الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


هل يمكن أن نصنع مواطنا عالميا ؟

شريف حتاتة

2023 / 4 / 22
العولمة وتطورات العالم المعاصر


---------------------------------------------------
أصبحت المعركة ضد العولمة ظاهرة عالمية تشمل جميع قارات العالم. وهي معركة ضد القهر والظلم، ضد طغيان الشركات متعددة الجنسيات ، وإفقار شعوب العالم الثالث. منذ مظاهرات مدينة " سيائل " الأمريكية ، حيث عقد مؤتمر منظمة التجارة العالمية ، حتى مظاهرات مدينة " كيبك " في كندا قامت مؤخراً ، أثناء اجتماع أقطاب دول الأمريكتين ، والمعركة ضد العولمة تنمو وتتسع .
ذلك المساء جلست على مقهى " ريليه دي لوديون " أتطلع من خلال الواجهة الزجاجية على جموع السائرين في شارع " سان جيرمان ليبريه ". الجو شتاء ورذاذ خفيف من المطر يسقط . أتذكر صوراً من حياتي الماضية ، وأستغرق في هذا التدفق الحي . أرتشف من " المارتيني " الأحمر أحضره لي النادل ، وأرمق ابنى " عاطف " الشاب الطويل القامة ، المتأمل ، الجالس إلى جواري . شعره الأسـود الكثيف شاب منذ سنوات. ترى أهي الوراثة عن أمه ، أم صراع الفنان في عالم سينمائي تسعى فيه المصالح إلى طرد الإبداع ، وشجاعة المواقف ليحل محلها الخـيـال المريض للعنف والجنس الفاضح ، أو تزييف المشاعر هروبا من قضايا الإنسان المعاصر ؟!.
أقول له منذ خمسين عاماً جلست على هذا المقهى أشاهد السائرين في الشارع. ففي مقاهي " باريس " لا يمل الإنسان هذا التدفق البشرى المتنوع ،المتشابه. عشت حياة اللاجئ السياسي في هذه المدينة ، والآن عدت إليها. أتذكر الماضي وأحاول أن أخترق غيوم الحاضر. منذ خمسين عاماً هبطت من باخرة للشحن في " مارسليا " بلا جواز ، بلا أوراق. ركبت قطار الليل إلى باريس وحيداً في عالم مجهول ، وغامض. البرد يخترق النسيج الرفيع الناحل للبزة ، علقت بها رائحة القيء من تقلبات العاصفة التي اجتازتها الباخرة ، قبل ان تصل إلى مأواها. جئت من مصر بعد هروبي من السجن ، مختبئا فى جوفها .
أقرأ في عيني ابني الجالس إلى جواري شيئاً كالحنان القلق ، كأن في عقله يدور التساؤل الذي لم أجد له جوابا. هل أنا أكثر حرية مما كنت في تلك الأيام ؟ .هل أنا أكثر سعادة ؟.
علمتني الأيام ان السعادة ليست إلا لحظات متناثرة ، يمكن أن تعرفها حتى ونحن خلف الأسوار، وفي تلك اللحظة كنت أعيش سعادة اللقاء الذي جمعنا مصادفة في هذه المدينة الجميلة. جاء لحـضـور عرض فلمه في صالاتها ، وجئت لحضور مؤتمر ، فشاءت الحظوظ ان نلتقى ، وأن أشاركه فرحة النجاح الذي حققه فيلم الأبواب المغلقة ، من تأليفه واخراجه .
أما الحرية فقد أدركت بعد أن خرجت من السجن ، أن هناك أنواعاً من الحصار تفننت فيه الأنظمة منذ أن كنت شاباً يافعاً كثير الحماس ، قليل الخبرة ، لا تحتاج معها ان تضع المتمردين على فسادها في سجونها . إنها قادرة على سجنهم في بيوتهم. وفي السفر فوائد ، منها ان يتنفس الإنسان جواً لا يخنقه. السفر اختراق الحدود والقيود الموضوعة على الفكر والعمل ، في وطن يتفاقم فيه حصار رأس المال والسلفية الساعية إلى وأد العقول المبدعة .
بعد مرور سنة على انتفاضة " سياتل "
------------------------------------------
تركت القاهرة لأشارك في مناقشة قضية تطرح نفسها بإلحاح في عصرنا . كيف يمكن مواجهة عملية الإفقار والتهميش التى تفرضها القوى الرأسمالية العالمية على آلاف الملايين من البشر ؟ . كيف يمكن أن تتحد الشعوب رغم اختلافاتها لكى تغير مسار العولمة لصالح الأغلبية الساحقة من سكان الأرض ؟ .جئت لأحضر مؤتمراً دولياً أقامته عشر منظمات فرنسية غير حكومية ، تحت عنوان من أجل بناء مواطن عالمى ، لأشارك مع ما يزيد على ألف وخمسمائة رجل و امرأة ، فى مناقشة مسألة العولمة ، وآثارها على المجتمع .
من بينهم خمسمائة مشارك من بلاد الجنوب ، من أمريكا اللاتينية وآسيا وإفريقيا ومن بعض البلاد العربية بما فيها مصر .
عقدت جلسات المؤتمر فى " لاجراند هال دى لافيليت " وهو بناء ضخم كانت تذبح فيه المواشى قبل إرسالها إلى السوق ، ثم تم تحويله إلى مركز ثقافى توجد فيه أقسام لعروض الموسيقى والرقص ، وللندوات الفكرية والفنية ، كما توجد فيه مكتبة كبيرة ، ومتحف ومعارض للفن التشكيلى والنحت ، وصالات لألعاب الأطفال ، والرياضة ولممارسة مختلف الهوايات .
وأقيمت الجلسة الافتتاحية فى مدرج " شارلى باركر " وهو مؤلف لموسيقى الجاز من " جزر الكاريبى " كان له جمهور كبير ، وأشتهر بأنغامه المعبرة عن حياة السود . ازدحم المدرج ، وامتلأت مقاعده بمئات الرجال والنساء جاءوا من مختلف أنحاء العالم ، لأنهم يرفضون الاستسلام لما يحدث من اضطهاد وظلم لشعوب العالم ، للهيمنة التى تفرضها الشركات متعددة الجنسية . جاءوا وفى أذهانهم تساؤلات ، وأفكار ومطالب تتعلق بالاقتصاد والبيئة ، والثقافة والدين والجنس ، وأثر العولمة على هذه المجالات . ناقشوا كل هذا فى ورش للعمل ، وصل عددها إلى أكثر من عشرين ورشة ، فلا يمكن فهم ما يجرى فى عالمنا ، عن طريق تجزئة المعرفة ، والفصل بين مجالاتها ، تلك التجزئة التى تفرضها نظم التعليم ، والثقافة والإعلام فى كل البلاد ، لإخفاء الحقيقة عن أعين الناس حتى تستمر القلة فى فرض سيطرتها . فالمعرفة الحقيقية تبنى على النظرة الكلية لحياتنا ، على فهم العلاقات بين مختلف مجالاتها .
تقسيم البشر لفرض السيطرة
----------------------------------------
أحد التساؤلات التى طرحت فى هذا المؤتمر ، كانت تدور حول ظاهرة عالمية تبدو متناقضة : لماذا توحد القوة الاقتصادية والعسكرية والإعلامية والثقافية المسيطرة على العالم إمكانياتها وجهودها ، بينما تتزايد المنازعات بين الشعوب ، و داخل الأوطان على نحو ملفت للنظر ؟ . لماذا تحارب الشعوب الإفريقية بعضها ، وتتقاتل الجماعات العرقية فيما بينها ؟. لماذا يتزايد التعصب القومى ، وتسعى كل جماعة قومية إلى الانفصال فى مناطق مختلفة من العالم ؟. لماذا انتعشت الاتجاهات الدينية المتعصبة فى عدد كبير من الدول فى الشمال والجنوب ؟ . لماذا انقسمت الحركات العمالية والفلاحية والنسائية وتفتتت تنظيماتها ؟ . لماذا تشرذمت الأحزاب السياسية المعارضة وجماعات المثقفين ، والحركات الاجتماعية ؟. كل هذا بينما لم تتوقف القوة الرأسمالية الكبرى والشركات المتعددة الجنسية ، عن إتمام عمليات الاندماج ، وعن إقامة إمبراطوريات ضخمة فى مختلف المجالات ، فى الصناعة والبنوك والإعلام .
عندما نشأ النظام العبودى وانقسم المجتمع إلى أسياد وعبيد ، أصبح شعار الأسياد " فرق تسد " . ومنذ ذلك اليوم تفنن المسيطرون فى الاستفادة من عوامل التفرقة والانقسام بين الناس ليحكموا قبضتهم . فى عصر العولمة هناك عوامل تساعد على إذكاء الخلافات ، بينما ترتب على تطور وسائل الإعلام والاتصال وإنجازاتها أن أصبحت الشركات متعددة الجنسية ، قادرة على مد سيطرتها إلى أبعد بقاع العالم ، على نقل عملياتها من مكان إلى مكان بسهولة ، وعلى التعامل مع درجة كبيرة من الفوضى . لذلك تقوم الصراعات المختلفة ، دون أن يضر هذا بنشاطها المالي والاقتصادي، بل يوفر لها إمكانات واسعة للمناورة بين الأطراف المتنازعة. فمثلا الشركات الكبيرة التي تعمل في إفريقيا لتستخرج الماس ، أو البترول ، أو المعادن ، تستفيد من الفرق المتناحرة لتحمي نشاطها ، وفي الوقت نفسه تبيع لها السلاح على نطاق واسع . ذلك أن تجارة السلاح تعتمد على النزاعات القومية والعرفية ، والدينية بعد أن انتهت مرحلة الحرب الباردة .
العولمة الرأسمالية تريد أن تصنع سوقاً عالمية واحدة ، وثقافة واحدة ، وقيماً مادية استهلاكية متشابهة ، حتى تبيع منتجاتها في كل أنحاء العالم . والشعوب تسعى إلى مقاومة هذا النمط الواحد ، عن طريق التمسك بالقومية والعرق والثقافة والديانة ، فينقلب هذا في ظل الظروف الصعبة والأزمات التي يعاني منها الناس إلى مغالاة ، إلى السلفية والتعصب والى الصراع والانقسام.
العولمة الرأسمالية تؤدى إلى تضخم الفوارق بين الأغنياء والفقراء ،وبين الطبقات والفئات الاجتماعية ، إلى تزايد امتيازات البعض ، بينما تواجه الأغلبية الفقر والحرمان، فينمو الحقد ويكثر التنازع . إنها تسعى إلى زيادة الأرباح باستخدام التكنولوجيا والاستغناء عن العمال، فتتفشى البطالة ويضعف التضامن بين منْ يعملون ومنْ يعانون البطالة ، وتنقسم الطبقات العاملة إلى فئات متناحرة . الاقتصاد الحديث يقسم العمالة إلى أقلية تمتلك قدرات فنية عالية وتتقاضي أجورا مرتفعة ، وأغلبية تقوم بأعمال لا تحتاج إلى عمالة خاصة . لذلك ينتشر تشغيل النساء والمهاجرين . ومن هنا ظواهر تأنيث الفقر والصراعات العرقية التي تتفاقم يوما بعد يوم. أما باقي السكان فيصبحون من المهمشين الذين يتلقفون قوت يومهم بأية وسيلة .
العولمة من أسفل
--------------------------------
أصبحت الرأسمالية المتعددة الجنسيات قوة عالمية مسيطرة وطاغية ،و لا يمكن تغيير مسار الأمور إلا بظهور حركة شعبية عالمية تصارع ضد قوى الطغيان في سبيل نظام عالمي وإقليمي ومحلى تسوده العدالة والديمقراطية . انها معركة معقدة وطويلة بسبب عوامل التفرقة بين الناس ، فكيف يمكن أن تتخد الجهود رغم الاختلافات ، من أجل أهداف عامة تهم كل الشعوب ، وعالم أفضل يحقق لها العدل ، والحرية والسلام ؟.
بعد إحدى الجلسات ، دار الحديث بيني وبين امرأة شابة ، مسئولة عن السكرتارية التي أشرفت على تنظيم المؤتمر. عرفت منها أنها متزوجة ولها طفلان ، وأنها تعد رسالة لنيل الدكتوراه ، ومع ذلك تحملت هذه المسئولية التي تطلبت منهـا مـجـهـودات متواصلة لمدة سنة . أثناء الحـديث كـانت تتصرف في عشرات المسائل بأسلوب سلس ، وهادئ. عيناها صافيتان يطل منهما إشراق جميل. قالت اخترنا عنواناً للمؤتمر: كيف نصنع مواطناً ومواطنة عالمية. فالتحركات العالمية ضد العولمة مازالت في بدايتها ، مازالت مثل فيالق للصدام تتتبع اجتماعات الهيئات الدولية مثل البنك الدولي ، ومنظمة التجارة العالمية والاتحاد الأوروبي والآسيان واجتماعات دافوس ، لتحاصرها ولتعبر عن احتجاج الشعوب ضد سياسات هذه المنظمات ، التي تشرع لمصالح الشركات المتعددة الجنسية في العالم. حاصرتها في سيائل وواشنجتون وجنيف وبراغ وبانكوك ، ويوم ٢٥ يناير عقد اجتماع دولی في مدينة بورتو إليجرى بالبرازيل ، لوضع برنامج دولي للكفاح ضد العولمة.
لكن العولمة تسيطر على مراكز القوة من أعلى ، وتصنع شبكات عالمية تمتد ، وإلى كل ركن من أركان العالم. إنها تخترق كل مراتب المجتمع لتصل إلى الأسرة والفرد ولتـحـول دون انخراط الناس في العمل الجماعي ضدها ، تحاول اقناع الناس بمختلف الوسائل أنهم عاجزون عن تغيير أي شئ ، أن العمل الجماعي فاشل وسيضر بهم ، وأن الأفضل ان ينصرف كل فرد لحاله، فإذا اجتهد يستطيع أن يصعد في المجتمع وان يحقق أحلامه.
أثناء وجودي في باريس شاهدت أربعة أفلام سينمائية ، تنبهت أثناء مشاهدتها أن التركيز الأساسي كان على حياة الأبطال. كانوا يواجهون مشاكلهم وحدهم ، لكن ظل البعد الجماعي غائباً. فقد أصبحت هذه النظرة الفردية ، غالبة على كل الأفلام ، على عكس ما كان حادثاً عندما كنت شاباً في الخمسينيات والستينيات. أنها جزء من أيدولوجية العولمة التي تنشرها عن طريق وسائل الإعلام ، وعلى الأخص التلفزيون والأفلام السينمائية والفيديو ، حتى يظل الفرد مولياً ظهره للعمل الجماعي الذي تتضافر فيه جهود الناس ليصبحوا قوة قادرة على الدفاع عن مصالحهم .
من كتاب " فى الأصل كانت الذاكرة " 2002
---------------------------------------








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فلسطينيون يرحبون بخطة السداسية العربية لإقامة الدولة الفلسطي


.. الخارجية الأميركية: الرياض مستعدة للتطبيع إذا وافقت إسرائيل




.. بعد توقف قلبه.. فريق طبي ينقذ حياة مصاب في العراق


.. الاتحاد الأوروبي.. مليار يورو لدعم لبنان | #غرفة_الأخبار




.. هل تقف أوروبا أمام حقبة جديدة في العلاقات مع الصين؟