الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


انهيار بنك سيليكون فالي يفضح تناقضات الاقتصاديات الرأسمالية الوهمية وهشاشتها

الهادي هبَّاني
(Elhadi Habbani)

2023 / 4 / 18
الادارة و الاقتصاد


ثانيا: أزمة بنك سيليكون فالي تمثل بوضوح أحد مظاهر ونتائج إلغاء قانون غلاس ستيغول وإعادة البنوك التجارية مرة أخري إلي ما كانت عليه قبل الكساد العظيم 1929م حيث أصبح مسموح لها بممارسة نشاط بنوك الاستثمار وتوظيف ودائع العملاء في محافظ الأوراق المالية والأسهم والسندات دون نسب إشرافية رقابية من البنك المركزي أو سقوف محددة. فحسب البيانات المالية للبنك المنتهية في 31 ديسمبر 2022م بلغت أصول بنك سيليكون فالي حوالي 212 مليار دولار منها 120 مليار دولار موظفة في أوراق مالية عبارة عن سندات سيادية أي ما يعادل 57% من إجمالي الأصول وهذا يعتبر وضع كارثي يعكس غياب رقابة البنك المركزي وغياب إدارة المخاطر داخل البنك. فالسندات السيادية عموما وسندات الخزانة الأمريكية بشكل خاص تعتبر أدوات استثمار مضمونة ولكنها أيضا تعتبر عالية المخاطر ومعرضة للتقلبات والخسائر كما حدث في الأزمة المالية العالمية 2007/2008م حيث أدي انهيار سوق الرهن العقاري وتعثر عملاء الرهن العقاري إلي انهيار سندات الرهن العقاري التي تم تصكيكها من قبل بنوك الاستثمار الكبرى وعلي رأسها بنك ليمان براذرز وتسويقها علي النطاق المحلي والعالمي الواسع بما فيها الصناديق السيادية لمعظم دول العالم وغيرها من المؤسسات والبنوك العالمية في مختلف بلدان العالم مما أدي إلي انهيار بنوك الاستثمار وعلي رأسها وأولها بنك ليمان براذرز وانتشار الأزمة المالية من نطاقها المحلي إلي نطاقها العالمي كما تنتشر النار في الهشيم. مع العلم أن ودائع العملاء في بنك سيليكون فالي كما في 31 ديسمبر 2022م قد بلغت حوالي 173 مليار دولار تمثل ما نسبته 87% من إجمالي أصول البنك منها حوالي 47% عبارة عن ودائع تحت الطلب أو حسابات جارية تبلغ قيمتها حوالي 81 مليار دولار مقابل 53% ودائع لأجل وقيمتها حوالي 92 مليار دولار. وهذا يعني بأن البنك مطالب بتوفير 81 مليار دولار للوفاء بطلبات السحب القائمة والمحتملة من العملاء علي اعتبار أن الودائع لأجل في الغالب لا تتم المطالبة بسحبها قبل تواريخ استحقاقها في حين أن السيولة النقدية المتوفرة لدي البنك في نفس التاريخ بلغت حوالي 14 مليار دولار تمثل فقط 6.6% من إجمالي الأصول والشكل التالي يبين وضع الاستثمار في السندات السيادية وحجم وهيكل الودائع ووضع السيولة لدي البنك:

المصدر: البيانات المالية لبنك سيليكون فالي للفترات 2019/2020/2021/2022م
ومن الجدول يتبين كيف أن البنك قد توسع في توظيف ودائع العملاء في الاستثمار في السندات من 29 مليار دولار عام 2019م ما يعادل 41% من إجمالي الأصول إلي 49 مليار دولار عام 2020م بنسبة 42% من إجمالي الأصول إلي 128 مليار دولار بنسبة 61% من إجمالي الأصول قبل أن تنخفض انخفاض طفيف إلي 120 مليار دولار عام 2022م بنسبة 57% ولكن الاتجاه العام ظل في حالة قفز بالزانة بأكثر من الضعف في كل عام.
هذا الوضع يفضح النظام الأمريكي وسلطاته النقدية وغياب الرقابة علي المصارف وعدم الاهتمام بحماية ودائع العملاء وهي حالة أقل ما توصف به، أنها حالة من الجنون والفوضى أن يتم السماح لبنك تجاري يعتمد بنسبة 87% علي ودائع العملاء لتوظيف ما نسبته ما يتراوح بين 41% إلي 57% منها في الاستثمار في السندات. ولعل هذا هو الجنون الذي أوقع البنك في الانهيار مباشرة بمجرد ما تعرضت أسعار هذه السندات للهبوط، هذا بجانب كونه يمثل مخاطر عدم التزام بالمعايير حيث يدخل أيضا ضمن مخاطر التركزات الاستثمارية المتمثلة في تركيز 57% من مصادر النقد لدي البنك في أصل واحد مما يؤدي إلي إفلاسه عند تعثر هذا الأصل. وهذا لا يعد سقوط لإدارة بنك سيليكون فالي لوحدها، بل سقوط لبنك الاحتياطي الفدرالي الذي سمح بهذه الفوضى والمثل القائل (لا تضع كل البيض في سلة واحدة) مثل معروف لأي إنسان بسيط في العالم فما بالك بكبار العاملين في كبري السلطات المالية والنقدية في أمريكا. ولكن من يحدد المعايير الرقابية ويضعها هو القوي الرأسمالية المتحكمة في القرار السياسي والاقتصادي في أمريكا وكل الأنظمة الرأسمالية. وقد ثبت جلياً وبما لا يدع مجال للشك بأن وول ستريت ومصالح المافيا الاقتصادية المتحكمة فيها هي أقوي وأكثر نفوذاً من الاحتياطي الفدرالي ومن كل السلطات النقدية والمالية في أمريكا. ولذلك فإن غياب الرقابة علي مستوي بنك سيليكون فالي وعلي مستوي السلطات النقدية الأمريكية هي جريمة اقتصادية ومالية بالدرجة الأولي تتطلب المحاسبة الرادعة.
ثالثا: من التناقضات أيضا التي تفضح النظام الأمريكي والرأسمالي عموما وتكشف غياب أبسط قواعد الرقابة علي النظام المصرفي وتمثل أحد أهم الأسباب التي سارعت بانهيار بنك سيليكون فالي هو ضعف رأسمال البنك مقابل إجمالي الأصول. وعلي الرغم من أن البنك قد أفصح عن نسب رأس المال في الإيضاحات المتممة للبيانات المالية للسنوات 2019-2022م والتي تعكس سلامة وضع البنك من حيث رأس المال، إلا أن هذه السلامة هي مجرد أرصدة أو بيانات دفترية لا وجود أو انعكاس لها علي أرض الواقع ولم تستطيع هذه النسب لرأسمال البنك حمايته من السقوط أو مساعدته علي مواجهة أزمة السيولة والوفاء بطلبات العملاء المتزايدة في اللحظات القاتلة للسحب حتي ولو جزء يسير من ودائعهم. وأن السيولة النقدية المتوفرة لدي البنك والبالغة 14 مليار دولار تغطي فقط 6.6% من إجمالي الأصول والمطلوبات وهذا هو المعني الحقيقي للإفلاس في أوضح صوره. وبالتالي فإن المعايير التي تم بموجبها احتساب نسب رأس المال من قبل البنك معايير وهمية لا وجود لها إلا في الورق فقط لا غير وهي لا تساوي حتي قيمة الحِبر الذي كُتِبَت به تماما كسندات الرهن العقاري عند اندلاع الأزمة المالية العالمية 2007/2008م مجرد أوراق لا قيمة لها لم يجد حامليها تحتها غير مجرد ديون معدومة غير قابلة للتحصيل.
أما إذا قمنا باحتساب الرافعة المالية علي أساس رأس المال المدفوع إلي إجمالي الأصول، وإجمالي حقوق الملكية إلي إجمالي الأصول مباشرة حسب أرصدتها المفصح عنها في البيانات المالية للأعوام 2019-2022م نجدها نسب كارثية تكشف ضعف رأسمال البنك وعدم كفايته لمواجهة مخاطر السيولة ومخاطر الائتمان ومخاطر السوق. والشكل رقم 2 يبين أن نسبة رأس المال المدفوع إلي إجمالي الأصول تراوحت ما بين 3% عام 2019م و5% عام 2022م وهذا يعني أنه مقابل كل دولار واحد يدفعه المساهمون من أموالهم الخاصة يستخدمون 35 دولار في المتوسط من ودائع العملاء والدائنين، وهي رافعة مالية عالية جدا تبين أن حملة الأسهم في البنك يستغلون ودائع العملاء لمراكمة العوائد علي رؤوس أموالهم. وبنفس القدر إذا استخدمنا إجمالي حقوق الملكية إلي إجمالي الأصول حسبما هو مبين في الشكل 2 نجد أنها تراوحت ما بين 10% عام 2019م إلي 8% عام 2022م وهي ما تعادل 8% في المتوسط خلال الأربعة سنوات 2019-2022م أي أن مساهمي البنك يستخدمون 13 دولار في المتوسط من أموال المودعين مقابل كل دولار يدفعونه من أموالهم الخاصة وهي أيضا تعتبر رافعة مالية عالية جدا علما بأن نسبة الرفع المالي المقبولة عالميا يجب ألا تتجاوز 3 إلي 1 أو كحد أقصي 4 إلي 1 حتي يكون البنك في حالة توازن ووضع سليم من حيث هيكل رأس المال. وهذا الوضع ليس غريباً أو عابراً في النظام المالي الامريكي فقد بلغت الرافعة المالية لبنك ليمان براذرز في تاريخ سقوطه في الازمة المالية العالمية 2007/2008م 44 إلي 1 أي أن المساهمين في رأس المال مقابل كل دولار واحد يدفعونه من رأسمالهم الخاص يستدينون ويستغلون 44 دولار من أموال المستثمرين والدائنين وهو بكل اختصار وبساطة وضع كارثي أدي لكارثة انهياره المنطقية وما استصحبه معه من كوارث انهيار كثير من البنوك المحلية والعالمية وتحقيق خسائر فادحة للعديد من الصناديق السيادية التي استثمرت في سندات الرهن العقاري التي قام بتسويقها. علما بأن نسبة الرافعة المالية المعتمدة في بازل 3 السارية حتي نهاية 2022م (تاريخ البيانات المالية محل التحليل) هي 6% بينما متوسط نسبة الرفع المالي لدي بنك سيليكون فالي خلال الأربعة سنوات 2019-2022م بلغت 8% وهو وضع في غاية الخطورة ويعتبر أحد أهم الأسباب التي أدت إلي إفلاس البنك وعجزه عن الوفاء بطلبات سحب ودائع العملاء. وهو وضع يتعارض مع المعايير الدولية المتعارف عليها ومع الحدود المقررة في اتفاقية بازل في نسختها الثالثة لنسبة الرافعة المالية حيث إن أمريكا ظلت لفترة طويلة وفق إرادتها خارج نطاق اتفاقية بازل التي تفرض على البنوك المركزية للدول الأعضاء فيها نسب إشرافية تضع حدود أدني لكفاية رأس المال في البنوك بهدف حماية المودعين. وحتي عندما قررت السلطات الأمريكية قبول تطبيق اتفاقية بازل عند اندلاع الأزمة المالية العالمية 2007/2008م اشترطت أن تطبقها بطريقتها الخاصة بحيث تكون لها الحرية الكاملة في أن تحدد بنفسها حجم المخاطر المالية التي يمكن أن تتحملها لأنها في وضع أفضل من واضعي معايير بازل في تحديد هذه المخاطر (راجع خالد بدر الدين، البنوك الأمريكية تطبق بازل 2 الشهر المقبل، المال، صحيفة مصرية اقتصادية يومية، الخميس 13 مارس 2008م) وهو ما يؤكد أن السلطات الأمريكية تتحاشي وضع أي قيود وضوابط صارمة علي القطاع المالي والمصرفي عندما يتعلق الأمر بمواجهة وول ستريت وأسواق رأس المال الأمريكية التي تمثل قوة اقتصادية وسياسية متنفذة. ولكن نسبة لأن النظام الأمريكي والغربي عموما يهتم بشكل أساسي بحماية الملكية الخاصة وبتحقيق أعلي معدلات من الأرباح والعوائد علي حقوق الملكية فإن البنوك الأمريكية وغيرها من البلدان الرأسمالية تحرص علي زيادة معدلات الرفع المالي بهدف تحقيق أعلي معدلات عائد علي حقوق الملكية (أي حقوق حملة الأسهم أو أصحاب البنوك). فمن الناحية المحاسبية البحتة كلما زادت استدانة البنك من الدائنين ومن استخدام ودائع العملاء كلما زاد العائد علي حقوق الملكية أي كلما حقق أصحاب الأسهم أو أصحاب البنك تراكم كبير في رؤوس أموالهم والعكس صحيح كلما انخفضت استدانة البنك من الدائنين ومن استخدام ودائع العملاء كلما انخفض العائد علي حقوق الملكية. فإذا افترضنا أن هنالك بنك رأسماله 1000 دولار ويقوم بتمويل كل أصوله من رأسماله فقط وقد حقق نهاية السنة أرباح 100 دولار فإن العائد علي حقوق الملكية هو 10% (100/1000 = 10%) ولكن إذا افترضنا أن تمويل الأصول يتم مناصفة مثلا 50% من أصحاب البنك أي 500 دولار و50% من الدائنين وودائع العملاء أي 500 دولار وحقق البنك نهاية السنة أرباح صافية 100 دولار فإن العائد علي حقوق الملكية هو 20% (100/500 = 20%) ولذلك هذا هو السر في خدعة الرفع المالي أو فلسفته ويمكن تبسيطها بأن استخدام أموال الغير يحقق عوائد علي رؤوس أموال أصحاب الأسهم أكبر من عوائد استخدامهم لرؤوس أموالهم الخاصة ولذلك يحرص أصحاب البنوك دائما علي زيادة الرفع المالي بتوظيف ودائع العملاء والمقرضين للبنك لمصلحتهم من أجل مراكمة أرباحهم ورؤوس أموالهم بينما من المفترض أن تسعي السلطات الرقابية دائما ممثلة في البنوك المركزية وغيرها من السلطات النقدية في أي بلد علي حماية ودائع العملاء ووضع ضوابط علي استخدامها وتوظيفها وتفرض رقابة صارمة علي البنوك للتأكد من الالتزام بها. ومن ضمنها علي سبيل المثال لا الحصر فرض نسبة احتياطي الزامي علي البنوك من قيمة أي وديعة للبنك لا تقل عن 20% مثلا يتم الاحتفاظ بها في البنك المركزي ولا تدخل في حوض استثمارات البنك ونشاطه، وأيضا فرض سقوف ونسب اشرافية لاستخدام ودائع العملاء كأن يتم فرض أن نسبة الرافعة المالية يجب الا تزيد مثلا عن 6% كما هو مقرر في بازل 3، أو أن تحتسب البنوك في كل عملية تمويلية أو استثمارية ما يعرف بمعدل العائد علي رأس المال مرجح بأوزان المخاطر أو ما يطلق عليه “RAROC”) (Risk Adjusted Return on Capital وهو طريقة لإدارة مخاطر استخدام مزيج رأس المال والودائع في منح التمويل للأفراد والمؤسسات وغيرها العديد من المعايير التي تهدف إلي حماية ودائع العملاء ومنع أصحاب البنك من الاستخدام المفرط لودائع العمل أو استغلالها لمصلحتهم لأن سقوط البنك وانهياره يتضرر منه في المقام الأول المودعين الذين يحتفظون بمدخراتهم من أنشطتهم العادية أو مهنهم العامة أو الحرة. ولذلك فقد حرصت النسخة الرابعة من بازل (بازل 4) والتي بدأ تطبيقها في أول يناير 2023م علي زيادة رؤوس أموال البنوك لتحد من انخفاض رأس المال وفقا للنماذج الداخلية القائمة على التصنيفات الداخلية للمخاطر، ووضع أرضية موحدة لكل البنوك بما يضمن ألا يقل رأس المال المرجح بأوزان المخاطر عن 72.5%، والحد من نسب الرفع المالي المرتفعة بما يضمن مزيج لا يقل عن 50% من نسبة رأس المال المعادل للمخاطر مع وضع ضوابط صارمة للإفصاح عن الاحتياطيات والبيانات الإحصائية المالية الأخرى وخاصة أدق تفاصيل احتساب قيمة الأصول المرجحة بأوزان المخاطر وغيرها من التعديلات والضوابط الجديدة التي تصب في مصلحة المودعين وفي اتجاه إدارة المخاطر في البنوك عموما.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - الايديولوجيا تقتل الابداع
طلال بغدادي ( 2023 / 4 / 18 - 00:11 )
اختيار الموضوع جيد جدا ، المقالة جيدة ونحتاج المزيد من المقالات الاقتصادية.
لاتوجد هشاشة في النظام المالي ولكن هنالك مخاطرة عالية ناتجة عن أسلوب توضيف اموال المودعين كما وضحه المقال بصورة جيدة.
هنالك حلول ؟؟ الكاتب طرح احد الحلول باقتراح إيداع 20% من اموال المودعين لدى الاحتياطي الفدرالي .

فات الكاتب ان يذكر أن هنالك نظام تأمين اجباري من قبل هيئة تأمين فدرالية تمول من رسوم مفروضة على المصارف ADIC لمبلغ 250,000-$- لكل حساب مصرفي في الولايات المتحدة الاميركية .
و في استثناء بقرار من الادارة الامريكية تم ضمان اموال المودعين في سليكون فالي بنسبة 100% من قبل ADIC.
ايديولوجية الكاتب نقطة الضعف في المقال

اخر الافلام

.. الذهب يتراجع من جديد.. جرام 21 يفقد 20 جنيه


.. محمد العريان يكشف لسكاي نيوز عربية عن أهم الاستثمارات خلال ا




.. تتجه الأعمال اليابانية إلى تنمية اقتصادات ذات تأثير إيجابي ف


.. احتجاجات مناهضة للسياسات الاقتصادية في الأرجنتين




.. محمد العريان لسكاي نيوز عربية: مصر أمام نقطة حاسمة عليها الا