الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ميلشياوية من أزمة شرعية

عبد المجيد إسماعيل الشهاوي

2023 / 4 / 28
مواضيع وابحاث سياسية


تأسست أنظمة الحكم العربية الحالية خلال العقود الأخيرة من القرن الماضي فوق قاعدتين أساسيتين متباعدتين إلى حد كبير، لتسلك الأقطار العربية الشقيقة ثقافياً وحضارياً اتجاهين مختلفين كانت الميليشيات العسكرية وشبه العسكرية ضرورية حتمية لا مهرب من ملاقاتها على أحدهما، كما هو حادث في الزمن الحاضر في العراق واليمن وسوريا ولبنان وليبيا وأخيراً وليس آخراً، السودان. وهذا لا يعني أبداً أن بقية البلدان التي قد سلكت ذات الاتجاه، مثل مصر والجزائر، لم أو لن تقف في المحطة الميليشياوية، بقدر ما يعني أن مستويات الاستقرار والبيروقراطية والمركزية الإدارية هناك أكبر، ومن ثم المقاومة للميليشياوية أكبر. لكن مثل غيرها على الطريق ذاته، يبقى التحدي الميليشياوي لها كامن وخطير. قبل زمن قصير، قضت الجزائر عشرية من عمرها في حرب ميليشياوية عسكرية وشبه عسكرية. وكانت مصر قريباً على حافة هذا الاختبار، رغم حربها الممتدة طوال العقود الأخيرة وحتى اليوم ضد ميليشيات المتطرفين المسلحين. في قول آخر، الميليشياوية عرض لمرض في أنظمة الحكم العربية، على وجه التحديد والحصر تلك الدول أزاحت الملكيات وأقامت بدلاً منها جمهوريات وسط شعوبها.

هذه الجمهوريات ورثت الجيوش الملكية. لكن بدلاً من تحويل هذه الأخيرة إلى جمهورية الطابع، تستمد شرعيتها من جماهير الشعب، مالت بها أكثر جهة الرئيس في القصر الجمهوري، الذي يفترض أن يستمد شرعيته من جمهور الشعب، لتصبح أكثر ملكية- بمعنى ارتباطاً بالملك (الرئيس هنا)- حتى من الجيش الملكي. في العهد القديم، كان الملك هو من يمنح الشرعية للجيش. في العهد الحديث، انقلبت الآية، ليصبح موطن الشرعية في مكان ما داخل ثكنات الجيش وليس في أي مكان آخر. وبالتالي ولدت ظاهرة سياسية حديثة العهد في العالم العربي: الانقلابات العسكرية. وقد شكل ذلك تطوراً جوهرياً في السياسة الجمهورية العربية أنهى دور الوراثة الملكية كآلية لانتقال شرعية الحكم وعوضها بقوة الجيش المسلحة؛ كل من يملك قدراً وجيهاً منها يحق له أن يطمع في الحكم، لينتقل التنافس على السلطة من أبناء الملك داخل القصور الملكية إلى قيادات الجيش والأجهزة الأمنية عبر مؤسسات الحكم. كان الطمع والتنافس قائم دائماً وسط الجيوش الجمهورية منذ نشأتها، وهو ما أفضى إلى كثرة الانقلابات داخلها، ثم إلى ظهور الميليشيات في الوقت الحاضر. في قول آخر، حين وضعت شرعية الحكم لدى الجيش، شجع ذلك على ظهور الانقلابات؛ وحين ارتبطت شرعية الحكم بالانقلابات العسكرية، تسبب ذلك في إضعاف هذه الشرعية ذاتها ومن ثم تحريض آخرين من خارج الجيش على تحديها؛ ومن تزاوج هذا وذاك، ولدت ظاهرة الميليشيات، التي تعكس، بدورها، تطورين مهمين:

1- تراجع أهمية الجيوش الجمهورية كموطن الشرعية الأساسي، الذي ورثته من الملك. وهذا يعني أن عصر الانقلابات العسكرية التقليدية كما عرفته هذه الأنظمة في الماضي قد ولى، أو في أغلب الظن في الرمق الأخير. الانقلاب العسكري وحده لم يعد سند كافي لشرعية الحكم في أي من الجمهوريات العربية حلياً. كذلك، وفي الوقت نفسه، هذا الانحسار في الشرعية يخلق طامعين ومنافسين جدد سواء من داخل الجيش أو من خارجه، ولو كانوا يتخذون جميعاً في المرحلة الحالية من قوة السلاح وسيلة أساسية لهم. في قول آخر، سلاح الجيش فقط لم يعد يكفي لإعطاء الشرعية ولابد من تكملته بمكملات أخرى. وهكذا كانت المليشيا، كتلك التي يتزعمها حميدتي في السودان، ضرورة حتمية، أو تطوراً طبيعياً لمبدأ اعتماد الجيش وحده أساساً للشرعية. في هذا السياق، الميليشيا هي مرحلة انتقالية ما بين سلاح الجيش ومدنية الأهالي، عناصرها مدنيون لكنهم يحملون السلاح في الوقت نفسه. أو هي تحدي مدني للجيش ذاته، بنفس عقيدته وسلاحه، ومن خارج ثكناته. أو هي وليدة الجيش، وتهدد بقاءه.

2- تزايد أهمية المكون المدني الشعبي في الحياة السياسية الجمهورية. ليس مصادفة أن كل أنظمة الحكم العربية التي تعاني حالياً من تحدي الميليشياوية هي ذاتها التي اجتاحتها انتفاضات الربيع العربي، التي نفذت وصعدت إلى السطح منها معظم الميليشيات المتنفذة حالياً. إذا كانت هذه الاحتجاجات الشعبية المدنية تظهر أو تؤكد شيء واحد، فهو أنه أصبح هناك موطن آخر، ولو صغير لا يزال، للشرعية التي توصل إلى الحكم بجوار ثكنات الجيش، التي دأبت على احتكار الشرعية في الماضي. أصبحت هناك ميادين رحبة وسط الحواضر الكبرى تسع مئات الآلاف من المشككين في شرعية الحكم. هذا التطور جديد تماماً على الحياة السياسية العربية. وهو لا يزال في بداياته الأولى ولم ولن يخفى طويلاً عن نظر أو ذكاء الطامحين من أمثال حميدتي.

الميليشياوية تظهر خللاً هيكلياً في أنظمة الحكم الجمهورية، التي منذ تأسيسها ائتمنت جيوشها فقط على شرعية الحكم. ولأنها تعبير عن أزمة شرعية، فهي لن تنتهي قريباً، بل الأقرب إلى الظن أن عالم الجمهوريات العربية ما بعد الانقلابات العسكرية لا يزال واقف حالياً على باب الميليشياوية ولم يدخله بعد. ما يجري في السودان ليس صراعاً بين عسكريين يفضي إلى انقلاب تقليدي كما حدث كثيراً من قبل؛ بل هو بين عسكريين وشبه عسكريين- بمعنى، هجين من العسكريين والمدنيين لا يُحسب على هذا الطرف أو ذاك بقدر ما يعبر عن ميلاد أو خلق جديد. في قول آخر، لقد دخلت الكتلة المدنية أخيراً، ولو بشكل جزئي، كطرف في معادلة الحكم في جمهورياتهم، حتى لو اضطرتهم الظروف الحالية إلى الاقتداء بالزي والسلاح العسكري في صورة ميليشياوية.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. وقفات تضامنية بمدن مغربية عدة تطالب بوقف التطبيع ومقاطعة إسر


.. فايز الدويري: المعارك في منطقة جباليا ستكون صعبة وقاسية




.. ناشطة أمريكية تهاجم المتخاذلين عن نصرة غزة


.. تحذير من المحكمة لمايكل كوهين بسبب مقاطع فيديو على تيك توك ح




.. ميلانيا ترمب تمنع ابنها بارون من الانضمام لعالم السياسة.. فم