكة لوسائل الانتاج . لا نعتقد، ولا يمكن لعاقلٍ أن يعتقد في كون ماركس وهو يكتشف الاستغلال، ويضع يده على تواطؤ الدولة، ويقبض بالتّالي على أحد أهمّ الأسباب المركزية للاغتراب وغياب المعنى، أن يكون مُراهنا في دعوته للثورة على إعدام الدولة وإشاعة الفوضى والقضاء من ثمة على أي معنى ..

النقد الماركسي لا يمكن أن يُفهم مقطوعا عن سياق الردّ على الانوار ..وحين نقتطعه عن هذا السياق ماعُدنا نرى فيه أكثر من تأسيس للفوضى والعبث .. وارادة انتقامية تثأر من استغلال رأسالمال بتدمير العمل وتثأر من تزوير دور الدولة بنسف الدولة ..

كل فهم للمشروع الماركسي في أفق الثورة العدمية بهذا المعنى، هو وهم فهم وليس فهما .. أو هو انطباع ايديولوجي بالفكرة الماركسية، وليس تمثُّلًا بعقل لرهاناتها. إذ لا يمكن لمشروع فلسفي يقوده العقل وإرادة التشخيص والفهم أن ينتهى إلى أُفق عدميّ يهدم المعبد على من فيه .. أقصى حدّ يمكن أن يذهب إليه السؤال الفلسفي هو تأزيم العقل من أجل استرجاعه أكثر تعقُّلا واتّساعا .. وأن الفكر الماركسي إنما كان بالفعل سؤالا كبيرا أشهره النقد في وجه عقل أنواري أخذته أحلامه المثالية بعيدا، فلم يقو على الانتباه لمعوقات الواقع .. كان سؤالا لعقل الأنوار في مستوى النموذج الاقتصادى والاجتماعي والسياسي الذي استند اليه، واعتبره بديهيا وعلى أساسه أقام التأسيسات الكبرى في الانطولوجيا والسياسة والاخلاق .. بهذا المعنى كان ماركس لحظة توقف العقل والتفاته الى شروطه وحدوده ومآزقه الممكنة .. لكأن العقل يُسائل نفسه : وماذا بعد هذا الطيران في سماوات الأحلام .. أيتها الارض هل من بوصلة ؟

ولهذا بالضبط نعتقد أن هناك خِطابا ثاويا في طيات السؤال الماركسي، لم يقو ماركس نفسه على التصريح به، بحكم موقعه زمنيا وبحكم طبيعة خطابه النّقدى الجذري .. فمن يقيم في قلب السؤال لا هم له بالاجابة .. بل هو منشغل بالسؤال ذاته .. وماركس كان مهموما بمساءلة عصره سؤالا نعتقد أنه اقرب للسؤال الإنكاري .. فما حاجته أن يجيبنا بأنه لا يريد الهدم مادام السؤال حاملا بعد لإرادة بناء بديهية ..

كل تاريخ الفلسفة في تقديرنا فما بالك اللحظات الأكثر جذرية فيه .. هو عبارة عن لحظات صُراخ مُدوّ في وجه عصر ما .. كلّ فيلسوف، كان بمعنى ما يصرخ ويحتج ضد الإنسان ..ومن أجل الإنسان .. ومن العبث أن نعتقد أن الصرخة أفق أو رهان في ذاته.. بل هي صرخة/ وقفة ضد سيلان أبله للوجود من أجل أن يستفيق الوجود ويستعيد وعيه الكامل بذاته ويسترجع كامل أصالته وعمقه الإنساني ..وليس أبدا من أجل تدمير الوجود وتحويله إلى حالة صراخ أبدية ...

من هنا، يمكن القول أنّ أي استئناف للمشروع الماركسي اليوم إنما هو قول هذا الذي لم يقله ماركس: في حال وجود تفاوت مُجحف في توزيع الثروة، سيتحول ذلك التفاوت إلى عائق حقيقي لإحلال ديموقراطية سياسيّة دائمة وصلبة وقادرة على الاستمرار. فحين يُحرم الأفراد من الشروط الحياتيّة الآدمية، لن يتأتّى لهم بلوغ حالة التعقّل التى تُؤمّن الاختيار الحرّ، والدخول في التعاقد الطوعي، وبالتالي حالة المُشاركة الواعية .

لذلك، فالديموقراطيّة ليست نتاجا سياسيّا فوقيًّا مُجرّدًا نازلا من السماء، بل هي مشروطة بحالة اجتماعيّة واقتصاديّة تحتيّة تُؤمّن حدّا من العدالة الاجتماعيّة في توزيع الثروة، يكون المواطن بمقتضاها قادرا بشكل عملي على الالتزام الطوعي بالقوانين .

إنّ العدالة هى حقّ الفرد في أن يتمتّع بجزء من الانتاج الاجتماعى مقابل ما يتوفّر عليه من جدارة وكفاءة. ولا يُمكن أن يضمن هذا الحق إلاّ المجتمع. لذلك فبقدر مايكون للمجتمع حضور وقوة بقدر ماكانت العدالة أمرا ممكنا.
وعليه، فالتركيز على الديموقراطية في معناها السياسي الخالص، مُقابل التّفويت في شروطها الاجتماعيّة، وترك الفرد يواجه الخصاصة، يُؤدّي إلى جعلها بناء هشّا مفتوحا دائما على الارتجاجات، علاوة على كونها خديعة برجوازية.

إذن الدّيموقراطية أيضا، -كما هو حال الدولة- بالمعنى الماركسي، ليست خديعة في مُطلق الأحوال. بل هي كذلك فقط حين لا تكون انبثاقًا سياسيًّا لحالة العدالة الاجتماعيّة، حيث يكون البشر قد حقّقوا الاكتفاء المادّى الذى وحده يسمح بتأسيس وضع المواطنة.

من هذا المنطلق يتعيّن على الشباب تنسيب ما غفل الشيوخ عن تنسينه وتمييزه بلغة بسيطة يفهمها الناس، بغاية توضيح المفاهيم وإخراجها من حيّز الغموض، ووضعها تحت الضوء، حتى يُرفع هذا الالتباس المُهين، الذي يجعل مسؤولين في الصف الأول في أحزابهم مُمزّقين بين طموحهم في تسيير الدولة وطموحهم في تحطيمها. وحائرين بين السّخرية من الديمقراطية والعمل على إرسائها. وما بين هذا وذاك، يرى الناس مسلسلات فُكاهية من المواقف المُضحكة لشدة تناقضها واهتزازها وغُربتها عن الواقع والعقل.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تحدي اللهجة السودانية والسعودية مع اوسا وفهد سال ??????????


.. جديد.. رغدة تتحدث عن علاقتها برضا الوهابي ????




.. الصفدي: لن نكون ساحة للصراع بين إيران وإسرائيل.. لماذا الإصر


.. فرصة أخيرة قبل اجتياح رفح.. إسرائيل تبلغ مصر حول صفقة مع حما




.. لبنان..سباق بين التهدئة والتصعيد ووزير الخارجية الفرنسي يبحث