الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


زلازل شرق المتوسط وتراجيديا اللابشر

مصعب قاسم عزاوي
طبيب و كاتب

(Mousab Kassem Azzawi)

2023 / 4 / 26
السياسة والعلاقات الدولية


في هولندا التي لا تقع على أي خط زلزالي Fault Line ناجم عن تلاقي الصفائح القارية Tectonic Plate يقع حقل غاز Groningen الذي يمثل أحد أكبر حقول الغاز في أوربا، والذي ينطوي على احتياطات للغاز تقدر بكامل استهلاك هولندا للغاز لما قد يتجاوز 17 عاماً، وهي الاحتياطات التي كانت تستطيع فعلياً تعويض الجزء الأكبر من وارد الغاز الذي انقطع تدفقه إلى أوربا من روسيا عقب احتراب الأوربيين فيما بينهم من جديد كما كانت عادتهم منذ العصور الوسطى بتأجيج أمريكي وعلى أرض وبدماء الأوكرانيين منذ شهر فبراير من العام 2022.
وعلى الرغم من كل ذاك الحجم الهائل للقدرة الإنتاجية لحقل الغاز ذاك، والحاجة الماسة لكل متر مكعب من إنتاجه في ضوء التهاوي الاقتصادي المهول في أوربا ممثلاً بالتضخم، وارتفاع الأسعار بشكل مهول جراء ارتفاع أسعار وارداتها من مختلف أشكال الوقود الأحفوري، و خاصة الغاز نتيجة لانقطاع صبيب ما كان يصلها من روسيا؛ فقد قررت الحكومة الهولندية إغلاق حقل الغاز ذاك وإيقاف كل عمليات استخراج الغاز منه بشكل نهائي في الأول من أكتوبر من العام المنصرم 2022، أي في عمق لج أزمة الطاقة الأوربية كأحد عقابيل الحرب الأوكرانية، وفي توقيت هو أول شهر من الشتاء في أوربا، والذي تكون فيه أوربا بأمس الحاجة إلى مختلف الوقود الأحفوري و خاصة الغاز لتدفئة منازل مواطنيها من هول الشتاء الأوربي القارس في شمال وغرب أوربا.
ولتفسير ذاك القرار الذي قد يبدو بأنه قرار غير متعقل في ضوء الحاجة الملحة للغاز المستخرج من ذاك الحقل، وفي ضوء ارتفاع أسعار الغاز عالمياً، وهو ما يعني ثروة باهظة تقدر بمئات المليارات من الدولارات، سوف يتم إبقاؤها في الأرض، بعد اتخاذ القرار بإغلاق حقل الغاز ذاك، واعتبار الثروات الكامنة فيه ثروات محصورة بالمعنى الاقتصادي Stranded Assets أي ثروات غير قابلة للاستثمار أو البيع، ويجب نسيانها بشكل نهائي؛ لا بد من الإنصات جيداً إلى خطاب نائب وزير التنقيب عن الثروات الباطنية في هولندا إلى جريدة Financial Times والذي نقلته وكالة رويترز للأنباء، ومفاده الحرفي: «إنه بسيط جداً وللغاية: أي شخص لديه بعض المعرفة بمخاطر الزلازل يخبرني بأن الاستمرار في إنتاج -الغاز- من هناك خطير للغاية. أنا مقتنع للغاية بأنه من الحكمة إغلاق الحقل ذاك».
وتلا ذاك التصريح البسيط الواضح والصريح بيان رسمي من الحكومة الهولندية بوقف كلياني للبحث عن أي حقول غاز أو نفط جديدة ضمن الأراضي الهولندية اتساقاً مع أهداف الحكومة الهولندية في المجال البيئي، بالإضافة إلى بيت القصيد غير المضمر ألا وهو الحد من مخاطر الاهتزازات الأرضية.
وفي الحقيقة فإن سبب إغلاق حقل الغاز العملاق ذاك هو بعض الهزات الأرضية الخفيفة التي حدثت في منطقة تقدر بـ 350 ميل مربع أو 900 كيلومتر مربع، والتي كان معظمها حوالي 2.0 بمقياس ريختر، وكان أقواها ذاك الذي أصاب قرية صغيرة تدعى Huizinge بدرجة 3.6 ريختر في العام 2012، و الذي لم ينتج عنه أي خسائر في الأرواح، و لكن كان بنتيجته اتخاذ الحكومة بتخفيض الإنتاج وسرعة استخراج الغاز من ذاك الحقل العملاق بنسبة الثلثين بدءاً من العام 2013، معلنة في شهر سبتمبر من العام نفسه بأنها سوف تغلق الحقل بشكل نهائي في منتصف العام 2022، وهو ما تم بشكل فعلي ونهائي في شهر أكتوبر من العام 2022 كما أشرنا إليه آنفاً.
ولزيادة إيضاح التزام الحكومة الهولندية بمواطنيها من البشر الأحقاق المكرمين أعلنت تلك الحكومة عن إلزام شركتي Exxon Mobil و Shell العابرتين للقارات- واللتين كانتا مسؤولتين عن التنقيب واستخراج الغاز في ذاك الحقل- بدفع تعويضات تقدر بـ 8.8 مليار يورو للمواطنين الذين تعرضت منازل 127000 منهم لبعض الأضرار جراء تلك الاهتزازات الأرضية التي لم تتجاوز 3.6 ريختر في أشدها، وكانت من قبيل التشققات والتصدعات دون أن ينهار أي من تلك المنازل، أو يرتحل من الحياة الدنيا بسبب تلك الأضرار أي من سكانها، وهو ما عنى تعويضاً بقيمة حوالي 64000 يورو لكل من أصحاب تلك المساكن، التي قد لا تتجاوز قيمة الكثير منها إن تم بيعها قيمة ذاك التعويض. والطريف في هذا السياق هو أن أياً من هاتين الشركتين العملاقتين لم تتمنع أو تحاول التملص من دفع تلك التعويضات لأولئك البشر «المعذبين» بمنظر التشققات والتصدعات في جدران وسقوف منازلهم.
ولا بد في هذا السياق من توثيق الأساس العلمي لما طرحه نائب الوزير الهولندي السالف الذكر من أطروحة مسلمة مفادها بأن استخراج النفط والغاز من باطن الأرض سوف يؤدي إلى إنقاص الضغط الداخلي على الصخور التي يحتبس الغاز بين طبقاتها، مما سوف يؤدي إلى انخماصها، وهو ما يتم ملاحظته في الكثير من المناطق المجاورة لحقول استخراج والنفط، حيث تغور الأرض وتُخْسَفُ بأبعاد قد تصل إلى عدة أمتار، وهو ما لا بد أن يؤدي في سياقه إلى انهدام في صخري في الطبقات تحت القشرة الأرضية يحتمل أن يفضي في حال اشتداده إلى هزات أرضية قد تكون خفيفة كما كانت في الحالة الهولندية السالفة الذكر، أو كارثية كما هو الحال في الكثير من الأمثلة العصية على الحصر في أرجاء الأرضين؛ و من أجل القيام بذلك التوثيق العلمي اللازم و المحوري لا بد الاتكاء على نتائج البحوث العلمية الرصينة المنشورة في مجلات علمية محكمة و قد يكون على رأسها تقرير علمي مطول يقع في 263 صفحة صادر عن المركز الإعلامي لاتحاد الأكاديميات الوطنية العلمية في الولايات المتحدة والتي تضم أكاديميات العلوم، والهندسة ،والطب معاً، صدر في العام 2013 بعنوان:
«Induced Seismicity Potential in Energy Technologies»
ويعني باللغة العربية:
«الاحتمالات الاهتزازية المحرضة بتقنيات استخراج الطاقة».
والذي خلاصته وجود علاقة ارتباط إحصائية وسببية في العديد من الأمثلة بين الاهتزازات الأرضية المحرضة Induced Seismicity، وبين عمليات استخراج الوقود الأحفوري من بواطن الأرض، وخاصة تلك التي تتضمن حقن السوائل من أجل تسهيل استخراج الوقود الأحفوري سواءً كان ذلك غازاً أو نفطاً سائلاً أو صخرياً.
ولا يعتقد بأن التقرير العلمي السالف الذكر من اتحاد الأكاديميات الوطنية العلمية في الولايات المتحدة، وغيره الكثير من المنشورات العلمية في مجلات علمية محكمة، كانت غائبة عن صناع القرار في جميع دول شرق المتوسط جميعها، بالتوازي مع معرفة مسبقة لا بد أنها موجودة لدى أي منهم تنطوي على أن منطقة شرق المتوسط وشرق القارة الأفريقية تنطوي على ثلاثة خطوط صدعية أو فوالق هي: فالق الأناضول الشمالي الذي يمر من شرق تركيا إلى بحر إيجة مروراً بإسطنبول، وفالق الأناضول الشرقي الذي يمتد من شرق تركيا على الحدود مع أرمينيا إلى منطقة لواء إسكندرون على الحدود الشمالية السورية، وهو الفالق الذي يستمر تحت البحر المتوسط وصولاً إلى الحدود الجنوبية لقبرص كما لو أنه ملعقة تحتضن جزيرة قبرص في قعرها، بالإضافة إلى الفالق الثالث العملاق الذي يدعى صدع البحر الميت والذي يمتد جنوباً على امتداد البحر الأحمر كله ويصعد شمالاً على امتداد الساحل الشرقي للمتوسط كله في فلسطين التاريخية ولبنان وسورية ليلتف في تركيا باتجاه الشرق، وبخط مواز لفالق الأناضول الشرقي السالف الذكر على امتداد جبال زاغروس في العراق وصولاً إلى إيران.
وذلك الواقع الجيولوجي المهول لمنطقة شرق المتوسط الذي يظهرها كما لو أنها مطحنة جيولوجية للقشرة الأرضية هو التصور الواقعي لحركية تلك القشرة الأرضية في منطقة جغرافية تمثل منطقة التحام وصدام ثلاثة صفائح أرضية قارية تعوم على بحر من السوائل المنصهرة في جوف الأرض تحتها وهي صفيحة الأناضول القارية، والصفيحة العربية القارية، والصفيحة الأفريقية القارية.
وبدلاً من تعقل وتفكر صناع القرار في منطقة شرق المتوسط بنتائج التسرع لفغر القشرة الأرضية في غير موضع مما يتغولون عليه من أرض و بحر في مياههم الإقليمية؛ فقد جن جنونهم والتهب سعارهم للتنقيب في كل ما تستطيع استطالاتهم الأخطبوطية الوصول إليه عبر ثقب سطح الأرض وحفرها، ورجها بالمعدات الثقيلة لاستشعار ما هو كامن في طبقاتها الداخلية، و حقن السوائل في عمقها تحت ضغط عال، وغيرها من تقنيات استخراج الوقود الأحفوري، وهو ما نتج عنه في العام 2022 بحسب إدارة معلومات الطاقة في الولايات المتحدة Energy Information Administration إتمام ثلاثة حقول غاز جديدة لإسرائيل، وحقلين جديدين لقبرص، وحقل جديد لمصر، مع عمليات تنقيب في السواحل اللبنانية بدأت مع موافقة حزب الله اللبناني الممانع المقاوم على ترسيم الحدود معترفاً بما يسميه رياءً الكيان الصهيوني الذي تحول في منظوره إلى دولة إسرائيل السيادية التي يتوجب احترام الحدود الدولية معها حينما يتعلق ذلك بثروة مستحدثة يمكن وضع اليد عليها لاستثمارها في رغاء تحرير فلسطين لاحقاً عبر الطريق الذي يمر من دمشق وكل المدن السورية التي أدمن ذاك الفصيل التنكيل بها وبشعبها المظلوم المقهور.
ولا يمكن نسيان المناكدات التركية لليونان والاتحاد الأوربي من خلال عمليات التنقيب عن الغاز في غير موضع من المياه الإقليمية للشطر الشمالي من جزيرة قبرص التي تسيطر عليها تركيا، وهي العمليات التي استمرت على قدم وساق حتى خواتيم العام 2020، دون أن يعني ذلك تراجع السلطات التركية عن عمليات التنقيب المحموم في سواحل إقليم هاتاي ومرسين منذ شهر أغسطس من العام 2022، والتي لم تفض إلى اكتشاف حقول غاز جديدة على الرغم من فغرها ومسحها لقاع البحر بالأدوات المسحية الثقيلة للاستشعار عن بعد رجاً وهزاً و ثقباً في مواضع لا تعد ولا تحصى من تلك المنطقة الجغرافية التي كانت فعلياً مركز الزلزال الشمشوني الذي ضرب منطقة سهول كيليكية في جنوب تركيا وشمال سورية في السادس من فبراير من العام 2023.
وقبل الانتقال إلى مفاعيل ذلك الزلزال الأخير المدمرة والكارثية على كل الصعد على الملايين من البشر المستضعفين المعذبين المقهورين، لا بد من الإشارة إلى أن جميع السلطات الاستبدادية الفاسدة بشكل صريح أو مقنع، والتي تتحكم بحيوات البشر المظلومين في شرق المتوسط لم تتوقف قيد أنملة عن سعيها المحموم للتنقيب عن الغاز حتى عقب كارثة زلزال 6 فبراير في تركيا وسورية، ولا زالت تحفر وتنقب وتمسح جيولوجياً بمعدات الاستشعار عن بعد الثقيلة في مياهها الإقليمية في سعي لإتمام ترسيم مساحة فعاليات الاستخراج في ستة حقول جديدة ثلاثة منها لمصر، وواحد لكل من قبرص وإسرائيل ولبنان والتي تمثل جملة حقول الغاز الجديدة التي يتم العمل على استثمارها خلال العام الزلزالي 2023.
ولا يستطيع أي عاقل يحترم عقله ونفسه إلا أن يعقد مقارنة بين سلوك الحكومة الهولندية في لج حاجتها للوقود الأحفوري لتدفئة منازل مواطنيها في ظل أزمة جيوسياسية فائقة مع روسيا المصدر الأساسي للغاز في أوربا، والتزامها بحماية ممتلكات مواطنيها التي لم يزهق أي روح منها من مفاعيل الاهتزازات الأرضية في بسيطتها، و هي الهزات التي يعتقد كل العلماء وغيرهم حتى من الناس الاعتياديين بحسب توصيف نائب وزير التنقيب عن الثروات الباطنية في هولندا المشار إليه آنفاً بوجود علاقة إحصائية جلية تشير إلى علاقة سببية واضحة بين استخراج الوقود الأحفوري من بواطن الأرض، وبين ما استتبع و قد يستتبع ذلك في المستقبل من هزات أرضية حتى في مناطق جغرافية لا تقع في مناطق تماس الصفائح القارية والفوالق والصدوع الكامنة فيما بينها كما هو الحال في الجغرافيا الهولندية، والتي نقيضها الكامل جيولوجياً منطقة شرق المتوسط؛ إذ العنوان العريض لنهج الطغاة المستبدين بحيوات المقهورين في شرق المتوسط هو التعامي العامد المتعمد عن تلك الحقائق العلمية الدامغة، والإيغال المحموم والمسعور في عمليات التنقيب عن كل ما يمكن أن تصل أياديهم الآثمة إليه لاستخراج أي ثروات يمكن تحصيلها من أي من تلك الثقوب في جوف الأرض، بغض النظر عن أي مفاعيل محتملة ومتوقعة الحدوث جراء تلك العمليات الجائرة، خاصة في منطقة سمتها الجغرافية و الجيولوجية والتاريخية بأنها منطقة احتكاك مستمر بين ثلاث صفائح قارية، وموطن ثلاثة فوالق عملاقة تمتد طولاً وعرضاً على امتداد جغرافيا شرق المتوسط الكليم المحزون.
وقد يجادل بعض المتابعين بأن هناك مبالغة في التوصيف السابق، حيث أن حالة التهاوي الاقتصادي في مجمل دول شرق المتوسط بدرجات وحِدَّات مختلفة لا تفسح المجال إلا للتفكر باستخراج أي ثروات باطنية يمكن الحصول عليها من أجل تحسين الوضع الاقتصادي المعيشي للمواطنين في حدود الدولة التي تقوم باستخراج الغاز أو النفط من أرضها أو في مياهها الإقليمية. والحقيقة أن عوار تلك الحجة الأخيرة كامن في خطل وعدم صوابية مقدماتها أساساً وصولاً إلى استنتاجاتها المبنية على أساس خاطئ، حيث أن التهاوي الاقتصادي في منطقة شرق المتوسط ليس عائداً لضعف اقتصادي في مجتمعاتها بقدر ما هو عائد لخلل في بنيان اقتصادات الدول المتشاطئة على شرق المتوسط، فهي التي يجمعها جميعها إيغال الفاسدين المفسدين في عمق تغولهم على مفاصل الحل والعقد في تلك الدول، فالقاعدة التي لا شواذ لها اقتصادياً في تلك المجتمعات هو تحويل عوائد اقتصادات دولهم إلى جيوب الفاسدين المفسدين بأشكال وتلاوين مختلفة، حتى لو كانت نظمهم السياسية متلبسة بلبوس ديموقراطي شكلي، و هي قاعدة لا بد أن تعني في المآل الأخير تحول جل الثروات الوطنية المتراكمة داخلياً، و التي كان من الواجب استثمارها في تنمية البنى التحتية الإنتاجية في المجتمع، إلى ثروات تصب في شرايين وعروق شبكات اقتصادات الظل و جنات الأموال المسروقة المهربة وتلابيب البنى الطفيلية المتفرعة عنها عولمياً بغض النظر عن آلية إخراج الفساد والإفساد في أي من تلك الدول اللاهثة لاستخراج ثرواتها الباطنية من جوف شرق المتوسط. والحقيقة الثانية الدامغة هي أن قيمة الثروات الباطنية التي يمكن استخراجها عبر فغر أرض وبحر شرق المتوسط بغض النظر عن أي قيم فلكية محتملة لها يتم التطبيل بها هنا وهنا، وهي بالحقيقة ليست كذلك، لن تعادل أياً من العواقب الكارثية التي أصبحت قاب قوسين أو أدنى من التحقق الكلياني لهول ورعب مفاعيل تسخن كوكب الأرض جراء الحرق المفلت من أي عقال للوقود الأحفوري و ما ينتج عنه من تراكم لغاز ثاني أكسيد الكربون في الغلاف الجوي، وهو ما يعني راهناً في حيواتنا المعاشة وليس فقط مستقبلاً بحسب دراسة نشرت في مجلة المناخ Journal of Climate في شهر يوليو من العام 2020 خلاصتها نقص راهن بمعدل يصل إلى 40% في معدلات الهطول المطري في منطقة حوض المتوسط عموماً يحتمل تفاقمه بشكل متسارع في حال عدم تخفيض انبعاثات غاز ثاني أوكسيد الكربون على المستوى الكوني، وهو ما يعني عملياً تناقصاً متسارعاً في مصادر المياه الشحيحة في منطقة حوض المتوسط وشرق المتوسط خصوصاً بشكل سوف يحد من إمكانيات المنطقة لتطوير وزراعة ما يعتاش به أبناؤها، وهو ما سوف يؤثر على الملايين من البشر الذين يعيشون حالياً في حالة ضائقة مياه خانقة في حيواتهم اليومية، ويهدد الاستقرار في منطقة متوترة ومعقدة، خاصة وأن الكثير من المناطق الزراعية الخصبة في ذاك الفضاء الجغرافي تم تحويلها إلى منتجعات سياحية لخدمة منظومات الفساد والإفساد مثلما كانت الحالة التراجيدية للساحل الشمالي في مصر الذي كان يأكل من زرعه و حصده كل رعايا الإمبراطورية الرومانية حتى انهيارها في القرن الخامس الميلادي، والذين وصل عددهم إلى ما يقارب 76 مليوناً آنذاك بحسب الباحث Kyle Harper في كتابه مصير الإمبراطورية الرومانية الصادر عن جامعة Princeton في العام 2017. ومن ناحية أخرى أكثر واقعية وعملية وفائدة لا بد من الإشارة إلى حقيقة أن جميع دول شرق المتوسط تحظى بوفرة أشعة الشمس الحارقة في كثير من الأحايين، وهي التي يمكن أن تولد طاقة وفيرة بشكل مستدام، تكفي المنطقة بأسرها، متضمنة الطاقة التي سوف يكون لا بد منها لتحلية مياه البحر من أجل تفادي اندثار البشر والزرع والضرع عطشاً خلال السنين القليلة القادمة، وهي الاستثمارات في توليد الطاقة الشمسية التي يمكن الانطلاق بها فقط من خلال تحويل نفس النفقات التي يتم صرفها على فغر سطح الأرض وبواطن البحار للتنقيب عن الوقود الأحفوري فيه، لتصب في خدمة مشاريع للطاقة المستدامة النظيفة، والتي أصبحت ضرورة ملحة لتلافي الكوارث الأخرى التي تحيق بالبشرية، وأصبحت تهدد استمرار احتمالات الحياة على كوكب الأرض بالشكل الذي اعتاد عليه البشر راهناً في حال عدم تحركهم العاجل لوقف العجلة الشيطانية للإيغال في حرق الوقود الأحفوري إلى آخر نقطة أو متر مكعب يمكن استخراجه من بواطن الأرض وأعماق بحارها.
وفي الختام لا يستطيع أي عاقل محزون بمفاعيل كارثة زلزال تركيا وسورية في السادس من فبراير من العام 2023 بقوة 7.8 ريختر وهزاته الارتدادية التي لم تتوقف إلى اللحظة الراهنة، وأحس به كل سكان شرق المتوسط من المعذبين المفقرين المستضعفين الذين ينظر إليهم الأثرياء الأقوياء المتحكمون بمفاتيح الحل والعقد في الاقتصاد الكوني من خلال عملائهم ووكلائهم من نواطير ومدراء نظم الفساد والإفساد والدول الأمنية العسكرية في شرق المتوسط، كما لو أنهم من فئة «اللابشر» باستعارة من التعبير الثاقب للروائي الإنجليزي جورج أورويل في روايته التي حملت عنوان «1984»، ونشرها في العام 1949 قبل وفاته بأشهر قليلة، وهو التعبير الذي كان عنوان كتاب رفيع للمؤرخ والباحث البريطاني مارك كورتيس والذي وثق فيه تاريخ الانتهاكات السرية لحقوق الإنسان التي قامت بها بريطانيا في شرق المعمورة وغربها؛ بينما توصيف واعتبار «البشر» محصور بأولئك الذين يعيشون في مجتمعات الأثرياء الأقوياء، ويتحلون ببشرات بيضاء وعيون زرقاء أو خضراء وشعور شقراء لا بد من الالتفات إلى عدم إقلاق رفاهيتهم وراحتهم جراء استخراج الغاز من حقل غاز واحد في أرضهم، بينما يترك المعذبون من «اللابشر» ليعانوا الأمرين وما قد يفوقهما بشكل سرمدي على شكل هزات أرضية مهولة قد يكون الخافي منها أعظم مما أظهرته من وجهها الدميم في زلزال 6 فبراير من العام 2023، إذ كما الحال البائس راهناً فهي الناتج الطبيعي لعدد لا يحصى من الثقوب وعشرات حقول استخراج الوقود الأحفوري غازاً ونفطاً من أرض أولئك «اللابشر» وبحرهم، و الذين يبدو أن واقعهم التراجيدي الراهن يشي بأن حالهم سوف تبقى تراوح في قعر الأسى لحين إدراكهم لقوتهم التي لا تقهر حينما ينخرط المعذبون في جسد جمعي واحد حشداً وتنظيماً وتفكيراً -كما كان الحال في سيرة الربيع العربي الجهيض وما كان على شاكلته- مبدين استعدادهم اللامشروط لتقديم التضحيات في سياق نهوضهم من ركام الهشيم الحطامي الذي يعيشون فيه، ليغيروا وبأيديهم ودمائهم وأرواحهم طبيعة كينونتهم من رتبة «اللابشر» صاعدين بها اجتراحاً إلى رتبة طبيعية من عديد «البشر»، إذ أن حق الانتساب إلى رتبة «البشر» الأقحاح حق طبيعي أصيل لكل إنسان عاقل يتنفس على وجه البسيطة لا يغير من سرمديته وصلاحيته المطلقة أي من أحابيل وأستار وتزويقات المنافقين الفاسدين المفسدين في الأرض والبحر والسماء.

المراجع:
National Research Council Division on Earth and Life Studies Board on Earth Sciences and Resources Committee on Induced Seismicity Potential in Energy Technologies Committee on Earth Resources Committee on Geological and Geotechnical (2012) Induced seismicity potential in Energy Technologies, The National Academies Press. Available at: https://nap.nationalacademies.org/catalog/13355/induced-seismicity-potential-in-energy-technologies (Accessed: April 8, 2023).

Energy Information Administration, U.S. (no date) Eastern Mediterranean Energy - eia.gov. Available at: https://www.eia.gov/international/content/analysis/regions_of_interest/Eastern_Mediterranean/pdf/eastern-mediterranean.pdf (Accessed: April 8, 2023).

Okay, A.I., Tüysüz, O. and Kaya, Ş. (2004) “From transpression to transtension: Changes in morphology and structure around a bend on the North Anatolian Fault in the Marmara Region,” Tectonophysics, 391(1-4), pp. 259–282. Available at: https://doi.org/10.1016/j.tecto.2004.07.016.

Tuel, A. and Eltahir, E.A. (2020) “Why is the Mediterranean a climate change hot spot?,” Journal of Climate, 33(14), pp. 5829–5843. Available at: https://doi.org/10.1175/jcli-d-19-0910.1.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. Brigands : حين تتزعم فاتنة ايطالية عصابات قطاع الطرق


.. الطلاب المعتصمون في جامعة كولومبيا أيام ينتمون لخلفيات عرقية




.. خلاف بين نتنياهو وحلفائه.. مجلس الحرب الإسرائيلي يبحث ملف ال


.. تواصل فعاليات معرض تونس الدولي للكتاب بمشاركة 25 دولة| #مراس




.. السيول تجتاح عدة مناطق في اليمن بسبب الأمطار الغزيرة| #مراسل