الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


هكذا قرأتُ -اسم الوردة-

نايف سلوم
كاتب وباحث وناقد وطبيب سوري

(Nayf Saloom)

2023 / 4 / 28
الادب والفن


كانت الوردة اسماً
نحن لا نمسك إلا بالأسماء
لم يبق لنا سوى الذكرى: "اسم الوردة"
"أُمبرتو إيكو")

الان نرى العالم من خلال صور ورموز لا من خلال الكلمة (لا من خلال الله)، والحقيقة قبل أن تتجلى لنا كاملة تنكشف من خلال لمحات (غامضة جداً للأسف) في خطايا العالم"
في البدء كان الكلمة والكلمة كان عند الله وكان الكلمة الله. والرواية تراهن على قضية التأويل والعلاقة المثلثة: "المؤلف-النص-القارئ"
الرواية سيرة حياة راهب بنديكتي (كاثوليكي) دوّنها على رقوق في دير "مالك" بعد أن شاخ وقربت نهايته الدنيوية. والاحداث التي يدونها حدثت في أواخر سنة 1327 م (القرن الرابع عشر الميلادي) وهي السنة التي نزل فيها الامبراطور لودفيك إلى إيطاليا لرد الاعتبار للإمبراطورية الرومانية المقدسة حسب "رسوم العليّ". وكونها سيرة، فهي مسرح لضمير "الأنا" في تحرره التهكمي من "العقائد القويمة" الحنبلية. حيث المتوكل على الله الخليفة العباسي العاشر أمه "شجاع" تركية الأصل (822-861 م)، أمر بإظهار السنة وقمع كل القائلين بخلق القرآن من المعتزلة، وأظهر إكرام أحمد بن حنبل. واستقدم المحدّثين والعلماء إلى مدينة سامراء وطلب منهم أن يحدثوا بحديث أهل السنة لمحو كل أثر للقول بخلق القرآن. قتل العديد من علماء المسلمين وأعلامهم، ومنهم ابن السكيت صاحب كتاب "اصلاح المنطق"، كما أمر بهدم جميع الكنائس في العراق وكذلك الكنس، مع وضع شارات معينة على لباس المسيحيين واليهود. بعد مائتي عام ظهرت نتائج هذا التعصب السُّني في الشرق الإسلامي، ضد حرية الرأي والتفكير عبر أبو حامد الغزالي الشافعي الاشعري الصوفي في القرن الخامس الهجري (1058-1111 م) وكتابه الذائع الصيت "تهافت الفلاسفة". ما إن تلاحمت علوم الأوائل أو علوم القدماء كما تسمى عند العلماء العرب، بعد ترجمتها ونسخها، حتى نظر إليها أهل السنة المتشددون في شيء من الشك وعدم الثقة والاطمئنان، وكلما ازدادت شوكة أهل السنة كان الهجوم أعنف، وهذا يفسر لنا المضايقات التي صادفت الكندي الفيلسوف العالم في عهد المتوكل. وما ظهر في شعر العصر من نقد شديد لأصحاب الفلسفة المشائية (الأرسطيّة) كالذي قاله ابن الرومي في هجاء صاعد وابنه أبي عيسى" (تاريخ العلوم عند العرب) تقول د. فائزة الشمري: " رفض الغزالي نظرية أرسطو في قدم العالم، (ولم يقتصر على ذلك)، بل أفتى بتكفير كل من يأخذ بفكره" (قدم العالم لأرسطو بين ابن رشد والغزالي)
نجد هنا في الرواية –السيرة كيف يجري النظر إلى العالم كوطن رمزي.
غوليالمو أستاذ الراهب كانت تحركه الرغبة في معرفة الحقيقة. هذا الراهب الفرينشسكاني أصبحتُ أنا كاتبهُ وتلميذه. لقد تعلمت من استاذي ذلك الوقت حب المعرفة، ومفهوم "الطريق القويم"، الذي يبقى واضحاً حتى عندما يكون المسلك ملتوياً. هذا ما يقوله صاحب السيرة الراهب أدسو.
كنا نتجه نحو الشمال، ولكن رحلتنا لم تكن تتبع خطاً مستقيماً بل توقفنا في عدة أديرة. وحدث أيضاً أن حولنا وجهتنا نحو الغرب، بينما كانت غايتنا النهائية نحو الشرق."
وهذا هو طريق المعرفة يأخذ خطاً متعرجاً ويحمل تناقضات في الطريق.
هذه هي حركة التعرف على الحقيقة: من الشمال أي من الحسي إلى الغرب أي الشك والشعور بالاغتراب؛ إلى اليقين العقلي، يقين شروق الشمس والخروج إلى وضح النهار.
بالنسبة للحسي أقول كما قال بويتسيو: ليس هناك شيء أقرب إلى الزوال من المظهر الخارجي الذي يذبل ويتغير كأزهار الحقول عند وصول الخريف.
من طبيعة الشبان أن يتعلقوا بمن هم أكبر سنا وأوفى حكمة لا فقط لسحر كلامهم وفطنة فكرهم بل أيضاً لهيئة الجسم الخارجية، التي تصبح عزيزة عليهم كما يحدث بالنسبة لصورة الاب، الذي نترصد حركاته وعلامات غضبه، ونراقب ابتسامته، دون أن يلوث ظل الشبق (شبق الحب الجسدي) تلك الصورة (ربما الوحيدة من حيث طهارتها).
وتيقنت أن ما كان يبدو عدم ثقة بالنفس وحيرة، إنما كان فضولا لا غير. ولكنني كنت أعرف القليل عن تلك الفضيلة التي كنت أظنها، على العكس، هوى النفس الشهوية، مؤمناً أن الفكر العقلاني لا ينبغي أن يتغذى منها، متشبعا فقط بما هو حقيقي، وما هو حقيقي معروف منذ البداية (حسب ما كنت أعتقد اعتقاد دوغمائياً).
قال مرة وهو يبتسم وهو المتعود على الزهد والبساطة: أن المسيحي الصالح يمكن أحياناً أن يتعلم أشياء من الكفّار، وأضاف: الأعشاب النافعة لشيخ فرنشسكاني ليست كذلك لشاب بندكتي. وترد كلمة (الكفّار) في الرواية كصفة يطلقها المسيحيون الكاثوليك في العصور الوسطى على العربي المسلم وعلى المسلم عموماً.
يقول أدسو عن أستاذه غوليالمو: كان يتجول فاحصاً النباتات كما لو كانت أحجارا كريمة، ويتجول في قبو الكنز متأملاً في علبة جواهر مرصعة بالأحجار الكريمة والزمرّد كما لو كانت أجمة من الداتورة. ومرات أخرى كان يقضي يوماً كاملا في قاعة المكتبة الكبيرة يتصفح بعض المخطوطات كما لو كان لا يبحث فيها إلا عن متعته الشخصية. بينما تعددت من حولنا جثث الرهبان بصورة فظيعة. ووجدته يوماً يتجول في الحديقة دون هدف، وكأنه لن يُسأل يوماً أمام الرب عن أفعاله.
لقد علموني في النظام الرهباني الذي أنتمي إليه طريقة مختلفة تماماً لتوزيع وقتي، قال: إن جمال الكون لا يتأتى فقط من الوحدة في التنوع بل من التنوع في الوحدة. وبدا لي جواباً يستند إلى مبدأ تجريبي لا إلى معرفة نظرية.
كان يبدو أنه لا يقدر على التفكير إلا بيديه. وكان يبدو لي ذاك جديراً بميكانيكي. وعلموني أن الميكانيكي هو Moechus ويرتكب خيانة إزاء الحياة الفكرية (لأنه منغمس في الجسدية) التي كان ينبغي ان يجمعه بها وصال طاهر. ولكن حتى عنما يلمس أشياء رقيقة جداً كبعض المخطوطات ذوات النمنمات الطرية، أو صفحات أكلها الزمن وأصبحت هشة كخبز بلا خميرة (الخميرة تجمع كسر الخبز وتجعلها متماسكة ومرنة)، كان يبدو أنه يملك رقة عجيبة. نفس الرقة التي كان يلمس بها آلاته. "
هذا هو جبروت اللطف والخبرة، وهذه هي قدرة اللطيف، وأنا أحدثكم عنها، حديث اللطيف الخبير.
جاء في القرآن الكريم: (لَّا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ ۖ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) [الانعام: 103]
قال الأستاذ: لدينا سحر طبيعي مقدس وسحر شرير. يقول روجي باكون أن الرسم الإلهي سيمر يوماً عبر علم الآلات وهو سحر طبيعي ومقدس.
وأقول: لا ينبغي أن تغتم لأنها غير موجودة، لأن ذلك لا يعني أنها لن توجد يوماً. إن الرب يريدها أن تكون، ومن المؤكد أنها موجودة من قبل في فكره (كإرادة). فلا يجوز أن نطبق حكمة الطبيعة القائمة الحسية على "الطبيعة" الإلهية التي لا تُحد. (إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ) [يس: 82] علينا التمييز بين الكون الطبيعي والكون الإلهي النوراني التخيليّ.
قال الراهب بعد مرور وقت طويل: كانت ازمنة غامضة وكان على الرجل الحكيم أن يفكر في أشياء متناقضة.
حان الوقت، الآن وقت التدوين وعسى ألا ترتعش يدي وأنا أتهيأ لسرد ما حدث لنا بعد ذلك" هذا السرد يشبهه سرد رواية "عزازيل" ليوسف زيدان بشكل مدهش، ورواية زيدان جاءت بعد ربع قرن من نشر روايتنا هذه. والرواية هنا مقسمة: اليوم الأول الثاني، حتى اليوم السابع، في تواز للصلوات المسيحية السبع، وهي أيام الخلق السبعة. أما في رواية "عزازيل" فمقسمة: الرق الأول الثاني حتى الثلاثين؛ شهراً كاملا، وعمر هيبا ثلاثون عام لكل عام رقّه. والرقّ: العبد والحرّ، وغاية الخضوع. وكما قال فيلون السكندري: "الحرية رقّ تحت قدم الله".
أما في "اسم الوردة" فالأيام سبعة كأيام الخلق الستة مع السبت. إنها أيام الأسبوع: (خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَىٰ عَلَى الْعَرْشِ) [الأعراف: 54]
الخلق سباعيّ مرتبط بتعين العين ميماً.
الصلوات المسيحية سبع يضاف إليها صلاة الستّار عند الرهبان. وهذه الصلاة موجودة عند السريان. والأيام السبعة هي أوقات الصلوات المسيحية السبع.
كنت أضطجع في الفراش لأنه الوسيلة الوحيدة للتدفئة بالنسبة لنا (تدفئة سوريّة سرّية). ما يزال يُسمع صوت المطر في الخارج لجهة الحديقة منذ ثلاثة أيام متواصلة مع صوت سحّ كأنّ بَرَداً يخالط المطر. وكنت قد عقدتُ العزم استجابة لرغبة صديق عزيز على قراءة رواية "اسم الوردة" للكاتب الإيطالي "أُمبرتو إيكو". فقد قررت أن أدوّن ملاحظات ترافق القراءة ، مع أنني كنت قد قرأت الرواية سنة 2015 في سياق تأليف كتابي المنشور سنة 2016 "أوزبر جبرائيل- تفسير رواية عزازيل" وهو قراءة فلسفية في رواية يوسف زيدان المعروفة "عزازيل" ، حيث لاحظت الكثير من التشابه في السرد وفي التيمات الأساسية لكلا العملين، في "اسم الوردة" يكتب الراهب البندكتي(الكاثوليكي) "أدسو" ، بعد أن شاخ وقربت منيته الدنيوية، سيرة حياته على رقّ ، مع ذكر للأهوال التي عايشها في "سبعة أيام"، ويدفنها في دير "مالك"، في القرن الرابع عشر الميلادي ، بينما يدوّن هيبا الراهب القبطي الأرثوذكسي القادم من صعيد مصر باتجاه انطاكيا عاصمة سوريا في تلك الايام (القرنين الرابع والخامس الميلاديين) سيرة حياته في ثلاثين رقاً يذكر فيها الاحداث الرهيبة التي عاصرها. وأخميم أو بانوبوليس بلدة من صعيد مصر بمحافظة سوهاج التي ازدهرت مدرستها في القرن الرابع الميلادي. وقد برز فيها زوسيموس الخيميائي الصوفي المعروف. (تاريخ العلوم عند العرب)
أدسو الراهب البندكتي (الكاثوليكي) يكون في رفقة الراهب الفرانشسكاني غوليالمو، تلميذاً وكاتباً له. وفرانشسكاني نسبة إلى القديس الإيطالي فرانسيس الإسّيزي. كل القديسين نظروا إلى السماء وقت الوجْد، إلا الإسّيزي فقد يممّ وجهه شطر الحضيض ليشاهد بعينه الربّانية، عين العطف المهول، أولئك الذين نسيهم الله وهم يتمرغون في الوحل والصقيع.
أما الراهب هيبا المصري من أخميم بصعيد مصر، فقد كان في سوريا حين دون الاهوال التي رآها، في رفقة القس السوري نسطوروس، في دير بشمال غرب حلب.
ولد نسطوروس عام 381 م في بلدة مرعش شمال غرب سوريا. تربّى في انطاكية، وهناك ترهّب بدير أبروبيوس، وتتلمذ على يد المفسر الكبير تيودوروس المصّيصي. اختير بعدما تم إعداده وتعليمه وبعد دراسته للكتب شمّاساً ثم قسّاً في كاتدرائية إنطاكية. اشتهر بفصاحته وقوة عظاته. كان معتداً بنفسه اعتداد المتنبي الشاعر العربي حين يقول:
أنا تِربُ النَدى وَرَبُّ القَوافي وَسِمامُ العِدا وَغَيظُ الحَسودِ
أَنا في أُمَّةٍ تَدارَكَها اللَـ ـهُ غَريبٌ كَصالِحٍ في ثَمودِ
درس اليونانية ومبادئ العلوم في مرعش، ثم تشيع بمبادئ مدرسة انطاكية اللاهوتية، واختاره الامبراطور ثيوذوسيوس الثاني ليكون بطريركاً على الكرسي للقسطنطينية. كانت مدرسة إنطاكية اللاهوتية تميل إلى تعليم أرسطو الفلسفي معتمدة الاستعارة والقياس والبرهان، ومتشيعة لمذهب "العقلانية الطبيعية"، بينما مدرسة الإسكندرية تميل إلى تعليم أفلاطون معتمدة التمثيل والكناية وقص القصص وضرب الامثال. بالتالي رفض نسطوروس متأثراً بتعاليم سلفه آريوس الليبي في مصر الغربية ألوهة عيسى المسيح واعتبره نبياً من أنبياء الله ورسولاً لا إلهاً، على الضد من الفهم الأورثوذكسي في الإسكندرية ومعه الكاثوليكي الذي يرى في المسيح إلهاً ولد من إلهة (ثيوتوكوس). كان الصراع يدور على الطبيعة الواحدة أو الطبيعتين (لاهوت وناسوت) للمسيح. ونشير هنا على افتتان غوليالمو أستاذ أدسو بالعقلانية الطبيعية الارسطية (المشائية) وبالمنطق الارسطي.
يحدثنا المسعودي عن كيفية انتقال العلم اليوناني المصري (الهلنستي) من الإسكندرية إلى انطاكية، ومن انطاكية كان النقل إلى حرّان (الفرات الاعلى) وهي مدينة الصابئة؛ صابئة حران، وأخيراً استقرت العلوم في بغداد. (تاريخ العلوم)
قرر مجمع افسس (431 م) ثالث مجمع بعد مجمع نيقيا، حرم نسطوروس وطرده واتهامه بالهرطقة، ونفي على أثرها إلى صعيد مصر، إلى بلدة أخميم، حيث قبره هناك مكبّاً للنفايات محتقراً بهرطقته التليدة. وأخميم هي نفسها البلدة التي خرج منها هيبا متجهاً مع مسار النيل في حركة مضادة من الجنوب إلى الشمال نحو انطاكيا. مدوناً سيرته على رقوق بلغت ثلاثين رقاً، هي بعدد سنوات عمره وبعدد أيام الشهر الشمسيّ.
بداية السرد مع وصول غوليالمو وتلميذه أدسو تشبه سرد رواية الدون كيشوت ومساعده راكب الحمار سانشو. الرواية في استهلال أيامها السبعة مهداة إلى ذكرى سرفانتيس وعمله الخالد "دون كيخوتي".
دون كيخوتي دي لا مانتشا رواية للأديب الاسباني ميغيل دي ثيريبانتس سابيدرا نشرها على جزأين بين الأعوام 1605-1615
يقول أدسو: أذهلتني ضخامة حجم ما عرفت فيما بعد أنه الصرح. كان بناء مثمن الزوايا تظهر من بعيد وكأنها رباعية الاضلاع؛ صورة تامة الكمال تعبر عن ثبات ومناعة مدينة الله"
ومدينة الله أو الكون المحمدي وقت العمل ثمانيّ (أُكْتاف): ثلاثة سماويين وخمسة أيتام أرضيين. أما رمز الميم العددي فهو أربعة (م=40) وهذه الاربعة ثلاثة للشيئية وواحد للنفس. وباعتبار أن النفس تتضمن الشيئية أصلا فهي رباعية وهو رمز النفس المحمدية. هكذا تكون النفس: 4+ 3=7 سباعية الصفات وهي رمز العذراء حاملة السنبلة ربّة القمح البلغارية أو إيزيس ربة القمر المصرية ام حورس.
نقرأ: ثلاثة صفوف من النوافذ تدل على النسق الثلاثي الذي تمتاز به تعليته، مما يجعل ما هو مربع على الأرض من الناحية المادية مثلثاً في السماء من الناحية الروحية. إن الثلاثة الشيئية التي مع إضافة البعد النفسي تغدو رباعية، تنعكس في السماء ثلاثية روحية بحيث تتوسط النفس كبرزخ بين الثلاثة الشيئية والثلاثة الروحية. هذا الوسيط أو الرسول أو البرزخ بين السماء والأرض هو (سين) أو سلمان أو سلسلة الأسباب التي تربط السماء بالأرض ورمزه العددي (60) أو(6).
جاء في سورة الرحمن (يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانفُذُوا ۚ لَا تَنفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ) [الرحمن: 33] رقم الآية 33 بالجمع الافقي ستة وهو الرمز العددي للحرف (س). والسلطان هو سلطان الله سلمان.
إن رقم ستة هو الوسيط أو الرسول بين عين (7) وهاء (ه=5) أي بين المعنى الباطن في السماء العليا السابعة وبين التجلي الإلهي الخماسي في السماء الدنيا.
يقول الكاتب: "كلما ازداد الاقتراب منه (البناء) تبين أن الشكل المربع يولد في كل زاوية من زواياه برجاً مسبع الزوايا، خمس منها تمتد نحو الخارج – أربعة أضلاع من المثمن الأكبر تولد أربعة مسبعات أصغر، تظهر في الخارج على شكل مخمسات (وزاويتين داخليتين)
من لا يرى روعة انسجام كل هذه الأرقام المقدسة التي يكشف كل منها معنى روحياً على غاية من الدقة!
فإذا أخذنا الاعداد الصحيحة المتضمنة في الأربعة تكون: 1، 2، 3، 4
لو جمعت الاربعة مع نفسها وهذه تكملة الاربعة كانت 4+4= 8 (ثمانية هو رقم كمال كل مربع)، لأنه مكعب العدد الزوجي (2)
4+3= 7 (المعنى الباطن) أي باطن السماء والأرض؛ السماء السابعة، هي غيب.
4+2= 6 هو الوسيط بين السماء والأرض، هو جبريل في الديالكتيك الصاعد أو العلم النظري؛ (النظرية) وسلمان في الديالكتيك الهابط؛ (الممارسة العملية). وهو باب العمل ورأسه.
4+1= 5 وهم الخمسة الإلهيين أصحاب الكساء الذين ظهر بهم المعنى. وأيضاً هم الخمسة الارضيين أو الخمسة الايتام، معدن العمل.
نقرأ في الرواية: لم تكن هذه الرموز تثير الانبساط. فقد أفزعتني وأدخلت في نفسي رهبة غامضة. والله يعلم أنها لم تكن خيالات نفسي الغريرة بل كنتُ أفسرها بحق تفسيراً صحيحاً على أنها نذائر لا ريب فيها نقشت على الحجارة، منذ اليوم الأول الذي أخذت المردة في صنعها، وقبل أن تتجرأ إرادة الرهبان المغرورة على تكريسها لحفظ الكلمة الإلهية"
إن ما أخاف أدسو من تجسيد الرموز الإلهية في بناء حجري أنه أي البناء من صنع شياطين مردة على إرادة الله، وقد كرّس هذا الصنيع الشيطاني غرور الرهبان الجهلة، والانذار قادم من لعنة إفشاء الاسرار الإلهية لغير أهلها. وعقاب الغرور لدى الانسان. وأدسو ينفي عن نفسه أنه غر مبتدئ ليلقي صفة الغرور على الرهبان الذين كرسو هذا البناء الواشي الذي بنته لشياطين.
يقول أدسو: إن الهندسة المعمارية من بين جميع الفنون، هي التي تحاول بكل جرأة أن تنقل في نسقها نسق الكون، والتي كان الاقدمون يسمونها "كوسموس" أي نظام "مزخرف"، لأنها بمثابة حيوان عظيم يتجلى فيه تكامل وتناسب كل أعضائه." يقول أوغسطين: حدد (الخالق) كل شيء عدداً ووزناً وقياساً " جاء في سورة الحِجْر: (وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلَّا عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ) [الحِجْر: 21] وفي سورة القمر: (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ) [القمر: 49]
نلاحظ اهتمام غوليالمو بغنى الدير وبوجود رهبان وخدم (وجود طبقتين اجتماعيتين).
إن وصف غوليالمو لحصان رئيس الدير والمسمى برونيلّو، يشير من باب السخرية إلى تنعُّم رئيس الدير بالكثير من الرفاه والامتيازات.
يقول أدسو: كان استاذي يترك الغرور يتملكه عندما يعطي برهاناً على حدّة ذكائه. لقد أراد بمعرفته درب الحصان الهارب "أن تسبقه شهرة متينة بأنه رجل واسع العلم"
لقد كان ألانو ديلّي إيزورلي يقول:
كل كائنات الدنيا
هي لنا كتاب ورسم
يتجلى في مرآة
وكان يعني الذخيرة التي لا تنفذ من الرموز التي يكلمنا بها الرب، من خلال كائناته، عن الحياة الازلية.
هذا الاستدلال برموز العالم ورسومه للوصول إلى الحق، يسميه ابن مسرة الاندلسي باستدلال الاعتبار. وهو مختلف عن الاستدلال العقلي الطبيعي من دون اعتبار ومن دون غاية اجتماعية تاريخية يسعى إليها الاستدلال.
لكن علينا أن نتعلم كيف نقرأ علامات العالم الطبيعي والاجتماعي!
والكون أكثر بلاغة مما يظن آلانو، فهو (الكون) لا يتكلم فقط عن أمور الخاتمة (القيامة) (وهو هنا دائماً غامضاً)، بل يتكلم عما هو قريب (وهو هنا على غاية من الوضوح.)
بكلام آخر: عندما نعتمد "استدلال الاعتبار" أو الاستدلال العقلي الطبيعي المشائي الارسطي للتعبير عن "اليوم الاخر" نكون غامضين، وعندما نعتمده في قراءة حقيقة العالم القائم نكون واضحين. عندما يقرأ ماركس البنية الرأسمالية القائمة يكون واضحاً كل الوضوح، وعندما يتكلم عن "العالم الاخر"؛ عالم الاشتراكية يصيبه الغموض.
قراءة كتاب الطبيعة الكبير باعتبار، والكيفية التي كان الرهبان يقرأون بها الكتب المقدسة ويفكرون من خلالها. هما شكلان لمقاربة الطبيعة، الأولى متحررة من العقائد المسبقة والثانية موسّطة بعقيدة "قويمة" متشددة.
يقول أدسو: "ألا ينبغي أن نقول إذن أن كتاب الطبيعة يحدثنا فقط عن جوهر الأشياء، كما يعلمنا الكثير من كبار علماء اللاهوت " وكما يعلمنا أرسطو في "السماع الطبيعي"، و" ما بعد الطبيعة". فالعلامات كانت تعلمنا بطريقة من الطرق، عن كل الخيول او الخيول المنتمية إلى ذلك الجنس" أي أن الاستدلال الطبيعي ينقلنا من الخاص إلى العام (المفهوم). هذا الاستدلال هو استدلال أرسطو في كتاب "ما بعد الطبيعة". الحصان المفرد ومفهوم الحصان على التعميم. (الخاص والعام والمفرد)
لكن العلامات، علامات حافر الحصان على الثلج، التي قرأها غوليالمو قد ساعدته في الانتقال من العام (الفكرة في رأسه) إلى صورة حصان خاص. يقول غوليالمو: "لكن الأثر في ذلك المكان (شرط المكان) وفي تلك الساعة من النهار (شرط الزمان) كان يقول لي أن واحداً من تلك الخيول قد مرّ من ذلك المكان". نحن هنا أمام تخصيص فرضه شرطا المكان والزمان، فانتقلنا من الفكرة العامة إلى الفكر الخاصة، هذا التخصيص فرضه الشرط، وهذا الشرط أو "الحصر" شرط لازم للعلم. أصبح لدينا الآن ثلاثة مفاهيم. عام-خاص-فرد عيني. الشرط والتخصيص يسمح لنا ببعض التوقعات والتنبؤات المصيبة إلى حد ما لأنه شرط العلم، تأتي التجربة الفعلية تثبتها أو تهذبها ويمكن أن تنسفها. إن سمة العلم الحديث التجريبي الأساسية هي الشرط أو الحصر بالشرط والتقييد به. هنا نحن أمام معرفة خصوصية الشيء. يقول غوليالمو: لم أشف غليلي إلا عندما رأيت ذلك الجواد بالذات يقوده الرهبان من لجامه (حصان بعينه يمشي أمامنا)؛ جواد مفرد بعينه وهيئته. في المعرفة نحن نستعمل الدلالات ودلالات الدلالات فقط عندما تنقصنا الأشياء.
وأقول لكم: "كان لأرسطو نفوذ شديد في العصور القديمة والوسطى، وهو يظهر في تاريخ العلم كواحد من أولئك الذين أرسوا في إصرار أسس الملاحظة والناحية التجريبية" (الكيمياء عند العرب)
لقد سبق لي أن سمعته يتحدث بكثير من التحفظ عن الأفكار المطلقة، وباحترام كبير عن الأشياء الخصوصية"، الأشياء بدلالة الشرط. وسوف يعتني الفيلسوف الإنكليزي دافيد هيوم بهذا الامر على وجه التحديد اعتناءً كبير، ويعوّل عليه لنقد مفهوم السببية أو العلّية.
وهذا يتناسب مع مذهب أرسطو في "الديالكتيك الصاعد". وأصحاب هذا الرأي أكثر تمرداً على العقائد الجامدة، من الافلاطونيين أصحاب الأفكار المطلقة. كان ابن رشد من أنصار الطريق الصاعد، وليس هذا بكثير فهو أكبر شارح لأرسطو عند العرب وفي العصور الوسطى.
أما أدسو فقد علل طريقة تفكير أستاذه لكونه إنكليزياً وفرانشسكانياً.. ويضيف "كان استاذي فيما مضى محققاً في إنجلترا وفي إيطاليا في بعض القضايا، التي تميز بها بفطنة فائقة اقترنت بمشاعر إنسانية كبيرة". وستكون بريطانيا بعد خمسة قرون الإمبراطورية البورجوازية الأولى في التاريخ.
يقول رئيس الدير: لقد حدث في هذا الدير شيء يستوجب تيقظ ونصيحة رجل ثاقب الفكر حصيف. ثاقب الفكر كي يكشف، وحصيف كي يغطّي (إذا اقتضى الامر).
(حصف): أصل واحد. والحصف تشدد يكون في الشيء وصلابة وقوة. فيقال لركانة (رصانة) العقل حصافة (عقل يركن إليه ويعتمد عليه، راجح يتدبر أمره إذا اقتضى الامر)
أقول لكم: الويل إذا ما أخذت النعاج ترتاب في الرُعاة!
عندما قال رئيس الدير لغوليالمو بعد تردد: لماذا تلح على الاعمال الاجرامية دون التعرض لأسبابها الشيطانية " كان يقصد محاكمة المحرضين والفتانين كمجرمين إضافة إلى المنفذين.
وهذا يذكرنا بإيفان في عمل دوستويفسكي الكبير (الاخوة كارامازوف) في نواياه الدفينة، وتحريضه غير الواعي؛ علاقته "التحريضية" الشيطانية بالخادم سمردياكوف الذي قتل والده (والد إيفان).
بهذا يكون سمردياكوف عمل إجرامي يقبع خلفه عمل إيفان كارامازوف الشيطاني.
غوليالمو يرفض الحكم على الأسباب الشيطانية، لأن الكلام عن العلة والمعلول صعب، ولا يقدر على الفصل فيه إلا الله. " لأن تحريض إيفان لا يستدعي بالضرورة قتل الاب كما تستدعي المقدمات النتيجة في قياس أرسطي. وهذا القول لغوليالمو ينسجم مع القول القرآني: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَىٰ وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) [الحج:17] وقوله: (اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) [الحج: 69]
الأسباب الشيطانية، الله يفصل فيها ويحكم عليها يوم القيامة، قيامة القائم بالحق والعدل. فهي ليست من اختصاص موظفين منتفعين من النظام القائم كرجال الدين ومن في حكمهم.
قال غوليالمو: لا يؤثر الشيطان فقط في المذنب بل ربما وخاصة في القضاة. وغوليالمو حسب رئيس الدير خبير بالنفس الإنسانية وبدسائس الشيطان، ويعلم أن القضاة مجرد موظفين لدى الحاكم.
الخورس(الكورس) حاليًا هو المكان المخصص لجوقة المرتلين في الكنيسة، وأمام الهيكل مباشرة وعلى جانبيه. وأول ذكر واضح له كجزء من صحن الكنيسة كان في القرن السابع الميلادي، وتميَّز عن الصحن فيما بعد بوجود حاجز منخفض يفصله عن صحن الكنيسة.
أحدثكم عن الدبور
هي ريح تهب من الغرب إلى الشرق
وهي ريح الهلاك والموت.
وعلى ذكر ارسطو، كان رئيس الدير كما ذكرت، رجلاً ذا تحكم كبير في نفسه، لكن بدت عنه هذه المرة حركة دلت على فرط المفاجأة، ونزعت عنه المظهر الذي يليق بالشخص الوقور والشهم، كما يريده أرسطو"
يقول أدسو: حتى (أنا) الصبي الحقير فهمت أن رئيس الدير كان على علم بشيء ما ولكنه علمه في كنف سريّة الاعتراف. قد يكون علم من فم أحدهم ببعض التفاصيل الآثمة التي ربما كانت لها علاقة بنهاية أدالمو المأساوية. ولعله لهذا السبب كان يرجو الأخ غوليالمو اكتشاف سر ارتاب به ولا يمكنه إفشاؤه لأحد، آملاً أن يسلط أستاذي الضوء بقوة العقل على ما ينبغي عليه هو أن يطويه في الظلام بحكم الطاعة لقوة الرحمة العليا"
قال غوليالمو لرئيس الدير في إشارة إلى مكتبات بغداد: أعلم أن ديركم هو النور الوحيد التي تقدر المسيحية أن تضاهي بها مكتبات بغداد الست وثلاثين، والعشرة آلاف مخطوط التي يمتلكها الوزير ابن العلقمي، وأن كتبكم المقدسة تعادل الألفين وأربعمائة مصحف قرآني التي تتباهى بها القاهرة. وأن حقيقة خزاناتكم هي البينة الساطعة ضد أسطورة الكافرين (العرب المسلمين) الصلفة الذين يقولون (وهم المتعودون على البهتان) أن مكتبة طرابلس تعد ستة ملايين من الكتب، ويسكنها ثمانون ألف شارح ومائتا ناسخ".
إن في قول غوليالمو تهكماً مزدوجاً مرة تجاه رئيس الدير وأخرى تجاه ابن العلقمي.
ومؤيد الدين بن العلقمي وزير المستعصم (على مذهب أهل السُنّة) رتّب مع هولاكو قتل الخليفة واحتلال بغداد على أمل أن يسلمه هولاكو إمارة المدينة. إلا أن هولاكو قام بإهانته وقتله بعد تدمير بغداد ومكتبتها.
قال غوليالمو: أعرف أن الامبراطور فريدريك طلب منكم منذ عدة سنوات أن تؤلفوا له كتاباً حول تنبؤات مارلينو، وأن تترجموه بعد ذلك إلى العربية، لإرساله هدية إلى سلطان مصر"
يقول رئيس الدير: يتحتم علينا الدفاع عن كلمة الله نفسها، كما أملاها على الأنبياء والرسل، وكما رددها علينا الآباء دون تغيير أي كلمة، وكما حاولت المدارس أن تفسرها ولو أن في هذه المدارس نفسها يختبئ ثعبان الغرور والحسد والجنون.
حافظ المكتبة وحده يمكنه بالإضافة إلى معرفة السر، أن يتجول في متاهة المكتبة. حافظ المكتبة وحده يعرف، من موضع الكتاب ومن صعوبة الوصول إليه، نوعية الاسرار والحقائق أو "الأكاذيب" التي يحويها"
تابع رئيس الدير: توجد أيضاً بإرادة إلهية كتب السحرة، وقبلانية اليهود، وأساطير الشعراء الوثنيين، وأكاذيب الكفار (العرب المسلمين)" إن في كتب الأكاذيب أيضاً يمكن أن يتراءى لعيني القارئ الفطن نور ضئيل من الحكمة الإلهية"
أحدثكم عن (الأجبية): هو الكتاب الذي يحوي صلوات السواعي أو الساعات: كتاب الساعات (الاوقات) القبطية الأورثوذكسية المسيحية. وهي كلمة ذات أصل قبطي (تي أجب: تجب) تعني ساعات.
تستخدم "الأجبية" في الأساس عن طريق الكنيسة القبطية الأرثوذكسية. وهي تحتوي على سبع صلوات تُقال على مدار اليوم. وقد تم ترتيب ساعات الصلوات زمنيًا، وكل منها فكرته عبارة عن جزء من حياة السيد المسيح على الأرض. وكل ساعة منها مكونة من مقدمة يتم البدء فيها بـ: "أبانا الذي في السموات"
صلاة الساعة السادسة: في مثل هذه الساعة من النهار صلب مخلصنا. تقابل الثانية عشرة ظهرًا بالتوقيت الإفرنجي الميلادي (الزوال: صلاة الظهر في الاسلام)
قال رئيس الدير: في هذا الفصل تذبح الخنازير، وليس هذا النوع من الدم هو الذي يجب عليك أن تهتم به" وهذا الكلام يحمل تورية لطيفة وشعرية.
ثم خرج غوليالمو وقد خيب الظن فيما عرف به من أنه رجل فطن.
قال أدسو: الرسم هو أدب العامّة.
أقول لكم:
كان شدقه الفاحش يعلن هلاكه
وأحدثكم
كيف رأيت متكبراً
حين استقر فوق كتفيه شيطان
غرس مخالبه في عينيه
وأقول لكم
سآتي لأفرق نهائياً
بين الاحياء والاموات
بين الناجين والمُغرقين.
وأقول لكم قول القرآن وتحفته: (وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا ۚ إِنَّهُم مُّغْرَقُونَ) [هود: 37]
قال أدسو: وبعد الرؤيا الرهيبة المهولة، بدا لي أنني سمعت أم أنني سمعت حقاً ذلك الصوت وشاهدت تلك الرؤى التي صاحبت طفولتي وأنا مبتدئ، وقراءاتي الأولى للكتب المقدسة وليالي التأمل في دير "مالك". وإذ خارت قواي الضعيفة جداً والمنهكة سمعت صوتاً قوياً وكأنه صوت نفير يقول: اكتب ما ترى في كتاب (وهذا ما أفعله الان) " وما ورد في رواية "عزازيل" شبيه بهذا مع دعوة عزازيل (هيبا) كي يدوّن ما جرى في سيرته من أهوال.
والشيطان هو ما أوحى لهما كي يدونا سيرتهما.
قال عزازيل: تحيا يا هيبا لتكتب، فتظل حياً حتى حين تموت في الموعد، وأظل أحيا في كتاباتك. اكتب يا هيبا، فمن يكتب لن يموت أبدا"
يقول أدسو: فهمت عندئذٍ أن الرؤيا لم تكن تتكلم عن شيء إلا عما كان يقع في الدير، والذي عرفناه من شفتي رئيس الدير المتحفظتين. وكم من مرة عدت في الأيام الموالية لأقف متأملا أمام البوابة، واثقاً من أنني سأعيش نفس الحادثة التي أقصها. وفهمت أننا صعدنا إلى ذلك المكان لنشهد مذبحة إلهية عظيمة"
قال أدسو: غالباً ما قال لي أستاذي في "مالك" أنه يصعب كثيراً على أصيلي الشمال (من أصل شمالي) أن يكوّنوا فكرة واضحة عن الاحداث الدينية والسياسية في إيطاليا"
وأقول لكم: ظهرت رهبنة الدومينيكان في القرن الثالث عشر الميلادي، ومؤسسها هو القديس عبد الأحد (دومينيك بالفرنسية) ومنذ نشأتها اهتمت بالشرق الأوسط، وقد استقرت مبكرا في القسطنطينية وتونس وبغداد، ثم في الموصل فيما بعد. وقد كان لرجال هذه الرهبنة فضل كبير على أوربا الوسطى والحديثة، ذلك أنه بفضل تراجمهم من العربية اكتشف معلمو الرهبنة في اللاهوت الفيلسوف أرسطو وابن رشد، ومن بين هؤلاء المعلمين ألبير الكبير، وتوما الأكويني اللذان قاما بتفسير ابن رشد وابن سينا.
وأقول لكم: "بدأ نبع العلم اليوناني (وعلم الاسكندرية) وسائر العلوم القديمة يصب في العالم الإسلامي ويصبغ نفسه بالصبغة العربية. وقد كان للسريان النسطوريين (المنشقين عن الكنيسة الكاثوليكية)، في أغلب الأحيان أكبر الفضل في نقل ها التراث وترجمته، وقد اشتملت تراجمهم على مؤلفات قديمة في الكيمياء وخاصة مؤلفات زوسيموس وهرمس". وبهذه الطريقة وصلت المعارف المصرية بعد ذلك إلى أوروبا في صورة ترجمات لاتينية منقولة عن أصول عربية. وقد تم نقل التراث اليوناني عن طريق الاتصال المباشر في مصر (الاسكندرية) وعن طريق المترجمين المسيحيين السريان وعن طريق الفرس" (الكيمياء عند العرب)
"ثمة طريقاً آخر عبرت خلاله الحكمة الهلنستية إلى بلاد الإسلام وذلك في مدينة حران (الفرات الأعلى في سوريا) فقد كانت مدينة حران موطناً لثقافة اليونان منذ عهد الاسكندر الأكبر. ومن المحتمل أن يكون الحرّانيون قد نقلوا بالإضافة إلى الثقافة الهلنستية، كثيراً من الفنون والعلوم البابلية القديمة (الكلدانية)" (الكيمياء عند العرب)
وتقول الروايات في ذلك الوقت: إن التبادلات الفكرية قد تطورت إلى مناقشات تدور داخل الأراضي الإسلامية، وهكذا نشأ نشاط يستمر حتى اليوم في معاهد الدومينيكان ويحرص الآباء على مواصلته، ويتمثل هذا النشاط في مصر في معهد الدراسات الشرقية للآباء الدومينيكان في القاهرة IDEO الذي أنشئ في النصف الأول من القرن العشرين من أجل إقامة حوار علمي وموضوعي بين الإسلام والمسيحية، وذلك بعيدا عن أي تبشير أو تطويع سياسي.
يقول أدسو: وما رأيته فيما بعد في الدير جعلني أظن أنه غالباً ما يخلق المحققون الهراطقة. وليس فقط عندما يتخيلونهم حيث لا يوجدون، ولكن لشدة قمعهم لجدري الهرطقة تجعل الكثيرين يصبحون هراطقة كرهاً لهم. إنها حقيقةً، حلقة من صنع الشيطان (الشك المميت)
في الثلاثين سنة الأخيرة من القرن الماضي (الثالث عشر الميلادي)، عندما أنقذ مجمع ليون الرهبانية الفرنشسكانية، ممن كان يريد إزالتها، مانحاً إياها ملكية العقارات التي تستعملها كما هو القانون بالنسبة للأنظمة الرهبانية الأكثر قدماً، ثار بعض الرهبان في جهة ماركي، لأنهم يعتبرون ذلك خيانة لروح القاعدة، إذ لا يمكن لراهب فرانشسكاني أن يملك شيئاً سواء كان شخصاً، أو ديراً أو رهبانية. فوقع الزجّ بهم في السجن مدى الحياة. لا يبدو لي أنهم كانوا ينادون بأشياء منافية للإنجيل، ولكن عندما يقع التعرض لملكية الأشياء الدنيوية يصبح من الصعب أن يفكر الانسان طبقاً للعدل." وفي حديث ماركس عن أهواء القلب البشري، وأكثرها ضراوة ودناءة ومقت، ضراوات المصلحة الخاصة يقول: "فالكنيسة الإنكليزية العليا على سبيل المثال، مستعدة لأن تغفر خرق 38 شريعة من شرائعها التسع والثلاثين، ولكنها لن تغفر مس 39/1 من دخلها النقدي. والإلحاد ذاته يعتبر هذه الأيام هفوة تغتفر (culpa levis)، قياساً لنقد علاقات الملكية الموروثة" (ماركس: مقدمة الطبعة الألمانية الأولى للرأسمال)
كان البعض من الكرادلة الكبار في روما يؤيدون سراً اتجاهات الفقر الجديدة: وهذا الاختيار هو حقيقة غريب بالنسبة إلى رجال ذوي حول عظيم يعيشون في الترف والثراء المُغدق، ولم أفهم قط إن كانوا يستعملون الروحانيين لأهدافهم السياسية أو أنهم بحال من الأحوال يبررون حياتهم الشهوانية بمساندتهم للاتجاهات الروحانية، أو يعتمدان الشيئين معاً نظراً لقلة فهمي لشؤون البلاد الإيطالية.
قال أدسو: "أقول إن أوبارتينو قبل مرشداً عن الكاردينال أورسيني وذلك عندما أصبحت كلمته مسموعة لدى الروحانيين وأصبح معرضاً للتهمة بالإلحاد، فكان الكاردينال نفسه درعا واقياً له في أفينيون" وكان الفرنشسكان خاصة الروحانيين المتنبئين المتمسكين بحياة الفقر منهم قد اُتهموا بالإلحاد (لشعور الكثيرين بخطرهم) وأخرجهم الدومينكان جماعة دومينيك (عبد الاحد) من التهمة.
وأضاف: أصبح من الصعب التفرقة بين الأئمة الروحانيين، الذين بقوا على اتصال بالسلطات الكنسية، وأتباعهم الأكثر جهلاً، والذين كانوا يعيشون خارج النظام الرهباني، يتسولون ويعيشون يوماً بيوم من عمل أيديهم، دون الاحتفاظ بأية ملكية". هؤلاء يطلق عليهم العامة "الاخوة البسطاء" وهم لا يختلفون عن الاخوة المتسولين في فرنسا المنتمين إلى بيترو دي جيوفاني أوليفي.
"الخلاصة هو أن أوبارتينو وكلارينو تمكنا من الحصول على اذن بترك الرهبانية وقُبل أحدهما عند البندكتيين وآخر عند السيلستانيين. أما بالنسبة إلى الذين تمادوا في عيشتهم الحرة فقد كان (البابا جيوفاني 22) قاسيا عليهم وأرسل وراءهم المحققين وأحرق الكثير منهم". ولكن فهم أنه لن يقدر على اقتلاع نبتة البسطاء التي كانت تنخر أسس السلطة الكنسية إلا بإدانة الأفكار التي كانت ترتكز عليها عقيدتهم. وبما أنهم كانوا يؤكدون أن المسيح وحوارييه لم يملكوا شيئاً لا كأفراد ولا كمجموعة، أدان البابا هذه الفكرة على أنها هرطقة. وهذا غريب جداً، إذ لا يفهم المرء ما هي الدواعي التي جعلت البابا يرى في فقر المسيح فكرة منحرفة.
أقول لكم: إن الداعي هو الملكية الخاصة الدنيوية التي ذكرها ماركس في مقدمة "رأس المال".
ثبّت المجمع العام للفرانشسكانيين في بيروجيا نظرية فقر المسيح وحوارييه. "كان يحمل المجمع بين طياته أذى كبيرا للبابا إذ لا يخدم مصالحه في نزاعه ضد الامبراطور، هذا هو الواقع. وهكذا، ومنذ ذلك الحين يموت حرقاً العديد من الاخوة البسطاء، الذين كانوا لا يعرفون شيئاً لا عن الامبراطور ولا عن بيروجيا"
غوليالمو دي أوكّام، لا أعرفه كثيراً إنه لا يعجبني، فهو رجل دون حماس، كله عقل، دون قلب"
-ولكنه عقل رائع
-قد يكون وسوف يقوده إلى الجحيم."
إن عقلاً كهذا حسب عبارة "ابن مسرة"، عقلٌ من دون اعتبار، عقل لا يخدم قضية اجتماعية-تاريخية هو شيطان، وهذا الشيطان ليس هو الشيطان الذي تحدثت عنه المسيحية الرسمية القويمة. فشيطانها هو العقل المنشق منتقد طغيان الكنيسة. الكنيسة التي كانت تقول: "العقل شيطان والجسد خطيئة"، وهما عينا ابليس الخضراء والسوداء (السماوية والارضية). يقول ابن حبان: "وآفة العقل الصَّلَف [الكِبْر]" والغرور. ويقول مار أفرام السرياني: مبارك الذي ترك عرشه في العلا وولد في مغارة. أما الاله فالمجد لتواضعه: “بريخهو داشباق ماركبتو براومو وبامعرتوو اوريو كبووليه.. هاليلويا شوبحوو لموكوخيه"
يقول بانتيفانغا: "إن ما تسميه العامة شيطاناً هو الرب نفسه، لأن الشيطان هو المعرفة، والرب هو فعلاً المعرفة" ؟؟ أقول: الشيطان عقل من دون اعتبار، وهذا ليس رباً لأحد. قال غوليالمو: غالبا ما تكون الخطوة قصيرة بين الرؤيا الوَجْديّة والجنون المؤدي إلى الخطيئة". بالطبع الرب ليس المعرفة، بل هو ما يُعرف، هذا تبرير لعبادة الشيطان.
أحدثكم عن كيارا
عندما تتسامى الطبيعة الانثوية
التي هي بطبيعتها ضالّة
نحو القداسة
عندئذٍ تجعل نفسها
أسمى معنى للطافة
قال أوبارتينو واغرورقت عيناه بالدموع: كيف يمكنك أن تخلط بين لحظة الحب الوجْدي الذي يفوح بعطر البخور واختلال الاحاسيس التي لها رائحة الكبريت؟ بانتيفانغا يحرص على لمس أعضاء الجسد العارية، مؤكداً أنها الطريقة الوحيدة للتحرر من سلطان الحواس: "رجل عار مضطجع مع امرأة عارية"
-غوليالمو: دون جماع يصل بين الاثنين
-أكاذيب يبحثون عن اللذة.
قال أدسو: اعترف بأن الكيفية التي كان أوبارتينو ينقد بها رذائل الاخرين لم تكن تحضني على العفة والفضيلة. ولعل استاذي لاحظ ارتباكي. فقال غوليالمو: إنك فكر ملتهب يا أوبارتينو، سواء في حبك للإله أو بغضك للمنكر. ما كنت أريد أن أقوله هو أن الفارق ضئيل بين الساروفيين وصبوة إبليس، لأنها تنشأ دائماً من قوة مفرطة للإرادة" أجاب أوبارتينو: أنت تريد أن تقول أن بين إرادة الخير وإرادة الشر خطوة صغيرة، لأننا في كلتا الحالتين بصدد توجيه الإرادة نفسها. لكن الفارق في الوجهة؛ من هنا الاله ومن هناك الشيطان."
غوليالمو: تحت وطأة التعذيب يعيش الانسان وكأنه تحت تأثير حشائش تثير الرؤى. كأن الانسان منخطف نحو الجحيم. تحت وطأة التعذيب لا تقول ما يريده المحقق، ولكن ما تتصور أنه من الممكن أن يرضيه، لأن هناك ارتباطا، فعلاً شيطانياً، بينك وبينه. تحت وطأة التعذيب يمكن ان يكون بانتيفانغا قال أكاذيب منافية للعقل، لأنه لم يعد هو الذي يتكلم، بل صبوته، والشياطين التي تسكن روحه.
توجد صبوة للألم، كما توجد صبوة للعبادة، وحتى صبوة للخشوع. إذ يكفي القليل للملائكة المتمرّدة، حتى تتحول صبوة العبادة فيها والخشوع إلى صبوة كبرياء وثورة، فما قولك بمخلوق إنساني؟
أوبارتينو: تجسس، نقب، انظر بعين الفهد نحو ناحيتين، الفسق والغرور.
نعم الفسق، كان هناك شيء ما. أنثوي، بالتالي شيطاني، في ذلك الشاب الذي مات. كانت له عينا صبية تبحث عن علاقة مع الشيطان. ولكنني كلمتك عن الغرور، غرور العقل في هذا الدير المعد لغرور الكلمة، لوهم العلم. أحدثكم هنا عن شيطان "الجملة الثورية" الفارغة من المعنى.
أقول لكم: الطبيعة طيبة لأنها ابنة الرب
قال أوبارتينو: "آه يا إلهي، بين يدي من سقطت كنيستك" ثم أدار وجهه نحو المذبح. لقد تحولت إلى بغي، متراخية في الترف، تتمرغ في الفجور كالحية الحائل! من طهارة اسطبل بيت لحم النقية، الذي كان من خشب كما كان من خشب صليب الحياة، إلى فجور الذهب والحجارة، انظر، حتى هنا لقد رأيت البوابة، ليس بمقدورنا الهروب من غرور الصور! إن أيام المسيح الدجال أصبحت قريبة، وأنا خائف يا غوليالمو! وحدّق بعينيه الجاحظتين في أروقة الكنيسة المعتمة، وكأن الدجال سيظهر من لحظة إلى أخرى. وكنت في الحقيقة أتوقع رؤيته، رسله هم الان هنا، قد بعثهم كما بعث المسيح حواريه عبر الدنيا. وهاهم يدوسون مدينة الله ويغوون بالخديعة والمداهنة والعنف. عندئذٍ سيرسل الله عبديه إليا وأخنوخ، اللذين احتفظ بهما على قيد الحياة في الفردوس الأرضي ليخزي يوماً المسيح الدجال، وسينشران الدعوة مرتدين أثواباً من خيش، ويدعوان إلى التوبة بالقول والفعل"
البابا الملائكي والامبراطور البشري
قال أوبارتينو: فرانشسكو ودمينيكو: الأول طهره حجر ملائكي وسكنته نار سماوية، حتى أنه تحول إلى نار. والثاني مبشِّر فصيح أضاء بكلماته ظلمات الخطر المسيطرة على العالم. إن كانت هذه هي البشارة فالبابا الملائكي آتٍ.
إن دولتشينو الماكر يتحدث أيضاً عن قدوم البابا الملائكي، فقط ليطرد الامبراطور الدنيوي ويجلس على عرشه.
قال غوليالمو: ليكن كذلك يا أوبارتينو، في الاثناء أنا هنا لأحول دون طرد الامبراطور البشري.
أنت يا غوليالمو تتكلم هكذا لأنك في الحقيقة لا تعتقد في مجيء المسيح الدجال وأساتذتك في أوكسفورد قد علموك عبادة العقل، وأخمدوا ما في قلبك من قدرة على التنبؤ" وهذه إشارة إلى عبادة العقل وضعف الانشغال بالمستقبل، وخمود روح التنبؤ. العقل من دون اعتبار، ومن دون خطة للمستقبل ومن دون اعتقاد باليوم الآخر، هو عقل براغماتي نفعي لا مبدأ له ولا غاية ولا دين.
بالطبع كان غوليالمو معجباً بروجي باكون الذي مهد بتنظيره العقلاني للعقلانية الاقتصادية البورجوازية. قال غوليالمو: من بين كل اساتذتي أجلّ روجي باكون"
روجر باكون (1220 / 611 هـ – 1292 / 693 هـ)، ويعرف أيضاً باسم Doctor Mirabilis أي «المعلم المذهل» باللاتينية، كان فيلسوفاً إنكليزياً وراهباً فرانشسكياً وهو الذي وضع التأكيد على التجربة. إنجازه أنه أول أوروبي يضع قوانين المنهج العلمي التجريبي وقد أثرت أعمال أفلاطون عليه عندما رأى العلوم الإسلامية. سجن لفترة بسبب آرائه واهتماماته (حوالي عام 1278)
قال غوليالمو: الذي تحدث بوضوح وشفافية عن المسيح الدجال وتفطّن إلى دلالته من خلال الفساد الذي يسود العالم ومن ضعف المعرفة. ولكنه عُلّمنا أن الطريقة الوحيدة للتأهب إلى مجيئه هي دراسة أسرار الطبيعة، واستعمال العلم لتحسين ظروف الجنس البشري. يمكن التأهب لمجيء المسيح الدجال بدراسة مزايا الأعشاب الطبية، وطبيعة الأحجار، وحتى بتصميم الطائرات التي تسخر منه."
قال أوبارتينو: إن دجّال صاحبك باكون ما هو إلا تعلة لممارسة غرور العقل.
وأقول لكم: هذا صحيح لأن "فلسفة العلم" ونتائج العلوم لم تحل مشكلة الانسان التي هي اجتماعية -تاريخية في أساسها لا علمية. الفلسفة الوضعية أو فلسفة العلم هي ضرب من غرور العقل، لا يلتفت إلى الجهة الاجتماعية التي تستعمل إنجازات العلم لغايات أنانية شيطانية مدمرة، حيث يظهر الشيطان قزماً أمام البورجوازية الامبريالية وعدوانيتها.
العلم يخدم أي نظام اجتماعي كان، وكذلك العقل على التجريد. ينخرط العقل في الممارسة الاجتماعية السياسية عبر الدين (الوحي كنظرية تاريخية وهي تعمل)، أوعن طريق السياسة الاجتماعية التاريخية (الحزب الماركسي الثوري).
قال أوبارتينو: لا شيء نابع عن الغرور مقدس. غوليالمو: هذّب عقلك، تعلم أن تبكي على جروح الاله. واخش ممن لا تستطيع أن تحبهم"
يستخدم السرد أسلوب سرفانتس في الدون كيخوته بشرح دي أونا مونو. وما علاقة غوليالمو بأدسو إلا محاكاة ساخرة لعلاقة دون كيخوته بمساعده سانشو. وكون الدون كيخوتي عمل تهكمي، تظهر سيرة أدسو مأساوية قليلاً ما تظهر السخرية والتهكّم.
اليوم الأول –أولى:
وفيه يصل أدسو وغوليالمو إلى أسفل الدير ويبرهن غوليالمو على ذكاء حاد.
اليوم الأول –سادسة:
وفيه يقف أدسو معجباً أمام بوابة الكنيسة، ويلتقي غوليالمو بأوبارتينو دا كزالي
يكتب سرفانتس:
الفصل الأول:
وفيه أحوال النبيل الشهير دون كيخوته دي لا منتشا وممارسته
الفصل الثاني:
في أول خرجة قام بها دون كيخوته من موطنه
الفصل الثالث:
وفيه تعليق على الطريقة المجيدة التي رُسِّم بها دون كيخوته فارساً
الفصل العاشر:
وفيه الآراء الشيقة التي تبادلها دون كيخوته وتابعه سانتشو بانثا.
(حياة دون كيخوته وسانتشو)
جاء في الفصل السادس من رواية "دون كيخوته" ترجمة د. عبد الرحمن بدوي:
"في التفتيش الكبير الشائق الذي قام القسيس والحلاق في مكتبة صاحبنا النبيل العبقري
كان لا يزال يغط في نومه. وطلب القس من ابنة الأخ مفاتيح الغرفة التي بها الكتب سبب النكبة، فأعطتها عن طيب خاطر " وهذا يماثل (الكتاب الثاني في الشعر لأرسطو)، سبب النكبة التي ألمت بالصرح والدير معاً.
قال غوليالمو: هيا بنا يا أدسو.
قال أوبارتينو: أنا أقول لك هذا المكان غير صالح، وأنت تقول إنك تريد معرفته أكثر!
أقول لكم: الحقيقة هي الكل والكل باطل!
وقال: إن بلاء الدير في غيره، ابحث عنه لدى من يعرف كثيراً، لا عند من لا يعرف شيئاً. لا تبن قصراً من الظنون على كلمة"
اليوم الأول –حوالي تاسعة
وفيه يجري غوليالمو حوارا علميا مع سيفيرينو العشّاب
يقول غوليالمو: عندما أتحدث مع أوبارتينو يبدو لي ان الجحيم هو الفردوس منظورا إليه من الجهة الأخرى" أوبارتينو برزخ بين الجنة والنار، بين الفردوس والجحيم.
قال غوليالمو لتلميذه أدسو: كفاك تحديقاً في تلك البوابة، وضربني ضربة خفيفة على رقبتي بينما كنت التفت إلى الوراء، وقد جذبتني النقوش التي رأيتها في المدخل. لقد أفزعَتكَ اليوم بما فيه الكفاية. هي وغيرها". أقول: كان مغزى ضربة المعلم القول إنه من غير الحكمة كثرة الالتفات إلى التراث المنقوش المدوّن حين يؤخذ الشخص به، ويستحوذ عليه الماضي، ويغدو مجذوباً إليه.
قال العشاب سيفيرينو لغوليالمو: هناك نباتات تعيش في مناخ مناوئ إذا اعتنيت بالتربة المحيطة بها، بتغذيتها ونموها"، وهذه كناية عن المثقفين وشروط نموهم.
أقول لكم: من الواضح أن رواية "اسم الوردة" مهتمة بالتراث العلمي العربي الطبي والفلسفي اهتماماً عظيماً لدرجة المديح.
قال غوليالمو بتواضع: لقد حصل مرة بين يدي كتاب ابي القاسم البلداشي، "تقويم الصحة"
وبالتعريف بأبي القاسم البلداشي أقول: هو أبو الحسن المختار بن بطلان أو القاسم المختار
هو أبو أنيس المختار بن الحسن بن عبدون بن سعدون بن بطلان، نصراني من أهل بغداد. كان قد اشتغل على أبي الفرج عبد الله بن الطيب وتتلمذ له، وأتقن عليه قراءة كثير من الكتب الحكمية وغيرها. ولازم أيضًا أبا الحسن ثابت بن ابراهيم بن زهرون الحرّاني الطبيب واشتغل عليه وانتفع به في صناعة الطب وفي مزاولة أعمالها. كما جمع بين مهارة الطبيب وشغف الرحّالة إلا أنه لم يكن رحّالة بالمعنى المألوف؛ لأنه كان قبل ذلك طبيبًا ماهرًا، مما ساهم باشتهاره انعكاسًا لعبقريته في الطب ومداواته للمرضى وبالإضافة لكتابته مصنفات طبية عديدة. وهذا بالطبع أمر قليل الحدوث في تاريخ الثقافة العربية، أي أن تنوع اهتمامات ابن بطلان وضعته في مصاف رحالة من النوع الفريد بالإضافة إلى كونه من المثقفين الموسوعيين الذين تتسع مجالات اهتمامهم خارج نطاق تخصصهم، وهو ما تدل عليه أريحيته واتساع أفقه. كما ظلت رحلة ابن بطلان مبعثرة هنا وهناك، وكان أكبر أجزائها محفوظًا، بشكل رئيسي، في كتابَيْ القفطي (إخبار العلماء بأخبار الحكماء) ومعجم ياقوت الحموي الشهير الذي يستعيد مقاطع منها كلما واتته الفرصة، كما ذكر في (عيون الانباء في طبقات الأطباء) لأبن أبي أصيبعة المهتمّ بجميع تفاصيل سيرة ابن بطلان كون مصنَّفه يُعالِج سِيَر الأطباء. اختلفت الآراء في سنة وفاة ابن بطلان فبعضهم يقول إنه توفي عام 444 هجري وبعضهم الآخر يصر على أنه توفي عام 458 هجري.
قال غوليالمو بخصوص كتاب (النبات): يقال لم يؤلفه أرسطو (كتاب التنبّت)، كما أكتشف أيضاً أن (كتاب العلل) أو (الأسباب) ليس لأرسطو"
يقول د. عبد الرحمن بدوي في تقديم آثالوجيا (العلل) أرسطو: بدأ البحث الجدي في حقيقة هذا الكتاب لما أن ظهرت ترجمة ديتريصي الألمانية، فقام "فالانتين روزه" بالتعريف بهذه الترجمة في المجلة الألمانية لنقد الكتب (دوتش ليتراتيور تسايتونغ) 1883 فلاحظ مع الدهشة الشديدة أن كتاب (أثولوجيا أرسطو) هذا ليس شيئاً آخر سوى ترجمة موسّعة paraphrase يتفاوت حظها من الدقة وحسن الفهم للأصل، وهذا الأصل هو التاسوعات الرابعة والخامسة والسادسة من "تاسوعات" أفلوطين. وهذا يتصل باستمرار تأثير أفلوطين طوال العصور الوسطى" (أفلوطين عند العرب).
وقد حقق بدوي الترجمة القديمة العربية لكتاب "النفس" لأرسطو ومعه "كتاب النبات" المنسوب لأرسطو (أرسطو: في النفس؛ الآراء الطبيعية المنسوبة لفلوطرخس، الحاس والمحسوس لابن رشد، النبات المنسوب لأرسطو)
ختم سيفيرينو قوله: سأكون سعيداً لو أمكنني أن أجري معك حواراً صريحاً حول الأعشاب"
فقال غوليالمو: إنني أشد شوقاً منك إلى ذلك، ولكن ألسنا نخالف قاعدة الصمت المعمول بها على ما يبدو في رهبانيتكم."
اليوم الاول
بعد تاسعة
وفيه يزور أدسو وغوليالمو قاعة الكتابة ويتعرفان على عدة دارسين، وناسخين ومفهرسين وكذلك على شيخ ضرير ينتظر قدوم المسيح الدجّال.
قال أدسو يصف قاعة الكتابة: لم يكن الطابق الثاني مقسماً إلى نصفين مثل السفلي وكان يتجلى إذن إلى نظري بكل عظمته الفسيحة، وكانت العقود منحنية وغير عالية كثيراً (أقل مما يكون في أي كنيسة ولكن مع ذلك أكثر من أي قاعة كنائسية أخرى رأيتها في حياتي) تسندها أعمدة قوية، وكان يغمر فضاء القاعة نور رائع إذ تنفتح ثلاث نوافذ عظيمة على كل الجوانب الكبيرة بينما تنقب خمس نوافذ أصغر منها كل جانب من الجوانب الخمسة لكل برج. وأخيراً ثماني نوافذ تسمح للنور بالتدفق من البئر المثمنة الداخلية"
كان عدد النوافذ أربعين، وهو رقم كامل حقاً، ناتج عن ضرب مربع (2) في عشرة، كما لو كملت الوصايا العشر في الفضائل الأساسية الأربع"
الأربعة هي الزوج الأول، مثلما الثلاثة هو الفرد الأول. وهي، أي الاربعة رمز للنفس. إن حدّ الكون عددياً ونظرياً هو مجموع الفرد والزوج (3+4)؛ أي سبعة. لأنه لا يوجد في الكون سوى الفرد والزوج. أما العدد الفردي فهو الواحد، والعدد الزوجي هو الاثنان.
نقول: 4+3+2+1= 10 كاملة تتضمن التسعة الاحاد والواح، والصفر على اليمين. فصفر على الشمال كسر وعشر.
لا شيء أروع من التعداد فهو أداة وصف حيّة وخلابة"
تتشارك ثلاثة أشياء في خلق الجمال:
التمام والكمال؛ فالأشياء التي فيها نقص سمجة
التناسب اللازم أو الانسجام والتناغم
الجلاء والنور (الألوان الصافية). بالطبع هذه جماليات مسيحية.
الرهبان الذين يعملون بقاعة الكتابة معفيون من الصلوات المفروضة: ثالثة وسادسة وتاسعة
حتى لا يتوقفوا عن عملهم في ساعات النهار، ولا ينهوا نشاطهم إلا وقت الغروب، عند صلاة الستّار"
أقول لكم كيف تصف الرواية حافظ المكتبة ملاخي داهيلد يشايم: قسمات غريبة تولّد الرعدة، طويل القامة مع غاية الهزال، أعضاؤه غليظة وقبيحة وينتقل بخطى واسعة، ملتفا في قباء الرهبانية الأسود. كان هناك شيء مفزع في هيئته، وكان الاسكيم المسدل على وجهه حين دخوله من الخارج، يلقي ظلا على شحوب ذلك الوجه ويضفي نوع من الألم، لا أدري كنهه، على تينك العينين الواسعتين الحزينتين. كانت سيماؤه تحمل آثار عواطف كثيرة أخضعتها الإرادة، كان الحزن والصرامة يسيطران على تقاسيم وجهه، وكانت عيناه نافذتين إلى حد أن نظرة واحدة منهما كانت تقدر على النفاذ إلى قلب المتحدث إليه وقراءة أفكاره الخفية، حتى أنه من الصعب على المرء أن يتحمل تفرّسها ويود لو يتفادى ملاقاتها ثانية"
يقال إن أحد اهداف "العلم" العمل على تمديد حياة الانسان.
تأتي الرواية على ذكر كتاب مخمس سليمان. وهو (السر المغتبط في المُخمّس خالي الوسط لابن عربي) أو (الوِفْق المخمس الخالي الوسط لمحي الدين بن عربي)
والمخمس العرشيّ هو جدول من خمسة وعشرين خانة يحتل فيها ابن عربي مكان العرش. الخانة الوسطى هي للغوث، وباقي الخانات ال (24) هي للعرش والكرسي والقلم، والاقطاب الأربعة. الخانة الوسطى (خالية) هي للغوث، فإذا مات حل محله غيره، وانتقل هو إلى خانة الحمّالة أو الكرسي." وبهذا المخمس تتميز مقامات الاولياء. وتسميته بالمخمس العرشي نسبة إلى خانة العرش. وابن عربي جمع بين التصوف وعلم السيمياء (علم العلامات والدلالات). والقطب الأكبر هو المُعبّر عنه عند القوم بالغوث.
يقول الصوفي: في كل عصر واحد يسمو بنا ونحن لباقي العصور ذاك الواحد.
الرمز العددي ل (بنا= 53= أحمد)
ولأمبرتو إيكو كتاب معروف عنوانه (السيمياء وفلسفة اللغة)
أقول لكم: ورق القضيم ملك الرقوق
"عندما نظرنا إلى الورقات كان كتاب تراتيل رسم على حاشيته عالم مقلوب بالمقارنة مع العالم الذي عودنا عليه حسنا. فكأنما يدور في بداية حديث هو مبدئياً حديث الحقيقة وفي اتصال عميق به من خلال تلميحات رائعة وغامضة، حديث كاذب قلب راسه إلى أسفل، حيث تفر الكلاب أمام الارانب وتصيد الايائل السباع" قردوح Babouins كما يسمونها في بلاد الغال، قرادح أو قرود افريقيا. صور عالم معكوس (مقلوب)، حيث تقف الديار فوق شوكة ابرة وتقوم الأرض فوق السماء"
أقول لكم: هذه الابيات تنطبق على عصرنا البورجوازي
صمتت المعجزات وكفت عن الظهور
وفاقت الأرض السماء
الان أخذت الأرض مكان السماء
الأرض فوق السماء
هذا ما يمكن اعتباره فعلاً
معجزة المعجزات
كان هذا الاعمى يحدق فينا كما لو أنه يبصرنا
ويتحرك ويتكلم كمن لا يزال ينعم بالبصر
أما نبرة الصوت فقد كانت لمن يملك فقط موهبة التنبؤ
تعليم الفضيلة من خلال البشاعة والتشويه والمسوخ. والمعرفة من خلال التشويه والخطأ
هذه الطريقة في التمثيل تتلاءم أكثر مع معرفتنا للإله فوق هذه الأرض: فهو يتجلى لنا فعلا فيما هو مغيب أكثر مما يتجلى فيما هو موجود، ولأن ما يتعلق بالإله يكون هكذا محجوبا أكثر عمن لا يكون به جدير، كنا نحاول ذلك اليوم أن نفهم كيف يمكن اكتشاف الحقيقة من خلال العبارات الغريبة والنافذة والغامضة، وكنت قد ذكّرته أنني قد وجدت في كتب ارسطو العظيم كلمات في ذلك الشأن"
كنا نريد أن نعرف إن كانت الاستعارات والجناس والألغاز والكنايات والتوريات التي يظهر أن الشعراء خلقوها للتسلية لا تحملنا على التفكير في الأشياء بطريقة جديدة ومدهشة. وكنت أقول ان هذه خصلة يجب أن يتحلى بها الحكيم".
اليوم الأول
صلاة الستّار
وفيه يزور أدسو وغوليالمو باقي الدير، ويتوصل إلى بعض الاستنتاجات حول موت أدالمو ثم يدور حديث مع راهب يصنع الزجاج الصالح للقراءة وحول الاشباح التي تظهر لمن يريد القراءة.
صلاة السِّتار: هي "صلاة ساعة المساء التي تدعى ساعة حجاب الظلمة أو "سِتار" الظلمة، وميعادها أول دخول عتمة الليل، وهي خاصة بالآباء الرهبان" (موقع الانبا تكلا)
عند مكبّ النفايات والزبل تختلط نفايات أخرى صلبة، إلى جانب براز الدواب والبشر، هي مجموع المواد الميتة التي يخرجها الدير من جسمه ليبقى صافياً ونقياً في علاقته مع قمة الجبل ومع السماء.
عندما نظر نيكولا إلى النظارات الزجاجية المخصصة للقراءة قال: يا لها من أعجوبة، قد يعتبرها البعض سحراً أو أعمالاً شيطانية"
قال غوليالمو: لكن للسحر نوعان: هناك سحر هو من عمل الشيطان ويهدف إلى هلاك الانسان مستعملاً حيلاً لا يجوز لنا الحديث عنها. وهناك سحر هو آية الهية، عندما يتجلى علم الإله من خلال علم الانسان، ويغير الطبيعة ومن بين أهدافه مد عمر الانسان. هذا سحر مقدس، ينبغي على العلماء أن يكرّسوا أنفسهم له أكثر فأكثر ليس فقط لاكتشاف أشياء جديدة ولكن لاكتشاف اسرار الطبيعة التي اظهرتها حكمة الاله إلى اليهود واليونانيين وإلى شعوب أخرى قديمة، وحتى في يومنا هذا إلى الكفار (العرب المسلمين). ثم أضاف: ولا أذكر لك الأشياء الرائعة في علم البصريات وعلم النظر التي توجد في كتب الكفار (العرب المسلمين). وينبغي على العالم المسيحي (أوروبا الغربية) أن يستحوذ على هذه المعارف، وأن يستردها من الوثنيين (اليونان) ومن الكفار (العرب المسلمين))
وأقول: إنّ أشهر علماء البصريات المسلمين هما: يعقوب بن إسحق الكندي وابن الهيثم.
ولكن هذا العلم، لماذا لا يبلغه أصحابه إلى أمّة الله بأسرها؟
لأن أمة الله ليست متأهبة لتقبل كل تلك الاسرار. وكما نبهنا إلى ذلك روجي باكون العظيم، لا ينبغي أن تصل دائماً أسرار العلم إلى أيدي الجميع، إذ قد يستخدمها البعض لأغراض سيئة. ينبغي في الغالب ان يقدم العالِم كتباً على أنها سحرية وليست من السحر في شيء، بل هي من أفضل كتب العلم لحمايتها من أنظار الفضوليين."
فسأله نيكول: أنت تخشى إذن أن يسيء الجهلاء استعمال تلك الاسرار؟
قال غوليالمو: أخشى فقط ان يروّعهم ذلك، ظانين انها من أعمال الشيطان، التي كثيراً ما حدثهم عنها الواعظون"
جاء في سورة المُلْك (وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِّلشَّيَاطِينِ ۖ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ) [الملك: 5]
وفي الصافات (إنا زينا السماء الدنيا بزينة الكواكب، وحفظا من كل شيطان مارد، لا يسمعون إلى الملإ الأعلى، ويقذفون من كل جانب دحورا ولهم عذاب واصب، إلا من خطف الخطفة فأتبعه شهاب ثاقب) [الصافات: 6 – 10].
قال غوليالمو: انظر، في بعض الأحيان من الخير ان تبقى بعض الاسرار مغطاة تحت حجاب لغة غامضة وقد قال ارسطو في كتاب الاسرار إن إفشاء الكثير من اسرار الطبيعة والفن فيه تحطيم لختم مقدس يمكن ان يجر عدة مآس. وهذا لا يعني انه يجب ألا تكشف الأسرار، ولكن على العلماء ان يقرروا متى وكيف."
لم أعن أنه ينبغي إخفاء مصادر العلم، كنت أعني أن العالِم له الحق ومن واجبه أن يستعمل لغة غامضة، لا يفهمها إلا أمثاله"
قال الزجّاج نيكولا: الشيطان لا يغوي راهباً عن طريق الثعابين وبشر برأسين، بل عن طريق رؤى شبقية. ثم لو كان من فعل الشر أن يطلع المرء على بعض الكتب، لماذا يجنب الشيطان راهباً ارتكاب الشر؟
فوافقه غوليالمو قائلاً: يبدو لي أنه قياس اضماري مقنع"
عندما يتضح كل شيء باستعمال عدد أقل من الأسباب، عند ذلك لا لزوم للإكثار من الحلول والأسباب إن لم تكن هناك حاجة ملحة إلى ذلك. حسب رأي غوليالمو.
والقياس الإضماريّ في المنطق هو الذي يستعمله الخطباء كثيرا والجدليون ويحذفون منه مقدمة يخشون من التصريح بها والافتضاح. بمنزلة القول: بأن فلانا مزين-وكل مزين زان-ففلان زان. أما المقدّمة القائلة إن كل مزين زان فكاذبة. ولهذا ما تبقى وتجهل مضمرة في القياس. (ابن زرعة، القياس)
اليوم الأول
صلاة النّوم
وفيه ينعم أدسو وغوليالمو بحسن ضيافة رئيس الدير وبمحادثة يورج الحانقة.
كان الرهبان جالسين حول صف من الموائد تعلوها متعامدة مائدة رئيس الدير فوق مصطبة فسيحة. وتتمتع مائدة رئيس الدير دائما ببعض الامتيازات، لأنها تستضيف دائما ضيوفا ذوي اعتبار.
رئيس الدير: بما انه لا يمكن اقناع الرهبان في وقتنا بالعدول عن الخمرة فليشربوا دون ارتواء لان الخمرة تقود الى المروق حتى للحكماء منهم كما يذكرنا بذلك سفر الجامعة.
قال أدسو: وإذ علمنا النبي في هذه الفقرة أن نحجم في بعض الأحيان حباً للصمت، حتى عن الأحاديث الجائزة فينبغي أن نحجم عن الأحاديث المحظورة حتى نتلافى عقاب هذه الخطيئة، أما الابتذالات والحماقات والسخافات فإننا نحكم عليها بالإقصاء إلى الأبد.
أما بخصوص الضحك: لقد قال جيوفاني فم الذهب أن المسيح لم يضحك قط" قال غوليالمو: لا شيء في طبيعته الإنسانية يمنعه من ذلك لأن الضحك، كما يقول علماء اللاهوت، هو من طبيعة الانسان. لقد كان القديس لورانسو يعرف كيف يضحك ويقول أشياء سخيفة، إن هو أراد بها إهانة أعدائه "
عندما صعد النبي محمد على المنبر وهو يستقبل وفد من بني حنيفة في عام الوفود (9 هـ) ويسمع حديثهم ويقول لهم: إن الله ليضحك من شففكم (مبالغتكم) وضحك النبي. فقال واحد من الوفد: ويضحك الله يا رسول الله؟ قال: ويضحك الله! (بصائر في عام الوفود)
قال غوليالمو حين تبسمت: يكفي ضحكاً قد رأيت أن الضحك لا يتمتع بين هذه الجدران بسمعة طيبة."
أدسو: وتريد أن تدخل أثناء الليل إلى المكتبة؟
غوليالمو: حيث يوجد الرهبان الموتى والثعابين والاضواء الغامضة ياعزيزي أدسو؟ لا، لا يا ولدي.
أدسو: إذن لماذا تريد أن تعرف؟
غوليالمو: لأن العلم ليس فقط معرفة ما ينبغي أو ما يمكن للإنسان عمله، بل وأيضاً معرفة ما هو في مقدور الانسان ولو أنه مع ذلك لا يجب عليه عمله". لذا كنت أقول اليوم للزجّاج أنه يجب على العالم أن يخفي بطريقة ما الاسرار التي يكتشفها، كي لا يستعملها الاخرون لأغراض سيئة. ولكن يجب عليه اكتشافها.
حاجة الانسان للمعرفة ليست براغماتية نفعية فحسب، بل معرفة علمية تحمل تفسير مصير المستقبل القادم. ما هو في مقدور الانسان ويبقى من دون تكملة عملية. المعرفة التي ليس لها الان عمل يجب حجبها عن العامة وسترها كأسرار لكيلا يساء استعمالها أو يساء لمكتشفها نتيجة سوء الفهم من قبل المتعصبين.
اليوم الثاني
صلاة أول الصبح
وفيه تحدث حادثة دموية مريعة فتقطع بعض الساعات من الغبطة الصوفية
تقام صلاة أول الصبح في غسق الليل عندما تكون الطبيعة كلها نائمة، إذ ينبغي على الراهب ان ينهض في الظلمة وأن يصلي طويلاً منتظراً النهار ومنيراً العتمة بنار العبادة."
ليس هناك حيوان أخون من الديك إذ هو أحيانا رمز للشيطان وأحيانا رمز للمسيح الذي بعث حياً. وما أكثر ما عرف نظامنا من خاملين أمثاله ممن لا يصيح عند بزوغ الفجر.
أقول الديك رمز للشيطان إذا تباطأ وتخامل وتأخّر عن الصياح عند بزوغ الفجر، هذا شيطان أخرس وعقل انتهازي نفعي مبتذل. والبطء والتأخير، وهو النسيء من سمات إبليس. جاء في سورة التوبة: (إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ) [التوبة: 37]
أما أن يكون رمزا للمسيح القائم بالبعث فهو صياحه مع انبلاج الفجر وبزوغ الشمس، وإعلانه ظهور القائم حتى لو كان قبل الأوان. والين جاءوا قبل الأوان وولدوا لستة أشهر هم يحي ابن زكريا وعيسى ابن مريم والحسين بن علي.
وتلا الراهب المكلف بالفرائض في ذلك الأسبوع الصلوات وانحنى الجميع نحو المذبح في لحظة خشوع، لا يدري عذوبتها إلا من عاش تلك الساعات من الوله الروحي ومن السلام الداخلي العميق"
بالطبع هذا الانحناء رمزي وهو يشير إلى التقدم نحو الممارسة التاريخية السياسية في الحركات الاجتماعية الكبرى. الايمان باليوم الاخر وبالمستقبل التاريخي "المقدس".
وأقول لكم: في الانحناء والسجود تعقل وعود، فالمستقيم مرسل على غاربه والدائرة معقولة نهايتها إلى بدايتها. وإبليس لا يعرف العود والرجوع ويبقى راكب رأسه.
قال أدسو: وحمدت أنا الاله لأنه حررني من ظنوني، وقد حررني من الإحساس بالضيق الذي اعتراني في يومي الأول بالدير، وقلت في نفسي إننا مخلوقات ضعيفة، فحتى بين هؤلاء العلماء الاتقياء ينشر الشيطان مشاعر الحسد الحقير والعداء الخفي ولكنها ليست إلا دخان لا تلبث ريح الايمان العاتية أن تبدده، حالما يجتمعون باسم الاب وحالما ينزل بينهم المسيح من جديد."
حين بدأ إنشاد المزامير من جديد، وتلك المخصصة ليوم الاثنين، أعادني ثانية إلى تخوفاتي الأولى
قد كانت سيطرت الخطيئة على الباغي
وامتلكت دخيلة قلبه
فلا ترى في عينيه خشية الله
فهو يعمل أمامه بخداع
بحيث يصبح لسانه مقيتاً
أقول لكم
النور الذي ما زال غائباً
بدا لي ساطعا في كلمات النشيد
كـ "زنبق ماء" تفتح بأريجه
بين قُرَن القباب
أقول: لقد عرفوا أنه راهب من نعليه.
ثم أشار غوليالمو إلى الاشكال المتشابكة التي خلفتها آثار أقدام الرهبان والخدم قائلاً:
يا لها من بلبلة! الثلج، يا عزيزي أدسو، رقّ رائع يترك عليه جسم الانسان كتابات على غاية من الوضوح. ولكن هذا رقّ قديم لم يقشط كما ينبغي، ولا أظن أننا سنجد فيه شيئاً ذا فائدة."
لكن من يحمل جسم رجل آخر يترك آثاراً أكثر عمقا في الثلج، ومن يتخفف من الوزر يترك أثراً أعمق في لوح التاريخ.
أما أنا فأحدثكم عن الدلالة التي تعبّر عن قصد آخر
"قد يكون المجرم قتل فينانسيو عوضاً عن شخص آخر، ليترك دلالة، ليعبر عن قصد آخر. ولا ننس أيضاً أن هناك دلالات تبدو كأنها تعني شيئاً ولكنها في الحقيقة عديمة المعنى (لم يتم التواضع عليها في الجماعة كدلالة)"
يتوقف الامر على ما تعني بالسم. بعض المواد تكون نافعة إذا أخذت بمقادير ضئيلة وتؤدي بمقادير وافرة إلى الموت" قطرات قليلة من الناردين في نقيع حشائش أخرى تهدئ القلب الذي يدق باضطراب، وجرعة مبالغ فيها تحدث فتوراً ثم الموت" قال سيفيرينو لغوليالمو: لقد قلت لك: إن الفارق بين الدواء والسم ضئيل، فقد كان اليونانيون يطلقون على كليهما اسم "فارماكون" والتي تعني (سم وترياق) في نفس الوقت.
قال سيفيرينو: لدي أيضاً أشياء نفيسة ونادرة الوجود نحصل عليها بسهولة من نبات جهاتنا، انظر مسحوق العقيق، مجلوب من الكتاي، أعطانيه عالم عربي.
يلاحظ هنا انشغال الرواية بمنجزات العرب العلمية في العصور الوسطى، واستفادة أوروبا المسيحية من العلماء "الكفار" (العرب المسلمين)
اليوم الثاني
أولى
وفيه يبوح دانشو دا أوبسالا ببعض الأشياء وأشياء أخرى يبوح بها برينغاريو دا أورندال ويعرف أدسو ما هي التوبة الحقيقية.
قال فينانسيو: لقد سمعت ذلك بالأمس. كان يورج يلاحظ أنه غير جائز أن تنمّق الكتب التي تحمل في طياتها الحقيقة، بصورة سخيفة. ولاحظ فينانسيو أن أرسطو نفسه تحدث عن النُّكتة والتورية كأداة لاكتشاف أكمل للحقيقة. وعلق يورج بأن أرسطو، حسب ما يتذكر، تحدث عن تلك الأشياء في كتاب "الشعر"، وبخصوص الاستعارات. وأنه يرى في ذلك حالتين تبعثان على القلق، أولا لأن كتاب الشعر الذي بقي مجهولا في العالم المسيحي لمدة طويلة، قد يكون بإرادة الهية، وصل إلينا عن طريق العرب الكافرين (المسلمين).
والسبب الثاني المثير للقلق هو أنه في ذلك الكتاب يتحدث أصيل ستاجيرا عن الشعر، وهو مذهب وضيع يعيش من الأوهام. فقال فينانسيو إن المزامير هي شعر وتستعمل الاستعارات. فغضب يورج وقال إن المزامير هي عمل من وحي إلهي وتستعمل الاستعارات لتبليغ الحقيقة. بينما أعمال الشعراء الوثنيين تستعمل الاستعارات قصد نشر البهتان، ولمجرد الاستمتاع."
قال فينانسيو: لأنني أهتم بالبلاغة وأقرأ للكثير من الشعراء الوثنيين وأعرف أو بالأحرى أظن أنه من خلال كلماتهم بلغت حقائق، في طبيعتها مسيحية "
قال بانشيو: نحن نعيش للكتب، يا لها من مهنة عذبة في عالم تسوده الفوضى والانحطاط.
قال بانشيو: فينانسيو كان يفهم جيدا اليونانية، قال إن أرسطو قد خصص للضحك (الكتاب الثاني للشعر)، فلا بد أن يكون الضحك شيئاً هاماً. فقال يورج إن العديد من الآباء خصصوا كتبا كثيرة للخطايا، التي هي أمر هام ولكن رديء" قال فينانسيو: إن أرسطو تحدث عن الضحك على انه شيء طيب وأداة لمعرفة الحقيقة" نعم لم يقدر أحد الاطلاع على الجزء الثاني من الشعر أو يتحصل عليه. قلت (أدسو): في الجزء الذي نعرفه من "الشعر" وفي البلاغة نجد الكثير من الملاحظات القيمة حول الاحاجي الفطنة."
قال غوليالمو: ما كان الواعظون يلحون أبداً كما يفعلون اليوم على استحضار آلام الجحيم، بغية حث البسطاء على الايمان. والتوبة
لما انتهى زمن التوبة أصبحت حاجة التائبين إلى التوبة حاجة إلى الموت. آملين أن تعرض النفوس عن الخطيئة بوسيلة الخوف، واثقين من أن الخوف سيعوض عن الثورة."
أقول لكم: ما أشبه هذا بعمل الدعاة التكفيريين.
غوليالمو: لا تثق بتجديد الجنس البشري عندما تتكلم عن ذلك الهيئات الكنسية والبلاطات.
وأضاف: يبدو لي أن من خاصيات قلة تقوى الشعوب الإيطالية عدم ارتكاب الخطيئة خوفا من بعض الالهة، ولو أطلقوا عليها اسم قديس. إنهم يخافون من القديس سيباستيانو أو القديس أنطونيو أكثر مما يخافون من المسيح. فلو أراد أحدهم أن يبقي مكاناً نظيفاً هنا حتى لا يبول فيه الناس على طريقة الكلاب فإنه يرسم فوقه صورة القديس أنطونيو بطرف من الخشب، فيبعد أولئك الذين كانوا يتأهبون للتبول فيه. وهكذا يتعرض الايطاليون بفضل مبشريهم لخطر العودة إلى المعتقدات القديمة ولم يعودوا يؤمنون بانبعاث الجسد. إنهم يخافون خوفاً عظيماً من الجروح الجسدية ومن الكوارث، ولذا يخافون القديس أنطونيو أكثر مما يخافون المسيح"
وقد يكون هذا أحد أسرار التدين الشعبي وعبادة المقامات والأضرحة!
ولكن ما معنى أنهم لم يعودوا يؤمنون بانبعاث الجسد؟
الحق يقال إنهم لم يعودوا يؤمنون بالثورة والتغيير عبر الثورة والقيامة من جديد، بل باتوا حبيسي الخوف من الطبيعة والكوارث ومن العقاب الجسدي على يد جلاديهم، الخوف لا الايمان، هو دينهم الجديد.
قال أدسو: أوليس هذا الدير مرآة للعالم؟
غوليالمو: كي تكون للعالم مرآة، ينبغي أن يكون للعالم شكل."
اليوم الثاني
ثالثة
وفيه يحضر غوليالمو وأدسو خصومة بين اشخاص مبتذلين ويقوم إيمارو دا أليساندريا ببعض التلميحات ويفكر أدسو حول القداسة وبراز الشيطان. ثم يعود غوليالمو وأدسو إلى قاعة الكتابة، ويرى غوليالمو شيئاً جديراً بالاهتمام، ثم يكون له حوار ثالث حول إباحة الضحك، ولكنه في الختام لا يمكنه أن ينظر حيث يريد.
قال أدسو معلقاً على المسوطين الذين يمشون عراة أزواج ويسوطون أجسادهم بسوط من جلد في الليل والنهار: يبدو لي أن الفارق لا يأتي من اعمال هؤلاء أو أولئك، ولكن من النظرة التي كانت الكنيسة تحكم بها على هذه أو تلك من الاعمال. كنت أتذكر النقاش مع أوبارتينو. لقد كان غوليالمو دون شك يلمّح، وحاول أن يقول إن الفارق ليس كبيراً بين إيمانه الروحي (الأرثودوكسي القويم) وإيمان الهراطقة الملتوي"
كان أدسو يعتبر القداسة بأنها نوع من إدراك الفارق، قال: لقد بقي أوبارتينو وكيارا قديسين لأنهما كانا يعرفان فعلاً إدراك الفارق. هذه هي القداسة، لا غير. ويضيف أدسو: ولكن لماذا لا يعرف غوليالمو كيف يميز (بين القويم والملتوي)؟ مع أنه رجل فطن، وفيما يخص أمور الطبيعة كان يلاحظ أدنى تخالف وأدنى تقارب بين الأشياء."
أعتقد أن غوليالمو يستطيع التمييز في قضايا اللاهوت، وبحكم فطنته وخبرته اكتشف أن الايمان القويم ليس قويماً بالدرجة الشائعة، وأن المعوجّ ليس معوجّاً بالدرجة التي تراه فيها الكنيسة الرسمية.
قال أدسو: سمعنا أحد يحيينا كان إيمارو دا أليساندريا. والذي استرعى انتباهي إليه ملامح وجهه، التي تعلوها دائماً ابتسامة استهزاء، كمن لا يقدر على اقناع نفسه بحماقة كل المخلوقات البشرية، ومع ذلك يعير اهتماما كبيرا لهذه المأساة الكونية."
وأقول لكم: إن ابتسامة الاستهزاء علامة شك وتحير، وقلة تصديق!
قال إيمارو الساخر: هل تعودت يا أخ غوليالمو على هذا الوكر من المجانين؟
إننا نقيم هنا بينما الحركة هناك، في المدن. في السابق كانت أديرتنا هي التي تحكم العالم، والآن ها أنت ترى الامبراطور يستعملنا لإرسال أصدقائه لملاقاة أعدائه.
ترصد الرواية بدايات ظهور القومية الإيطالية، يقول إيمارو الساخر: لنفتح المكتبة إلى النصوص باللغة الإيطالية، وسيصعد إلينا أيضاً أولئك الذين لم يعودوا يكتبون باللاتينية. ولكننا مراقبون من طرف كتلة من الأجانب يواصلون إدارة المكتبة وكأنه لا يزال في كلوني إلى الان الشماس أوديلّيني الطيب. لكن هنا لا يقبل التسامح بخصوص أشياء الدنيا ما عدا الترخيص للألمان.
وأقول لكم
إننا نكثر من الكلام
لم يعد أحد يحترم الصمت
وهناك من يغالي في احترامه
وعوضاً عن الكلام والصمت
علينا العمل
تلمِّح الرواية إلى حكم المدن التجارية الإيطالية القرن الرابع عشر.
أدسو: المدينة في إيطاليا شيء مختلف عما يوجد عندنا. ليست فقط مكان للسكنى، لكنها مكان لأخذ القرارات، تجدهم دائماً في الساحة، الحكام المدنيون أهم من الامبراطور او البابا. إنها كما لو كانت ممالك عديدة.
غوليالمو: والملوك هم التجار سلاحهم النقود. والحياة في أغلب مظاهرها يهيمن عليها وينظمها تبادل المنتجات. قد تكون لاحظت أنه في المدن الإيطالية، على العكس، تصلح المنتوجات لامتلاك النقود. والكهنة أيضاً والأساقفة، وحتى الأنظمة الدينية تحسب للنقود ألف حساب. ولهذا السبب بطبيعة الحال تتجلى الثورة على السلطة في صورة نداء للفقر، والفقراء الثائرون على السلطة هم أولئك الذين بقوا خارج حلقة النقود"
أقول لكم: ثلاثة أصابع تمسك القلم، ولكن الجسم كله يعمل ويتألم.
قال أدسو: كتاب آخر باليونانية كان مفتوحاً على المَقرأ، وهو الكتاب الذي كان فينانسيو يقوم في الأيام السابقة بترجمته. لم أكن أعرف بعد اليونانية لكن استاذي قال لي إن المؤلف يدعى لوتشيانو (لوقيانوس) تروي القصة حكاية رجل تحول إلى حمار. فتذكرت عندئذٍ خرافة مماثلة لأبوليو يُنصح المبتدئون بصرامة بعدم قراءتها"
هي في الواقع "تحولات الجحش الذهبي للوكيوس أبوليوس" وهي قصة تهكُّمية مينيبية (نسبة إلى هجائيات مينيب). أما لوقيانوس السيميساطي فلهو كتاب بعنوان "مسامرات الأموات واستفتاء ميْت" ومحاورات لوقيانوس السوري.
قال يورج: إن المكتبة شاهد على الحقيقة وعلى الخطأ.
قال غوليالمو مشيراً إلى عملي لوتشيانو(لوقيانوس) وأبوليوس: لكن هذه الخرافة Fable تخفي تحت غشاء أحداثها الخيالية موعظة كبيرة، لأنها تعلم كم يدفع ثمن الأخطاء غالياً. علاوة على ذلك، أظن أن قصة الانسان الذي يتحول إلى حمار ترمز إلى تحول (انمساخ الروح) التي تقع في الخطيئة" الآن فهمت لماذا كان فينانسيو أثناء المناقشة التي حدثني عنها بالأمس، يبدي اهتماماً كبيراً بمسألة الملهاة (كوميديا). فعلاً، الخرافات من هذا النوع أيضاً يمكن أن تعادل هزليات القدامى (السحب لأرستوفانيس). وكما يقول إيزودورو: الخرافات هي من الخيال، فقد استمد الشعراء اسم "favolo" من فعل "fando " لأنه لا يعني أشياء وقعت حقيقة بل صنعها الخيال.
قال يورج بجفاء: لقد تحدثنا عن الضحك. إن الهزليات (الكوميديا) كتبها الوثنيون لحمل المتفرجين على الضحك، ولم يعملوا صالحا إن يسوع سيدنا لم يقص قط هزليات أو خرافات، وإنما كان يعطي الامثال الشفافة المعنى ليعلمنا من خلال استعارتها كيف نستحق الفردوس "
قارن هذا النفي مع نفي فيلون الاسكندري أن يكون النبي موسى قد كتب اساطير، وقول القران بالقصص ونفي أن يكون كتابة أساطير، وأنه يقص القصص ويضرب الامثال للناس. وجميعها أقوال (logia).
أنصحكم بالحمّامات والضحك لعلاج الاكتئاب.
قال غوليالمو: القرود لا تضحك، إن الضحك من خاصيات الانسان، وهو دليل على عقلانيته.
أجاب يورج: من يضحك لا يؤمن بالشيء الذي أضحكه، مع ذلك لا يبغضه. الضحك من الشر إذا يعني عدم الاستعداد لمكافحته، والضحك من الخير يدل على نكران القوة التي بفضلها ينشر الخير منافعه. وإذا تقول القاعدة "إن الدرجة العاشرة في التواضع تكمن في عدم الاستسلام بسهولة للضحك""
قال غوليالمو: في الكتاب الرابع من العهد القديم، الذي أخذت منه الفقرة التي تنصها قاعدتكم يقر سليمان بالضحك الصامت، ضحك النفس المطمئنة" وأضاف: ولكن حتى بعدما انتشرت كلمة المسيح على الأرض يقول سينيزيودي تشيريني إن الاله عرف كيف يمزج الهزلي بالمأساوي، ويقول سباستيانو عن الامبراطور أدريانو الذي كان رجلا ذا أخلاق عالية وروح بطبيعتها مسيحية، إنه عرف كيف يمزج لحظات الفرح بلحظات الجد. وأخيرا ينصح أوزينيو بالاعتدال في مزج الجد بالهزل". نقرأ في قصة سليمان مع النملة: (فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِّن قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَىٰ وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ) [النمل: 19]
واضح أن اليوم الثاني –ثالثة يخصص مساحة مهمة لمناقشة موقف الكنيسة الرسمية الكاثوليكية في روما من مسالة "الضحك" والكوميديا والسخرية والهزء.
يرد الهزء في القران: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِّنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ) [المائدة: 57]
(وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِن يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَٰذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُم بِذِكْرِ الرَّحْمَٰنِ هُمْ كَافِرُونَ) [الأنبياء: 36] وهناك آيات كثيرة تذكر الضحك. قصة سليمان والنملة (فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِّن قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَىٰ وَالِدَيَّ) [النمل: 19] (اتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّىٰ أَنسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنتُم مِّنْهُمْ تَضْحَكُونَ) [المؤمنون: 110] (وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِن وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ) [هود: 71]
يورج: الضحك دافع إلى الشك
غوليالمو: لكن من الصواب احياناً أن يشك الانسان
(يمكن تنظيم حوار حول الضحك بين يورج وغوليالمو)
في مسألة غرور العقل وإفشاء الاسرار لعامة المتدينين مع أن الأفضل ابقاؤها مغلقة.
يورج: لغرور إيمانه بعقل الانسان. وهكذا سخروا من إيمان الناس البسطاء، واستبطنوا أسرار الاله (أو حاولوا؛ أغبياء الذين سعوا إلى ذلك) ودرسوا بجسارة أشياء تخص الأشياء السامية ساخرين من الإباء لأنهم رأوا أن مثل تلك المسائل ينبغي تركها مغلقة خيراً من حلها" يبدو أن هذه الاستراتيجية، استراتيجية الغموض وكتم الاسرار الدقيقة دينية بامتياز، خاصة في الأديان التاريخية؛ ديانات الإباء الأنبياء. ونلاحظ هنا أيضاً في هذا الحوار ظهور مسألة إيمان البسطاء وإيمان العلماء وقد أثيرت هذه المسألة في القرن الثالث الميلادي في الإسكندرية على زمن أوريجين السكندري.
قال غوليالمو: إن الله خلق لنا الفكر وما يستحسنه الفكر الإلهي، الذي لا نعرف عنه إلا ما نستنتجه، بقياس التمثيل وغالباً بالنفي، من مناهجنا الفكرية. ولذا ترى أنه في بعض الأحيان لدحض القيمة الزائفة لفكرة منافية للعقل، حتى الضحك يمكن أن يكون أداة صالحة"
هذه فكرة مهمة حيث تستخدم المزحة في تسفيه رأي دوغمائي غير عقلي.
الحصان الذي سماه غوليالمو من قبل برونيللو هو في الأصل حمار. يحكى في كتاب "مرآة الحمقى" عن الحمار برونيللو الذي تساءل ماذا يحدث لو رفع الريح الغطاء في الليل ورأى الراهب عورته" ولكن يا للمفارقة؛ فحتى الذي لا يعجبه ذلك، ليس له به علم.
اليوم الثاني
سادسة
وفيه يروي بانشيو قصة غريبة تنكشف من خلالها أشياء مزرية تخصّ حياة الدير
" قال أدسو: وبينما كان يتحدث تبين لنا أن ذلك الراهب (باتشيو) الذي ما زال شاباً ويسلي فكره بدراسة البلاغة، كانت تأخذه الرغبة الاستقلالية، ويصعب عليه قبول القيود التي تفرضها قواعد الدير على حب اطلاعه"
وأحدثكم كيف عبّر أدسو عن عدم ثقته بهذا النوع من المعرفة، وكيف كان غوليالمو يحبذ ذلك السلوك، وكيف لاحظ أدسو أن استاذه يتعاطف مع بانشيو ويثق بأقواله."
تحدث بانشيو عن أساليب تسيير المكتبة، وأنه يرجو أن يستمد منها استاذي، مهما كانت الوسائل لفك عقدة القضية، عناصر لتحريض رئيس الدير على التخفيف من المراقبة الفكرية التي تثقل كاهل الرهبان الذين جاءوا من أماكن نائية، كما جاء هو، قصد تغذية عقولهم بالكنوز التي تحفظها المكتبة في أرجائها الفسيحة".
اللواطة أو العاطفة المشؤومة: "كان برينغاريو فريسة عاطفة جنونية نحو أدالمو، نفس العاطفة المشؤومة التي عاقبها غضب الاله في سدوم وعامورة" يقول أدسو: هل يمكنني أن أخفي عن نفسي أن شيخوختي نفسها يثيرها إلى الآن شيطان الظهيرة عندما يتوانى نظري، في الخورس، على وجه مبتدئ أمرد، صاف غض كأنه طفلة."
أحدثكم
عن التوبة المستحيلة
وتواري الرحمة
أحدثكم
عن الحوار حول الضحك
اليوم الثاني
تاسعة
وفيه يبدو رئيس الدير فخوراً بما يمتلكه ديره من كنوز، خائفاً من الهراطقة، وأخيراً يتساءل أدسو إن لم يخطئ عندما ذهب للتجول عبر الدنيا.
أحدثكم عن الأحجار الكريمة
التي تعرفتُ من بينها على
الياقوت الزعفراني والزمرد الأصفر والياقوت الأحمر
واللازورد والزمرّد والزبرجد والجزع والكهرمان
واليشب والعقيق اليماني
وأقول لكم
كل هذه الأحجار
كنايات عقيدة التوحيد
ودينها الباطنيّ
قال غوليالمو بتهكم مستور حول التعرف على عظمة الإله من خلال الذهب والاحجار الكريمة: "إنها حقاً أعذب لاهوتية" وعلق أدسو على ذلك: بدا لي أنه يستعمل تلك الصورة الذهنية المخاتلة والتي يسميها علماء الفصاحة العربية: "التعريض الساخر" وهو نوع من التهكم، والتي ينبغي أن تتصدرها دائماً نبرة، تدل عليها وتبررها، ولكن غوليالمو لم يكن يستعملها (النبرة) أبداً"
والتعريض الساخر هو السخرية والهجاء في معرض المديح، فظاهر اللفظ مديح وباطنه سخرية وهجاء تدل عليها نبرة المتكلم، مما يدرجه في دائرة التهكم. فالتعريض فنٌّ من فُنون القول غير المباشر يُعْتَمَدُ فيه غالباً على قرائن الحال لاَ على قرائن المقال. والتعريضُ أخفى من الكناية، لأنّ الكناية لا تقتصر على قرائن الحال، بل لها من قرائن المقال ما يَدُلُّ على المراد بها. ومن هذا قول المتنبي في "مدح" كافور وهو يهجوه على أثر زلزال ألم بمصر:
ما اهتزت مصر من كيدٍ ألّم بها لكن رقصت من عدلكم طرباً
أخذ غوليالمو يسعل بأدب (إيه، أوه ..) كان يفعل ذلك عندما يريد الدخول في موضوع آخر.
ثم قال: أظن أنه ينبغي علينا أن نتحدث عن اللقاء وعن المناقشة حول الفقر. كان رئيس الدير يجد صعوبة في النزول من تلك المناطق الكونية الجميلة حيث اختطفته أحجاره الكريمة.
يقول أدسو: احتفظ نظامي (البنديكتي) بنفوذه كاملا عبر القرون فعلا من خلال وقوفه ضد الاكليروس العلماني والتجار المدنيين، جاعلا من نفسه الوسيط المباشر بين السماء والأرض ومستشار الملوك"
أحدثكم عن الرعاة والكلاب والنعاج (الاكليروس والمقاتلون وجمهور المؤمنين من الشعب)
ادسو: إن الكثير من رؤساء الاديرة البنديكتيين، لإعادة الهيبة إلى الامبراطور ضد حكومات المدن (أساقفة وتجار معا) قبلوا أن يحموا الفرنشسكانيين الروحانيين، وإن كانوا لا يشاطرونهم نفس الأفكار، لأن حضورهم يوفر للإمبراطورية حججا قوية ضد سلطة البابا المفرطة"
يلاحظ أن بوغوميلي من المانويين البلغار الثنويين. بوغوميل تعني عزيز على الله بالبلغارية
قال غوليالمو: المانويون شيء آخر. إنها هرطقة شرقية، خارجة عن مذهب الكنيسة. إنني لا أعرف إن كانوا اقترفوا حقاً الجرائم التي اتهموا بها، أعرف انهم كانوا يرفضون الزواج وينفون وجود الجحيم"
وأقول لكم
إن إعدام الزواج الحديث
يعني بالضرورة عدم وجود الجحيم!
قال غوليالمو: أقول إن الكثير من هذه الهرطقات، بقطع النظر عن الأفكار التي تدافع عنها، كانت تجد تجاوبا عند السذج، لأنها توحي إليهم بإمكانية الوصول إلى حياة أفضل. أقول إنه في كثير من الأحيان لا يفهم السذج شيئاً عن المذاهب. إن حياة العامة يا أبّوني لا يضيئها نور المعرفة ولا يقودها إدراك الفارق الذي يجعل منا نحن عقلاء، ويرهقها هاجس المرض والفقر، الذي يجد التعبير عنه بجهل. غالبا ما يكون الانتماء بالنسبة إلى الكثير منهم، إلى فريق هرطوقي وسيلة فقط مثل غيرها للتعبير عن اليأس."
نبحث في سلطة المدن الحرة في إيطاليا العصور الوسطى، ولماذا لم تتحول إلى بورجوازية سائدة؟
القرن الثاني عشر: "نشأت الكوميونات في شمال ووسط إيطاليا وشكلت المدن الصناعية والتجارية المزدهرة التي نمت في هذه الفترة جمهوريات تتمتع بالحكم الذاتي وسيطرت على الريف المجاور (كونتادو) وقد وجد الاباطرة الجرمان في نشأة هذه المدن خطراً يهددها، فساندوا ملاك الأرض الاقطاعيين الذين كانوا قاعدة حزب غيبلين. ضدها.
القرن الثالث عشر: بينما كان النظام البابوي يساند أهل المدن (البورجوازيون) والتجار الذين شكلوا حزب الجيلف وقبيل عام 1300 كانت طبقة كبار الملاك الاقطاعيين قد صفيت في شمال ووسط إيطاليا خلال المعارك الضارية التي نشبت بين المدن، وداخلها بين الأحزاب المتنافسة. شهد القرن الثالث عشر مولد اللغة الإيطالية كلغة للأدب في صقّلية، في بلاط فريدريك الثاني في البداية ثم في توسكانيا على يد دانتي (1265-1321)" (كراسات السجن)
السذج دواب تساق إلى المجزرة، يستعملون عندما يراد وضع سلطة الخصم في ازمة، ويضحى بهم عندما تنتهي الحاجة إليهم"
قال رئيس الدير: أيمكنك أن تقول لي إذن يا غوليالمو، أنت الذي تعرف كل شيء عن الهراطقة، حتى أنك تبدو واحداً منهم، أين توجد الحقيقة؟
غوليالمو: للأسف هي في بعض الأحيان، هي غير موجودة في أي مكان!
عندما أُحرقت مدينة بيزيي وقُتل كل الرجال، أجاب أرنالدو أمالريكو رئيس دير سيطو، عندما سألوه ما لعمل بأهالي بيزيي، المدينة المتهمة بالهرطقة؟، قال: اقتلوهم جميعاً وسيعرف الله اتباعه"!
قال أدسو: فقلت وقد انتابني اليأس: نحن نعيش إذن في مكان هجرته رحمة الله
فسألني غوليالمو وهو ينظر اليّ من علو قامته: هل وجدت من قبل أماكن أحس الله فيها نفسه في راحة؟
قال أدسو: وبينما كنت أتهيا للنوم قلت في نفسي أنه ما كان على ابي أن يرسلني عبر الدنيا. وهذا كما لو أن يسوع قال لأبيه: لماذا أرسلتني إلى العالم، وهذا شبيه أيضاً بلوم الشبلي للحلاج حين قال له:
يا صاحبي وحبيبي، أولم ننهك عن العالمين فما انتهيت
وقد كنت عطراً نائماً في وردته، لما انسكبت؟
وردة مكنونة في بحرها لما انكشفت؟ (بحث في مأساة الحلاج)
وقول يسوع وهو على الصليب: إلهي إلهي لماذا تركتني؛ إيلي إيلي لما شبقتني [متى: 27، 46] ونسأل كيف يسأله وهو الإله حسب الكنيسة القويمة؟
اليوم الثاني
بعد صلاة الستّار
وفيه يذكر الشيخ أليناردو، رغم قصر هذا الباب، أشياء هامة جداً حول المتاهة وحول كيفية الدخول اليها.
أقول لكم
نوم النهار
كخطيئة الجنس
كلما أصبت منه
كلما أردت الزيادة
ومع ذلك
يكون المرء غير سعيد
متخما وجائعا
في نفس الوقت
وأحدثكم
كيف قمنا بجولة قصيرة
في رواق الدير
وكيف شتتنا ضباب النوم
في هواء المساء البارد
قال أليناردو الشيخ: المكتبة متاهة. تلك المتاهة هي صورة من هذا العالم: فسيحة لمن يريد الدخول، ضيقة لمن يرغب في الخروج، المكتبة متاهة كبيرة، وهي دليل على متاهة العالم". ادخل إليها، لن تعرف إن كنت ستخرج. لا ينبغي أن نتعدى أعمدة هرقل.

اليوم الثاني
صلاة النّوم
وفيه يدخل غوليالمو وأدسو إلى الصرح ويكتشفان زائراً خفياً، ثم يعثران على رسالة غامضة تحمل علامات تنجيمية، ويختفي حال العثور عليه، كتاب سيتواصل البحث عنه في أبواب كثيرة أخرى، وآخر ما حصل سرقة عدستي غوليالمو النفيستين.
قال غوليالمو: إن اللذين تساءلوا إن كان المسيح قد ضحك قط كثيرون، الامر لا يهمني كثيراً أعتقد أنه لم يضحك أبدا، لأنه كان عالماً بكل شيء كما ينبغي أن يكون ابن الرب (ما كان وماو هو كائن وما سيكون) وكان يعرف ما ذا سنفعل نحن، المسيحيين" القويمين.
وأحدثكم
وأنا في ضوء الليلة المليئة بالنجوم
التي كانت تنير الرواق الفسيح
رأيت الشبح الذي كنت ألاحقه
وهو يدخل من باب قاعة الطعام
مغلقا الباب وراءه
قال غوليالمو: لو كان فنانسيو ساذجاً لا ستعمل الحروف البروجية المعتادة أكثر، أي أ الشمس، ب الزهرة الخ.. لم يكن فينانسيو غبياً. لقد أعاد تركيب الحروف حسب مفتاح آخر وينبغي أن اكتشفه.
وسأله ادسو: وهل ذلك ممكن؟
نعم لو كان لدينا القليل من معرفة العرب. إن أروع الدراسات حول الشيفرات الغامضة كتبها علماء كفار (عرب مسلمون). وفي اوكسفورد استطعت أن أحصل على احداها لقراءتها. لقد صح قول باكون عندما أكد أن التمكن من العلم يمر من خلال معرفة اللغات. لقد كتب أبو بكر احمد بن علي بن واشية النباتي، منذ عدة قرون كتاب "رغبة المخلص الغامرة في معرفة رموز الكتابات الغابرة" وعرض عدة قواعد لتركيب ولفك رموز الحروف الغامضة، صالحة للشعوذة ولكن ايضاً للمراسلة بين الجيوش، أو بين ملك وسفرائه. لقد رأيت كتباً عربية تعرض مجموعة من الوسائل حقاً عبقرية. يمكنك مثلاً أن تعوض حرف بحرف آخر، أو تكتب الحرف مقلوباً، أو تضع الحروف في نظام معاكس، أو أن تأخذ مرة حرف ومرة لا، ثم تعيد الكرة من جديد. يمكنك كما هو الحال هنا تعويض الحرف بالعلامات البروجية، معطياً للحروف الخفية قيمتها العددية وبعد ذلك، حسب حروف ابجدية أخرى، تعويض الأرقام بالحرف.
واضح انشغال الرواية بالعلوم والتأليفات العربية في العصر الوسيط. وفيها تلميح إلى "حساب الجُمَّل" العربي.
فكرة نسق ينيرني شبيهة بالفكرة المطلقة الهيغلية التي تنير للعلم الاجتماعي التاريخي طريقه. المطلق ينير الطريق أمام البحث الاجتماعي-التاريخي المُقيّد.
قال غوليالمو: أضع قاعدة في الرأس فرضية واتحقق إن كانت صحيحة
تذكر: ليست هناك كتابة سرية لا يمكن فك رموزها بقليل من الصبر.
تذكر أنه على المحقق الكفء أن يشك بادئ ذي بدء فيمن يبدون له صادقين.
اليوم الثاني
ليلاً
وفيه يتوغل أدسو وغوليالمو أخيرا داخل المتاهة، وتحدث لهما رؤى عجيبة، ثم وكما يقع عادة في المتاهات يتيهان.
نعم أيها الفارس الشجاع، أنت الذي لاحقت بكل شجاعة عدواً حقيقياً في قاعة الكتابة، ترعبك الان صورتك. مرآة ترد اليك صورتك مضخمة ملتوية.
قال غوليالمو بمرح: يجب أن تقرأ بعض الكتب في علم البصريات كما قرأها دون شك مؤسسو هذه المكتبة. وأحسنها هي كتب العرب، كتب الرازي وابن الهيثم.
أدسو: ليست حروفاً أبجدية (لاتينية) ولا يونانية
غوليالمو: إنها عربية. هل هناك كتب أخرى؟
نعم واحد باللاتينية لـ الخوارزمي، لوحات الخوارزمي الفلكية، ترجمها أديلاردو دا باث، انه كتاب نادر.
تايع: عيسى بن علي: "في علم البصر"، والكندي: "حول أشعة الكواكب"، نصوص أخرى في علم التنجيم.
قال غوليالمو: لقد وجدتك تهذي عند أسفل طاولة توجد فوقها نسخة مستعربية (معرّبة) من سفر الرؤيا، مفتوحة في صفحة عليها امرأة متسربلة بالشمس وهي تواجه التنين" إنهم يحرقون هناك مواد قادرة ان تحدث رؤى. لقد تعرفنا على الرائحة، إنها مادة يستعملها العرب.
أعشاب، مرايا، مكان العلم هذا المحجّر، تحرسه ابتداعات علمية كثيرة، هنا يستخدم العلم للتغطية عوض الاستنارة، هذا لا يعجبني (قال غوليالمو).
اليوم الثالث
من صلاة الحمد إلى أولى
وفيه يقع العثور على ثوب ملطخ بالدم في حجرة برينغاريو وكفى
اليوم الثالث
ثالثة
وفيه يفكر أدسو وهو بقاعة الكتابة في تاريخ جمعيته الرهبانية وفي مصير الكتب.
قال أدسو: كنت أراقب الرهبان. وراعني انكبابهم على أعمالهم بهدوء وطمأنينة كأنّ البحث لم يكن يفتقد اثنان آخران في ظروف مريعة. فقلت في نفسي، تلك هي اذن عظمة رهبانيتنا التي شهد رجالها من أمثال هؤلاء، طيلة قرون، عصابات الهمجية تغير وتنهب اديرتهم، ورأوا ممالك تسقط في دوامات من النيران، ومع ذلك تمادوا في شغفهم بالرقوق والحبر وواصلوا ترتيلهم الخافت لكلمات تناقلوها على مر القرون وبدورهم ينقلونها إلى القرون اللاحقة: لقد تابعوا القراءة والنسخ بينما كان العام الألف يقترب، فما يمنعهم الان من مواصلة ذلك؟"
لا شك يجب على "الراهب" أن يحب كتبه بخشوع، باحثاً من خلالها عن الخير لا عن غرور الفضول: ولكن إغراء المعرفة عند الرهبان هو بمثابة إغواء الجنس عند غير الكنسيين أو بمثابة التلهف على المال عند رجال الكنيسة النظامية (الرسمية)"
بالنسبة إلى أولئك الرجال الذين كرسوا حياتهم للكتابة تعتبر المكتبة في الان نفسه أورشليم المقدسة وعالماً سفلياً على الحدود بين الأرض المجهولة والجحيم. لقد كانت تسيطر عليهم المكتبة بوعودها وبممتنعاتها." إنه اغراء وغرور فكري ما أبعده عن ذلك الراهب الناسخ الذي نتصوره قديساً ومؤسس رهبانيتنا الذي كان ينسخ دون فهم مستسلماً لإرادة الرب"
احدثكم
عن غرور الجدل
الذي يريد عرض كل سر وكل عظمة
على غربال الجزم والنفي"
أقول لكم
قطعة النقود تبقى مادياً كاملة
حتى عبر أشنع المقايضات
أقول لكم
إن الافراط في الرقة
يجعل المحارب متخاذلا قاصرا
والافراط في الحب التملكي الفضولي
يجعل الكتاب عرضة للمرض والتلف
اليوم الثالث
سادسة
وفيه يبوح سلفاتوري إلى أدسو بقصته التي لا يمكن تلخيصها في كلمات قليلة، ولكنها أوحت إليه بالكثير من التأملات المقلقة للبال.
أقول
كنت أرى على وجهه تكشيرة البائس الذي كان يأكل الجثة
أحدثكم عن قوة المخيلة التي تجمع ذكرى الذهب وذكرى الجبل، فتكون فكرة جبل من الذهب
وأحدثكم عن الذين هربوا عند اقتراب جثة القديس المعجزة خوفاً من أن يشفيهم من عاهاتهم فيحرمهم بذلك من مصدر ربحهم، لكن القديس عاقبهم بأن أعاد إليهم القدرة على استعمال اعضائهم.
واحدثكم كيف فهم من الفرنشسكانيين أنه لا ينبغي اعتبار عيشة الفقر والتسكع التي كان يعيشها وكأنها حتمية بائسة، بل كعمل تكريسي يبعث على البهجة، وشيئاً فشيئاً اعتبر تشرده رسالة ينبغي ان يضطلع بها، فعمل في سبيل الإله ما كان يفعل من أجل بطنه. هذا ما فعله سلفاتوري.
التجأ سلفاتوري أثناء تشرده إلى جهة تولوز، حيث سمع حكاية غريبة، كانت تروي أعمال الصليبيين العظيمة. فقد اجتمعت يوماً مجموعة كبيرة من الرعاة والفقراء في موكب كبير ليجتازوا البحر ويحاربوا أعداء الدين. كانوا يريدون في الحقيقة الهروب من أرضهم الملعونة. وكان هناك قائدان أوحيا لهم بنظريات خاطئة، أحدهما قس حُرم من كنيسته والآخر راهب مرتدٍ نظام القديس بنيدكت." الحق أقول لكم: كانت الحروب الصليبية هروب من الجحيم الاقطاعي.
واصطفوا للمعركة في سهل سان جرمان، لكن لم يجرؤ أحد ان يتقدم إليهم. ثم خرجوا من باريس متجهين نحو أكيتان وقتلوا كل اليهود الذين صادفوهم هنا وهناك وسلبوا أملاكهم.
قال أدسو: فسألت سلفاتوري: ولماذا اليهود؟ فأجاب: ولما لا؟ وفسر لي أنهم سمعوا طيلة حياتهم من الواعظين أن اليهود أعداء المسيحية وأنهم يجمعون تلك الأملاك التي حرموا هم منها. فسألته إن لم يكن صحيحاً أيضاً أن الأملاك كان يجمعها الاسياد (النبلاء) والأساقفة عن طريق ضريبة العشور، وأن الرعاة إذن لم يكونوا يكافحون ضد أعدائهم الحقيقيين".
لم يكن الاسياد يريدون أن يضع الرعاة أملاكهم في خطر وكان من حسن حظهم أن يوعز قواد الرعاة إلى أتباعهم فكرة وجود أموال كثيرة في حوزة اليهود". لم يكن الرعاة يعرفون شيئاً عن البابا ولكنهم يعرفون اليهود". أحس ملك فرنسا ببعض الرفق باليهود لأنهم كانوا ذوي نفع في تجارة المملكة. كان ينبغي القضاء على الرعاة ليؤدب باقي المسيحيين، لكن الكثير من المسيحيين لم يطيعوا الملك، رأيا منهم أنه ليس من العدل الدفاع عن اليهود، الذين كانوا دائما أعداء الدين المسيحي. وفي كثير من المدن فرحت عامة الناس، خاصة أولئك الذين كتب عليهم ان يدفعوا الربا لليهود، للعقاب الذي سلطه عليهم الرعاة من أجل ثرواتهم"
قال أدسو بعد أن سمع قصة سلفاتوري: وبدأت أفهم الفرق بين المجزرة التي تقوم بها مجموعة، تحت تأثير انخطاف يكاد يكون وجدياً وقد اشتبهت لديها نواميس الشيطان بالنواميس الإلهية، والجرم الفردي المدبر ببرودة دم، في الصمت وفي المكر"
ونظراً لما حصل لديه (سلفاتوري) من تجربة في الاعمال اليدوية، (التي كان قد قام بها لأهداف خسيسة عندما كان يتسكع حراً ولأهداف مقدسة عندما أصبح يتسكع حباً بالمسيح) اتخذه القيم في الحال كمساعد له. وهذا يفسر لماذا بقي هناك سنين طويلة، غير مهتم ببذخ الرهبانية واهتم كثيراً بإدارة قبو النبيذ ومخزن المؤونة، حراً أن يأكل دون ان يسرق وأن يشكر الإله دون أن يتعرض للحرق"
اليوم الثالث
تاسعة
وفيه يُحدّث غوليالمو أدسو عن الموجة الهرطيقية الكبرى وعن وظيفة البسطاء في الكنيسة وعن شكوكه بخصوص معرفة القوانين العامة، ويقصّ عليه بإيجاز كيف تمكن من فك رموز العلامات الغامضة التي تركها فينانسيو
قال غوليالمو: هذا الدير حقيقة عالم مصغر، وعندما يصلنا مبعوثو البابا جيوفاني، والاخ ميكيلي سيكتمل الشمل"
يتحدث غوليالمو عن وحدة الطبيعة الإنسانية. وعندما يحرق انسان يحرق جوهره الفردي.
أقول لكم: في البحر تضمحل جميع الأنهار وتكوّن دلتا.
عندما يجيء الحديث عن الهراطقة يقع ذكرهم معاً، مع أنهم من أجيال مختلفة وفترات متباعدة.
قال غوليالمو: لا يستطيع البسطاء أن يختاروا هرطقتهم يا أدسو، إنهم يتشبثون بمن يأتي إلى أراضيهم بنظرية أو يمر عبر القرية أو بساحة المدينة. وأعداؤهم ينتهزون ذلك. فعندما يظهرون للشعب هرطقة واحدة، قد تنادي في نفس الوقت برفض المتعة الجسدية وبالتشارك في الأجساد، فتلك مهارة في فن التبشير: لأنها تظهر الهراطقة في مظهر خليط واحد من التناقضات الشيطانية الجارحة للإحساس العام"
قال غوليالمو: أظن أن الخطأ هو الاعتقاد بان الهرطقة تأتي أولاً، ثم يأتي البسطاء الذين يتهالكون عليها (ويهلكون فيها). في الحقيقة تأتي أولاً وضعية البسطاء ثم الهرطقة." أقول لكم: هذا مهم! تأتي الهرطقة لتعبر عن استيائهم من الوضع القائم.
وأحدثكم عن مشوهين قد تعفن لحمهم حتى أصبح ابيضاً، كانوا يمشون على عكازاتهم، وجفونهم منتفخة، وعيونهم دامية. لم يكونوا يتكلمون أو يصيحون، كانوا يصفرون كالفئران.
وأقول لكم: لا يتغير ما بأمة الرب مالم يرجع إلى متنها العائشون على حاشيتها (هامشها)
واصل هؤلاء الذين وقع اقصاؤهم عن قطيع النعاج على هامش المجتمع، وهم المجذومون الحقيقيون، وليس المرضى بالجذام إلا صورة وضعها الإله حتى نفهم هذه الاستعارة الرائعة ونفهم معنى "مقصيين فقراء بسطاء محرومين مقتلعين من أريافهم مذلولين في المدن". لقد بقي سر الجذام يستحوذ على فكرنا لأننا لم نفهم طبيعته الدلالية. واقصاؤهم عن القطيع جعلهم مستعدين لسماع أو لخلق كل بشارة تستعيد اقوال المسيح، وتعرّض للاتهام فعلا تصرفات الكلاب والرعاة واعدة بأنه سيأتي يوم يجدون فيه عقابهم."
استرجاع المقصيين يحتم التقليل من امتيازات أهل الحول والطول، ولذا يُتهم المقصيون الذين يستيقظ فيهم الوعي بوضعيتهم كمقصيين بالهرطقة، بقطع النظر عن نظريتهم، وهؤلاء من جهتهم-وقد أعمتهم وضعيتهم كمقصيين-لا يهتمون في الحقيقة بأية نظرية. هذا هو خداع الهرطقة. جميعهم هراطقة وجميعهم أرثوذوكسيون. لا تؤخذ العقيدة التي تأتي بها الحركة بعين الاعتبار ما يهم هو الامل الذي تعرضه (على الاخرين).
أقول لكم: كل الهرطقات علامة لواقع الاقصاء. اكشط الهرطقة تجد تحتها الجُذام
لأنها لا تهتم إلا نادراً بالعقيدة، وهمها الظفر بالسلطة، لذا تتهم الكنيسة الرومانية بالهرطقة كل أعدائها"
أقول لكم: لكلٍ حجته المعقولة، وكلهم أخطأوا. إن أقصى ما يمكن عمله هو أن ننظر أحسن
قال غوليالمو: إن للبسطاء شيئاً لا يملكه العلماء، الذين غالباً ما يتيهون وراء البحث عن قواعد عامة جداً. إنهم يدركون ما هو فردي ولكن هذا الادراك وحده لا يكفي. إن البسطاء يحسون بحقيقتهم، التي ربما هي حقيقة أكثر من حقيقة علماء الكنيسة، ولكنهم يستهلكونها في أعمال غير متبصرة. ما لعمل؟ أنعطي العلم إلى البسطاء؟ هذا سهل جداً أو صعب جداً. ثم أي علم؟ هذا الموجود في مكتبة أبّوني؟ غالباً ما طرح الفرنشسكانيون على أنفسهم هذا المشكل. لقد كان بونفانتورا العظيم يقول ينبغي على الحكماء أن يوضحوا مفاهيم تلك الحقيقة المختفية وراء أعمال البسطاء." أحيانا تأتي بعد فوات الأوان، وعندما تأتي تكون حقيقة البسطاء قد تحولت إلى حقيقة أصحاب السلطة. كيف يمكن الوقوف إلى جانب تجربة البسطاء مع الحفاظ إن استطعنا القول، على قوتها العملية، وعلى قدرتها على العمل من أجل تغيير العالم وجعله أفضل؟ كان هذا مشكل باكون، حيث يقول: أنه حتى في إدارة الأشياء العملية، أكانت آليات أو فلاحة او حكم مدينة، يلزم نوع من اللاهوتية.
وأقول لكم: لا بد من أيديولوجية تاريخية تضبط هذه الاعمال وتوجهها وتقودها
اليوم الثالث
صلاة الستّار
وفيه يجري غوليالمو محادثة أخرى مع رئيس الدير وتخطر بباله أفكار عجيبة لفك لغز المتاهة وينجح في ذلك بالطريقة الأكثر معقولية، ثم يأكل أدسو وغوليالمو فطيرة من الجبن.
الاختراع الأكثر بداهة وصفه عربي، بيلق القبياكي، خذ وعاء مليئاً بالماء وضع بداخله قطعة فلين تطفو فوق الماء وقد شكت بها أبرة من الحديد ثم مرر فوق الماء الحجر المغناطيسي بحركة مستديرة حتى تحصل الابرة على خاصيات الحجر، عند ذلك تتجه الابرة نحو الشمال.
أقول لكم ولا أدري لماذا: لم أر ابدا آلة وصلت إلى الكمال في أوصاف الفلاسفة، وكانت كاملة في استعمالها الميكانيكي، بينما منجل الفلاح الذي لم يصفه أي فيلسوف يعمل كما ينبغي"
غالبا ما تقول الخرافات الحقيقية (الميثولوجية) أنه لا وسيلة للخروج من متاهة إلا بمعونة (إعانة) خارجية. (كالخروج من الكابوس أثناء النوم)
سنستعمل علوم الرياضيات. في علوم الرياضيات فقط كما يقول ابن رشد تتطابق الأشياء المعروفة لدينا وتلك المعروفة اطلاقاً.
لاحظ الاهتمام بعلوم العرب وفلاسفتهم، وتكرار طرح مسألة العام والخاص والتي هي أساس ميتافيزياء أرسطو
قال غوليالمو: أقصى البلبلة من خلال أقصى نظام، يبدو لي حسابا رائعا.
إن كل علة لمعلول طبيعي تتجلى من خلال خطوط وزوايا وصور وإلا أصبح من المستحيل اكتشاف السبب الذي من أجله وجدت فيه. إنها كلمات أحد كبار أساتذة أوكسفورد.
قلت بإعجاب: ولكن كيف حدث أنك قدرت على حل سر المكتبة ناظراً إليها من الخارج ولم تنجح في ذلك عندما كنت بداخلها.
كذلك هي معرفة الرب للعالم، لأنه تصوره في عقله قبل خلقه فكأنه من الخارج، بينما نحن نجهل قاعدته لأننا نعيش بداخله ووجدناه مهيأ." وهكذا يمكن معرفة الأشياء بالنظر إليها من الخارج. وهو ما يسميه ابن جني بالفسر، أي التشخيص بمساعدة العلامات والاعراض.
اليوم الثالث
بعد صلاة النوم
وفيه يقص أوبارتينو على أدسو قصة الأخ دولتشينو، وأدسو من جهته يتذكر أو يقرأ في المكتبة قصصاً أخرى، ثم يحدث له أن يلاقي صبية جميلة ومرهبة كجيش بألوية.
درس دولتشينو يُعلّم كيف أنه، من حب التوبة والرغبة في تطهير العالم، يمكن أن ينشأ الدمار والدم "
وأحدثكم كيف تعيش الهرطقة بعد موت الهراطقة أنفسهم."
قال أوبارتينو: لا شيء أدعى للارتياب من الحب، إذ أنه يلج الروح أكثر من أي شيء آخر، لا يوجد أي شيء يشغل ويقيد القلب كالحب. ولذا عندما تنعدم الأسلحة التي تقاومه، تهوي الروح من أجل الحب في مهلكة عظيمة."
أعتقد أنه دون فتنة مرغريتا ما كان لدولتشينو أن يرمي بنفسه إلى التهلكة الأبدية، ولا كانت تلك الجموع أحست بجاذبية ثورته، لولا حياة الصلف والاختلاط التي كانوا يعيشونها فوق "الجبل الاقرع".
لكن ما قصة مارغريتا هذه التي تظهر في "فاوست" غوته وتكون رفيقة المعلم في رواية بولغاكوف العظيمة "المعلم ومارغريتا. " وتظهر في عمل يوجين أونيل المسرحية "الإله الكبير براون" حيث يقع ديون في حبها؟!
حتى الحب الذي تحسه الروح، إن لم نتسلح لمقاومته، بل تقبلناه بوجد، فهو يسقط بعد ذلك أو يعمل بطريقة فوضوية. إن للحب خصائص متعددة، فالروح ترق في البداية من أجله، ثم تسقط عاجزة. ولكنها بعد ذلك تحس بحرارة الحب الإلهي الحقيقية وتصرخ وتتألم، وتجعل من نفسها حجارة في مصهر، وتتفرقع وسط ألسنة اللهب"
وأضاف: عندما تغري الشياطين روحك تحس بنفسك كالمشنوق من عنقه، وقد قُيّدت يداه خلف ظهره وضمدت عيناه فيبقى معلقاً في المشنقة وهو حي، دون غوث دون سند، دون حيلة يدور في الفراغ."
لم يشفق البابا على الاسرى (من جيش دولتشينو) وأمر الاسقف بإعدامهم. أحرق دولتشينو بطريقة شنيعة، وسلوكه فوق المحرقة كيف كان؟ أكان ثبات الشهداء أم كبرياء الهالكين؟
تذكرت فجأة مشهداً رأيته قبل بضعة أشهر كدت أنساه إلى ذلك الحين، وكأنّ نفسي المريضة أرادت فسخ ذكرى كانت تثقلها وكأنها كابوس"
واتفق وأن رأيت وجه المحكوم عليه، الذي كانت تحجبه عني بين الفينة والأخرى الجموع التي كانت أمامي. فشاهدت وجه من كان ينظر إلى شيء ليس على هذه الأرض كما كنت أرى ذلك أحياناً على وجوه أصنام القديسين المنخطفين في الرؤى. وفهمت أمجنون كان أم مستبصرا، كان يريد الموت عن إدراك واع لاعتقاده أنه بموته سيهزم عدوه، مهما كان. وفهمت أن مثاله سيؤدي بآخرين إلى الموت. إلا أنني بقيت مندهشاً أمام ذلك الثبات، لأنني إلى الان لا أدري إن كان يغلب على هؤلاء تفانيهم المغرور من أجل الحقيقة التي يؤمنون بها، الذي يجرهم إلى الموت، أم تغلب عليهم رغبتهم المغرورة في الموت التي تجعلهم يبرهنون من خلاله على الحقيقة التي يؤمنون بها، أيا كان نوعها. وكان ذلك يملؤني اعجاباً ورهبة." وذهل الجميع لأنه كان يواجه الموت وهو يمزح"
سمعت أحداً من جديد يصيح: ما هذا إذن الذي تريد أن تموت من أجله؟ فأجابه إنها حقيقة تسكن أعماقي، ولا يمكن البرهنة عليها إلا بالموت"
وقال له تلميذه: ما هذا الحال يا شيخ؟!
أجاب الحلاج وهو على الصليب مضرجاً بدمه: دلال الجمال!
أقول لكم: لا يكتمل توحيد الحلاج إلا في موته.
الاشعاع الرائع كي تضيء والاجّة النارية كي تحرق
لا شيء يبعث على الشجاعة قدر خوف الاخرين.
ولكن أكان هناك حقيقة فارق بين اللذات التي كان القديسون يتحدثون عنها وتلك التي كانت نفسي المتهيجة تحس بها في تلك الآونة؟ في تلك اللحظة زالت مني تلك القدرة الحذرة على فهم الفارق. وهذا فعلا حسب رأيي، الدليل على الانخطاف في مهاوي الذاتية."
أحدثكم
عن الصبية
التي ظهرت أمامي فجأة
إنها كالعذراء السوداء الجميلة
التي يتحدث عنها نشيد الأناشيد
ينفتح ثوبها الكتاني الخشن
دون احتشام فوق الصدر
وقلادة من الحجيرات الملونة
تطوق عنقها
رأسها يعلو مزهواً
عنقها أبيض كبرج من العاج
عيناها صافيتان
كمسابح حشبون
أنفها برج لبناني
وشعرها بلون الارجوان
وهمست معيداً الجملة التي سمعتها من قبل
جميل حقاً ذلك النهد الذي يبرز قليلا
ممتلئ قليلا
لكنه لا يتموّج بدعارة
فنهديها ظهرا لي كأنهما شادنان
توأمان من الغزلان
يرعيان بين الزنابق
وبدت سرتها كأسا مستديراً
لا يفرغ أبدا من الخمر
وبطنها كومة من القمح
تحف بها أزهار الوادي
وأقول لكم
عندما يأتي الحُب المجنون
تنهار جميع الاسوار
أقول لكم
من تكون
هذه التي تقف أمامي كالفجر؟!
جميلة كالقمر
ساطعة كالشمس
رهيبة كجندي شاكي السلاح
وأقول لكم
وقد بقي ما يكفي لدي من القوة
لأقول
هو ذا صدري
كالخمر الجديد
لا ثغرة فيه
يحطم القرب الجديدة
أقول لكم
هناك حكمة غامضة
تجعلنا
نسمي أحداثاً مختلفة فيما بينها
بعبارات مماثلة
هي نفسها التي تجعلنا
ندل على الأشياء الإلهية
بأسماء أرضية
أقول لكم
لم يكن هدوءً
بل كان كاشتعال أخير
لنار تتباطأ في الانطفاء
تحت الرماد
بعد موت لهيبها
لن أتردد في ان اسمي سعيدا
من أمكنه أن يحس بشيء مماثل
أقول
لو قدر لأحدكم أن ينعم لحظة واحدة
وبصفة خاطفة
بما تنعمت به
فسينظر في الحال بعين السخط
إلى هذا العالم الفاسد
وسيثيره خبث الحياة اليومية
وسيحس بثقل جسم الموت
وأقول لكم
وفجأة نبهني غياب الشيء
الذي أهاج رغبتي
وشفى غليلي
إلى طيش تلك الرغبة
وإلى ضلال ذلك العطش
وأقول
"جميع الحيوانات كئيبة
بعد الجماع"
اليوم الثالث
ليلا
وفيه يعترف أدسو وهو فريسة للاضطراب، إلى غوليالمو بخطيئته، ثم يفكر في دور المرأة في رسم الكون، ولكنه يكتشف بعد ذلك جثة رجل.
أقول لكم: إن دور المرأة في رسم الكون أنها جسد الرجل.
أقول لكم
يمكن للإله أن يظهر بصورة رجل
لكنه اختار قبل ذلك
أن ينزل في بطن امرأة
وعندما قام بعد الموت وبُعث
ظهر لامرأة
وملكة السماء امرأة بقرة
فأي مجد أنثوي هذا المجد!
يستخدم الكاتب كلمة شبح ليشير إلى أشخاص الرجال والنساء
اليوم الرابع
صلاة الحمد
وفيه يفحص سيفيرينو وغوليالمو جثة برينغاريو، ويكتشفان أن لسانه أسود، وهو أمر غريب بالنسبة لغريق. ثم يتحدثان عن سموم فتّاكة، وعن سرقة وقعت في ماض بعيد.
أقول: إن الحدث الذي يقع مرة أو يتكرر حدوثه لا يفضي بالضرورة إلى قاعدة عامة. ليس المنطق والقياس سلاح شامل لكن صلاحيته تتوقف على الطريقة التي يستعمل بها. وعلينا أن نخرج منه بعد انتهاء الصلاحية.
احدثكم عن أعشاب سامة
الداتورة وست الحسن والشوكران (السم الذي تجرعه سقراط) يمكنها أن تحدث استرخاء أو هيجاناً، أو كلاهما معاً. عندما تستخدم بحذر تكون أدوية نافعة جداً، وبمقادير مفرطة تؤدي إلى الموت. وهناك فول القديس اينياتسو والانغتورة وجوزة القيء وهي قادرة على قطع النفس. ولكن لا تترك واحدة منها آثارا على الأصابع.
اليوم الرابع
أولى
وفيه يستدرج غوليالمو سلفاتوري أولا ثم القيم على الاعتراف بماضيهما، ويعثر سيفرينو على العدستين المسروقتين ويأتي نيكولا بأخريين جديدتين. ويمضي غوليالمو بست أعين لفك رموز مخطوط فينانسيو.
كان كرنفالا عظيما، وفي الكرنفال ينقلب كل شيء. ثم تصير شيخاً، ولا تصبح عاقلا بل نهماً، وهنا أرضي نهمي، تستطيع أن تدين هرطيق، ولكن أتريد أن تدين نهماً؟
اليوم الرابع
ثالثة
وفيه يتخبط أدسو في آلام الحب، ثم يأتي غوليالمو ومعه نص فنانسيو، الذي بقي غامضاً، حتى بعد فك رموزه.
أحدثكم عن فائدة اغتسال الاعتراف ونعيمه، وبالفعل ما فائدة هذا الاغتسال إن لم يكن لإلقاء حمل الخطيئة، والندم الناتج عنه، في حضن سيدنا نفسه، فنحس، مع الصفح، بخفة هوائية تنعش الروح، بحيث ننسى الجسد الذي جرحته الرذائل.
أقول لكم: يجب قول كل شيء، باحتشام نعم، ولكن دون خجل.
أحدثكم عن تلك السيئة التي أدانها بولس الرسول في الرسالة الأولى إلى أهل كورونثوس
تلك هي "الرغبة القوية في الامتلاك" ولا تقبل "المشاركة في المعشوق"
أقول لكم: الحب السعيد لا يترافق مع الحسد ولا الرغبة القوية بحب التملك فالمحب لا يشعر بالحسد من وجود المحبوب.
أقول لكم: كم كان منظر الطبيعة جميلاً ولم تمسّه بعد يد المعرفة الإنسانية، التي غالباً ما تكون منحرفة.
وأحدثكم عن الحمل agnus من كونه حيوانا أغنوسيست؛ يعرف أمه بالذات ويعرف صوتها وسط القطيع، بينما الام، وسط حملان كثيرة لها شكل واحد وثغاء واحد، تعرف دائماً وفقط ابنها وتغذيه وأقول من عرف امه عرف نفسه؛ فأمّه هي نفسه.
أحدثكم عن الكلب وقدرة لسانه الاعجازية التي هي كناية التطهير من الخطايا من خلال الاعتراف والتوبة، وفي عودة الكلب إلى أكل ما كان تقيأه كناية إلى نكوص المرء بعد الاعتراف إلى ارتكاب نفس الخطايا.
أقول لكم: يا لعظمة أدنى جمال! ويا لها من متعة أن تتأمل عين الفكر بانتباه، لا في أشكال الأشياء وأعدادها ومراتبها فحسب، وقد وضعت في مثل ذلك التناسب عبر الكون بأجمعه، بل وأيضاً في مرور الأزمنة التي تمتد في تتابع وعثرات يرسمها موت ما ولِد"
أقول لكم: الكلمة هذا السم المريع، الذي يعطي الطهارة، هو السلاح الأفضل لإهلاك العدو.
أحدثكم عن أشجار التين الجليلة وعن الزيزان والحجارة، وعن الحَجرة عديمة الحياء تتدحرج إلى السهل تحت الاعين.
أحدثكم كيف كانت الكتب تتحدث فيما بينها، والمكتبة مكان لتهامس طويل وسحيق، لحوار لا يدرك بين رق ورق، هي شيء حي ومأوى لقوى متراكمة من القدم لا يقدر الفكر الإنساني السيطرة عليها. كنز من أسرار أبدعتها عقول كثيرة وبقيت حية بعد موت مبدعها ورسولها. أحيانا لا تكون المكتبة والكتاب أداة لنشر الحقيقة بل برزخاً لتأجيل ظهورها.
وعلينا في هذا السياق ذكر "العقل الفعّال" أو "الوحي" كقوة انتاج تراكمية، وعلاقته بالمكتبة والكتاب.
اليوم الرابع
سادسة
وفيه يذهب أدسو لجمع الكمأ، ويرى الفرنشسكانيين وهم قادمون ويكون لهؤلاء حديث طويل مع غوليالمو وأوبارتيني وعرف عدة أشياء محزنة عن جيوفاني الثاني والعشرين.
أقول لكم: عند ذلك الارتفاع من الصعب التمييز بين الضباب الاتي من تحت وذلك الذي ينزل من فوق.
أحدثكم عن سحر الكلام البشري، الذي يحدث باتفاق الجماعة، غالبا ما يعنى بأصوات متماثلة، أشياء مختلفة.
أقول يمكن من خلال الريح التي تصفر الإحساس بالصراع المتبادل بين النسائم البحرية وأنفاس البر المثلجة. وهذا القلب لدور البر والبحر من عمل التهكم وانحطاط التاريخ.
أقول لكم: لو تأخرت الرؤيا الطوباوية كل ذلك التأخير، كيف يمكن للموتى أن يتوسطوا للأحياء؟
اليوم الرابع
تاسعة
وفيه يصل الكاردينال دل بودجيتو، وبرناردو غي ورجال أفينيون الآخرون، ثم يقوم كل واحد بأشياء مختلفة.
أقول لكم: كان يحقق بطريقة فريدة، مستعملا سلاحاً رهيبا ستعمله كل محقق عند قيامه بمهامه وهو خوف الاخرين، لأنه في العادة كل معني بالتحقيق مطلوب اليه، خشية أن يشتبه فيه، يقول للمحقق ما يمكن أن يلقي بالشبهة على آخرين.
إن المحقق البابوي برناردو غي لم يواجه أبدا أو نادرا الرهبان، وإنما كان يسأل دائماً الاخوان العوام أو الفلاحين، عكس ما فعل غوليالمو إلى ذلك الحين."
اليوم الرابع
صلاة الستّار
وفيه يبدو أن أليناردو يعطي معلومات ثمينة، ويكشف غوليالمو عن منهجه للوصول إلى حقيقة محتملة من خلال سلسلة من الأخطاء المحتملة.
قال غوليالمو لأدسو محاولا شرح المنهج التأويلي الرمزي: إذا وجدنا أنفسنا أمام معلومة أو معلومتين أو ثلاث معلومات معينة لا شيء البتة يجمع بينها في الظاهر، ونحاول تصور أنه يمكن أن تكون حالات متعددة لقاعدة عامة لا نعرفها وربما لا تبين أبداً.
قال أدسو: بدا أن غوليالمو لا تهمه كثيراً الحقيقة، التي ليست سوى التطابق بين الشيء والعقل. كان هو على العكس يتسلى بتصور أكثر ما يمكن من الإمكانيات.
أعترف أنني في تلك اللحظة يئست من أستاذي (وهذا اليأس خيانة شبيهة بخيانة يهوذا للمسيح) ووجدت نفسي أفكر: من حسن الحظ أن محكمة التفتيش قد وصلت "، وانحزتُ إلى تعطشي إلى معرفة الحقيقة، ذلك التعطش الذي يحرك برناردو غي (تعطش لمعرفة حقيقة دعوة المسيح من قبل اليهود ليدان بهذه الحقيقة ويعدم). في تلك الحالة الفكرية المذنبة، وقد فاق ارتباكي ارتباك يهوذا ليلة الخميس المقدس، حيث (العشاء الأخير للمسيح مع تلاميذه وتقريب يهوذا منه، حيث ذهب يهوذا إلى الكهنة ليسلمهم يسوع)، دخلت مع غوليالمو قاعة الأكل لتناول طعام العشاء (وكأنه العشاء الاخير)!
اليوم الرابع
صلاة النوم
وفيه يتحدث سلفاتوري عن سحر مُعْجِز
اليوم الرابع
بعد صلاة النوم
وفيه يزور أدسو وغوليالمو المتاهة من جديد، ويصلان على عتبة قاعة "أقصى إفريقيا" ولكنهما لا يتمكنان من الدخول إليها، لأنهما لا يعرفان ما هو الأول والسابع من بين الأربعة، وأخيراً يقع أدسو من جديد في مرض الحب وقوعاً علمياً إن شئنا.
أقول لكم: كان كل كتاب بالنسبة إليه (غوليالمو) بمثابة حيوان خرافي يعترضه فوق أرض مجهولة.
أحدثكم عن ذلك الزمن حيث يتسلى النحويُون لنسيان عالمهم الشرير، بمسائل معقدة، لقد قيل لي إنه في ذلك الزمن، لمدة خمسة عشر يوماً وخمس عشرة ليلة، تناقش الخطيبان غابوندوس وتيرانسيوس حول الحرف الندائي (Ego) وفي النهاية استعملا السلاح.
إن كلمة الرب توافق الفردوس الأرضي، التي هي، كما يقول الجميع بعيدة نحو الشرق، في اليمن السعيد".
إذن ينقل رسم المكتبة خارطة العالم والكون. وكلمة الرب تعني هبوط الإله وتدخله لإصلاح العالم. وهذا التدخل فعل معْجِز.
كانت القاعة S من YASPANIA دون نوافذ تؤدي إلى القاعة E وأخذنا نطوف عابرين قاعات البرج الخمس إلى الأخيرة، دون ممر آخر، وتحمل حرف L بالأحمر، ثم قرأنا بطريقة معاكسة فوجدنا LEONES – الجنوب، على خريطتنا نكون الآن في أفريقيا "هنا توجد الأسود". وهذا ما يفسر لماذا وجدنا هنا نصوصاً بتلك الكثرة لكتّاب كفار (عرب مسلمين) فقلت والقول لأدسو: وأنا أفتش في خزانة "وها هنا كتب أخرى. " القانون" لابن سينا، وهذا المخطوط الجميل بخط لا أعرفه."
-من الزخرفة يبدو قرآن، ولكن للأسف لا أعرف العربية
- القرآن كتاب الكفار، إنه كتاب ضالّ
-كتاب فيه حكمة مختلفة عن حكمتنا. ولكنك تدرك لماذا وضعوه في هذا المكان، حيث الأسود والوحوش. لذلك رأينا ذلك الكتاب حول المخلوقات الفظيعة، وحيث وجدت وحيد القرن الخرافي. هذا القسم الذي يسمى LEONES يحتوي على تلك الكتب التي اعتبرها مؤسسو هذه المكتبة كتب بُهتان، ماذا يوجد هناك؟
إنها باللاتينية ولكنها مترجمة إلى العربية. أيوب الرحاوي، دراسة حول رُهاب الماء عند الكلاب، وهذا كتاب الكنوز. وهذا "في علم البصر" للخازن.
غوليالمو: أرأيت لقد وضعوا بين الوحوش والاكاذيب كتب علم أيضاً فيها الكثير مما يمكن للمسيحيين أن يتعلموه. هكذا كان الناس يفكرون في العهود التي أسست فيها المكتبة.
أقول: إن علماء المعرفة القديمة والصحيحة دائماً، الذين أعطونا وصفاً أولياً وفيّاً للأشياء، والذين أتاح لهم الرب فرصة لرؤية أشياء لم نرها نحن، أقول: وذلك الوصف في تنقله من سلطة علمية إلى أخرى، تَغيّر لتتابع التركيبات الخيالية، فأصبح وحيد القرن حيواناً ميثولوجياً، أبيض وديعا."
كيف يمكن أن نثق بالمعرفة القديمة، التي تقتفي أنت دائماً أثرها، بينما نقلتها إلينا كتب كاذبة أولتها بكثير من الحرية.
الكتب لم توضع لكي نؤمن بها، ولكن كي نتحرى فيها. لا يجب أن نتساءل أمام كتاب ماذا يقول ولكن ماذا يريد أن يقول، وهي فكرة كانت واضحة جدا عند مفسري الكتب المقدسة القدامى. يلمح الكاتب هنا إلى المنهج التأويلي المجازي الرمزي الذي قال به فيلون السكندري ومارسه على نصوص التوراة في علاقتها بالفلسفة اليونانية؛ خاصة أفلاطون.
الذي يتساءل أمام كتاب بماذا يريد أن يقول؟ فهو نصي يريد بنيوياً استنطاق النص حسب حروفه ودلالة ألفاظه على الحقيقة. أما التساؤل عما يريد أن يقول الكتاب من دون وجود قرائن لفظية كافية او أنها بالكاد ظاهرة والاعتماد على حال الاقوال، فهذا عمل تأويلي رمزي يكثر في كتابات القدماء. ومع ذلك على المؤول أن يحقق الدلالة اللفظية أولاً قبل أن يدخل في باب التأويل الرمزي. يقول غوليالمو: بخصوص الحقيقة الحَرْفيّة التي تقوم عليها الثلاث الأخرى، يبقى أن نرى من أية تجربة أصلية نشأ اللفظ. يجب أن نناقش اللفظ، حتى عندما يكون المعنى الإضافي صحيحا. لقد ذكر في بعض الكتب أن الماس لا يقطعه إلا دم تيس. فقال استاذي الكبير روجي باكون أن ذلك غير صحيح (لجهة التجربة الحسيّة؛ لجهة المعنى الحرفي للنص)، لأمر بسيط لأنه جرب ولم ينجح. ولكن لو كان لعلاقة الماس بدم التيس معنى سامٍ (مجازي رمزي)، فذلك المعنى يبقى سامياً (صحيح مجازياً). هذا أمر مهم لفهم عبارات القدماء الرمزية والمجازية، التي إن أخذت حرفياً كانت غير صحيحة وأحياناً مضحكة. ويضيف: ووحيد القرن الخرافي كما تتحدث عنه هذه الكتب يخفي حقيقة أخلاقية، أو رمزية أو تأملية، تبقى حقيقية، كما تبقى حقيقية أن العفة فضيلة نبيلة.
قال أدسو: إذن يمكن أن نقول حقائق سامية (مجازية) ونكذب بخصوص المعنى الحرفي"
قال غوليالمو: هذه الكتب لا تتحدث عن الكائن الواقعي فهي تتحدث عن الكائن الممكن (التخيّلي). أي لا تتحدث عما هو كائن، بل عما يجب أن يكون؛ لا تتحدث عن الوجود الواقعي بل عن الوجود الواجب الممكن. إنه تنظر إلى المستقبل.
لذلك تبقى فضيلتان الهيتان أخريان: الرجاء أن يوجد الممكن وجوداً فعلياً، والمحبة نحو من آمن بإخلاص بهذا الرجاء.
قال أدسو: ولكن ما منفعتك بوحيد القرن الخرافي إن كان فكرك لا يؤمن به؟
غوليالمو: وحيد القرن الخرافي في الكتب هو كالأثر. إن وجد الأثر فيجب أن يكون هناك الشيء الذي هو منه أثّر."
الفكرة دلالة على الشيء، والصورة دلالة على الفكرة، دلالة الدلالة، ولكن من الصورة أعيد تركيب، إن لم يكن الجسم، فالفكرة التي أخذها عنه الاخرون."
ويكفيك ذلك؟
كلا، لأن العلم الحقيقي لا يجب أن يكتفي بالأفكار، التي هي فعلاً دلالات، ولكن يجب ان يعثر على الأشياء في حقيقتها الفردية. ففي الحلم، نحن نعود من الصورة إلى الشيء.
قال غوليالمو: Idolum الصورة في المرآة! كان فينانسيو يفكر باليونانية، وفي تلك اللغة أكثر مما في اللاتينية، eidolon (عديل، عِدْل) في نفس الوقت الصورة والشبح (ظهور الصورة الإلهية الشبحي: ظهورها بالشخص الذي هو عِدْلُها) Supra سوبرا تعني ما وراء: سوبرا الطبيعة : ما وراء الطبيعة . المرآة باب وحجاب، فوراء المرآة باب.
لقد اكتشفنا سر المتاهة من الخارج أكثر من الداخل.
في نقطة ما بينما كنا نطوف في قاعات البرج الجنوبي ، تلك المسماة Leones حدث أن توقف استاذي في قاعة ثرية بالكتب العربية والتي تحتوي على رسوم غريبة في علم البصريات، وبما أننا كنا في تلك الليلة نحمل سراجين، تحولت أنا بدافع الفضول إلى القاعة المجاورة ، على طول أحد جدرانها كتباً لا تسلم لأي أحد تتحدث عن أمراض متنوعة تصيب الجسم والعقل، وتكاد تكون كلها من تأليف علماء كفار (عرب مسلمين) ووقع نظري على كتاب غير كبير عنوانه: Speculum amoris للراهب ما سيمودا بولونيا ، روى فيه شواهد منقولة عن مؤلفات أخرى عديدة، كلها حول مرض الحب" وتأثرت وأنا أقرأ ، الذي يعرف الحب كمرض عضال ، دواؤه فيه ، والمريض به لا يريد الشفاء منه ، ولا يبتغي الخروج منه. والحب ينفذ من العين كما يقول بازيليو دانتشيرا.
إن تلك الكآبة "السوداء والمرة" متأتية من نفس الثعبان ومن وسوسة الشيطان. وهي فكرة يشاطرها أيضاً كفار في نفس المستوى من الحكمة. إذ وقع نظري على السطور المنسوبة إلى أبي بكر محمد بن زكريا الرازي، الذي يطابق في كتاب "الحاوي" كآبة المحب بالذئبية، وهي تدفع المصاب بالحب للتصرف مثل الذئب. وأخيراً لم يبق لدي شكوك
حول خطورة حالتي عندما قرأت استشهادات لابن سينا العظيم، حيث يعّرف الحب بأنه هاجس معذِّب ذو طبيعة كئيبة، ينشأ من التفكير وإعادة التفكير في قسمات وحركات أو عادات شخص من جنس مقابل لا ينشأ كمرض ولكنه يصبح مرضاً عندما لا يلاقي إرضاء فيصبح هاجساً استحواذياً.
يذكر يوسف زيدان تفاصيل علاج ابن سينا لمرض الحب في روايته "فردقان-سيرة الشيخ الرئيس ابن سينا". وهذا أثر آخر لرواية "اسم الوردة" على تأليفات زيدان الروائية خاصة رواية الذائعة "عزازيل".
اليوم الرابع
ليلاً
وفيه يفتضح أمر سلفاتوري من قبل برناردو غي، ويقبض على الفتاة المحبوبة بتهمة السحر ثم يذهب الجميع إلى النوم أكثر تعاسة وانشغالاً من ذي قبل.
وأحدثكم
كيف كان النبّالون يمسكون به بقسوة
شاحباً أكثر من بياض عينيه
وبامرأة كانت تبكي
وكيف أحسست بانقباض في قلبي
إنها هي
فتاة خواطري
متحدثا عن قط أسود كبير بعينين كبيرتين ملتهبتين، ولسان دام يصل إلى السرة وذنب قصير منتصب، كيفما يتحرك الحيوان يظهر فجور دبره النتن، كما يجدر بذلك الدبر الذي اعتاد دائماً متعبدو إبليس، وجنود الهيكل ليسوا الأخيرين، أن يقبّلوه أثناء اجتماعاتهم. وبعد أن طاف حول النساء لمدة ساعة قفز القط على حبل الجرس وتسلقه تاركاً وراءه بقاياه العفنة. أوليس القط هو الحيوان الذي يحبه المانويون الذين يستمدون اسمهم (catari) (كازاري) حسب آلان ديلو إيزولي من (catus) بالذات. لأنه يقبّلون من الحيوان مؤخرته وهم يعتبرونها تجسيداً للوسيفيروس (لوسيفر: الشيطان). ومن هنا يأتي اسم وليم كازاري في رواية "عزازيل" ليشير كناية إلى الدعوة المانوية وانتشارها حتى بلدان أوروبا.
إن كنيسة غنوصية بوجيميلية (نسبة إلى الكاهن بوجيميلوس المتأثر بالمانوية) قد بقيت قائمة في البوسنة حتى القرن الخامس عشر، وتحول من بقي من أتباعها إلى الإسلام.
وفي أرمينيا قامت كنيسة صنفت مهرطقة انضم إليها جماعات غنوصية تم تهجيرها من موطنها، أقامت في أرمينيا وشكلت مع جماعة أتباع التبنّي (النساطرة؛ نسبة إلى نسطوروس القرن الخامس الميلادي) مذهباً غنوصياً عرف بالمذهب البولسي نسبة إلى بولس الرسول. (الوجه الآخر) ومذهب التبني يعتبر عيسى أو يسوع نبياً لا إلهاً كما تدّعي الكنيسة الكاثوليكية. اعتبر البوجوميل كتاب العهد القديم من صنع الشيطان. ولم يتبنوا من الاناجيل سوى انجيل يوحنا. وهم يقولون بثنوية غنوصية معتدلة لا تجعل من الشيطان إلهاً مستقلاً، بل تجعله ابنا لله خرج عن طاعته وعصاه. هم يؤمنون بإله واحد أعلى خيّر، ويعتقدون أن الاله الطيب قد أنجب ابنه البكر لوسيفر، الذي يعني اسمه حامل الضياء، نظراً لشدة بريقه ولمعانه، إلا أن لوسيفر عصا أباه وسقط عن المستوى الروحاني الأعلى بمحض ارادته، وصار اسمه ساتانا-إيل أي الشيطان. (الوجه الاخر) أي زلت قدمه عن المستوى الروحاني الأعلى. والطاسين السادس من طواسين الحلاج الذي يتحدث فيه عن إبليس سميَّ بطاسين "الآزْل والالتباس".
وأشير هنا إلى أن لوسيفر هو العقل النظري بدون "اعتبار" ولا إيمان ولا أنبياء (الخلاص بالعِرفان لا الايمان هذا هو جوهر المذهب) وهو قريب إلى مذهب صابئة القرآن حيث يؤمنون بالكتب دون بالرسل. واضح هنا الهجوم الذي شنته الكنيسة الكاثوليكية على المانوية والبوجوميلية والكاثار (الطهرانيون وهم يوصمون بالكاتار، أي النجاسة، من القط كاتس). فبعد القضاء على البوجوميل في البلقان وأوروبا الوسطى، انتشرت أفكارهم إلى فرنسا عن طريق مناطق إيطاليا الشمالية، وتجلت في معتقد غنوصي جديد هو المعتقد الكاثاري (cathari )" (الوجه الاخر).
يظهر القط الأسود الضخم في قصة بولغاكوف "المعلم ومرغريتا" كتجسيد للشيطان الذي يزور موسكو السوفياتية الستالينية.
قال برناردو غي: استطاع البابا أن ينجو من السحر فقط لأنه محصن بجواهر معجزة في شكل لسان ثعبان (فارماكون). وقد أهدى إليه ملك فرنسا أحد عشر لساناً من تلك الالسن الثمينة" التي تردّ السم وتكشفه.
أقول لكم: هناك كلمات تعطي نفوذاً وأخرى تجعل صاحبها أكثر ضعفاً من ذي قبل. من هذا النوع الأخير كلمات البسطاء العامية، الذين لم يمنحهم الاله القدرة على التعبير باللغة الكونية، لغة العلم والنفوذ. والنفوذ هنا هو الاختراق والعبور إلى باطن الأمور، وهو السلطة التي تمتلكها هذه العبارة النافذة.
قال أوبارتينو: إنك تنظر إلى الساحرة، أليس صحيحاً؟ كنت أعرف أنه لا يمكن أن يكون على علم بقصتي، وأنه كان يتحدث كذلك فقط لأنه تفطن، لعمق معرفته بالعواطف الإنسانية، إلى عمق نظرتي.
قال أدسو مجيباً: ربما كنت أنظر اليها، ولكنها ليست ساحرة.
قال أوبارتينو: إنك تنظر إليها لأنها جميلة، إنها جميلة أليس كذلك؟ وألقى سؤاله بحرارة غريبة، ضاغطاً على ذراعي "إن كنت تنظر إليها لأنها جميلة وترتبك من أجل ذلك (وأعرف أنك ترتبك، لأنها متهمة بخطيئة تجعلها أكثر فتنة في عينيك) إن كنت تنظر إليها وتحس بالرغبة، فلذلك السبب هي ساحرة، حذار يا بني. إن جمال الجسد لا يتعدى الجلد. أقول: فتنة الجسدية لا تتعدى السطح الظاهر.
أجاب ميكلي على غوليالمو: سيكون الإله في عوني، وليتوسط بيننا القديس فرانشيسكو" (الجميع آمين)
فعقب غوليالمو متجاسراً: ولكن ليس ذلك مؤكداً، قد يكون القديس فرانشيسكو ينتظر في مكان ما يوم الدينونة الأخيرة دون رؤية الرب وجها لوجه " وهذه كناية عن ضعف حركة الفرنشسكانيين أمام البابا في هذه الظروف الرهيبة. وسمعت ميسير جيرولامو يغمغم ويقول: لعنة الله على الزنديق جيوفاني! إذا ما حرمنا من معونة القديسين، ماذا سيكون حالنا، نحن المذنبين المساكين؟" وهذه إشارة إلى أن رؤية وجه الرب لا تكون من دون قيامة حركة تاريخية مهيمنة منتصرة.
اليوم الخامس
أولى
وفيه تدور مناقشة أخوية حول فقر المسيح
وأحدثكم كيف أصبح ضباب اليوم الفارط ستاراً كثيفاً كالحليب يهيمن دون منازع على السهل، وكيف كانت الاشكال والاشياء والحيوانات تبرز بصفة مفاجئة من العدم، وكان الأشخاص يبرزون من الضباب، في البداية رماديي اللون كأنهم اشباح، ولا يمكن التعرف عليهم إلا بصعوبة.
أحدثكم عن السنتوريين: بشر إلى السرة وحمير ما تحت ذلك، وعن أولئك الذين لهم باطن قدم منقلب ومن يطاردهم متتبعاً آثارهم يصل دائماً إلى المكان الذي انطلقوا منه ولا يصل أبداً إلى المكان الذي وصلوا إليه"
هذا بعض ما كان منقوشاً على تلك البوابة. ولكن لم يكن أحدها يثير الخوف لأنها لم تكن تمثل شرور هذه الأرض وعذابات الجحيم، بل كانت شاهداً على أن البشارة بالخير قد وصلت إلى كل بقاع الأرض المعروفة تمتد إلى المجهول واعدة بالوفاق واتمام الوحدة تحت كلمة المسيح، وبشمول رائع. لكن كم من رجال أصبحوا أعداء لاختلاف تأويلهم للإنجيل!
افتتح أبّوني (رئيس الدير) الجلسة، فذكّر أنه في السنة الميلادية 1322 قرر مجمع الرهبان الفرنشسكانيين العام، الذي التأم في بيروجيا تحت زعامة ميكيلي دا تشيزينا وبعد مداولة جادة ومعمقة، أن المسيح كي يعطي مثال الحياة الكاملة، والحواريين كي يتبعوا تعاليمه، لم يشتركوا ابدا في ملك شيء لغاية الامتلاك أو لغاية السيادة، وأن هذه الحقيقة تكون المادة لعقيدة صحيحة وكاثوليكية، كما يمكن استخلاص ذلك من استشهادات مختلفة من الكتب الكنسية" (المذهب الفرنشسكاني)
وبعد مناقشة حق الاستعمال وحق الملكية، قال جيرولامو أسقف قيافا: بدأ محاجة بدت لي غامضة بعض الشيء، فقال: إن ما أريد أن أقوله للاب المقدس، وسأقول له ذلك بنفسي، وليصوبني إن أخطأت، لأني أظن حقيقة أن جيوفاني نائب المسيح، ومن أجل هذا الاعتراف اعتقلني المسلمون" وتابع بما معناه: إذا نفينا إنسانية المسيح يغدو الكلام عن الفقر والغنى الدنيوي لا معنى له لا في الاستعمال ولا في الملكية. بالطبع الإسلام ينفي كون المسيح الهاً ولد من الهة (ثيوتوكوس)، بالتالي يقر ببشريته ويطرح مسألة أملاك المسيج الدنيوية على بساط البحث والسجال.
رد جيوفاني دالبينا: يبدو لي صحيحاً العكس بالذات، لأن كل الاناجيل تقول إن المسيح كان بشراً إذ كان يأكل ويشرب وكان أيضاً رباً لمعجزاته الواضحة تمام الوضوح، وكل هذا جلي حقيقة للعيان."
ربّ: اصلاح الشيء والقيام عليه (الاشراف) فالرب المالك والخالق والصاحب والرب المصلح للشيء. لزوم الشيء والمقيم عليه. الملازم للشيء والقائم عليه. (مم ج2) وباب الشيء ربّه، وكاليهم بابهم وربّهم وهو المشرف عليهم والمقيم على رعايتهم. وراعيهم كلبهم وهو بابهم والمشرف عليهم (وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ ۚ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ ۖ وَكَلْبُهُم بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ) [الكهف: 18]
كان ربا لمعجزاته أي قائم عليها ملازمة له. طالما هو موجود هي موجودة.
قال أدسو: فسألت استاذي بينما كان ألبوريا يتحامل على لحية أسقف قيافا "أليست هناك حجج أخرى لأثبات أو نفي فقر المسيح؟"
فأجاب غوليالمو: "ولكن يمكنك يا عزيزي أدسو أن تؤكد الامرين، ولا يمكنك أبدا ان تثبت معتمداً على الاناجيل إن كان المسيح يعتبر ملكه، وإلى أي حد القميص الذي كان يرتديه ثم يلقيه فيما بعد لأنه بال. ثم إن اردت فرأي توما الاكويني حول الملكية أكثر جرأة من رأينا نحن الفرانشسكانيين. نحن نقول "لا نملك شيئاً وكل ما لدينا لنا فقط الحق في استعماله". ويقول هو (الاكويني) "يمكنكم أن تعتبروا أنفسكم مالكين على شرط، أنه عندما يحتاج أحد إلى شيء هو ملككم أن تسمحوا له باستعماله، لا كصدقة بل كفرض. ولكن القضية ليست إن كان المسيح فقيراً، ولكن إن كان يجب أن تكون الكنيسة فقيرة. وفقيرة لا يعني امتلاك قصر أم لا، بل الاحتفاظ أو العدول عن حق التشريع في الأمور الدنيوية".
إن أقوال الفرانشسكانيين حول الفقر يخدم لعبة الامبراطور ضد البابا وصلاحيات الكنيسة التشريعية في الأمور المدنية الدنيوية. قال أدسو: نريد أن تكون لعبة الامبراطور في صالح لعبتنا نحن وأن تستخدم لموقفنا من الحكم البشري"
أقول لك: أيها الحبيس بين قوتين متضاربتين، كحمار لا يدري، بين كيسين من التبن، من أي كيس يأكل.
قال غوليالمو لعل من واجبي أن أتكلم، على كل حال اكتب يا أدسو ليبقى على الأقل أثر (على رقّ) مما يحدث اليوم. وهنا يلعب غوليالمو بالنسبة لأدسو في " اسم الوردة" نفس الدور الذي يلعبه عزازيل بالنسبة إلى هيبا في رواية "عزازيل" كي يدوّن ما يوحى اليه.
"وكان هيبا قد باع نفسه لعزازيل (الشيطان) أربعين يوماً مكث فيها يدوّن سيرته كاملة منذ خروجه أيام أخميم إلى وقت مغادرته الدير بعد انقضاء الأجل؛ أجل الكتابة: فلما قضى الأجل وأتم سيرته خرج في الصباح الباكر من الدير واضعاً الرقوق في صندوق حيث وارى سوءته تحت التراب والحجارة الكبيرة عند بوابة الدير، وقد دفن معه خوفه الموروث وأوهامه القديمة كلها، ثم رحل مع شروق الشمس حراً " (أوزبر جبرائيل)
أقول لكم: أنتم تعرفون أن المحبة عماد الحياة الكاملة وليس الفقر، هذا ما قاله ذلك الجشع صاحبكم توما.
اليوم الخامس
ثالثة
وفيه يحدّث سيفرينو غوليالمو عن كتاب غريب ويحدّث غوليالمو أعضاء القصادتين عن تصور غريب للحكم الدنيوي.
أحدثكم عن إيمارو داليساندريا الذي تلقانا بابتسامته الساخرة المعتادة والتي تنم عن الرثاء لغباوة الكون بأكمله، وقال: أكيد منذ أن ظهرت أنظمة المتسولين أصبحت الكنيسة أكثر عفة"
أقول لكم: حتى من خلال الصمت تقال أشياء كثيرة!
قال غوليالمو: باعتبار أن الاله أعطى لآدم وورثته السلطة على الأشياء على هذه الأرض، شريطة ان يمتثلوا للشريعة الإلهية، فالظن جائز أن الاله نفسه لم تكن تغيب عنه الفكرة أنه بخصوص الأشياء الأرضية يكون الشعب هو المشرّع والعلة الأولى الفعلية للشريعة" .
يبدو أن هذا كان هو رأي النبي بخصوص شكل الحكومة الاسلامية. (علي عبد الرازق: الإسلام وأصول الحكم). وافترض أن الطريقة التي يمكن للشعب فيها أن يعبر عن ارادته يمكن أن يتطابق مع مجلس عام منتخب.
لقد قال الاله لآدم ألا يأكل من شجرة الخير والشر (شجرة معرفة الخير والشر)، وتلك هي الشريعة الإلهية، ولكن فيما بعد شجعه كي يعطي الأسماء للأشياء، وحول ذلك ترك الحرية لعبده الدنيوي، وفعلا ورغم ان بعضهم في عصرنا هذا (غوليالمو) يقول: الأسماء متأتية من الأشياء " فسفر التكوين واضح حول هه النقطة: قدم الرب للإنسان كل الحيوانات ليرى كيف يسميها وكيفما يسمي الانسان كلا من تلك المخلوقات الحية فسيكون لك اسمه. وإن كان من المؤكد أن الانسان الأول كان من الادراك بحيث سمى في لغته الفردوسية، كل شيء وكل حيوان كلا حسب طبيعته، فإنه لم يكن يمارس أيا من الحقوق المطلقة في تصور الاسم الذي حسب رأيه يناسب تلك الطبيعة أكثر. إذ أصبح الان بالفعل معروفا أن الأسماء التي يعطيها البشر للدلالة على المفاهيم مختلفة، بينما المفاهيم بالنسبة إلى الجميع واحدة، وهي دلالات على الأشياء. (الدال والمدلول؛ الاسم والمعنى). بحيث يكون من المؤكد أن كلمة nomen تأتي من كلمة nomos أي القانون، فعلا لأن الأسماء يعطيها الانسان كيفما أراد، أي بتواضع أو مواضعة الجماعة البشرية المعنية.
قال غوليالمو: لا أحد يقدر أن يجزم أن المسيح طلب لنفسه ولرفقائه أية سلطة زمنية، فالإعراض عن الأشياء الدنيوية يبدو له دليلا كافيا، لكي نعتبر، دون ارتكاب خطيئة، أن يسوع قد اختار الفقر"
فسأل الكاردينال: ولكن لماذا تكلمت طويلا؟ قال غوليالمو لأشهد بالحقيقة فالحقيقة تجعلنا احراراً.
انفجر جيوفاني دالبينا وقال: الكلام هنا ليس عن الحقيقة التي ستجعلنا أحرارا، ولكن عن الحرية المفرطة التي تريد أن تصبح حقيقة!
اليوم الخامس
سادسة
وفيه يعثر على سفرينو مقتولاً ولا يعثر على الكتاب الذي وجده
كلا، هه عربية أيها الغبي! صدق باكون عندما قال: أول ما يجب على العالم فعله هو دراسة اللغات

اليوم الخامس
تاسعة
وفيه تقع المحاكمة ويبقى الانطباع المحيّر بأن الجميع قد اخطأوا
أقول لكم ليست هناك تهمة أكثر كيداً من التهمة بجمع بقايا الهراطقة "، بقاياهم الجسدية.
قال ريميجيو وهو تحت الاعتراف امام المحقق: ربما كنا فريسة رغبة مفرطة في العدالة، يمكن ارتكاب الخطيئة من الافراط في حب الله أيضاً، لوفرة الكمال."
قال غوليالمو: مهما كان نوع الطهارة فهي تخيفني دائماً". قال أدسو: ولكن ماذا يخيفك في الطهارة؟ قال غوليالمو: التسرّع!
العدالة ليست مستعجلة، كما يظن الرسل الكذّابون، وعدالة الربّ أمامها قرون تتصرف فيها!
قال ريميجيو بعد أن هدّه التعب وهو يهذي: بحكم السحر الذي أمارسه الان حسب كتاب القديس شبريانو السحري، أذكر اسماء كل زعماء فيالق الجحيم العظمى، أدرامالك وألاستوز وأزازال (عزازيل). (وهذا الأخير أعطى رواية يوسف زيدان اسمها)
قال لي غوليالمو ونحن نشهد هذيان ريميجيو واعترافه: ليكن ذلك درساً لك، تحت التعذيب أو عندما يهدد المرء بالتعذيب، لا يقول فقط ما فعله ولكن ما كان يريد أن يفعله، حتى وإن كان لا يعرف ذلك "
قال برناردو غي: إنه لأمر كبير وإنها لمحنة شاقة تلك التي يقاسيها من ناداه الرب"
اليوم الخامس
صلاة الستّار
وفيه يلوذ أوبارتينو بالفرار، ويأخذ بانشيو في احترام القوانين ويقوم غوليالمو ببعض الملاحظات حول أنواع الشهوة المختلفة التي اعترضتنا ذلك اليوم.
أحدثكم عن جبروت الشروط وأسألكم
من منا يقدر اليوم أن يقول إن كان اغاممنون على صواب أم برياموس عندما كانوا يتنافسون من أجل جمال امرأة هي الآن من رماد؟"
قال أدسو: كلما تقدمت بي السنون وسلمت نفسي لمشيئة الله، كلما قل اعتباري لذكاء من يريد أن يعرف، ولإرادة من يريد أن يفعل: وأرى أن النجاة الوحيدة في الايمان، الذي يعرف كيف ينتظر بصبر دون أن يتساءل كثيراً. وأحدثكم عن النجاة وعن الايمان العارف الذي يعرف كيف ينتظر وكيف يخلّص.
قال غوليالمو: أجد متعة كبيرة ولذة قصوى في حل معضلة شديدة التعقيد. قد يكون ذلك لأنني، في الوقت الذي أشك فيه كفيلسوف أن للعالم نظاماً، أتعزّى حتى إن لم أكتشف نظاما، فعلى الأقل باستنباط سلسلة من العلاقات بمقادير صغيرة بين قضايا العالم. وأخيراً ربما يكون هناك سبب آخر: وهو أنه في هذه القصة ربما دخلت أشياء أكبر وأهم من الصراع بين جيوفاني ولودفيكو." أي ربما طرأت ظروف جديد وشروط جديدة بدأت تفعل فعلها، مهمشة الصراع بين البابا جيوفاني والامبراطور لودفيكو. وقد يكون هذا نوع من تلميح الكاتب إلى بدايات ظهور البورجوازية على المسرح الأوروبي. لا يمكن الكشف عن نظام الأشياء دون دراسة الشروط والظروف الجديدة.
(عن الشهوة وأنواعها وفعلها)
بعد ذلك قال لي غوليالمو "بانشو ضحية شهوة كبيرة، تختلف عن شهوة برنغاريو أو شهوة القيِّم. كالعديد من الدارسين لديه شهوة المعرفة. المعرفة لنفسه. عندما كان مقصيّاً عن ذلك العلم، كان يريد الاستحواذ عليه. الان أصبح ملكه. كان ملاخي يعرف صاحبه واستعمل أحسن طريقة لاسترجاع الكتاب ولختم شفتي بانشيو. ستسالني لماذا يحفظ كل ذلك الرصيد من العلم إن لم يكن يراد وضعه تحت تصرف كل الآخرين ومن أجل هذا بالذات تحدثت عن الشهوة. لم يكن تعطش روجي باكون إلى العلم شهوة، لأنه كان يريد استعمال العلم ليجعل شعب الرب أكثر سعادة، لم يكن إذاً يبحث عن العلم من أجل العلم. أما فضول بانشيو فهو تعطش لا يروى، هو صلف الفكر، ووسيلة كغيرها يتخذها الراهب لتحويل رغباته الجنسية، أو هو الحماس الذي يجعل من شخص آخر مقاتلا من أجل العقيدة، أو من أجل الهرطقة. ليست هناك فقط شهوة الجنس. وما صدر عن برناردو هو أيضا شهوة، شهوة منحرفة للعدالة تتطابق مع شهوة السلطة. وما يصدر عن حبرنا المقدس وغير الروماني هو شهوة المال. إنها شهوة الشهادة والتغيير والتوبة والموت تلك التي كانت تتملك القيّم عندما كان شاباً. وهي شهوة الكتب تلك التي تتملك بانشيو. وككل شهوة، وكشهوة أونان الذي كان يسكب منيه على الأرض، هي شهوة عقيم، ولا علاقة لها بالحب، حتى بالحب الجنسي."
وأحدثكم
عن الشهوة العقيمة
شهوة أونان
الذي يسكب منيه على الأرض
في شقاق مع الحب الجنسي
وكالذي يبحث عن العلم
من أجل العلم
في صلف للفكر
أقول لكم الخير بالنسبة لكتاب هو أن يُقرأ. الكتاب مصنوع من دلالات تتكلم عن دلالات أخرى تتكلم بدورها عن الأشياء. وبدون العين التي تقرأه يبقى الكتاب حاملا لدلالات لا تنتج مفاهيم فيظل إذن أخرس"
اليوم الخامس
صلاة النوم
وفيه يستمع إلى خطبة حول قدوم المسيح الدجّال ويكشف أدسو تأثير أسماء الاعلام.
أما يورج فقد كان يضيء وجهه النصب الذي كان ينير وحده جناح الكنيسة، وكان نور الشعلة يزيد من الظلمة التي كانت تغشى عينيه، اللتين أصبحتا شبيهتين بثقبين أسودين"
إن الآثام التي يرتكبها الانسان لا تنسب إلى قساوة الطبيعة في انتظامها الذي لا يرحم والتي تنظم يومنا الدنيوي من المهد إلى اللحد.
كان ينبغي أن يخون أحد يسوع حتى يكتمل سر الخلاص. منذ زمن وحيّة الغرور تنساب وسط هذه المجموعة، ولكن أي غرور؟ غرور السلطة في دير منعزل عن الدنيا؟ دون شك لا غرور المال. لقد قال رب اليهود: أنا ذلك الذي هو، وقال سيدنا انا الطريق، والحقيقة والحياة، وأنا هو نور العالم! هي ذي، المعرفة ليست سوى التأويل المنذهل لهاتين الحقيقتين.
يحكى عن خليفة من الشرق أنه أحرق يوماً مكتبة مدينة مشهورة مجيدة وفخورة، وبينما كانت آلاف الكتب تحترق قال إنه بإمكانها، بل من واجبها أن تندثر: لأنها إما تعيد ما قاله القرآن، وإذن فهي عديمة النفع، أو أنها تعارض ذلك الكتاب الذي يقدسه الكافرون (العرب المسلمون)، وإذن فهي مضلّة." وهذه إشارة إلى أمر عمر وقت خلافته بحرق مكتبة الإسكندرية حين فتح المسلمون مصر بقيادة عمر بن العاص. أقول لم: هذه المسألة موضع خلاف شديد.
لم ير علماء المسيحية ونحن معهم الأشياء من نفس الوجهة، كل ما هو تعليق وشرح للكتابات يجب الحفاظ عليه، لأنه يزيد من عظمة الكتابات المقدسة. وما يعارضها يمكن دحضه.
أحدثكم عن النبأ الخير في كلمات الملاك الأخير الذي يتكلم في آخر سفر من الكتابات المقدسة "لأني أشهد لكل من يسمع أقوال نبوّة هذا الكتاب إن كان أحد يزيد على هذا يزيد الله عليه الضربات المكتوبة في هذا الكتاب. وإن كان أحد يحذف من أقوال كتاب هذه النبوة حذف الله نصيبه من سفر الحياة ومن المدينة المقدسة ومن المكتوب في هذا الكتاب" يبدو هذا التحذير تخويفاً لمنع زيادة نصوص أو حذف نصوص أو تحريفها. القرن الذي نعيشه يسعى بكل جهده لوضع تذييلات جديدة للحقيقة، محرّفاً معنى تلك الكلمة الثرية بكل التعليقات.
أقول لمن سعى ويسعى لفك أختام الكتب التي لا تعنيه، إن الاله أراد معاقبة ذلك الغرور وسيواصل عقابه إن هو لم يتراجع ويتواضع إذ لا يصعب على الاله أن يجد دائماً، وفي كل مرة، بسبب ضعفنا، الوسائل ليثأر لنفسه" هذا عقاب الفضول والتلصّص على الاسرار من دون استعداد مسبق. وفي الكلام إشارة إلى استحواذ الإله على بعض النفوس المتعصبة.
أحدثكم عن الدورة الكبرى للكون أو "السنة الكبرى" حسب هيرا قليطس أو الكور حسب الباطنيين، تحدث بعد عدة أدوار (الاكوار والادوار). الكور يدل على دور وتجمّع. وقولهم "الحور بعد الكور" أي رجع ونقص بعدما كان (الحور بعد الكون).
إن كنتم أنتم تخافونه فأنا لا أخافه، وسأقول ذلك الاسم بصوت عال جداً حتى تتلوى أمعاءكم من الرعب، وتصطك أسنانكم حتى تقطع ألسنتكم، وحتى يسقط التجمّد الذي سينتاب دمكم غشاء مظلماً على عيونكم، إنه الوحش الرجس، إنه المسيح الدجال" المسيح الدجال ليس رجلا، عندما يأتي فهو يأتي من الجميع للجميع (مزاج عصر منحطّ وكون آفل من دون ظهور أشراط وعلامات البديل التاريخي) وكل واحد هو جزء منه"
أقول: كم أود أن أشفق عليكم ولكني لا أجد زيتاً في أوعيتكم.
قال أدسو: الان عرفت أن غوليالمو كان يتنبأ بالغيب، أو بالأحرى كان يقيس قياساً منطقياً على أساس مبادئ الفلسفة الطبيعية."
وقد بينا من قبل فساد وتهافت هذا "القرن الشديد" والربط المطلق بين السبب والنتيجة في قياس منطقي أرسطي. وهذا عيب كبير في الفلسفة العقلانية الطبيعية. ومن هنا يكون كلام أدسو ضرب من التعريض الساخر والتهكم.
اليوم السادس (يوم التحوّل)
وفيه "يجلس" الامراء، ويسقط ملاخي صريعاً على الأرض
أقول لكم: كانت الرطوبة عند اجتيازي الرواق تنفذ إلى عظامي التي هرسها النوم المضطرب. ورغم أن الكنيسة كانت باردة فقد ركعتُ تحت تلك القباب بزفرة ارتياح، بملجأ من العناصر، يطمئنني دفء الأجساد الأخرى، والصلاة."
اليوم السادس
صلاة الحمد
وفيه يُعين قيّم جديد ولكن لا يُعيّن حافظ مكتبة جديد
ينبغي تصور كل الأنساق المحتملة، وفي آن واحد اختلالها جميعاً"
اليوم السادس
أولى
وفيه يقص نيكولا أشياء عديدة أثناء زيارة قبو الكنز
على حافظ المكتبة أن يعرف العربية واليونانية
هناك في كاستيليا كان يورج يقرأ كتب العرب وكتب العلماء اليونانيين وهو لا يزال أمرد.
قال أدسو ورأيت في علبة أخرى من الفضة المرصعة بأحجار الجمشت، وكان جانبها الامامي شفاف، قطعة من الخشب المكرّم متأتية من الصليب المقدس، جلبته إلى ذلك الدير الملكة إيلينا نفسها، والدة الامبراطور قسطنطين، عندما ذهبت للحج في الأماكن المقدسة وحفرت هضبة الجلجلة والضريح المقدس وبنت فوقهما كنيسة كاتدرائية."
بالطبع لا توجد أية آثار مادية تدل على صلب المسيح، وهذه المبادرة من ألينا نوع من مزج المسيحية بنوع من الوثنية الرومانية. لا توجد آثار مادية للأماكن التي زارها يسوع حسب الاناجيل المكرسة، بحسب الأبحاث والحفريات اللاحقة لحفريات إيلينا أم قسطنطين.
قال غوليالمو وهما في قبو الكنوز: هذا القبو خلاصة رائعة للمجادلات التي استمعت إليها هذه الأيام. والان عرفت من أجل ماذا يتناحر زملاؤك عندما يطمحون لمنصب رئيس الدير"
قال غوليالمو: لا تفتخر كثيراً بهذه الذخائر، لقد رأيت الكثير من قطع الصليب في كنائس أخرى. لو كانت كلها اصلية لكان سيدنا قد صلب، لا على لوحين متقاطعين، بل على غابة كاملة"
قال غوليالمو: رأيت منذ مدة في كاتدرائية كولونيا جمجمة يوحنا المعمدان، وهو في سن الثانية عشرة". بالطبع، ليس ليوحنا المعمدان جمجمتين، فقد أعدم وعمره فوق الثلاثين!
كان غوليالمو يضحك فقط عندما يقول أشياء جادة، بينما يحافظ على وقاره عندما ينطق بأشياء من الواضح أنه قالها على سبيل المزاح"
اليوم السادس
ثالثة
وفيه يجد أدسو نفسه، وهو يستمع لنشيد "يوم الغضب" داخل حلم أو رؤيا كما نشاء أن نقول.
كان ملاخي انسانا مسكينا، تضنيه شهوات لم يقدر على إرضائها، وعاء من طين داخل وعاء من حديد، قد أصبح حزيناً لأنه كان حائراً وأصبح صامتاً ومراوغاً لأنه كان يعلم أنه ليس لديه شيء يقوله، "
أقول لكم: وسقطتُ منهكاً في همود مضطرب منطوياً على نفسي كمخلوق لا يزال سجين بطن أمّه، وفي ضباب الروح ذلك وجدت نفسي في مكان ليس في هذه الدنيا، وعشت حلماً أو رؤيا لا أدري"
أقول لكم: كانت تتبع تلك المرأة الجميلة كالفجر، إناث اخريات تلبسن ثياب مزركشة بزهور الحقول. وكانت احداهن ترتدي معطفاً دمشقياً أصفر، فوق ثوب وردي شاحب مزركش بأوراق خضراء وبمربعين كبيرين مطرزين في شكل متاهة داكنة.
أحدثكم كيف كان يسوع يتبختر في ثوب متموج الألوان، ويتهم يهوذا ضاحكاً بأنه لا يعرف ابدا المزاح في حبور خليّ البال"
لمعرفة مُخمّس سليمان، انظر كتاب محي الدين ابن عربي حول المخمّس العرشيّ خالي الوسط.
كان حلم أدسو مشهداً من رؤيا، حيث تُحرق الفتاة "الساحرة" وتقتل، شبيهاً بموت هيباتيا في رواية "عزازيل".
المسيحية المكرّسة القويمة تدمير للجسد الإنساني في سبيل تقديس الغبار والاشياء الميتة.
كل ضيوف الوليمة قد أصبحوا الان محنطين في القبو، وقد أصبح كل واحد صورة مجازية كناية عن نفسه، راحيل عظم ودانيال سن، وعيسى خرقة ثوب أرجواني. في ختام المأدبة عندما تحول الحفل إلى مجزرة الفتاة، تحولت تلك المجزرة إلى مجزرة كونية وشاهدت أنا نتيجتها النهائية، تلك الأجساد التي استحالت جسداً واحدا ميتاً مقطعاً ومعذباً كجسد دوليتشينو (جسد فاوست الملعون) وقد أصبح كنزاً متعفناً ومتألقاً" من الأشياء والغبار.
وكالجلف الذي يعصر عنقود العنب عندما يحس بالعطش، كان ذلك الوحش الأسود الكبير ذو الألف يد، يضغط بقوة على الذين أمسك بهم فيهشمهم جميعاً بيديه، يكسر ساق هذا ويدق رأس ذاك، ثم يلتهمهم، وبعد ذلك يتجشأ ناراً أنتن من الكبريت"
قال أدسو: وككل الرؤى لم تدم رؤيتي إلا ما يكفي لكي يقول المرء "آمين"، فقد دامت أقل بقليل من إنشاد "يوم الغضب". وأقول لكم: إن زمن الحلم الكثيف لحظات خاطفة.
اليوم السادس
بعد ثالثة
وفيه يفسر غوليالمو لأدسو حلمه.
وهكذا قصصت الحلم على أستاذي دون أن أهمل شيئاً، لأني كنت أعرف أنه غالبا ما تكون الاحلام رسائل غامضة يمكن لذوي العلم أن يقرأوا فيها تنبؤات جلية."
وسألني أتعرف بماذا حلمت؟ إنه "العشاء السري" للقديس شبريانو وقد أدخلت أشخاص وأحداث هذه الأيام في إطاره. إنها تخفي تحت حجاب المجون تعليماً أخلاقياً خفياً" إنها محاكاة ساخرة مدنّسة للكتابات المقدسة.
لقد ظننت دائماً أن الاحلام رسائل إلهية، أو على الأكثر تمتمات سخيفة للذاكرة النائمة حول الأشياء التي حدثت خلال النهار. اللآن أتفطن أنه يمكن للمرء أن يحلم أيضاً بالكتب، وإذن يمكنه أن يحلم بأحلام" هذا الحديث عن الاحلام نشاهده في أواخر رواية "عزازيل" أيضاً، وهي الرواية التي اعتمدت في السرد تقنية الحلم في "النقل" و"التكثيف" على درب الاستعارة والكناية والمجاز. قال غوليالمو: بودي لوكنت أرتيميدور لأفسر حلمك تفسيرا صحيحا، ولكن يبدو لي أنه حتى بدون علم أرتيميدور من السهل فهم ما حصل لك. وأرتيميدور مفسر أحلام من القرن الثاني الميلادي، أصله من آسيا الصغرى من أفسس على الساحل الغربي لتركيا الحالية.
إن رواية "عزازيل" تذكر أرتيميدور وكذلك فرويد في تفسير الاحلام وهو يشيد بالتفسير الاسيوي للأحلام. كما تذكر دور المؤثرات الحسية في تشكيل الحلم.
أيها الصبي المسكين لقد عشت هذه الأيام سلسلة من الاحداث يبدو فيها ان كل القواعد المستقيمة قد انحلت. لقد انطلقت من حواشي أدالمو لتعيش كرنفالاً كبيراً اتخذ فيه كل شيء مجرى خاطئاً، ومع ذلك كما في "العشاء السري" يفعل كل واحد ما فعله حقيقة في الحياة. وفي النهاية تساءلت، في الحلم، ما هو العالم المقلوب، وما معنى أن يمشي العالم ورأسه إلى أسفل. لم يعد حلمك يعرف أين يوجد الفوق وأين يوجد التحت، اين الموت وأين الحياة. لقد شك حلمك في الدروس التي تعلمتها" قلت بورع: لست أنا بل حلمي. ولكن ليست الاحلام إذن وحياً الهياً، بل هذيانات شيطانية، ولا تحتوي على أي حقيقة!
قال غوليالمو: كلما زدت تفكيرك في حلمك كلما وجدته ملهماً، ليس بالنسبة لك، بل بالنسبة لي. اعذرني إن انا تملكت أحلامك لأنمّي فرضياتي. وأظن أن روحك النائمة فهمت أشياء أكثر مما فهمته أنا في ستة أيام وفي حالة يقظة. إني أجد حلمك ملهماً لأنه تطابق مع إحدى فرضياتي. وككل الاحلام والرؤى يجب قراءة حلمك مجازياً أو تأويلياً، كما تقرأ النصوص المقدسة.
قال أدسو: كالكتابات؟
الحلم كتابة، والكثير من الكتابات ما هي إلا أحلام."
اليوم السادس
سادسة
وفيه يحدد تعاقب أمناء المكتبة ويتم الحصول على بعض الانباء الإضافية حول الكتاب الغامض"
لأتأكد من أنه هو الكتاب الذي يبحث عنه أُمبرتو إيكو؛ ومن أنه هو عين الكتاب الذي كنتما تبحثان عنه. كان يبدأ بمخطوط عربي، ثم بمخطوط أظنه سرياني، ثم نص لاتيني واخيراً نص باليونانية" تركز الرواية على تاريخ العلوم العربية الإسلامية والمخطوطات العربية. وتشير صراحة إلى أثر أرسطو الكبير على هذه الثقافة وهذه العلوم.
لقد تم تسميم الجزء اليوناني من المجموعة: كانت الأوراق كأنها مبللة بالرطوبة، لم تكن تنفصل بسهولة الواحدة عن الأخرى. وذلك لأن الرقّ كان غريبا. أكثر ليونة من الرقوق الأخرى، والصفحة الأولى متآكلة جدا، تكاد تتفتت، بإيجاز كان غريباً.
قال غوليالمو: ورق من كتّان (شارتا لينتيا) يقال إنها أوراق باهظة وهشّة لذا تستعمل بقلّة يصنعها العرب أليس كلك؟
كانوا (العرب) أول من صنعها، ولكنها تصنع أيضاً في إيطاليا في فابريانو
قال غوليالمو: يا له من اكتشاف رائع وهام أحسنت يا بانشيو، أشكرك! نعم أتصور ان "ورق الكتان " نادر هنا في المكتبة، لأنه لم تصل إليها مخطوطات حديثة. ورق من كتان هو ذا إذن!

اليوم السادس
تاسعة
وفيه يرفض رئيس الدير أن يستمع إلى غوليالمو، ويتحدث عن لغة الأحجار الكريمة، ثم يبدي رغبته ألا يتمادى التحقيق حول تلك الاحداث المؤلمة.
قال رئيس الدير لغوليالمو: إنها قلعة رائعة، تلخص في تناسب أبعادها القاعدة الثلاثية التي نظمت صنع سفينة نوح"
تلك التي نظمت صنع المعنى أو الصليب مفتاح الحياة "عنخ" (الآب-الروح القدس-الابن) أو سر (عمس) الثالوث الباطني "النُّصيري".
وتابع رئيس الدير مضيفاً: ولكن حتى الشكل المربع ثري بالتعاليم الرمزية. أربعة هي الجهات الاصلية والفصول والاسطقسات (الماء والهواء والنار والتراب) وعدد السنوات التي تلزم لتكوين سنة كبيسة" الرباعي رمز نفس محمد أو رمز كمال العلم. فقد أظهر دعوته في الأربعين، وتزوج خديجة وعمرها أربعون. وتجول عيسى في الصحراء أربعين يوماً. جاء في سورة البقرة: (وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَىٰ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِن بَعْدِهِ وَأَنتُمْ ظَالِمُونَ) [البقرة: 51]، وجاء في الاحقاف: (وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا ۖ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا ۖ وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا ۚ حَتَّىٰ إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَىٰ وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي ۖ إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ) [الاحقاف: 15]. وحمله وفصاله ثلاثون شهراً بعدد رقوق عزازيل، وبلغ أشده وأدرك كماله في الأربعين.
ثلاثة هي أول الافراد وأربعة هي أول الأزواج، بعد العدد الفردي واحد والعدد الزوجي اثنان. ومجموع الفرد والزوج سبة وهو حد الاعداد والوجود والكون. يقابله الحرف (إزّ) بالعربية وهو رمز العذراء حاملة السنبلة. والازز حساب من مجاري القمر وهو فضول ما يدخل بين الشهور والسنين. وهذا الفضول خمسة أيام يساوي 360 × 1/72 = 5 أيام وهو الشهر الصغير القبطي أو النسيء.
قال رئيس الدير: لغة الأحجار الكريمة لها أشكال متعددة، كل واحدة تعبر عن أكثر من حقيقة، حسب الظرف الي تظهر فيه (المعنى والسياق). ومن يحدد مستوى التأويل وصلاحية الظرف؟ إنها السلطة، المؤول الأكثر وثوقاً من غيره والأكثر هيبة، واذن الأكثر قداسة. أنت تعرف ذلك ياولدي، لقد علموك إياه (في الكنائس القويمة المكرسة بقانون الايمان وبسلطة الإمبراطورية أو سلطة البابا). قال (الجلدكي) العالم الكيمياوي المصري-السوري في عصر السلطان قلاون (1339-1342) في مخطوطه (البرهان في علم الميزان) عن الزئبق بلفظه: ""فللزئبق" الفضل على جميع الأحجار لأنه أصلها وسببها، قد كونه الله تعالى في بطون أعماق الأرض قبل النطفة في قرار الرحم، فهو أصل لتكوين الأجساد كلها " (تاريخ العلوم عند العرب). وأقول معقباً على هذه الخيمياء أو الكيمياء الصوفية: أن الزئبق هو النفس الأولية البكر بلون الحمامة الورقاء الرمادية قبل أن تتحجر وتعتقد الأفكار وتأخذ لون العقائد، هي بقرة لم يشد إلى عنقها نير بعد. كانت تُشبّه بالزئبق المعدن المصهور بطبعه تارة، وبالنحاس المصهور في لونه الأسود تارة أخرى.
قال غوليالمو: لا أحد يلزمنا بالمعرفة؛ المعرفة التزام. وأضاف: الوقت متأخر، وعندما يكون لدينا قليل من الوقت حذار من فقدان الهدوء.
أصبحت أعرف أستاذي جيداً كلما كان جسده مرتاحاً عمل فكره بنشاط متزايد"
اليوم السادس
بين صلاة الستار وصلاة النوم
وفيه رواية موجزة لساعات طويلة من البلبلة
اليوم السادس
بعد صلاة النوم
وفيه يكتشف غوليالمو على وجه الصدفة تقريباً، السر للدخول إلى قاعة "أقصى افريقيا"
قال غوليالمو: ينبغي استبدال الموضوع، وفهم الكلام "كما هو" في نسيجه الخاص، لا في علاقته بالأشياء. وهذا تلميح من إيكو إلى النقد البنيوي للنصوص الابداعية.
هكذا بعد ساعتين من صلاة النوم، في آخر اليوم السادس (يوم التحول من الجهل إلى المعرفة) وفي وسط الليلة التي كانت تؤذن ببداية اليوم السابع (عشية اليوم السابع)، حيث eve تعني عشية وتعني حوّاء التي هي عشية آدم، دخلنا إلى "اقصى إفريقيا". وحواء التقت بآدم على صخرة في افريقيا، حيث جاءت من الهند، حسب الحكاية الميثولوجية.
اليوم السابع
ليلاً
وفيه لو أردنا أن نلخص المكاشفات المذهلة التي نذكرها هنا لكان العنوان في طول هذا الباب، وهو مخالف لما جرت عليه العادة.
يكفي أن نفكر ونعيد تركيب أفكار الآخرين في أذهاننا
قال يورج: ماذا تريد؟
أجاب غوليالمو: أريد أن أرى المخطوط الأخير من المجلد الذي يحتوي على نص عربي وآخر سرياني وعلى تفسير أو على نسخة من "العشاء السري" لشبريانو. أريد ان أرى تلك النسخة باليونانية، التي من المحتمل أن تكون عملاً عربياً أو أسبانياً، والتي عثرتَ عليها عندما كنت مساعد باولو دا ريميني، وتحصلت على إذن للذهاب إلى مسقط رأسك لجمع أجمل المخطوطات لسفر الرؤيا من ليون وكاستيليا. وكانت غنيمة جعلتك ذائع الصيت مبجلاً هنا في الدير وجعلتك تحصل على منصب حافظ المكتبة بدلاً من اليناردو الذي كان أكبر سنا منك بعشرة أعوام. أريد ان أرى تلك النسخة اليونانية المكتوبة على ورق من كتان وكان آنذاك نادراً وكان يصنع في سيلوت بالذات، قرب بورقس، وطنك. أريد أن أرى ذلك الكتاب الذي أخذته من هناك، بعد أن قرأته لأنك لا تريد أن يقرأه أحد، واخفيته هنا محافظاً عليه بطريقة ذكية، ولم تتلفه لأن رجلا مثلك لا يتلف كتابا. ولكن يحفظه ويحتاط كي لا يلمسه أحد، أريد أن أرى (الكتاب الثاني من "صناعة الشعر" لأرسطو)، ذلك الكتاب الذي كان يظنه الجميع مفقوداً. والذي تحتفظ أنت منه ربما بالنسخة الوحيدة.
بعد ذلك ألقى غوليالمو نظرة سريعة على الصفحات الأولى وقال: "إنه مخطوط عربي حول أقوال أبله، حسب الفهرس، عمّ يتكلم؟"
أساطير سخيفة يأتي بها الكافرون (العرب المسلمون)، يزعم فيها أن الحمقى يأتون بنكت فطنة تبهر كهنتهم وخلفائهم. والثاني مخطوط سرياني، ولكن حسب الفهرس يترجم نص في الكيمياء، لماذا وضع هنا؟ إنه كتاب مصري من القرن الثالث من عهدنا (الميلادي)، يتماشى مع العمل الذي يتبع ولكنه أقل خطراً. لا أحد يعير اذنا صاغية لهذيان كيميائي افريقي (مصري)، يسند فيه خلق الكون إلى الضحك (وربما إلى التثاؤب: أقول لكم: خُلق العالم بعدوى التثاؤب). وتذكر ما قرأه قبل أربعين عاما: ما أن ضحك الرب حتى نشأت سبع آلهات حكمت العالم، ما أن انطلقت الضحكة حتى ظهر النور وعند الضحكة الثانية ظهر الماء، وفي اليوم السابع من الضحك ظهرت الروح. " حماقات. وحتى النص الذي يأتي بعده كتبه واحد من أولئك الحمقى ولا يحصى عددهم الذين أخذوا يفسرون "العشاء السري" ولكن ليست هذه هي النصوص التي تهمك.
وفعلا ورّق غوليالمو الصفحات بسرعة ووصل إلى النص اليوناني. ورأيت في الحال أن الأوراق كانت من مادة مختلفة وأكثر ليونة. قرأ غوليالمو السطور الأولى باليونانية، ثم مترجماً على اللاتينية وواصل بعد ذلك بهذه اللغة بحيث عرفت أنا كيف يبدأ الكتاب المشؤوم (أرسطو: فن الشعر الكتاب الثاني): لقد بحثنا في الكتاب الأول في المأساة وكيف أنها بإثارة الشفقة والخوف تطهِّر تلك المشاعر. وكما وعدنا سنبحث الان في الملهاة (وفي الاهْجيّة (الأهجوّة) أيضاً وفي المحاكاة الساخرة) وكيف أنها بإثارة المتعة عن طريق السخافة تصل إلى التطهر من تلك الاهواء. وقد ذكرنا في الكتاب عن الروح إلى أي حد تكون تلك الاهواء جديرة بالاعتبار بما أن الانسان ينفرد من بين جميع الحيوانات بقدرته على الضحك."
سنفحص الكيفيتين التي تحدث بهما الملهاة الضحك: وهما الإحداث والبيان. سنبين كيف أن السخرية في الإحداث تنشأ من تمثيل الأفضل بالأسوأ، والعكس ومن المفاجأة بالخدعة ومن المستحيل ومن خرق نواميس الطبيعة، ومن استعمال المحاكاة الساخرة والمبتذلة (لا شيء يفوق الطبيعة ويتجاوزها سوى المحاكاة الساخرة التي تبين تهافت ما هو قائم وعظمته الفارغة)، ومن النشاز ومن اختيار الأشياء الأقل وقاراً. وسنبين بعد ذلك كيف أن المضحك في التعبير ينشأ من اللبس بين كلمات متشابهة تدل على أشياء مختلفة أو مختلفة تدل على أشياء متشابهة، ومن الهذيان والتكرار ومن التلاعب بالألفاظ وأسماء التصغير، ومن أخطاء النطق ومن العِيّ”.
بعد بضع ليال، دخل فينانسيو إلى هنا وسرق الكتاب، ثم تصفحه بقلق، وبنهم يكاد يكون جسدياً. سيلوس قريبة من بورغوس، قال أدالمو: هذا الصباح وجدت في الفهرس مجموعة من الاقتناءات التي تخص أسفار الرؤية الاسبانية، وفي الفترة التي خلفت أو على وشك أن تخلف باولو دا ريميني. ومن جملة تلك الاقتناءات كان هناك أيضاً هذا الكتاب (فن الشعر، الكتاب الثاني) قال غوليالمو: تنشأ الملهاة في "كومي" أي في قرى الفلاحين، في شكل حفل لعوب بعد الاكل أو بعد حفلة. لا تتحدث عن أشخاص ذوي صيت ونفوذ، ولكن عن أناس بسطاء وسخفاء، غير أشرار ولا تنتهي بموت الابطال. وتثير الضحك بإظهار عيوب ونقائص أناس العامة. هنا يرى ارسطو ان الاستعداد للضحك قوة إيجابية، يمكن أن تكون لها أيضاً قيمة معرفية، من أحاج فطنة واستعارات غير منتظرة، ومع أنها تبرز لنا الأشياء مختلفة عما هي عليه في الواقع، كما لو كانت تكذب، فهي تجبرنا فعلاً إلى النظر إليها أحسن، وتجعلنا نقول لأنفسنا: هو ذا، إن الأشياء هي فعلاً هكذا، وأنا لم أكن اعرف ذلك. ونصل إلى الحقيقة من خلال تصوير للبشر، وللعالم يظهرهما أسوأ مما هما عليه أو مما كنا نظن، على كل حال اسوأ من الكيفية التي أظهرتهما بها الملاحم البطولية والمآسي وحياة القديسين." قال غوليالمو ليورج: أعترف بأن حيلتك كانت مثالية، فالضحية تتسمم من تلقاء نفسها، وبقدر رغبتها في القراءة" قال أدسو: تفطنت مرتعداً، إلى أن الرجلين المتجابهين في صراع إلى آخر رمق، كانا في تلك اللحظة معجبين أحدهما بالآخر كما لو انهما لم يفعلا ما فعلاه إلا ليثير كلاهما إعجاب الاخر. ومر بذهني خاطر وهو أن الحيل التي ابتدعها برينغاريو لإغواء أدالمو، والحركات البسيطة والطبيعية التي حركت بها الفتاة شوقي ورغبتي، كانت لا شيء من حيث التحايل والمهارة الضاربة لامتلاك الاخر، أما مشهد الاغواء الذي كان يدور تحت أنظاري في تلك الآونة، والذي امتد طيلة سبعة أيام، كان كل من المتخاصمَين يعطي فيها، إن صح التعبير، مواعيد سرية للآخر، كل منهما يأمل أن يستثير موافقة الآخر، الذي كان يرهبه ويمقته." قال غوليالمو: هناك كتب أخرى كثيرة تتحدث عن الملهاة، وأخرى كثيرة تمدح الضحك. لماذا كان هذا الكتاب يخيفك إلى هذه الدرجة؟ قال يورج: لأنه لفيلسوف. كل كتاب لذلك الرجل حطم جزءاً من المعرفة التي جمعتها المسيحية طيلة قرون. لقد قال الآباء كل ما يجب معرفته عن قوة الكلمة الإلهية، وما ان شرح بويتسيو مؤلفات الفيلسوف حتى تحول سر الكلمة الإلهية إلى محاكاة بشرية للمقولات والقياسات. إن سفر التكوين أورد ما يجب معرفته عن تركيب الكون وما إن اكتشفت كتب الفيلسوف الفيزيائية (الطبيعة) حتى أعيد التفكير في الكون بمعنى المادة الصماء واللزجة، وحتى كاد العربي ابن رشد أن يقنع الجميع بسرمدية العالم. كنا نعرف كل شيء عن الأسماء الإلهية إلى أن فتن الفيلسوف ذلك الدومينيكي (توما الأكويني) الذي دفنه أبّوني، فأعاد تسميتها متبعاً مسالك الفكر الطبيعي الصلفة." بالطبع هنا إشارة غاية في الأهمية إلى النزعة العقلانية الطبيعية في فكر أرسطو وشارحه الأكبر العربي ابن رشد، وإلى مذهب وحدة الوجود وقدم العالم، وأن العالم لم يخلقه إله مفارق. هذه العقلانية الطبيعية المسلحة بالبرهان والقياس والاستدلال المنطقي ظهرت بشكل واضح في شروحات ابن رشد على أعمال أرسطو، وظهر معها مذهب وحدة الوجود وقدم العالم، وأنه غير مخلوق وسرمدي. هذه المواجهة بين خلق العالم وقدمه نجدها في المبارزات الفكرية بين الغزالي وابن رشد بعد أن هاجم الغزالي فلسفة ابن سينا المشائية (الأرسطية) هجوماً عنيفاً في كتابه (تهافت الفلاسفة) والرد عليه من قبل ابن رشد في كتابه المعروف (تهافت التهافت) تابع يورج: كنا ننظر سابقا إلى السماء، ولا ننظر إلا باحتقار لوحل المادة والان ننظر إلى الأرض، ونعتقد بالسماء بشهادة الأرض. لو أصبح هذا الكتاب (الكتاب الثاني في الشعر) مادة للتأويل الحر لتجاوزنا هذا الحد الأخير (قلب صورة الرب). بالنسبة للضحك: حتى الكنيسة سمحت بحكمتها بفترة الاحتفال بالكرنفال وبالأعياد الشعبية، هذا التلوث النهاري الذي يفرغ المزاجات ويبعد عن رغبات واطماع أخرى." الضحك بالنسبة إلى السذج دفاعا، سر خفي غير مقدس بالنسبة للعامة. لكن هنا في هذا الكتاب (أخذ يورج يضرب بأصبعه على الطاولة أمام الكتاب) ينقلب دور الضحك، ويرفع إلى مستوى الفن، وتفتح له أبواب دنيا العلماء، يصبح موضعا فلسفيا ولاهوتية خادعة. عنف دولتشينو سيزول كما يزول الكرنفال، ولا يهم أن يحدث خلال الحفلة عيد الغطاس بالمقلوب على الأرض. يكفي ألا تتحول الحركة إلى رسم (كتابة) وألا تحد هذه العامية لاتينية لترجمتها. الضحك يحرر العامي من الخوف من الشيطان، لكن هذا الكتاب يمكنه ان يعلم أن التحرر من الخوف من الشيطان هو علم. يمكن لها الكتاب أن يلقن العلماء الوسائل الفطنة التي تغدو مشهورة منذ ذلك الحين لإقرار انقلاب. القانون يفرض من خلال الخوف، واسمه الحقيقي الخوف من الله. ولكن من هذا الكتاب يمكن أن تندلع الشرارة الشيطانية التي يمكنها أن تضرم الشرارة في العالم اجمع حريقا جديداً. وسيتخذ الضحك فنا جديداً مجهولا حتى عند بروميثيوس لإزالة الخوف. من هذا الكتاب يمكن ان يتولد التوق الجديد والهدّام لتحطيم الموت عن طريق التحرر من الخوف.
أقول لكم في اليوم الذي تبرر فيه كلمة الفيلسوف الألعاب الهامشية للمخيلة المشوشة، آه، عندئذٍ ما كان على الحاشية يقفز حقيقة إلى المتن، ويفتقد المتن كل أثر.
يقول فيلسوف يوناني يكره أرسطو في الكتاب الثاني للشعر: يجب دك رصانة الخصم بالضحك، وجعل الضحك منافس للجد. والتعويض عن خطابة الاقناع بخطابة السخرية.
قال غوليالمو: حتى في لعنة الرب نتعرف على صورة الاله التي غيرها الغضب وهو يلعن الملائكة المتمردين.
أحدثكم عن المحاكاة الساخرة وتهمة الالحاد
في أهجوّة كلوريسيوس الذي حاول أن يبرئ المحاكاة من تهمة الالحاد، والذي يقول إن طبيباً شفا مريضا بمساعدته إياه على الضحك، لقد علمه كيف يهزأ من الداء ويضحك.
يورج: الداء لا يطرد بالتعزيم بل يحطم
غوليالمو: مع جسد المصاب
إن كان ذلك ضرورياً
غوليالمو: إنك أنت الشيطان
نعم ، لقد كذبوا عليك . الشيطان ليس أمير المادة، الشيطان هو صلف الفكر، هو الايمان دون ابتسام، الحقيقة (الصلفة) التي لا يعتريها الشك. وهذا الايمان دون ابتسام نجده في شخصية (تروفيموف) أحد شخصيات "بستان الكرز" لتشيخوف، وهو الشخصية التي تمثل الاشتراكي الاقطاعي. "هذا المدرّس الخصوصي يشبه السوفسطايين الإغريق، مزيف نقود، وعقله عقل شيطاني يدّعي أن تجاوز الحب يحرر الإنسان ويسعده، وهو في الواقع مشروع طغيان واستبداد. إنه مشروع لوسيفر أو لوتشيفيرو كوكب الزهرة أو نجمة الصبح التي تضيء نفسها فقط دون الاخرين على الضد من القمر، الذي يضيء للآخرين أكثر مما يضيء نفسه. الشيطان لا يرى إلا نفسه لا غير، دون الآخر. وطُلب إبليس حين طالب بالمزيد، فقال له اسجد، قال لا غير (أنا لا غير) وقال له: وإنَّ عليك لعنتي، قال لا غير؛ (أنا لا غير)" (مقالات في نقد الادب)
هذا الكتاب كان سيبرر فكرة أن لغة البسطاء تحمل بعض الحكمة.

اليوم السابع
ليلاً
وفيه يحدث الاحتراق الكامل وبسبب الافراط في الفضيلة تتغلب قوى الجحيم.
أقول لكم: لذلك لا تفرطوا في الفضيلة. قال غوليالمو: كانت أعظم مكتبات العالم المسيحي (المكتبة قوة انتاج عقلية متحجرة متراكمة لقرون)، ثم أضاف: الان أصبح المسيح الدجال حقيقة، لأنه لن يكون هناك أي علم يقف ضده. ومن جهة أخرى قد رأينا وجهه هذه الليلة (وجه يورج) ذلك الوجه الحاقد على الفلسفة، رأيت لأول مرة صورة الدجال الذي لا يأتي من قبيلة يهوذا كما كان يقول من أنبأوا به، ولا من بلاد بعيدة. يمكن ان يولد الدجال حتى من التقوى، من فرط محبة الله أو الحقيقة، كما يخرج الهرطيق من القديس والممسوس من العرّاف.
لقد قام يورج بعمل شيطاني لأنه كان يحب الحقيقة التي كان يؤمن بها حباً شبقياً حتى أنه كان مستعداً لكل شيء قصد تحطيم ما كان يعتبره بهتاناً. كان يخشى الكتاب الثاني في فن الشعر لأرسطو، ربما لأنه يعلمنا كيف نمسخ وجه كل حقيقة، حتى لا نصبح عبيد أوهامنا (الحقيقة هي الكل والكل باطل). الحقيقة الوحيدة هي أن نعرف كيف نتحرر من شغفنا المنحرف بالحقيقة.
قال غوليالمو: إن النظام الذي يتصوره ذهننا هو كالشبكة أو كالسلم الذي يصنع للوصول إلى غاية. ولكن بعد الوصول ينبغي الالقاء بالسلم، لأننا نكتشف أنه حتى وإن كان نافعا فهو خال من كل معنى. وهذا يذكرنا بقول هيغل في بداية علم المنطق: "المنطق حكم مسبق وباطل". ويذكرنا بقالب الخشب الذي يسند السطح الجديد، متى جف الاسمنت وتماسك يتم قبع الخشب.
ولقد بسطنا لكم من قبل:
كيف أدار "فيثاغورس" اللجام
في طريق عودته قاصداً "عين شمس"؛ "عين أُون"
غير عابئ بالعبد الذي رافقه في معراجه
كان يعلم أن الطريق عبد
وأنّ الرب غايةُ الغاية وقصد"
وأمام فكرة غياب النظام طرح أدسو تساؤله: كيف يمكن أن يوجد كائن واجب الوجود مكوّن كلياً من الممكن؟ (التخيلي وتأسيس المجتمع تخيلياً)، كيف يقوم الحق بما هو نفي للحقيقة ككلية باطلة.
قال غوليالمو: توجد فوضى كبيرة هنا، الرب لا يوجد في اضطراب الروح.
لن تكون هناك معرفة ممكنة وممكن تبليغها إن أعوزنا معيار الحقيقة، أو أنه لا يمكنك أن تبلغ لأن الآخرين لن يسمحوا لك بذلك.
ورقة أخيرة
الغرور وكبرياء الفكر. قال أدسو متذكرا استاذه: ليغفر له أفعال الغرور المثيرة التي ارتكبها نظراً لكبرياء فكره" ويمكن تعميم هذه الملاحظة وهي السمة التي تطبع العقلانية الطبيعية، وهي كبرياء الفكر والصلف. لأن الفكر يصل إلى حد الطبيعة دون القدرة على الخروج من أسره. وكون غوليالمو متأثراً بأرسطو وبروجي باكون تلميذه فهو لديه هذا الصلف الذي يسم الفلسفة العقلانية الطبيعية.
قال أدسو خلال عودته إلى الدير المحترق المدمر: لم يتبق من آثار الكنيسة إلا آثار قليلة نخرتها العفونة. وبقي النصف من لوحة الجبهة ورأيت فيه العين اليسر للمسيح الجالس على العرش وقد وسّعتها تقلبات الجو وأوهنها الحزاز كما رأيت قليلا من وجه الأسد" النوافذ في كل مكان من الصرح كانت كالمحاجر الخاوية تسكب دموعا لزجة من نباتات معرشة ومتعفنة. إنها إشارة إلى عصر غاضب، غضب ناجم عن الجشع والانحطاط واحتقار كرامة الانسان.
وتلك الصفحات المنقوصة التي وجدتها صاحبتني في الحياة التي بقي لي أن أعيشها منذ ذلك الحين، وغالبا ما استشرتها كأنها وسيط وحي، ويكاد يتهيأ لي أن ما كتبته على هذه الأوراق التي ستقرأها يا قارئي المجهول، لم يكن إلا تضميناً أو قصيدة مجازية أو تطريزاً ضخماً لا يقول أو لا يعيد إلا ما كانت توحي به تلك القصاصات، ولم أعد أدري إن كنت أتحدث أنا عنها إلى حد الان أو أنها تحدثت على لساني.
سأتوغل عما قريب في هذه الصحراء الشاسعة المنبسطة تماماً واللامتناهية، حيث يستسلم القلب التقي حقيقة للطوبى. سأهوي في الظلمة الإلهية، في صمت عميق وفي وصال لا يوصف، وفي ذلك السقوط سنمحي كل تساو وكل تباين، وفي تلك الهوة ستفقد روحي ذاتها.
أنا الأورو بي الذي بلغ نهاية انحطاطه وأفوله سأسقط في الألوهية الصامتة واللامسكونة، سأعود إلى الكِنْ حيث لا عمل ولا صورة. قاعة الكتابة باردة وابهامي يؤلمني. أترك هذه الكتابة، لا أدري لمن، لم أدر حول ماذا "كانت الوردة اسماً، نحن لا نمسك إلا بالأسماء"، لم يبق لنا سوى الذكرى: "اسم الوردة".
في اليوم السابع والأخير الذي هو استواء الاله على العرش، والخروج إلى النهار والقيامة، تكتفي القصة بعنوانين لليوم السابع: (ليلاً.. ليلاً) حيث لا قيامة ولا "خروج إلى ضوء النهار" بل هو موت الأوروبي الغربي ومعه الأمريكي الشمالي موتاً فاسداً وسقوطه في هوّة سحيقة لا قرار لها.
والورقة الأخيرة نعوة أو ورقة تعزية بموت الأوروبي الغربي!
مراجع القراءة
1-*"اسم الوردة" رواية أُمبرتو إيكو، ترجمة أحمد الصّمعي، دار أويا 1991 وقد ظهرت الطبعة الإيطالية سنة 1980.
2-نايف سلوم: أوزبر جبرائيل-تفسير رواية عزازيل
3-يوسف زيدان: عزازيل (رواية)
4-نايف سلوم: مقالات في نقد الادب
5-ثربانتس: دون كيخوته، ترجمة عبد الرحمن بدوي
6-حياة دون كيخوته وسانتشو حسب ميغيل دي ثربانتس سابيدرا بشرح وتعليق دي أونا مونو، ترجمة صالح علماني.
7-الكيمياء عند العرب، تاليف مصطفى لبيب عبد الغني
8-دوستويفسكي: الاخوة كارامازوف ترجمة سامي الدروبي
9-ابن عربي: المخمس العرشيّ خالي الوسط
10-نايف سلوم: أحاديث اليوم الآخر (ديوان)
11-أنطون تشيخوف: بستان الكرز (مسرحية في أربعة فصول)
12-فراس السواح: الوجه الآخر للمسيح (.. مقدمة في المسيحية الغنوصية)
13-ديوان المتنبي
14-كارل ماركس: رأس المال (مقدمة الطبعة الألمانية الأولى)
15-الأجبية: كتاب السواعي (الساعات)؛ كتاب السبع صلوات النهارية والليلية؛ كتاب الصلاة القبطية الاورثوذكسية المسيحية.
16-نايف سلوم: رسالة في نظرية اللوغوس عند فيلون السكندري








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مت فى 10 أيام.. قصة زواج الفنان أحمد عبد الوهاب من ابنة صبحى


.. الفنانة ميار الببلاوي تنهار خلال بث مباشر بعد اتهامات داعية




.. كلمة -وقفة-.. زلة لسان جديدة لبايدن على المسرح


.. شارك فى فيلم عن الفروسية فى مصر حكايات الفارس أحمد السقا 1




.. ملتقى دولي في الجزاي?ر حول الموسيقى الكلاسيكية بعد تراجع مكا