الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


رواية للفتيان الحوت الصغير طلال حسن

طلال حسن عبد الرحمن

2023 / 4 / 29
الادب والفن


رواية للفتيان





الحوت الصغير






طلال حسن








" 1 "


منذ أيام ، وأنثى الحوت ، تجوب وحيدة ، مياه المحيط ، على غير هدى . ووسط مياه لا تحدها سوى السماء ، توقفت مرة أخرى ، ومرة أخرى رفعت رأسها، وأطلقت صيحة حزينة ، مستغيثة : النجدة .. النجدة .. أنا هنا .
وأنصتت ملياً ، لكنها لم تسمع غير صدى صوتها : النجدة .. النجدة .. أنا .. هنا ، ممتزجاً بأنين الريح ، ووشوشة مياه المحيط .
ودمعت عيناها ، لا أحد يسمعها ، ولا يردّ عليها أحد ، في هذه المتاهة ، بين الماء والسماء ، اللهم إلا صغيرها، الذي يتحر بين فترة وأخرى في أحشائها ، ربما رغبة منه بالخروج إلى الحياة . لقد عاشت حياتها كلها ، ضمن قطيع الإناث ، يقودهنّ ويرعاهنّ ويحميهنّ ، ذكر قويّ محبّ ، وهي تريد لصغيرها ، الذي قد يولد في يوم قريب ، أن يعيش مثلما عاشت ، لا أن يضرب معها في تيه لا نهاية له .
وتحرك صغيرها في أحشائها ، فندت عنها شهقة بين الألم والفرح . وتلفتت متطلعة نحو الآفاق البعيدة ، لعلها تقع على أثر لقطيعها ، الذي تاهت عن ، لكن لا فائدة ، فعلى امتداد البصر ، لم تكن هناك سوى المياه .
وتناهت إليها ، عبر مياه المحيط ، دمدمات من بعيد ، وتملكها الخوف والقلق ، أهو الحوت القاتل ؟ أم الحبار العملاق ؟ أم مجموعة من القروش ؟ جذبتها وأفقدتها صوابها ، رائحة كائن بحريّ جريح ؟
وتراءى لها الحوت القاتل ، بزعنفته الظهرية العالية ، الرفيعة ، وفمه الرهيب ، المدجج بأسنان ضخمة على كلا الفكين ، يندفع من بعيد ، شاقاً المياه باتجاه القطيع. وفوجيء الذكر بهجومه ، فاستدار رغم خوفه وتردده ، وانطلق محاولاً اعتراضه ، ومنعه من الوصول إلى إناثه. واتجه الحوت القاتل نحوها مباشرة ، وقد فتح فمه على سعته ، وتلامعت أنيابه الخناجر ، فأسرعت صوب الذكر ، وهي تصيح : النجدة .. النجدة .
وهنا ، ولحسن الحظ ، امتدت من نحت الماء ، أذرع طويلة قوية ، ذات أقراص ماصة ، مؤذية ، وأمسكت بالحوت القاتل ، إنه الحبار العملاق ، ولعله توهم ، فظنّ أنّ الحوت القاتل ، هو عدوه اللدود ، حوت العنبر .
وانشغل الحوت القاتل بمقاتلة الحبار العملاق ، فمزق بأسنانه الخناجر ، العديد من أذرعه ، لكنه لم يستطع الإجهاز عليه ، إلا وقد أصيب بجروح بليغة و تمزقت قطع كبيرة من جلدة رأسه .
وخلال تلك المعركة لاذ الذكر بالفرار ، وتشتت إناثه في جهات المحيط الأربع ، وحين أفاقت الأنثى الفتية من الصدمة ، وجدت نفسها وسط مياه المحيط ، التي لا تحدها سوى السماء .


















" 2 "


ظلت الأنثى الفتية ، معظم تلك الليلة ، مستيقظة ، لا يغمض لها جفن . وحتى عندما أغفت ، قبيل الفجر ، كانت إغفاءتها كالعادة ، خفيفة متقطعة . فهي تخشى أن يمرّ بها أفراد القطيع ، ولا يروها ، وهم بلا شك ، يبحثون عنها في كلّ مكان ، منذ أن فرق شملهم الحوت القاتل .
وخيل إليها ، أكثر من مرة ، أنها تسمع دمدمة قطيع من الحيتان . وظنت لسبب ما ، أنّ ما تسمعه كالعادة حلماً من الأحلام .
وحين أفاقت صباحاً ، تبين لها أنّ ما سمعته ليلة البارحة، لم يكن حلماً ، بل حقيقة . فقد رأت ، تحت أشعة الشمس المتلألئة ، قطيعاً من الحيتان ، يشق طريقه على البعد ، وترسل نفاثاته سحابة من البخار ، تندفع إلى الأعلى ، مكونة قوس قزح ، غاية في الغرابة والجمال .
ورفعت رأسها ، وأطلقت صيحة فرح ، ثم انتفضت ، وراحت تشق الماء بسرعة ، نحو القطيع ، وهي تصيح بأعلى صوتها : أنا هنا .. أنا هنا ، انتظروني .
وتوقف الذكر ، وتوقفت معه إناثه ، وتطلع نحو مصدر الصوت ، ومعه تطلعت إناثه ، وقال متسائلاً : من المنادي ؟
وردت إحدى الإناث ، وهي تدقق النظر في البعيد : أظنها أنثى فتية .
وقالت أنثى متقدمة في العمر : إنها على ما يبدو ليست من قطيعنا .
والتفت الذكر إليها ، وقال : اذهبي ، وانظري ماذا تريد .
وعلى الفور انطلقت الأنثى المتقدمة في العمر ، نحو الأنثى الفتية ، وقالت : حالاً .
وصاح الذكر في أثرها : لا تتأخري ، علينا أن نواصل طريقنا نحو الشمال .
وزادت الأنثى المتقدمة في العمر من سرعتها ، وهي تقول : أمرك يا عزيزي ، لن أتأخر ، سأرى ماذا تريد ، وأعود .
وعلى الفور ، قطعت الأنثى المتقدمة في العمر ، حديثها مع الأنثى الفتية ، وقفلت عائدة بسرعة ، وقالت : المسكينة ، تاهت عن قطيعها ، بعد أن هاجمهم ، الحوت القاتل .
وعلق الذكر قائلاً : هذا أمر لا يعنينا .
وقالت الأنثى المتقدمة في العمر مترجية : إنها حامل ، وفي أيامها الأخيرة ، ومن الصعب أن تتحمل البقاء وحدها في مثل هذه الظروف .
ولاذ الذكر بالصمت ، فتشجعت الأنثى المتقدمة في العمر ، وقالت : سأهتم بها وحدي ، إذا سمحت .
ومضى الذكر ، يشق الماء ، مواصلاً طريقه ، والإناث يمضين في أثره ، وهو يقول : حسن ، وإن كنت أنت بحاجة إلى من يهتم بك .
وبفرح غامر ، أشارت الأنثى المتقدمة في العمر ، للأنثى الفتية ، وصاحت بصوت خافت : تعالي ، تعالي بسرعة ، وانظمي إلينا ، هيا ، هيا .


















" 3 "


ارتاحت الأنثى الفتية لوجودها بين إناث القطيع ، رغم أنّ الذكر لم يبد ِ أي اهتمام بها . وكلما التقت عيناها بعينيه ، وهو يستعرض إناثه ، ويتفقدهن الواحدة بعد الأخرى ، يشيح بوجهه عنها ، ويبتعد عن المكان الذي تتواجد فيه. ولذلك فقد حرصت دوماً ، أن تحيد عن طريقه ، وتبقى بين إناث القطيع ، وبالأخص قرب الأنثى المتقدمة في العمر .
وبالرغم من خوف الإناث من الذكر ، إلا أنهنّ كنّ يتحيّن الفرص لإبداء تعاطفهنّ معها، ويحاولن طمأنتها والتخفيف عنها .
وطالما سألتها الأنثى المتقدمة في العمر عن حملها ، فكانت تجيب قائلة : إنه يرفس في أحشائي .
وتستطرد مبتسمة : لابد أنه ذكر غضوب .
وتبتسم الأنثى المتقدمة في العمر ، وتقول : إنه مستعجل، يريد أن يأتي ، ويراك بأسرع وقت ممكن .
وسألتها أنثى شابة مرة : أهو حملك الأول ؟
فهزت رأسها بالإيجاب مبتسمة ، فقالت الأنثى الشابة : لا عليك ، ستكون ولادتك أسهل مما تتصورين .
وضحكت بصوت خافت ، وقالت : كدتُ أموت خوفاً ساعة الولادة ، لكن ما إن رأيتُ صغيري حتى غمرني الفرح ، ونسيتُ كلّ شيء .
وذات ليلة ، والقمر بدر يطل من السماء ، أفاقت الأنثى المتقدمة في العمر ، على حركة خفيفة قربها ، ففتحت عينيها ، وإذا الأنثى الفتية تتسلل بهدوء ، مبتعدة عن القطيع . فانسلت وراءها دون ضجة ، وحاذتها قائلة بصوت خافت : عزيزتي ، الليل يكاد ينتصف ، من الأفضل أن تعودي إلى مكانك ، وسط القطيع .
وتوقفت الأنثى الفتية ، وقالت بصوت متوجع : لا أستطيع ، يبدو أنني سألد .
وأضاءت ابتسامة فرحة ، وجه الأنثى المتقدمة في العمر، وقالت : هذه بشرى سارة ، مهلاً ، سأستأذن الذكر ، ثم أرافقك حتى تولدي .
وبدا التأثر على الأنثى الفتية ، وقالت : عفواً ، يا عزيزتي، إنني أتعبك ، وأسبب لك الكثير من الحرج .
وربتت الأنثى المتقدمة في العمر عليها ، وقالت : لا تقولي هذا ، أنت الآن واحدة منّا .
واستدارت عائدة إلى القطيع ، واقتربت من الذكر ، وهمست في تردد : سيدي .
وفتح الذكر عينيه ، وتساءل بشيء من الاستغراب والغضب: ما الأمر ؟
فردت الأنثى المتقدمة في العمر في تردد أشدّ : إنها الأنثى الفتية .. الغريبة .
وبنفاد صبر ، تساءل الذكر : ما لها ؟
فأجابت الأنثى المتقدمة في العمر : ستلد .
وكاد الذكر أن ينفجر ، فسارعت إلى القول مترجية : المسكينة ، إنها أنثى وحيدة ، وتحتاج إلى من يساعدها .
وأغمض الذكر عينيه ، وقال : افعلي ما تشائين ، هيا ، اذهبي ، ودعيني أنم .
وقالت الأنثى المتقدمة قي العمر فرحة ممتنة : أشكرك ، أشكرك جداً ، يا سيدي .
ومضت مسرعة ، وبدون ضجة ، إلى الأنثى الفتية ، وقالت لها بصوت هامس : هيا يا عزيزتي ، لنبتعد قليلاً عن القطيع ، وآمل أن تري صغيرك مع فجر الغد ، هيا نمضي ، هيا ، هيا .









" 4 "


لم ترَ الأنثى الفتية وليدها مع فجر الغد ، كما توقعت الأنثى المتقدمة في العمر ، بل رأته عند منتصف نهار اليوم التالي . وغمرها الفرح ، عندما سمعت غمغمته الشاكية للأول مرة ، كأنما يقول : ماما .. ماما .
وحاول قرش جذبته رائحة الولادة ، التقرب من الحوت الصغير ، متحيناً الفرص لنهشه بأسنانه الرهيبة القاتلة ، وصاحت الأنثى الفتية ، وهي تحضن صغيرها : يا إلهي، القرش .
واستدارت الأنثى المتقدمة في العمر بسرعة ، متصدية للقرش ، ولطمته على وجهه بذيلها الأفقي الجبار ، فتهاوى صارخاً نحو الأعماق ، ثم ولى مبتعداً ، حتى غاب في عتمة مياه المحيط .
وتنفست الأنثى الفتية الصعداء ، وقالت : أشكرك ، لولاك لتعرضت أنا وصغيري للكثير من الأخطار .
وردت الأنثى المتقدمة في العمر قائلة : هذا واجب ، فأنت بمثابة ابنتي .
وقالت الأنثى الفتية ممتنة : أشكرك ، أشكرك جداً .
وتطلعت الأنثى المتقدمة في العمر إلى الصغير ، وقالت : أنظري ، ما أجمله .
ونظرت الأنثى الفتية إلى صغيرها فرحة ، وقالت : إنه يشبه أباه .
وضحكت الأنثى المتقدمة في العمر ، وقالت : الذكر الصغار ، في رأي أمهاتهم ، يشبهون آباءهم دائماً .
واحتضنت الأنثى الفتية صغيرها بحنان وتأثر ، فقالت الأنثى المتقدمة في العمر : صبراً ، يا بنيتي ، ستجدين قطيعك ، إن عاجلاً أو آجلاً ، وستعيشين أنت وصغيرك، سعيدين مطمئنين .
وعند العصر ، انتبهت الأنثى المتقدمة في العمر ، إلى أنّ القطيع قد واصل طريقه ، واختفى عن الأنظار ، فالتفتت إلى الأنثى الفتية ، وقالت : هيا نمضي ، يا عزيزتي ، لعلنا نلحق بالقطيع ، قبل أن يخيم الظلام .
واحتضنت الأنثى الفتية صغيرها ، وردت قائلة : لا أستطيع أن أمضي الآن ، إنني متعبة ، متعبة جداً .
ولاذت الأنثى المتقدمة في العمر بالصمت لحظة ، ثم قالت بحرج : أنت تعرفين الذكر ، إنه متشدد لا يتسامح ، وسيغضب مني إذا تأخرت .
وتنهدت الأنثى الفتية ، وقالت : لا عليك ، اذهبي أنت ، وسألحق بكم في أسرع وقت ممكن .
وتململت الأنثى المتقدمة في العمر ، وقالت : أرجوك ، الحقي بنا على عجل ، فأنا لن يهدأ لي بال ، حتى أراك أنت وصغيرك معنا .
وابتسمت الأنثى الفتية ، وقالت : اذهبي ، يا عزيزتي ، اذهبي ، رافقتك السلامة .
ومضت الأنثى المتقدمة في العمر ، تشق المياه الهادئة بعزم ، كأنها عادت أنثى فتية ، حتى غابت عن النظر . وتململ الحوت الصغير ، مصدراً أصوات شاكية ، وفكرت الأنثى الفتية ، لابد أنه جائع ، فقربته من أثدائها، وقالت بصوت أمومي : ارضع ، يا بنيّ ، ارضع .
وكأن الحوت الصغير أدرك ما قالته أمه ، فتشبث بأحد أثداءها ، وامتص منه على عجل ، حليباً غزيراً دافئاً غاية في الدسامة .
وأسرعت الأنثى الفتية ، فرفعته فوق سطح الماء ، وضحكت فرحة ، حين رأته يشهق متنفساً مغمغماً : ماما .. ماما .
وضمته إلى صدرها ، وقالت : نم الآن ، وارتح .
أغمض الحوت الصغير عينيه ، وسرعان ما استغرق في نوم عميق .





" 5 "


عند الفجر ، بدأت الأنثى الفتية رحلتها للحاق بقطيع الحيتان ، مؤملة الوصول إليه ، إذا لم يعوقها عائق ، خلال يوم أو يومين . وراح صغيرها يسبح إلى جانبها تارة ، ويرقد فوقها تارة أخرى . وكلما سمعته يغمغم شاكياً ، توقفت برهة لترضعه حتى يشبع ، ثم تواصل طريقها ، يحثها ما قالته البارحة ، الأنثى المتقدمة في العمر : لن يهدأ لي بال ، حتى أراك بيننا .
ولاحت من بعيد ، بعد منتصف النهار ، نفاثة وحيدة تتعالى بوهن ، ويتساقط بخارها رذاذاً فوق سطح المياه ، وقالت في نفسها : من يدري ، لعله حوت تائه ، كما تهتُ أنا من قبل .
ولأنها عرفت الوحدة ، والضياع ، فقد أرادت أن تمدّ يد المساعدة لهذا الحوت ، إن كان بحاجة إلى المساعدة . ودفعت صغيرها أمامها ، ومضت مسرعة نحوه ، وإذا هو ذكر عجوز متعب ، فحيته قائلة : صباح الخير .
ونظر الذكر العجوز إليها ، وإلى صغيرها ، ورد بصوت واهن : صباح النور .
وصمت لحظة ، ثم قال : مرّ بي عند الفجر ، قطيع تتبعه من بعيد أنثى متقدمة في العمر ، وإذا كان هذا قطيعك ، فامضي بسرعة ، لعلك تلحقين به ، قبل حلول الظلام .
وحدقت الأنثى الفتية فيه ، وقد أدركت أنه يريد أن تمضي بعيداً عنه ، وقالت وهي تتأهب لمواصلة طريقها : ليتك لا تبقى هنا وحدك ، فهذا المكان يعجّ بالأخطار .
وردّ الحوت العجوز بصوت واهن : لا عليك ، يا بنيتي ، فأنا حوت عجوز .
وواصلت الأنثى الفتية وصغيرها الطريق ، يحثها هاجس بأنها قد تأخرت ، وأنّ الأنثى المتقدمة في العمر ، تنتظرها بفارغ الصبر . وتوقفت أكثر من مرة ، بعد أن تعالت غمغمات صغيرها الشاكية، فارضعه على عجل ، ثم مضت بسرعة مواصلة الطريق في أثر القطيع .
وبعد الظهر بقليل ، فوجئت الأنثى الفتية بالقطيع ، يقف على مسافة ليست بعيدة ، ملتفة إناثه حول الذكر . وداخلتها مشاعر متضاربة ، وخمنت أنّ الأنثى المتقدمة في العمر، أخبرتهم بأنها وضعت ، فتوقفوا هنا ، لانتظارها هي وصغيرها .
ومضت نحوهم مترددة ، يتنازعها القلق والاطمئنان ، فهي لا تصدق بسهولة ، أنّ الذكر يمكن أن يتقبلها مع صغيرها هذه المرة ، ضمن القطيع . ولكن من يدري ، لعله راجع نفسه ، وعاد عن خطئه ، وتصرف كحوت عطوف شهم . وما إن اقتربت منهم ، حتى زايلها الاطمئنان ، واستبد بها القلق وحده . فقد رأت الجميع ، بمن فيهم الذكر نفسه ، يلفهم وجوم وحزن عميقين . وتلفتت حولها ملتاعة ، متسائلة في نفسها : ماذا جرى ؟
ورفع الذكر عينيه ، وحدق فيها غاضباً ، ورغم خوفها شهقت ، وكادت تصيح : أين هي ؟ أين الأنثى المتقدمة في العمر ؟ وقبل أن تنطق بكلمة ، خاطبها الذكر بغضب قائلاً : منذ البداية ، رفضتُ انضمامك إلينا ، لكني وافقت احتراماً لها .
وصمت لحظة ثم قال بحزم : لم بعد لك مكان بيننا ، بعد أن تسببت في مقتلها .
وأطرقت الأنثى الفتية رأسها ، وقد غرقت عيناها بالدموع ، فمالت عليها أنثى قريبة منها ، وهمست لها قائلة : لقد فتك بها الحوت القاتل ، وهي في طريق العودة إلينا .
واستدار الذكر ، ومضى يشق الماء ، وهو يقول : هيا ، لنمض ِ من هنا ، فالحوت القاتل مازال في الجوار .
ومضت الإناث تشق الماء ، في أثر الذكر ، حتى غابوا جميعاً وراء الأفق . وبقيت الأنثى الفتية وصغيرها وحيدين وسط مياه ساكنة ، تضج بالغموض والخطر .







" 6 "


ـ والآن ، إلى أين ؟
ومرة أخرى تساءلت الأنثى الفتية هذا السؤال ، الذي طالما رددته خلال الليل والنهار ، وصغيرها إلى جانبها يلهو .. ويرضع .. وينام .. وينمو شيئاً فشيئاً ، فجميع القطعان ترفضها ، وقطيعها لا أثر له في أي مكان ، وهي تدور .. وتدور .. على غير هدى .. في مياه شاسعة .. لا تحدها سوى السماء .
ورغم اهتمامها بما حولها من كائنات بحرية عديدة ، وبحثها المستمر عن قطيعها ، الذي تاهت عنه منذ أشهر طويلة ، إلا أنّ الحوت الصغير ، كان محور حياتها ، لا تهتم إلا براحته ، وإبعاده عن الأخطار ، وما أكثرها في عالم المحيطات .
وذات يوم ، لاحت للحوت الصغير من بعيد ، نفاثة يتعالى بخارها ، ويتلامع تحت أشعة الشمس ، فصاح مبهوراً : ماما ، أنظري .
ونظرت الأنثى الفتية إلى حيث ينظر صغيرها ، وصاحت فرحة : يا إلهي ، إنه الحوت العجوز .
وتساءل الحوت الصغير مندهشاً : من ؟ الحوت العجوز؟
وردت الأنثى الفتية ، وهي مازالت تنظر إلى الحوت العجوز : نعم ، ألا تذكره ؟
وفكر الحوت الصغير ، ثم قال : لا أدري ، ربما رأياه مرة ، ونسيته .
ودفعته الأنثى الفتية أمامها ، وانطلقت نحو الذكر العجوز ، وهي تقول : تعال ، لعلك تتذكره حين تراه .
ورآهما الذكر العجوز ، يقبلان نحوه ، وتذكرهما على الفور ، فأسرع إليهما ، واعترضهما قائلاً : توقفا رجاء ، توقفا .
وأمسكت الأنثى الفتية صغيرها ، وتوقفت قائلة : رأيناك من بعيد ، فجئنا لتحيتك .
واختلس الذكر العجوز نظرة إلى البعيد ، وقال : أهلاً ومرحباً بك وبصغيرك .
ومال على الأنثى الفتية ، وقال بصوت هامس يشي بالخطورة : هاتي صغيرك ، يا عزيزتي ، ولنبتعد بسرعة من هنا .
وتلفتت الأنثى الفتية قلقة خائفة ، ثم حدقت في الذكر العجوز ، وقالت متسائلة : من ؟ أصدقني ، أهو الحوت القاتل مرة أخرى ؟
وهزّ الذكر العجوز رأسه قائلاً : كلا .
وتقدم ببطء في الاتجاه المعاكس ، وقال بصوت خافت : هيا ، اتبعيني .
ودفعت الأنثى الفتية صغيرها برفق ، وتبعت الذكر العجوز ، وتساءلت بقلق : أخبرني ، ما الأمر ؟
فردّ الذكر العجوز ، دون أن يلتفت إليها : استمري في طريقك ، هناك سفينة حواتة في الأفق ، وأخشى أن ينتبه إلينا بحارتها .
ولاذت الأنثى الفتية بالصمت ، وقلبها يخفق بشدة ، خوفاً على صغيرها ، لكنها تمالكت نفسها ، ومضت بثبات وهدوء ، تشق الماء في أثر الذكر العجوز.
















" 7 "


توقف الذكر العجوز والأنثى الفتية والحوت الصغير، عند منتصف الليل ، وسط مياه هادئة حدّ السكون ، يطل عليه قمر مضبب شديد الشحوب ، وسماء قاتمة مرصعة بالنجوم .
واحتضنت الأنثى الفتية صغيرها ، وقالت بصوت خافت : مسكين صغيري الحبيب ، لقد تعب اليوم كثيراً .
وبصوت خافت ، ردّ الذكر العجوز : أنت تعبت أكثر .
ونظرت الأنثى الفتية إليه مستغربة ، فأضاف قائلاً " إنه صغير ، لا يدري بالضبط ما يدور حوله .
وتململ الحوت الصغير مبتسماً في نومه ، فابتسم الذكر العجوز ، وقال : آه ما أسعد الصغار .
فردت الأنثى الفتية قائلة : نعم ، ولكن ليس في هذه البحار والمحيطات .
وتأثر الذكر العجوز لنبرة الحزن واليأس في صوتها ، فقال بصوت خافت حنون : هذه البحار والمحيطات ، يا بنيتي ، ليست كلها الحوت القاتل ، والسفن الحواتة ، والحبار العملاق .
وأطرقت الأنثى الفتية رأسها ، وقالت : إنني للأسف لم أرَ فيها ، حتى الآن ، غير الحوت القاتل ، والسفن الحواتة ، والحبار العملاق ، وكذلك .. الوحدة القاتلة ،في هذه المتاهة التي لا يحدها حدّ .
وتطلع الذكر العجوز إليها ، وقال : أنت متعبة الآن ، نامي يا بنيتي ، مادام صغيرك مستغرق في النوم ، وربما سترين غداً ، أنّ في البحار والمحيطات أيضاً الكثير من الحب الخير والجمال .
وأطرق الذكر العجوز رأسه ، وقد لاذ بالصمت ، ثم قال بصوت هادىء حنون : لم تكن حياتي كلها شيخوخة ومصاعب ووحدة ، فقد عشت طفولة مطمئنة سعيدة ، في كنف أمي ، ضمن قطيع كبير من الإناث والصغار ، يقوده ذكر قوي ، مرهوب الجانب ، كما عشت فترة مرحة ، لاهية جميلة ، وحين شاخ الذكر ، وآثر حياة التنسك والعزلة ، حللتُ محله إلى جانب عشرات الإناث المحبة ، وعشنا حياة مطمئنة سعيدة ، حتى كان يوم ..
وصمت لحظة ، ثم تابع بصوت حزين متألم : خرج عليّ من قطيعي ، ذكر فتيّ مغرور بعنفوانه وقوته ، وتصدى لي أمام إناثي ، والحق بي هزيمة مذلة ، والأنكى أنّ الإناث جميعاّ تركنني وتبعنه دون استثناء ، فمضيت مبتعداً ، مفضلاً حياة الوحدة والتنسك ، انتظاراً للحظة النهاية ، وهي على ما يبدو ليست بعيدة .
وصمت الذكر العجوز ثانية ، ثم رفع رأسه ، وابتسم بحنان ، عندما تبين أنها كانت تغط في نوم عميق .


" 8 "


أفاقت الأنثى الفتية ، صباح اليوم التالي ، على كركرات صغيرها ، وشهقاته المليئة بالمرح والسعادة . وفتحت عينيها ، وإذا به يتواثب حول الذكر العجوز ، ضارباً صفحة الماء بذيله الأفقي القوي ، والذكر العجوز يقهقه قائلاً : ستكون ذكراً قوياً مقداماً ، مثلما كنت أنا في شبابي .
ونسيت الأنثى الفتية ، ما قالته ليلة البارحة عن البحار والمحيطات ، ولم ترَ فيها ، هذه المرة ، سوى الشمس .. والمياه البهيجة .. وصغيرها .. الذي ينثر مع المياه .. رذاذاً ملوناً بالفرح .
ولوحت لهما محيية بصوت مفعم بالبهجة والمرح : صباح الخير .
وردّ الذكر العجوز ملوحاً : صباح النور ، تعالي يا عزيزتي ، وشاركينا اللعب .
وتوقف الحوت الصغير عن التواثب ، وضرب صفحة المياه بذيله الأفقي القوي ، وقال مكركراً : ماما ليست صغيرة ، لتشاركنا مثل هذه اللعبة .
وقهقه الذكر العجوز قائلاً : هذا حق ، يا رفيقي ، فأنا وأنت فقط .. صغيران .
ولم تتمالك الأنثى الفتية نفسها ، فضجت هي الأخرى بالضحك ، ثم أشارت للحوت الصغير ، وقالت : لابد أنك جعت ، بعد كلّ هذا اللعب ، تعال ارضع .
ونظر الذكر العجوز إلى الحوت الصغير ، وغمز له ، ثم قال : لم يعد صغيراً ليرضع ، بل سيأتي معنا ، ويأكل ما يشاء من القشريات .
واحتجت الأنثى الفتية ، وهي تغالب ابتسامتها الفرحة : لا ، أرجوك ، إنه صغير على تناول القشريات .
وضرب الحوت الصغير صفحة الماء بذيله الأفقي القوي، وصاح : كلا ، لم أعد صغيراً وسآكل القشريات معكم .
واقتربت الأنثى الفتية من الذكر العجوز ، وقالت دون أن تستطيع إخفاء فرحها : أنظر فعلتك .
فردّ الذكر العجوز بنبرة مازحة : هذا ليس ذنبي ، بل ذنبه ، لقد كبر وتجاوز سن الفطام ، دون أن يستأذنك .
وهزت الأنثى الفتية رأسها ، وقالت : آه منك .
واندفع الذكر العجوز ، يشق الماء بهمة الفتيان ، هاتفاً : هيا إذن إلى القشريات .
وعلى الفور ، انطلق الحوت الصغير متواثباً إلى جانبها، صائحاً بصوته القوي : إلى القشريات .
وانطلقت الأنثى الفتية ، في أثرهما فرحة مطمئنة ، فها هو صغيرها قد كبر فعلاً ، وتجاوز سن الفطام ، وسيبدأ منذ اليوم بتناول القشريات .
ولاحت القشريات من بعيد ، تطفو فوق سطح الماء ، تتموج إلى ما لا نهاية ، كأنها حقل لا حدود له ، مليء بالسنابل .
وما إن وصلوا مشارف القشريات ، حتى فغر الذكر العجوز فاه على سعته ، وهو يصيح : هيا ، يا بنيّ ، افتح فمك مثلي ، وعب ما تشاء من هذه القشريات اللذيذة .
وفتح الحوت الصغير فاه ، وكذلك فعلت الأنثى الفتية ، وتقدموا جميعاً جنباً إلى جنب ، يعبون من حقل القشريات ، الذي لا ينتهي .
ومع العبات الأولى من حقل القشريات ، شعر الحوت الصغير ، أنّ حليب أمه ألذ بما لا يقاس ، إلا أنه كتم ذلك في نفسه ، فهو قد كبر ، ولا يريد أن يستمر على الرضاعة ، كأي حوت صغير أبله .
وركن الذكر العجوز والأنثى الفتية والحوت الصغير إلى الراحة ، بعد الظهر ، وقد امتلأت بطونهم بالقشريات . ونسي الحوت الصغير بأنه قد كبر ، فغاص تحت الماء ، وتشبث بأحد أثداء أمه ، وراح يعبّ من حليبها اللذيذ الدسم الدافيء .






" 9 "

مرت الأيام على الحوت الصغير، مليئة باللهو واللعب ، وعبّ القشريات ، والاستماع إلى أحاديث الذكر العجوز ، التي لا تنتهي .
وكلما نادته أمه : بنيّ ، تعال ارضع .
يردّ عليها بشيء من الانفعال : قلت لك ألف مرة ، لن أرضع بعد الآن ، لقد كبرت .
وحين يتعب من اللهو واللعب ، وعبّ القشريات ، والاستماع إلى أحاديث الذكر العجوز ، يلجأ إلى صدر أمه ، وهو يتثاءب . وما إن يغمض عينيه ، حتى ينسى من جديد أنه كبر ، فيتسلل إلى أحد أثدائها ، فيرضع .. ويرضع .. ويرضع .. حتى يغفو .. ويستغرق في نوم عميق .
وبدت الأم خلال هذه المدة ، سعيدة مطمئنة ، حتى كادت تنسى الحوت القاتل والسفن الحواتة والحبار العملاق ، بل وحتى قطيعها ، الذي لم تعد تعرف عنه أي شيء .
ولعل الذكر العجوز ، عوضها بعض الشيء عن قطيعه، الذي تاهت عنه ، فقد ظل إلى جانبها ، لا يفارقها ، ولا يفارق صغيرها ، لحظة واحدة . وصاروا بمثابة أسرة واحدة ، قلما يستطيع أحدهم الابتعاد عن الآخر .
وعندما تتوقف الأنثى الفتية ، وتركن للراحة ، أو تستسلم للنوم ، يبقى الذكر العجوز إلى جانب الحوت الصغير ، يلهو معه مرة ، ويحدثه مرات عن الحيتان .. والدلافين .. والدببة القطبية .. وطيور الماء ..وأسماك الأعماق ، ويحذره من الحيتان القاتلة .. والسفن الحواتة .. والحبار العملاق .. والقروش المفترسة ، كما حدثه عن مسراته .. ومكابداته .. ومشاهداته في البحار والمحيطات .. والمناطق القطبية الباردة . وطالما تمنى له ، وهو يتغامز مرحاً ، أن ينمو ، ويكبر ، حتى يغدو شاباً ، ويلتحق بأحد القطعان .
وغالباً ما يقهقه ، ويقول له بنبرة ذات معنى : لا تختر قطيعاً من الذكور .. بل قطيعاً من الإناث .. كما فعلت أنا في شبابي .
وتساءل الحوت الصغير : وفارقت أمك ؟
وردّ الذكر العجوز قائلاً : طبعاً ، فارقتها ، فارقتها إلى غير رجعة .
وبشيء من الاستنكار ، احتج الحوت الصغير قائلاً : كلا، لست مثلك ، أنا لن أفارق أمي مهما كان الأمر .
وقال الذكر العجوز مغالباً ضحكته : هذا ما قلته أنا أيضاً، يا صغيري ،عندما كنت في عمرك ، وما إن غدوت شاباً ، حتى نسيت ما قلته ، والتحقت بقطيع الإناث .


" 10 "


يوماً بعد يوم ، ازداد اعتماد الحوت الصغير في طعامه ، على القشريات منصرفاً بالتدريج عن الرضاعة، ومرت به الأيام هادئة هانئة ، حتى كان يوم . كان الوقت عصراً ، والريح تتصاعد ، وتتصاعد معها الأمواج ، وكانت الأنثى الفتية ، والذكر العجوز ، والحوت الصغير ، يسبحون وسط حقل لا نهاية له من القشريات ، وقد فتحوا أفواههم على سعتها ، وراحوا يعلون باطمئنان من طعامهم المفضل .
وحانت من الأنثى الفتية التفاتة ، فلمحت من بعيد زعنفة ظهرية عالية ، تشق المياه المتوجة نحوهم ، وخفق قلبه بشدة ، إنه الحوت القاتل . ومالت على الذكر العجوز ، وقالت بصوت خافت مضطرب : لنتوقف .
وتوقف الذكر العجوز متسائلاً : ما الأمر ؟
وردت الأنثى الفتية مرعوبة : الحوت القاتل .
وتلفت الذكر العجوز متمتماً : يا إلهي ، الصغير .
واعترضت الأنثى الفتية صغيرها ، وراحت تدفعه إلى الجهة المعاكسة ، وهي تقول : بنيّ ، فلنبتعد ، من هنا .
واحتج الحوت الصغير قائلاً : دعيني ، يا ماما ، دعيني، إنني لم أشبع بعد .
ودفعته الأنثى الفتية مرة أخرى ، وقالت : هيا ، سأرضعك بعد قليل .
وحاول الحوت الصغير عبثاً أن يتوقف ، وهو يقول : لا أريد أن أرضع ، هناك قشريات كثيرة ، دعيني ..
وقاطعته أمه قائلة : كفى ، يا بنيّ ، علينا أن نبتعد ، وبسرعة .
ولحق بها الذكر العجوز على عجل ، وهمس لها بصوت يشي بالخطورة : توقفي .
وأبطأت قليلاً ، لكنها لم تتوقف ، فمال عليها ، وقال : سفينة حواتة .
ورفعت رأسها ، وإذا ثلاثة قوارب ، تشق الماء مبتعدة عن السفينة الحواتة ، متجهة نحوهم ، يستقلها بحارة شرسون ، مدججون بالرماح .
وتوقفت حائرة مضطربة ، ما العمل ؟ الحوت القاتل من جهة ، والبحارة المدججون بالرماح من جهة أخرى . واستدارت بسرعة ، ودفعت صغيرها أمامها ، وهي تصيح : فلنهرب .
وانطلق الثلاثة هاربين ، والأنثى الفتية تدفع صغيرها قائلة : أسرع يا بنيّ ، أسرع ، أسرع .
لكن الحوت القاتل ، والقوارب الثلاثة ، كانوا أسرع منهم، فدفعت الأنثى الفتية صغيرها إلى الذكر العجوز ، وصاحت : خذه ، واهرب .
واحتضن الذكر العجوز الحوت الصغير ، وقال : بنيتي، تعالي .
وقاطعته الأنثى الفتية متوسلة : أرجوك ، خذه واهرب ، سيقتلوننا جميعاً إذا بقينا معاً .
وعلى مضض ، أخذ الذكر العجوز ، الحوت الصغير ، وانطلق به بعيداً . وانقض الحوت القاتل على الأنثى الفتية ، فانهال عليه البحارة برماحهم ، مما أجبره على التراجع ، ومن ثم اللوذ باللفرار .
ومن بعيد ، رأى الذكر العجوز ، الأنثى الفتية ، وقد أحاط بها بحارة القوارب الثلاثة ، ورماحهم تتلامع في أيديهم ، فدفع الحوت الصغير أمامه برفق ، وقال : هيا ، يا بنيّ ، هذا مكان خطر ، علينا أن نبتعد عنه ، هيا ، هيا.













" 11 "


مرت الأيام ، وكبر خلالها الحوت الصغير ، واشتد عوده ، وغدا حوتاً فتياً ، مليئاً بالحيوية والعنفوان . وغابت عن ذهنه بالتدريج صور كثيرة ، وأحداث عديدة، إلا أنّ صورة أمه ، وحادثة مقتلها بين فكي الحوت القاتل ، ورماح البحارة ، لم تغب مطلقاً . وطوال هذه المدة ، ظلّ الذكر العجوز يقاوم الأيام والشيخوخة ، كي لا يبقى الحوت الصغير وحيداً ، وسط هذه البحار والمحيطات ، بعد أن غابت عنه أمه إلى الأبد .
وطالما شاهدا قطعان الحيتان ، تمرّ من بعيد ، ونفاثاتها تطلق نافورات من البخار إلى أعلى ، وتتساقط رذاذاً ناعما حولها . وذات يوم ، لمحا على البعد ، قطيعا يضج فوق سطح الماء، فقال الذكر العجوز: انظر ، هذا قطيع من الذكور، وأغلبهم في عمرك.
وتطلع الحوت الصغير إليهم، وقال مندهشاً : ذكور ! وما أدراك ؟
وابتسم الذكر العجوز، وقال: إنهم ككل الذكور الفتيان ضاجون، مرحون، كثيرو العبث.
والتفت إليه، وأضاف قائلا : لو كنت مكانك ، يا بني، لانضممت إليهم في الحال.
وتطلع الحوت الصغير إليه، ثم قال : لن انضم لا إلى هذا القطيع ، ولا إلى غيره ، وأتركك.
وضحك الذكر العجوز، وقال : لا تستعجل ، ستتركني يوما، وتنضم إلى احد القطعان، ولكن ليس إلى مثل هذا القطيع .
واحتج الحوت الصغير متسائلا : أنا !
فرد الذكر العجوز : نعم ، أنت، وأنا شخصيا لا ألومك.
وضرب الحوت الصغير صفحة الماء بذنبه، ومضى يشق الماء قدما، وهو يقول: أنت لم تعرفني بعد.
وضحك الذكر العجوز، وقال : هذا ما تظنه، وستثبت لك الأيام ، أنني على حق.
وتوقف الحوت الصغير ، متطلعا إلى قطيع الحيتان ، وقال بصوت مضطرب: أنظر .
ونظر الذكر العجوز إلى حيث ينظر الحوت الصغير ، ورأى الحيتان يتوقفون مضطربين خائفين ، فقال : أنهم يواجهون خطرا، لعله الحوت القاتل.
وصمت لحظة، ثم قال بصوت منفعل، خائف: انه هو ، انظر ، ها هو اللعين يهاجمهم.
وتراجع قليلاً ، وهو يقول : بني ، لنبتعد من هنا، انه وحش كاسر.
وبدل أن ينصاع الحوت الصغير للذكر العجوز، وينطلق معه مبتعدا، تسمر في مكانه، وعيناه الخائفتان تتابعان الحوت القاتل ، ينقض على أحد الحيتان الفتية ، ويفتك به بأسنانه الخناجر . ورأى الحيتان الأخرى، يلوذون بالفرار ، تاركين رفيقهم يواجه وحده مصيره المحتوم. فصاح بغضب: يا للجبناء ، فروا ، وتركوا رفيقهم.
ورد الذكر العجوز قائلاً : لا عليك، هذه عادتهم.
ودفع الحوت الصغير برفق، ثم قال: هيا، يا بني، هيا.
ومضى الحوت الصغير ، يشق الماء صامتا، حزينا، ولحق الذكر العجوز به ، وقال : قد تستغرب إذا عرفت أن للإناث عادة تختلف عن عادة الذكور هذه ، فعندما تصاب أنثى منهن بمكروه، تلتف الأخريات حولها، ولا يتركنها أبدا ، لكن هذا يسبب لهن أذى شديدا ، وخاصة إذا كانت قربهن سفينة حواتة .










"12"



لاحظ الذكر العجوز ، أن الحوت الصغير ، بدا مؤخرا ، يميل للصمت ،لكن هذا الصمت أثار هواجسه ، فقد لمس أن أعماق الحوت الصغير تدمدم كبركان ينذر بالانفجار . ولعل قفزاته الضاجة بين حين وأخر ، وصفعه لصفحة الماء بذيله الأفقي القوي ، كانت إحدى نذر ذلك الانفجار المتوقع.
وراح الذكر العجوز، يبتعد عنه بعض الأحيان، بحجة أو بأخرى ، ربما ليترك له الفرصة كاملة ، كي يفكر ، ويصل إلى قرار ، في الأمور التي تشغله.
وذات صباح ، والحوت الصغير يعب القشريات، ساهيا عما حوله، مرّ به قطيع من الإناث ، يقودهن ذكر مختال ، متوجس، سريع الغضب. ورفع الحوت الصغير رأسه عرضا ، ورأى قطيع الإناث، وتراءى له ، انه قد رأى هذا القطيع أكثر من مرة ، وحين تجاوزه الذكر، التفت إليه ، وحدجه بنظرة قاسية متوعدة .
وتجنباً لأي سوء فهم ، هم الحوت الصغير بالعودة إلى عب القشريات ، فتوقف الذكر مزمجرا، ثم استدار ، واندفع نحو الحوت الصغير ، وخاطبه قائلاً : أيها الفتى ماذا وراءك ؟ هذه رابع أو خامس مرة، تعترض فيها طريقنا .
ورد الحوت الصغير بصوت حاول جهده أن يكون هادئا : أخشى أنك واهم ، ولعلها صدفة ، لا أكثر .
وقال الذكر بحدة : مهما يكن ، فأنني لا أريد أن أراك ثانية ، وإلا.. ندمت .
وصمت الحوت الصغير قليلا ، محاولا لجم غضبه ، ثم قال : ليس الخطر عليك ، أو على إناثك ، يكمن فيّ ، بل في الحوت القاتل، الذي يصول ويجول في الجوار.
ورد الذكر قائلا : قلت لك ، لا أريد أن أراك ثانية في طريقي ، وكفى .
وبشيء من الحدة ، قال الحوت الصغير : هذا طريقي ، وإذا أردت ألا تراني ، فأبتعد أنت وقطيعك إلى طريق أخر .
واستبد الغضب بالذكر ، وهمّ أن ينقض على الحوت الصغير ، حين أقبل الذكر العجوز مسرعا، وهو يقول بصوت يشي بالخطورة : الحواتة .. الحواتة .
ورفع الذكر رأسه ، وما إن لمح السفينة الحواتة في الأفق، حتى أسرع إلى إناثه المذعورات ، وانطلق بهن ، على عجل ، بعيدا عن المكان.
ونظر الذكر العجوز إلى الحوت الصغير ، ثم مضى يتقدمه قائلاً : هيا ، يا بني ، إن السفينة تقترب ، وأخشي أن يرانا بحارتها.
وتطلع الحوت الصغير بغضب ، ونقمة ، إلى السفينة الحواتة ، ثم استدار بعنف ، ومضى يشق الماء ، في أثر الذكر العجوز .





















" 13"


لسبب لا يدريه ، ظل الحوت الصغير ، طوال أيام عديدة ، يتابع من بعيد ، قطيع الإناث ، محاولا تركيز نظره على الذكر ، وإن كانت عيناه تسترقان النظر أحيانا ً من الإناث ، وهن يسبحن بهدوء ، ورشاقة ، ورضوخ ، وراء الذكر .
لم يسأل الذكر العجوز الحوت الصغير، عن دوافع هذه المتابعة المستمرة ، فهو على ما يبدو قد خمن بعض هذه الدوافع ، وكيف لا ، وهو ذكر ..عجوز .. مجرب ؟
وذات يوم ، كان الذكر العجوز ، يتشاغل بعب القشريات، ويراقب خلسة مناورات الحوت الصغير ، ومتابعته الملحة لقطيع الإناث . وحانت منه نظرة إلى الوراء ، فأنقض قلبه فزعاً ، وأسرع إلى الحوت الصغير، وقال بصوت يشي بالخطورة : بني ، لنبتعد بسرعة من هنا.
وتوقف الحوت الصغير ، وقال بشيء من الحدة : ولم نبتعد ؟ هذا المكان لي ولك، كما هو للآخرين.
وأدرك الذكر العجوز ما يعنيه الحوت الصغير ، فمال عليه ، وقال بصوت هادئ : بني ، هناك سفينة حواتة وراءنا ، ويبدو أن بحارتها قد اصطادوا حوتا من حيتان العنبر.
ودمدم الحوت الصغير متذمرا ، غاضبا: يا للحياة ، ما أكثر منغصاتها ، الحوت القاتل من جهة ، والسفن الحواتة من جهة ، والذكر الغضوب من..
ورغم خطورة الموقف، قاطعه الذكر العجوز قائلا : آه .. الذكر لا يلام ، يا بني .
وحدق الحوت الصغير فيه مستغرباً، فقال : إنه يخاف على إناثه منك ، لقد بدأ يشيخ ، ويضعف ، أما أنت ففي عنفوان شبابك وقوتك .
وهمّ الحوت الصغير أن يردّ عليه ، حين رجت المياه حركة غير عادية ، فلاذ بالصمت ، وقد تملكه القلق والغضب ، فقال الذكر العجوز : لا عليك ، يا بنيّ ، إنهم القروش .
ودمدم الحوت الصغير منزعجاً : القروش ؟
واستطرد الذكر العجوز قائلا : يبدو أنهم شموا رائحة دم حوت العنبر ، المربوط إلى السفينة الحواتة .
وصمت لحظة ثم قال : إذا لم ينقذ البحارة هذا الحوت ، ويرفعونه قبل حلول الظلام ، إلى سطح السفينة ، فلن يجدوا صباح الغد سوى هيكله العظمي.
وتطلع الحوت الصغير ، إلى قطيع الإناث مرة أخرى ثم استدار ، ومضى يشق الماء مبتعداً، وهو يقول : هيا الأفضل أن نبتعد.


"14"



ما كاد الحوت الصغير ، والذكر العجوز ،يبتعدان قليلاً ، حتى ارتفعت من قطيع الإناث صيحات استغاثة ، فتوقفا ، واستدارا بسرعة ، وإذا الحوت القاتل ، يتجه كالسهم نحو القطيع.
وتوقف الذكر مرعوباً ، حائرا، لا يدري ماذا يفعل. وتصايحت الإناث طالبات النجدة . وبدل أن يندفع الذكر لاعتراض الحوت القاتل ، والتصدي له، تراجع خائفاً، وراح يبتعد عن القطيع.
وعلى الفور ، انطلق الحوت الصغير ، ليقطع الطريق على الحوت القاتل، فصاح به الذكر العجوز : توقف، أيها المجنون، سيفتك بك الحوت القاتل.
لكن الحوت الفتي لم يتوقف ، وقبل أن يصل الحوت القاتل قطيع الإناث لطمه الحوت الصغير بذيله الأفقي القوي . وترنح الحوت القاتل من أثر اللطمة ، وهم أن يتمالك نفسه ، ويعاود الهجوم ، فلطمه الحوت الصغير بذنبه ثانية ..وثالثة .. ورابعة .. و..و.. وتهاوى نحو الأعماق، والدماء تنزف من جراحه . وصعد بعد قليل إلى السطح ، متقطع الأنفاس، ثم تحامل على نفسه، ولاذ بالفرار .
وتوقف الذكر مترددا، يتبادل نظرات قاسية مع الحوت الصغير . وهنا تقدمت الإناث، الواحدة بعد الأخر، ووقفن على جانبي الحوت الصغير . واطرق الذكر مفكرا ، ثم استدار ، ومضى يشق الماء ببطء ، مبتعدا عن القطيع .
وتقدم الذكر العجوز من الحوت الصغير ، وقال مبتسما: ها أنت قد وجدت قطيعك.
وتطلع الحوت الصغير إليه حائراً ، فقال : لقد قلت لك مرة ، أننا سنفترق يوما ما ، وها قد جاء هذا اليوم.
وقال الحوت الصغير بشيء من الرجاء : ابق معنا.
فهز الذكر العجوز رأسه، وقال : هذا مستحيل ، فليس للقطيع سوى ذكر واحد.
وصمت لحظة ،ثم قال : بني ، إن القطيع في حمايتك الآن ، فأمض.
وتراجع الحوت الصغير قائلاً بصوت دامع : إلى اللقاء .
ودمعت عينا الذكر العجوز ، وتمتم : وداعا.
واستدار الحوت الصغير ، الذي لم يعد صغيراً ، ومضى يشق الماء بعزم، وسرعان ما مضت في أثره الإناث الواحدة بعد الأخرى .
وهمّ الذكر العجوز أن يستدير ، ويمضي وحده مبتعداً، حين ارتج الماء بقوة ، فقال في نفسه : أنهم القروش،يبدو أننا لن نرى مرة أخرى .. الحوت القاتل .



3/8/2002








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الفلسطينيين بيستعملوا المياه خمس مرات ! فيلم حقيقي -إعادة تد


.. تفتح الشباك ترجع 100 سنة لورا?? فيلم قرابين من مشروع رشيد مش




.. 22 فيلم من داخل غزة?? بالفن رشيد مشهراوي وصل الصوت??


.. فيلم كارتون لأطفال غزة معجزة صنعت تحت القصف??




.. فنانة تشكيلية فلسطينية قصفولها المرسم??