الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


إيه آخرتها مع الضباط في السودان؟

علي طه
كاتب

(Ali Taha)

2023 / 4 / 23
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في مصر والسودان




بدايات حرب أهلية بين جنرالات النظام القديم، آلاف المصابين ومئات الموتى في صفوف المدنيين وبدايات أزمة إنسانية كارثية غير مسبوقة مع انهيار المنظومة الصحية وانقطاع الكهرباء ونقص الغذاء والمياه. وجنباً إلى جنب مع هذه المأساة نجد مسخرة تصريحات الجنرالين المتحاربين برهان وحمدتو، حيث يدعي كل منهما أنهما يدافعان من خلال هذه الحرب عن مشروع الانتقال إلى الحكم المدني الديمقراطي!

هناك تحليلات تشير إلى أن سبب اندلاع الحرب الآن هي وصول الخلاف الحاد بين الجنرالين حول الفترة الانتقالية لدمج قوات حميدتي في جيش برهان-البشير (حميدتي يقول عشر سنوات وبرهان يقول سنتين) قد وصلت إلى طريق مسدود. هذا الخلاف حقيقي بالطبع ولكن مسألة الدمج هذه مطروحة منذ حكم البشير، لذا فالسؤال الأكثر أهمية هو لماذا تؤدي هذه الخلافات الآن لحرب حاسمة بين الطرفين؟

كيف وصلنا إلى هذه النقطة؟ ربما يكون من المفيد في البداية أن نتذكر المراحل التي مرت بها الثورة السودانية منذ اندلاعها في ديسمبر 2018.
كان اندلاع الثورة السودانية في ديسمبر 2018 بلا شك هو الحدث الأكبر والأخطر في منطقتنا منذ الثورات العربية في 2011. فقد خرج الملايين من السودانيين إلى الشوارع مهددين ليس فقط نظام البشير الإجرامي ولكن أيضاً مراكز الثورة المضادة المؤيدة له خاصة رباعية السعودية والإمارات ومصر وبالطبع إسرائيل. وكانت محاور الثورة السودانية واضحة منذ البداية. فقد كانت أولاً ثورة ضد السياسات الليبرالية الجديدة والنهب المنظم لثروات السودان من قبل نظام البشير، وكان المفجر المباشر للثورة زيادة أسعار الغذاء والوقود. وكان المحور الثاني هو الإطاحة بديكتاتورية البشير العسكرية- الإسلامية وبناء بديل ديمقراطي يعبر بحق عن مطالب وطموحات الشعب السوداني. أما المحور الثالث فكان حول مواجهة أشكال الإضطهاد واللامساواة القاسية التي تعرضت لها كل أقاليم السودان خارج الخرطوم، فقد ظل نظام البشير ينهب ثروات السودان من جميع أقاليمها الشاسعة لصالح تحالف العسكر ورجال الأعمال وشركائهم الخليجيين، مع تجويع سكان تلك الأقاليم، بل أيضاً إضطهادهم وشن الحروب والمجازر ضدهم على أسس دينية وعرقية.

وكان ما يميز الثورة السودانية، عن ثورات 2011 هو درجة الوعي والتنظيم الإستثنائية للجماهير، فلعب تجمع المهنيين دوراً بارزاً في التعبئة والحشد وتنظيم الإضرابات. والأهم كثيراً من ذلك هو تشكيل لجان المقاومة في كافة المدن السودانية والتنسيق بينها، ليس فقط للحشد والتعبئة ولكن أيضاً للتنسيق والمناقشة الديمقراطية القاعدية حول القرارات، ولكن جنرالات البشير بدأوا، منذ اللحظة الأولى، التخطيط للثورة المضادة في تنسيق يكاد أن يكون علنياً مع النظام المصري من جانب وحكام الإمارات والسعودية من الجانب الآخر. وقد استعانوا بالطبع بالنموذج المصري للثورة المضادة. فكانت الخطوة الأولى هي استيعاب المعارضة الإصلاحية التقليدية (الأحزاب البرجوازية مثل الأمة والمؤتمر وقطاع واسع من اليسار الإصلاحي) وفصلهم عن الجماهير الثائرة في الميادين والشوارع. فبعد الإطاحة بالبشير تحت الضغط الجماهيري المتصاعد، بدأ الحوار بين جنرالات البشير، الذين تخلو عنه (تم إزاحته من الحكم في أبريل 2019)، وبين قوى الحرية والتغيير (المشكلين أساساً من عناصر الأحزاب التقليدية غير الإسلامية). وكانت خطة الجنرالات بسيطة وواضحة -الاتفاق على فترة انتقالية يحكم السودان فيها مجلس انتقالي مدني عسكري مشترك (تم تشكيله في أغسطس 2019)، يتم التفاوض من خلاله حول شكل وتفاصيل ومراحل الانتقال لحكم مدني، من خلال دستور جديد وانتخابات حرة ومباشرة وعودة الجيش إلى ثكناته وخروجه بشكل نهائي من المجال السياسي.

كان هناك بالطبع رفض جماهيري واسع النطاق لفكرة استمرار جنرالات البشير في الحكم تحت مظلة المجلس الانتقالي، خاصة وأنه تم الاتفاق على أن يكون البرهان ونائبه حميدتي في قيادة المجلس. ولكن الأحزاب البرجوازية التقليدية وذيولها في ما سمي بقوى الحرية والتغيير، تجاهلت غضب الشارع، بل ناشدت الجماهير على التوقف عن التظاهر والإضراب والعودة إلى العمل(عجلة الانتاج)، وأن يثقوا في القوى المدنية التي يفترض أنها تتفاوض مع العسكر باسمهم، وبالطبع لم يتقدم الحوار قيد أنملة وتحول إلى حوار من أجل الحوار وتفككت قوى الحرية والتغيير وعين حمدوك رئيساً للوزراء في حكومة من التكنوقراط والتي لم تكن سوى واجهة “مدنية” لسلطة الجنرالات المستمرة. وظل الشارع رافضًا لما يدور في الغرف المغلقة ويزيد من الضغط على الشكل الجديد للحكم القديم على الرغم من موجات القمع الدموي، وظلت لجان المقاومة حية وفعالة في الحشد والتعبئة والتنظيم.

كما كان متوقع، لم تكن فترة “المجلس الانتقالي” فترة انتقال نحو الديمقراطية والحكم المدني الديمقراطي كما وعد الجنرالات وكما أكدت قوى الحرية والتغيير، بل فترة إنقالية إلى نقطة الصفر، فمع حلول موعد تسليم قيادة المجلس للمدنيين، قام الجنرالات بإنقلاب عسكري في أكتوبر 2021، أعاد السلطة المطلقة إلى العسكر وانقسم مجددا “قوى الحرية والتغيير” وخرجت بعض المجموعات التي أخذت موقفاً مناهضاً للانقلاب الثاني، ومرة أخرى خرجت الجماهير بالملايين رافضين الانقلاب ومصريين على تلبية مطالب الثورة السودانية. ومرة أخرى واجه العسكر ذلك بالقمع الدموي، أي أن الشارع السوداني لم يسمح بأن يستقر العسكر في الحكم، والعسكر لم يبقى له أدوات سوى البنادق والمدرعات والغاز المسيل للدموع. فإذا كان الانقلاب قد حسم الحوار مع القوى المدنية لصالح العسكر فالمعركة بين الثورة السودانية والعسكر لم تحسم بعد.

ما نجح في مصر لم ينجح في السودان بعد، ففي مصر تمكن العسكر من إستيعاب القوى المدنية واستخدامهم في مواجهة الإخوان، من جانب، وفي قمع الحراك الثوري من الجانب الآخر، أما في الحالة السودانية، فقد نجح العسكر في الجزء الأول من المعادلة ولكن الجماهير السودانية ما زالت تمنعه من نجاح باقي تلك المعادلة، ولكن الجماهير السودانية لم تتمكن هي أيضاً من حسم الصراع لصالحهم حتى الآن، فرغم الصمود والتنظيم والوعي في صفوف آلاف لجان المقاومة، ورغم قدرة هذه اللجان القاعدية على تنظيم حوار سياسي ومجتمعي ديمقراطي استثنائي، فهناك أزمة ضخمة في غياب الكيان السياسي القادر على قيادة وتوحيد جهود لجان المقاومة وتنظيم الضربة القاضية ضد حكم العسكر وحلفائه.

عدم قدرة الجنرالات على حسم المعركة لصالحهم، رغم كل القمع والمذابح الوحشية، وعدم قدرة الجماهير السودانية أيضاً على حسم المعركة، قد أدى إلي حالة الشلل التي مهدت للحرب الحالية. هناك بالطبع، عوامل أخرى أدت إلى هذه الحرب مثل المصالح الاقتصادية للجانبين، فحميدتي لا يتحكم فقط في أهم مناجم الذهب في السودان، بل حقق ثروات ضخمة من خلال استخدام قواته كمرتزقة في ليبيا واليمن لصالح حلفائه الخليجيين. ومن جانب آخر، تمده الدول الأوروبية بمبالغ طائلة للمساعدة في منع الهجرة “غير الشرعية” إلى القارة الأوروبية. أما برهان فهو أيضاً يتحكم في امبراطورية اقتصادية كبرى، خاصة في مجال الزراعة حيث يشارك رأس المال الخليجي في مزارع شاسعة، وهناك أيضاً، على المستوى الإقليمي، حالة السيولة في تحالفات المنطقة وتحولات مواقف القوى الإقليمية الرئيسية مثل السعودية والإمارات وإسرائيل والقوى الثانوية التابعة مثل مصر (تغيير العلاقة مع إسرائيل، وتغيير الموقف من إيران والتخارج من الحروب الأهلية في اليمن وليبيا). كل تلك القوى لها مصالح في السودان، كلها مع العسكر بالطبع، ولكن بعضها مع جناح حميدتي وبعضها مع جناح برهان.

أما على المستوى العالمي، فهناك أيضاً صراعات جيوستراتيجية تجد صداها في المعارك الحالية في السودان، فتراجع الدور الأمريكي في القارة الأفريقية وصعود الدور الصيني والروسي والتوترات الحالية بين الغرب وروسيا حول أوكرانيا، وبين أمريكا والصين حول كل شئ تقريبا، كل ذلك يساهم في إمكانية حدوث وتصعيد الصراع على السلطة في السودان، ولكن لنعود للداخل السوداني، وهو السياق الأهم لفهم الحرب الدائرة، المشكلة بالنسبة للعسكر هي عدم قدرتهم، كما وضحنا، على إخماد الثورة السودانية حتى الآن. ومن الجانب الآخر عدم قدرة الثورة السودانية على حسم الصراع لصالحها. لا نعرف الآن متى ستنتهي الحرب ولصالح أياً من الجنرالين المجرمين، ولكن سواء انتصر برهان (المؤشرات في وقت الكتابة تشير إلى ذلك)، أو انتصر حميدتي، المؤكد هو أن النظام العسكري سيكون أضعف على كل المستويات، مفتقداً لما تبقى من شرعية، خاصة مع ما نراه من خسائر بشرية في صفوف المدنيين والحالة الانسانية الكارثية التي تسبب فيها الصراع على السلطة. من الجانب الآخر، نجد صعود جديد للجان المقاومة، وهي تلعب دوراً ملهماً في مساعدة المدنيين وتوزيع الغذاء وتوصيل المساعدات الطبية والتنسيق بينها لحماية المدنيين. وقد رأينا أيضاً كيف نظم الأطباء صفوفهم لإنقاذ المرضى وكيف تدخل عمال الكهرباء وعمال المياه لإعادة تشغيل المرافق التي شلها القصف والدمار.

إذًا، سيخرج العسكر من هذه الحرب أضعف كثيراً مما كان عليه، في حين ستخرج لجان المقاومة والثورة السودانية بشكل عام أكثر قوة وقدرة وصمود.. ولكن التحدي كما نعرف من التجربة المصرية، تحدي كبير وصعب للغاية- كيف توحد لجان المقاومة والتشكيلات العمالية والمهنية صفوفها استعدادا للموجة القادمة من الثورة؟ كيف ستحل معضلة التنظيم السياسي الثوري؟ هذه كلها أسئلة لن يجيب عليها سوى ثوار السودان الذين يبهروننا مرة تلو الأخرى بصمودهم وصلابتهم وقدراتهم التنظيمية.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. بعد الحالة الرابعة لنزع حجاب المتظاهرات.. هل تتعمده الشرطة ا


.. استشهاد طفلين وإصابة آخرين إثر غارة إسرائيلية استهدفت منزلا




.. طلاب جامعة بيرزيت يطردون السفير الألماني من المتحف الفلسطيني


.. نتنياهو: سنواصل الحرب حتى تحقيق أهدافها كافة بما في ذلك تنفي




.. باتيل: إذا لزم الأمر سنحاسب مرتكبي الجرائم بقطاع غزة