الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


كتاب شمس الرجاء (21) --- الفصل التاسع عشر --- القصة التاسعة عشر: رجاء الأمناء

توماس برنابا

2023 / 4 / 17
الصحة والسلامة الجسدية والنفسية


- أيّ خدمة يا سادة؟ كيف يُمكنني أن أخدمكم؟

كان النادل يُخاطب ضابط شرطة برتبة رائد وقد كان يجلس مع زوجته وابنه ذو العشرة أعوام على مائدة في مطعم من المطاعم الفاخرة..

نظر الرائد لِمُحدثه وكان يَهِمُ بإملاء طلباتهم عليه وكأنها أوامر لهذا القائم على خدمتهم.. وإذ به يُحملق مشدوهًا بالنادل ودون سابق إنذار قام من مكانه فجأة، فكادت المائدة أن تنقلب بما عليها!

وكاد دون أن يشعر أن يُعطي للنادل التحية العسكرية التي أعتاد أمثاله أن يؤدونها بحكم قوة العادة أمام من هم أعلى رتبةً ومقامًا ومكانة في جهاز الشرطة!

أخذ النادل يُرتب المائدة من جديد ويُجمع شظايا الأكواب التي تكسرت على الأرضية.. فخاطبه ضابط الشرطة قائلًا:

- مُعلمي الأستاذ القدير أمين مُفيد

نظر النادل لمحدثه الذي تتزين كتفاه بنسرين يتلألئان في الضوء الباهر وقال له:

- هل تعرفني يا سيدي "الباشا"؟

مد الرائد يده للنادل، مُقيمًا إياه من الأرض، وقبل يده قائلًا:

- ياليتني ما عشت يومًا كي أرى سيدي ومُعلمي يقوم على خدمتي!

- العفو يا "باشا" لكن من أنت؟ هل أعرفك؟

- أنسيت تلميذك رأفت حلمي في مدرسة الناصر الأعدادية منذ عشرون عامًا مضت- تلميذك الذي أعتدت تسميته "البريمو"؟!

نظر إليه النادل.. وتهلل وجهه ورغب أن يَحضن تلميذه لكنه أعرض عن ذلك حتى لا يتسبب في إتساخ ملابس الشرطة التي يرتديها الرائد رأفت حلمي.. لكن ضابط الشرطة الوفي ضمه إلى صدره وعينيه تنهمر منها الدموع قائلًا:

- دونك يا سيدي ما كُنت أو أصبحت.. كيف لي أن أرد لك الجميل يا أستاذي؟

- يكفيني أني رأيتك بهذا الوضع يا سيادة الرائد! يكفيني أن أرى ثمارًا لتعبي وجَدي بهذه الجودة! لتسعد في حياتك يا بُنيَّ.أعذرني.. سأستدعي زميلًا لي لتنظيف المكان وتقديم طلباتكم..

- هل يمكنني أن أراك ثانيةً يا أستاذ أمين؟

- ليرتب الله لنا لقاءً.. وكل شيء بإذن الله!

أنصرف النادل، تاركًا خلفه أعين تتطلع إليه من كافة ضيوف ومرتادي هذا المطعم الذي يعمل به، مُطأطئًا رأسه.. وكان لا يعلم أيزهو فخرًا بما حدث توًا أم يشعر بالخجل والعار؟!

خلع الأستاذ أمين ملابس العمل وتوجه نحو مدير هذا الفرع وقدم له طلبًا بالنقل إلى فرع أخر بعيد حتى ولو كان في محافظة أخرى!

- لكن يا أستاذ أمين.. لن يُبت في طلبك إلا بعد أيام من الآن!

- فلتعتبرني إذًا في أجازة من الآن إلى أن يُجاب طلبي..

خرج الأستاذ أمين من المطعم من الباب الخلفي بلا أي أمل للرجوع إلى هذا المطعم..

كان الأستاذ أمين مُعلمًا في وزارة التربية والتعليم المصرية وراتبه الشهري كان لا يتجاوز 2500 جنيهًا! وقد كان يتحصل من عمله كنادل على ضعفي هذا المبلغ مما أتاح له الإنفاق على بيته وبناته الأربع الذين كنَ في مراحل تعليمهن المختلفة..

في هذه الأثناء كان سيادة الرائد يخوض ذكريات حية له مع أستاذه أمين مُفيد:

كان في الصف الأول الأعدادي، واكتشف الأستاذ أمين أنه ضعيف جدًا في القراءة والكتابة وكان الأستاذ أمين يشعر بالأسف نحوه، إذ رأى فيه إمكانيات عجز هو عن رؤيتها في نفسه وعجز المدرسون الآخرين عن رؤيتها فيه.. وقام الأستاذ أمين بإتاحة ساعة يوميًا له، بلا أي مُقابل، يقضيها معه في تعليمه وتدريبه على أسس القراءة والكتابة السليمة مُشجعًا إياه وداعمًا لنفسه وعقله، مما جعل منه طالبًا نجيبًا حائزًا على أعلى التقديرات ليس في مادة الأستاذ أمين بل في كافة المواد في نهاية العام الدراسي!

لم يكن الأستاذ أمين مُشتركًا في مهزلة وملهاة المجموعات المدرسية والدروس الخصوصية التي كان يشترك فيها مدرسين يهدفون للتربح وليس للعلم أو التعليم.. ولم تسمح أمانته أبدًا بأن يكون شريكًا في هذا الفساد!

كان الثلاثة، الضابط وزوجته وابنه، يتناولون الطعام، لكن كانت تعتري الدهشة وجهي الزوجة والابن مما حدث، لذلك بدأ الرائد رأفت حلمي يحكي لزوجته ولابنه فضل ذلك المُعلم عليه في حياته، فلولاه ما أصبح بهذه المكانة أبدًا!

كان الأب الضابط يحكي عن أستاذه وابنه ينظر إليه نظرة يَملؤها الأعجاب والتعجب..!
*****

قرأ الأستاذ مدحت تلك القصة بتأثر شديد، وكاد أن يشعر بنفس إحساس هذا النادل من مذلة هذا الزمان المقلوب، الذي لا يقف للمعلم أبدًا موفيًا إياه التبجيل الذي يستحقه، فإذ به يصير لا عزيزًا ولا رسولًا، بل ذليلًا مكسورًا!

شعر مدحت بالأسف نحو نفسه للدرجة التي شعر بالخجل لأن يناقش هذه القصة مع صديقه نشأت، لكنه لم يجرؤ على إلغاء حوار هذه الليلة مع صديقه الذي يتمنى له كل خير..

في تمام الساعة السابعة كان اللقاء المرتقب بينهما:



حوار الليلة العشرون


- مساء الخير يا مدحت.

- مساؤك سعيد يا أستاذ نشأت.. أردت إخجالي بهذه القصة بنظرتك الثاقبة للنفس البشرية، أليس كذلك؟

- لا عليك يا صديقي، إنها مُجرد قصة وربما تتوحد مع بطلها في مشاعره أو خبراته، لكن تكمن الفائدة في أثرها على النفس وعلى التفكير وما يتلوه من تغيير في العادات والسلوكيات!

- لقد نَفَذت بقصتك هذه إلى خبايا وثنايا وجداني! لا استطيع نسيان مشهد الأستاذ أمين وهو يجمع أشلاء الزجاج من على الأرضية وتلميذه ينظر إليه بمزيج من التبجيل والشفقة!

- هذه المشكلة تعاني منها بلادنا في تقدير المعلم.. فالمعلم لا ينال كفايته من التقدير المالي ولا حتى المعنوي، مما تسبب في كراهيته لوظيفته وبالتالي أثر تأثيرًا سلبيًا على المنظومة التعليمية برمتها.. فلا يُمكن أن يستمع أو يستفيد طالب من أستاذ يكره عمله، خاصة حينما يبدو ذلك على ملامحه وعلى ما يقدمه من أنشطة..

- هل وصل الحال لمعلم الأجيال أن يعمل نادلًا، وربما ما هو أدنى وأحقر من أعمال، حتى يستطيع تسديد احتياجاته الأساسية من مأكل وملبس ودواء؟!

- نعم يا صديقي مدحت.. تلك هي المآساة! ويجب أن نبحث عن حل سريع وإلا حلت الكارثة! فلن يتقدم وطن يُقل من تقدير المعلم بهذا الشكل!

- هل يا صديقي، أفعل المثل وأبحث عن عمل مثل الأستاذ أمين- عمل أيَّما يكون قدره الاجتماعي؟

- لا أنصحك بذلك يا صديقي مدحت.. فكما قلت لك سابقًا، أبحث عما تجيد عمله بجانب عملك في التدريس وستنجح فيه أيما نجاح! ويا صديقي الإيجابية التي تشع من الإنسان تجتذب إليه الخير والصلاح من جميع من حوله.. وربما تستعيد سُمعتك الجيدة كمدرس ناجح للغة الإنجليزية ماهر في عمله في المدرسة والنطاق السكني! لكن لا تكتفي أبدًا بمهنة التدريس.. أعمل عملًا أخر يُغنيك أبدًا، وأنت تستطيع ذلك يا صديقي!

- شكرًا لك جزيل الشكر يا أعز أصدقائي! لكن ماذا عن قصة الغد؟

- ستكون عن فتاة، أُغتصبت من قبل مُرشدها الديني، فتعثرت في كل الناس.. فإلى اللقاء!

- إلى اللقاء يا أستاذ نشأت...








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فولفو تطلق سيارتها الكهربائية اي اكس 30 الجديدة | عالم السرع


.. مصر ..خشية من عملية في رفح وتوسط من أجل هدنة محتملة • فرانس




.. مظاهرات أمام مقر وزارة الدفاع الإسرائيلية تطالب الحكومة بإتم


.. رصيف بحري لإيصال المساعدات لسكان قطاع غزة | #غرفة_الأخبار




.. استشهاد عائلة كاملة في قصف إسرائيلي استهدف منزلا في الحي الس