الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


فندق (قصة قصيرة)

محمد عبد حسن

2023 / 4 / 24
الادب والفن


إلى : فرانز كافكا

واهنًا.. يصلني الصوت، إذ تمتص انعطافات الجدران المطلية حديثًا بدهان أصفر مقزز جلّ الصوت المنبعث من مكان ما.. هناك، لا أراه، غير أنّ الأنين المتسرب عبر فتحات أو كوى خفية.. من تحت الأبواب، وصل الوسادة المتسخة حيث أضع رأسي بعد رحلة دامت اثنتي عشرة ساعة بالضبط قضيتها مصلوبًا على كرسي تغيّبه ستائر دخان كثيف، ساخن بفعل الحرارة المنبعثة من كل شيء يحيطه.
كلّ شيء ساكن. الممر، مضاء بمصابيح متباعدة تتدلى من السقف كان بعضها مكسورًا، دهليز يمتد حتى السلم، من الجهة الأخرى تحده انعطافة تقود إلى كون مظلم. هذا فقط ما أراه. من ذلك الاتجاه يأتي الصوت، زاحفًا على البلاط، متشبثًا بالجدران. على جانبي الممر كانت الغرف موصدة، تبدو دواخلها – من تحت الأبواب – مظلمة عدا غرفة بعيدة.. هناك، بجانب السلم. قد يكون الأنين متسللًا من هناك. بحذر كنتُ أتقدم. السكون يغلّفني، يجهض خطواتي. أقف. يختفي خط الضوء. أعود إلى غرفتي. رائحة الوسادة زنخة مع أني أخفيتها بمنشفتي. يصلني الصوت.. ولكن ليس واهنا هذه المرة!
(أمل أن تقضي معنا ليلة هادئة)، قال لي رجل برميل يجلس إلى منضدة قذرة، أمامه سجلان كبيران كتلك التي كنت أراها عند أبي، بجانب الميزان، كان بقالاً، ضخمًا أيضًا، لكنه ليس برميلًا: (نزلاؤنا من طراز خاص، هذا ما أريدك أن تعرفه، قد تسمع لغطًا آخر الليل، سبابًا، صراخًا، لا عليك من كل هذا، المهم أن تبقى مكانك حيث سيقودك هذا الرجل، وإذا رغبت في الخروج؛ أطرق الباب حتى يحضر شخص لاصطحابك). كان البرميل هو الذي يتكلم، يلهث كالبقرة، أما الآخر فقد استمر صامتاً ينظر إليّ، صامتاً يقودني عبر سلم متآكل يفضي إلى ممر شبه مظلم تتراصف على جانبيه غرف كالعلب لها أبواب كأبواب الزنازين مظلمة كلها عدا الغرفة الأولى يسار السلم، كان الضوء المتسلل عبر حافة الباب يرسم خطًا مضيئًا على أرضية الممر السوداء. كدت أن أسمع صوته عندما دخلتُ قائلاً: أبحث عن فندق، أوشك أن يفتح فمه، غير أن البدين أسكته بإشارة من يده قبل أن يقول لي: (وصلت).
- هويّتك.
في السجل الأسود الطويل الذي فتحه أمامه.. أرى بوضوح ورقة بيضاء مقسمة بخطوط عمودية حمر إلى حقول ليست كحقول أبي: الاسم.. المادة.. الشهر.. التاريخ، لكل عائلة صفحة أو صفحتان. أما هنا فأرى: الاسم.. البلدة.. رقم الهوية وتأريخ إصدارها.. تاريخ النزول.. تاريخ المغادرة .. وحقل أخير هو أكبر الحقول جميعاً كُتب في أعلاه (الملاحظات)، كان ممتلئاً بعبارات رسمت بخط رديء، حاولت – إذ كان منشغلاً بتدوين ما يريده في سجله الأسود الطويل – أن أقرأ بعضها،الكلمات في رؤوس السطور: تجاوز.. حمل.. شجار.. محاولة، انتبه إليّ: أجلس.. أجلس هناك. وأشار إلى كرسي حديدي مقابل الرجل الآخر، فجلست. كنت،حتى مغادرتي قبر الاستقبال، النزيل الأخير المدرج، بلا تسلسل، في السجل الأسود. ما لفت نظري هو حقل (تاريخ المغادرة)، كان فارغاً، سألته،ونحن نخطو في الممر الرطب باتجاه العلبة (١٤) كما أخبره البدين فأجابني:
- لأن نزلاءنا لا يغادرون.
- ولماذا!؟
- هذه غرفتك.
لحظات فقط.. بعدها كنت وحدي، وصوت الترباس، الذي فتح قبل دخولي، يغلق مرة أخرى محدثاً ضجة تبدو عالية وسط السكون المميت.
الأشياء حولي تمتص ضجيج الخطوات المبتعدة. الحقيبة تتدلى من كتفي. أحس ثقلها. الغرفة فارغة: دكة اسمنتية في الركن.. وعاء للقمامة. ذيول مسامير تطلّ من جدران طليت،هي الأخرى، حديثًا دون أدنى محاولة لإخفاء الشقوق والحفر الكثيرة، بذات الدهان الأصفر، في الوسط مصباح وحيد ملتصق في السقف. تحسستُ جيوبي. إنّ ما معي من نقود لا يسعفني في البقاء أكثر من يومين بوجبات فقيرة وفنادق رديئة. قواي تخور. على الدكة الاسمنتية جلست مسندًا رأسي إلى الجدار. كانت باردة. حزام الحقيبة عالقٌ بكتفي. حررته. سأضيع إنْ لم أجد الرجل. رأسي تدور. مثانتي تتسع.. تتسع، تحتل أسفل بطني. لم يعطني الرجل فرصة لأفرغ مثانتي وأمعائي. كما أنه لم يرشدني إلى دورة المياه.
- أأتغوط في الداخل؟!
قلت له بعد أن طرقت الباب مرارًا قبل أنْ يحضر مطلًا عليّ من الفتحة المستطيلة الضيقة في الباب الحديد، أزاح الغطاء المتدلي عليها من الخارج:
- عندك هذا الوعاء.
- ولكني لست معتادًا على .......
- عليك أنْ تعتاد على ذلك.. أتفهم؟ ثم إنه لا يمكنني الحضور كل دقيقة لأقود شخصًا منكم ليفرغ قاذوراته. أريد أن أنام.
تركني ومضى. كان رجلًا آخر، لم أره حين حضرت. صوت خطواته يبتعد شاتمًا. خطوات أخرى تقترب. ألصقت أذني بالكوة المستطيلة. يقفان. (العلبة ١٤)، قال له ومضى. تقترب الخطوات. تقف إزائي. ابتعدتُ مسرعًا إلى وسط العلبة:
- ماذا تريد؟
أعرف الرجل، هو الذي قادني إلى هنا. تنفست:
- دورة المياه.
سحب الترباس ثم دفع الباب. أصبح أمامي بـ (دشداشته) البيضاء:
- تعال معي.
كنا نجتاز العلب المتراصة على جانبي الممر:
- الرجل الذي حضر قبلك رفض أن يخرجني.
- لأنه لا يعرفك. ظنّك شخصًا آخر.
- وهل تعرفون جميع نزلائكم؟!
- واحدًا واحدًا، إنهم يقيمون معنا منذ سنين.
- ولا تخرجونهم إلى دورة المياه؟
- عندما نريد، فبعضهم يتصنع الأعذار للخروج. هذه دورة المياه. اقض حاجتك وسأنتظرك.
- إنها مظلمة؟
- تعطل المصباح منذ سنين.
- ولم تشتروا واحدًا آخر!؟
- ولماذا؟ إنه مكان مقرف، ممتلئ بالقاذورات. ثم إنه لا أحد من نزلائنا يريد رؤية نفسه وهو يتغوط. هذه رغبتهم.
- عجيب!
- لا تتعجب. نزلاؤنا من طراز خاص. كيف حضرت إلى هنا؟
صوته يحتلّ أذنيّ كما تحتل القذارة المنتشرة حولي أنفي وعيني. تجنبت إجابته خوفاً من فتح فمي. سكت هو أيضًا. أسمعه يدندن بلحن قديم. ناديته مضطرًا بعد أن كمّمتُ أنفي وفمي بمنديلي: :
- الماء.. أين أجد الماء؟
- جد لك خرقة في مكان ما.
منديلي هو الخرقة الوحيدة التي سأجدها لو بحثت. استعملته ثم رميته. سمعت صوت ارتطامه بجدار لا أراه.
- الماء هو الآخر تعطل؟!
- منذ سنين.
- ولم تصلحوه؟
- كيف وصلت إلينا؟
- نقودي قليلة، بقيت ساعات طويلة أبحث، دخلت ثلاثة كانت أجورها عالية، أدركتُ أخيرًا أنّ العناوين البراقة في الشوارع المضيئة لا تنفعني، خصوصًا وأنّ معدتي خاوية، فما وضعته لي أمي في كيس ورقي التهمته بعد ساعة واحدة من خروجي. قلتُ: لأبحث في الأزقة المنسية.. في الزوايا المظلمة عن فندق رخيص.
- ولماذا حضرت؟
- رسالة من رجل وصلت إلي،إنه يقول لي: احضر فقط وسينتهي كل شيء.
- وهل تعرف الرجل؟
- لا أعرفه. ربما لو رأيته لعرفته. ولكنه يعرفني، هو قال ذلك، قال لي: احضر إلى الشارع الرئيس في المدينة وسأراك هناك.
- أعطني الرسالة.
تفحصها: الطوابع.. أختام البريد، الورقة.. بسطها أمام عينيه طويلًا قبل أنْ يعيدها إليّ:
- لا تخبر أحدًا بشأن رسالتك هذه. ادخل الآن.
- هل الشارع الرئيس بعيد من هنا؟
- سأدلّك عليه في الصباح. اسمع: سأبقي بابك مفتوحًا، ولكن تجنب الخروج مهما يكن السبب إلا لتقضي حاجتك وتعود. أفهمت؟
- ألا أستطيع الحصول على فراش؟
- لم يبق لدينا فراش. واحد نزلاء كثيرون حضروا قبلك، تدبر أمرك هذه الليلة، ربّما أستطيع أن أتدبر لك شيئاً في الليلة القادمة. هل ستعود إلينا إنْ لم تجد الرجل؟
- لا أدري.. ولكني سأجده حتمًا.
- سأبقي بابك مفتوحًا وتذكر ما أوصيتك به.
في الوقت الذي أرحت جثتي على الدكة الاسمنتية كان ك لشيء هادئًا. تيار الهواء المتسلل عبر الباب الموارب جعل أجفاني تثقل.. تثقل. نائمًا كنت عندما انتصب أمامي مرة أخرى:
- وسادة.. هذا فقط ما وجدته.
رماها في وجهي وخرج. زنخة كانت. أخفيتها بمنشفتي قبل أن أضع رأسي مرة أخرى.. لأغيب، تتباعد الجدران، صفيحة القمامة تختفي، تستحيل الدكة إلى فراش وثير. أمامي يجلس الرجل. (قلت لك احضر وسينتهي كل شيء، وها أنت ترى. شيئاً آخر؟) أمي. (سأحضرها لك). ودكان البقالة، كان لأبي، ثم باعه بعد أن كسد كل شيء في المدينة، نهارات طويلة.. كان يجلس – وأنا بجانبه – دون أن يبيع شيئاً، تعفّنتْ بضاعته. وبعد أن استوفى جميع ديونه؛ باعه ورحل إثر رسالة وصلته من رجل، ولم أره مرة أخرى. (الدكان لا ينفعك). أريده فقط، إنه لأبي. (سيكون لك. وماذا أيضاً؟) أبي.. أريد أن أراه. (لن تراه). لماذا؟ (لا أدري. فقط أعرف أن الذين مضوا لا يعودون).
- ما بك؟ أنت تصرخ؟!
- لست أنا. الأصوات تنبعث من هناك.
- يخيّل إليك. كن هادئاً.
مضى. جسدي مبتل. يقظاً بقيت. أرجل مسرعة وخلفها شيء يسحب تجتاز بابي الموارب. لم أرها.. ولكني أدركت أنها تمضي هناك.. تجاه الزاوية البعيدة. الأنين يتزايد. صراخ. شتائم.
- ها أنت بنفسك تسمع. لست أنا.
- سأضطر لحجزك حتى الصباح.
‏ أقفل الباب. على الدكة الاسمنتية بقيت مضطجعاً. ما أسمعه يزيد يقيني من أنني في فندق من طراز خاص. وهذا ما أكّده الرجل البرميل بعد أن ناولني هويتي .
لم يكن الفندق رخيصًا كما ظننت. وكنت الوحيد الذي أدرج تاريخ مغادرته في الحقل الطويل الفارغ. وعندما أشار الشخص الذي أحضر لي الوسادة إلى اتجاه الشارع الرئيس في المدينة، خرجت مسرعًا لأرى الرجل.
مايس - حزيران ١٩٩٤م
البصرة








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ملتقى دولي في الجزاي?ر حول الموسيقى الكلاسيكية بعد تراجع مكا


.. فنانون مهاجرون يشيّدون جسورا للتواصل مع ثقافاتهم الا?صلية




.. ظافر العابدين يحتفل بعرض فيلمه ا?نف وثلاث عيون في مهرجان مال


.. بيبه عمي حماده بيبه بيبه?? فرقة فلكلوريتا مع منى الشاذلي




.. ميتا أشوفك أشوفك ياقلبي مبسوط?? انبسطوا مع فرقة فلكلوريتا