الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


كتاب شمس_الرجاء --- الفصل الحادي والعشرون --- القصة الحادية والعشرون: رجاء المُسْتَعْبَدين

توماس برنابا

2023 / 4 / 29
الصحة والسلامة الجسدية والنفسية


في نهاية يوم عمله، طرق وديع باب مكتب رئيسه الذي آذن له بالدخول. وقد كان السيد شَريف يحتسي الخمر وبدا عليه السُكْر وبوادر الهذيان وقد كان يُشاهد برنامج لعالم الحيوان على التلفزيون..

- ماذا تُريد يا وديع؟ أَهناك ما يستدعي أن تقطع عليَّ خلوتي ومتعتي وسعادتي؟

- متأسف يا سيد شريف.. يُمكنني أن أنصرف وأتِ غدًا أو في أي يوم أخر إن شئت؟

- ولماذا التأجيل؟ هيا قُلْ ما عندك!

- كل ما في الأمر يا سيدي أني أريد علاوة.. فإن راتبي دون أي زيادة منذ خمس سنوات وقد ارتفعت الأسعار بشكل مُبالغ فيه، وراتبي يكاد لا يكفي مصاريف أسبوع واحد فقط من الشهر!

- علاوة! أَتجرؤ أيها الوغد على طلب علاوة؟ يُمكنك العمل لساعات إضافية لزيادة دخلك، ويُمكنك العمل في عمل إضافي بجانب عملك معنا هنا في الشركة حتى تَكفي نفسك.. لكن لا تجرؤ أبدًا على طلب أي علاوة.. أَفهمت؟

- لكن يا سيدي أنا بالفعل أعمل منذ الساعة السابعة صباحًا وحتى الخامسة مساءً.. ولكي أرجع للبيت يلزمني ساعتين استغرقهما في المواصلات.. فكيف يمكنني أن أعمل عمل إضافي أو ساعات إضافية؟ هذا شبه مُستحيل!

- مَنْ لا يعمل، ليس من حقه حتى أن يأكل!

- يا سيدي الرحمة! من حقي علاوة على الخمس أعوام السابقين.. أنا لا أطلب سوى حقي!

- حقك يا وغد! ليس لك أي حقوق.. أنت مُجرد موظف.. مُجرد عامل.. مُجرد عَبد كما كان يُطلق عليكم قديمًا!

- أَأنا عبد يا شريف باشا؟

- بالطبع عبد بل أقل من عبد! مجرد فريسة نفترسها يوميًا لنسد بها رمقنا إذا جُعنا!

دعني أشرح لك الأمر أيها البائس! قديمًا كان أمثالنا يذبحون أمثالكم ويؤكلون لحومكم، ثم تطور المجتمع لنترككم من حولنا تزرعون طعامنا وتربون وترعون الحيوانات الداجنة الأشهى منكم لحمًا.. وتأتون بها إلينا طواعيةً لأننا كنا نملك هذه الحيوانات وكنا نملككم أنتم أيضًا! فهناك دواجن نأكلها ودواجن تَخدُمنا!

وقمتم بالثورة على استعبادكم! فهل نترككم نحن سادة المجتمع! لا لم نترككم، أعطيناكم ما اشتهيتم من حرية.. وحاصرناكم، وحاصرنا أفكاركم وأيدولوجياتكم حتى لا تفلتوا من قبضتنا.. واستعبدناكم بطريقة أكثر تحضرًا! وكنا نأكل لحومكم بطريقة اقتصادية راقية! تأتون للعمل عندنا وتستحقون فعليًا مائة جنيه عن كل ساعة ولكننا نعطيكم فقط خمسة جنيهات تتطلعون إليها بترقب وشغف! هل تظن أيها البائس إن أعطيتك مائة جنيه عن كل ساعة عمل أنه سيمكنني حينذاك أن أكون بهذه السلطة والمكانة والغنىّ، وأن استمتع بشرب مثل هذا الشراب الشهي؟

أَتعلم أن ثمن هذه الزجاجة الصغيرة يعادل ما تجنيه في شهر؟! إذا ما أعطيتك ما تقول أنه حقك، فكيف لي أنا أن أعيش في رفاهية مثل هذه؟

إياك أن تكرر على مسامعي كلمات مثل الحق والعدالة الاجتماعية والمساواة.. لن تجد هذه الأمور إلا في المقابر! نحن نعيش في غابة يا وديع، ولا يمكن أبدًا أن يتساوى الخروف مع الأسد! ومن حق الأسد في الغابة أن يفترس الخروف، ولا يُمكن أبدًا أن تلوم الغابة الأسد على افتراسه للخروف! ولا يُمكن أبدًا للأسد أن يقتات على الحشائش، بل حياته ودمائه من لحم ودماء فرائسه!

أَسمعت يا خروف؟!

- يا سيدي كُلنا بشر ولسنا حيوانات، ونحن لا نعيش في غابة.. والله هو المُتسلط على كل البشر، وسيظل الحق حقًا حتى ولو لم تعترف به!


- ما هذه النغمة في حديثك؟ أَتُهددني؟ هل تريد مواجهتي؟ يُمكنني الرجوع إلى صفة الافتراس التي ورثتها عن أسلافي والتهمك التهامًا الآن!


هل تود مُقاضاتي؟ فلتذهب! أفعل ما شئت! البلد بلدنا والدفاتر دفاترنا! وضعنا لكم قوانينكم لحماية أنفسنا منكم! وحتى نحصل منكم وبإرادتكم على ما نُريد! وسنظل دومًا هكذا من جيل لجيل، نُحاصركم ونحاصر أفكاركم وفلسفاتكم، وأيديولوجياتكم حتى تظلوا تحت سيطرتنا وبين براثن مخالبنا! فمن أين سنغتني إذا سمحنا لكم بالانفلات من بين براثنا؟ كيف ستكون الدنيا إن أصبح الجميع أسود أو الجميع خراف؟ ستكون الدنيا في مُنتهىّ العبثية وستخلو من الإثارة والمتعة!

أذهب يا وديع إلى بيتك، ولا تنسى أن تأتي في الصباح للعمل الجاد، ولا تُغامر بترك العمل لتجد عَملًا أخر.. فماذا ستكتب في سيرتك الذاتية حينما تقدمها لشركة أخرى؟ بالطبع ستكتب أنك عَملت لديَّ! وتلك الشركة ستتصل بالتأكيد لتستعلم عنك، وحينئذ سأكون لك كالطريق المسدود في حياتك في إيجاد عمل أخر! هذه هي الدنيا أيها التعس! وكلنا، كسادة، نعمل لصالح بعضنا البعض حتى لا تقوم لكم قائمة لتثوروا على ما أنتم فيه!

لقد استمتعت بهذا الحوار معك يا وديع، وسأمنحك علاوة مكافآة لك!

ورشف السيد شريف رئيس الشركة أخر رشفة من الشراب المُسكر.. ووديع الموظف المطحون ينظر إليه ثم قال:

- أشكرك يا سيدي على كرمك.. دُمت لنا ذُخرًا!

غادر وديع غرفة سيده شريف وهو يلعن الخمر التي تُذهب العقل السليم وتجعل شاربها يهذي بهراء وتخاريف!

*****

قرأ مدحت هذه القصة بعد أن وصلته بالبريد الإلكتروني، وأمتلأ غضبًا نحو هؤلاء المُفترسين الجُدد السالبين حقوق ومقدرات الفقراء حتى يزدادوا غنىَّ، ويزداد الفقراء فقرًا!

راح مدحت يُفكر في كيف سيتعامل مع من يعتبرهم "أكلي لحوم البشر" في حياته الخاصة، وكيف يُمكنه بذكاء ودهاء أن يحصل على حقوقه بطريقة راقية؟

تطلع مدحت لمقابلة صديقه بعد سويعات قليلة والتحاور الممتع معه بشأن هذه القصة البالغة الأثر على الأبصار والمسامع والأفئدة والأذهان!

ذهب مدحت لابنه باسم الذي كان يشاهد أفلام الرسوم المتحركة على التلفزيون، ورأه مُندمج في مشاهدة الفيلم.. فذهب إلى زوجته العزيزة لعلها تحتاج لأي مُساعدة في التحضير لعزومة المساء، وقال لها:

- أَتُريدين مني أي مساعدة يا أم باسم؟

- لا يا عزيزي، يمكن أن ترتاح إلى أن يأتي الأستاذ نشأت..

ذهب مدحت لينام قليلًا ريثما يأتي صديقه العزيز.. وقبل حلول الساعة السادسة بنصف ساعة أيقظته زوجته ليُعد من نفسه وهندامه لِلقاء..





اللقاء الثالث وحوار الليلة الثانية والعشرون


دق جرس الباب لتفتحه السيدة ميرفت مُرحبة بالضيف عظيم الشأن والقدر لدى زوجها، وقائلةً له:

- مرحبا بك يا أستاذ نشأت! تفضل! البيت بيتك..

- شكرًا يا أم باسم

إلتقاه الأستاذ مدحت من على باب الشقة.. وسارا نحو غرفة الجلوس. وكان الأستاذ نشأت يحمل شنطة بلاستيكية كبيرة بيده اليُمنىّ..

وحينما سمع باسم الصغير بحضور الأستاذ نشأت، جرى مُسرعًا إليه، ورحب به معانقًا إياه، فأهداه الأستاذ نشأت مجموعة عرائس للأبطال الخارقين؛ سوبرمان، وبات مان، وبَظ الطائر، وفرح بهم الصغير شديد الفرح وقال للأستاذ نشأت:

- شكرًا يا عم نشأت.. شكرًا.. الآن يُمكنني أن أسافر بالطائرة مع بظ الطائر إلى القمر!

أخرج الأستاذ نشأت هديته التالية للسيدة ميرفت، وقد كانت علبة ماكياج، فشكرته السيدة ميرفت كثيرًا على كرمه داعيةً له كل السعادة في حياته، واستأذنتهما وأنصرفت تاركة الأستاذ نشأت مع مدحت زوجها..

ثم أخرج الأستاذ نشأت هدية الأستاذ مدحت وقد كانت ساعة يد أنيقة والتي أثارت إعجاب الأستاذ مدحت، فشكر صديقه العزيز جدًا وقال له:

- تُحرجني جدًا يا أستاذ نشأت بكرمك.. قَلما يجود الزمان بمثلك! وكم أنا محظوظ بصداقتك يا صديقي العزيز..

- لا يلزمني أن أكرر يا مدحت أن كل ما أفعله لن يكفي أبدًا كرد لجمايلك الكثيرة عليّ!

دخلت السيدة أم باسم بصينية عصير الجوافة الطازج والمثلج وأعطيت كوبًا لكل من الأستاذ نشأت ومدحت، وانصرفت لِتُعد مائدة العشاء..

قال الأستاذ مدحت:

- جعلتني يا نشأت أُعدد النِعَم التي معي.. فماذا يُضيرني إذا فقدت نعمة أو اثنتين، وتَبقى بحوزتي العشرات!

دمعت عين الأستاذ نشأت وهو يتذكر كم كان أشد بؤسًا وأفقر حالًا من صديقه في الماضي، فقال لمدحت:

- دوام الحال من المُحال يا صديقي العزيز.. إن هذا التفكير الإيجابي سَيشفي نفسك من كل ما علق بها من وهن وضعف، وستعمل أعضائك بأكثر فعالية ونشاطًا في غضون القليل من الأسابيع.. صدقني يا صديقي، أنا أتحدى بك نفسي، وأراهن حتى الأيام على أنك ستقوم من مرضك هذا أشد بأسًا وقوة مما مضى.. وقد ألجأ إليك يومًا ما لمساعدتي ولتشد من إزري إذ ما روعتني الأيام! أنا مؤمن بهذا إيما إيمان!

- شكرًا يا نشأت! لولاك ما أعدت اكتشاف نفسي، ولا أهلي، ولا ما معي من نعم الله التي بلا عدد ولا حصر..

تقدمت السيدة ميرفت تُعلن جاهزية المائدة..

تقدم الأستاذ نشأت ومعه مدحت والسيدة ميرفت إلى المائدة التي كانت مملوءة بما هو شهي وطيب من الأكلات الشعبية التي يفتقدها الأستاذ نشأت في حياته الجديدة الخالية من العنصر النسائي.. لقد أرادت أم باسم أن ترد له الجميل بشكل تستطيعه وتجيده وقد كانت في ذلك أستاذة!

تناولوا الطعام متبادلين أطراف الحديث، قريبه وأبعده، إلى أن قال الأستاذ نشأت:

- جعلتينني أبغض طعام المطاعم يا أم باسم..

- كل ما ينقصك يا أستاذ نشات هو امرأة تكون بجانبك.. وأنا لديَّ طلبك إن أردت أن أحادثك عنها فسأفعل!

- يا أم باسم أشكرك على هذا الإهتمام.. لكنني أقلعت عن التفكير في هذه الأمور منذ فترة..

- لن تندم على المحاولة يا أستاذ نشأت.. وصدقني ستنقلب حياتك رأسًا على عقب حينما تعاود التفكير في العاطفة والزواج.. ومن أُحدثك عنها، الدكتورة أمل صُبحي، لا يُعيبها شيء إلا أنها تفوقت علميًا لدرجة حصولها على الدكتوراة مما أخاف العرسان منها لأنهم يودون أن من يرتبطون بهن يكن أقل تعليمًا وربما أقل عقلًا!

أثار هذا العرض إهتمام الأستاذ نشأت، وإذ به يُفكر أنه لن يُضيره من الأمر شيئًا لو حاول..

- وكيف لي أن أراها أو أقابلها يا أم باسم؟

- دع هذا الأمر لي حتى أُحادثها في الأمر.. وأنا لمتأكدة أنها قرأت لك أو سمعت عنك ولو القليل!

فوجيء مدحت بهذا الحديث، فلم يعلم سابقًا كيف يرد الجميل لصديقه العزيز وإذ بزوجته تقدم لصديقه ما قد يُسعده في حياته ويملأها بالفرح والبهجة مرة أخرى!

- شكرًا جزيلًا يا سيدة ميرفت.. أنا ممنون بالفعل لك!

- لا شكر على واجب يا أستاذ نشأت.. أنت تستحق كل خير!

انتهى الأستاذ نشأت من تناوله الطعام وقام لغسل يديه، وهو يستعيد ذكرياته مع حبيبته الأولى وبدأت هرمونات السعادة تَنْصَب في عروقه مرة أخرىّ، ثم جلس مع صديقه مدحت في غرفة الجلوس لِيُتِما حوارهما المُعتاد عن قصة ذلك اليوم..

تركتهما السيدة ميرفت لتواصل عملها في جمع الأطباق وإعادتها إلى المطبخ، ثم تُجالس ابنها باسم في غرفته، هذا الذي كان غارقًا في رحلاته الفضائية مع أبطاله الخارقين في الطائرة أحيانًا، وكسفينة فضاء أحيانًا أخرىّ!


حوار الليلة الثانية والعشرون

- أَقرأت قصة اليوم يا أستاذ مدحت؟

- بالطبع يا نشأت.. لقد كانت قصة تفضح مشاعر بعض الأشرار الدفينة التي ربما لا يدرونها عن أنفسهم. ولم أتصور من قبل وجود مثل هؤلاء الأشرار الذين يثيرون في النفس المُقت والبغضاء نحوهم..

- صدقت يا صديقي العزيز.. لقد عَريت في هذه القصة عن سرائر بعض الأغنياء وذوي النفوذ في الكثير من المجتمعات سواء داخل بلادنا أم خارجها، وكيف ينظرون إلى الفقراء، وكيف يستغلون جهلهم وطيبتهم!

- كيف يُمكن أن نُقاوم أمثال هؤلاء يا نشأت؟

- لن تستطيع بمفردك يا صديقي، مع أنه مطلوب أن تحذر منهم.. فقد قامت الثورات الكثيرة ضد أمثالهم. كانوا أُسر مالكة في بعض البلاد، وربما تجدهم دولًا استعمارية في حالات أخرى، وربما تجدهم أحزابًا سياسية في بعض البلاد، ولكن لن يخلو أي مُجتمع من بعض الأشقياء المُتنمرين الذين ينظرون لغيرهم من الناس بهذه النظرة المتعالية في كل قرية وكل شارع وكل حارة!

- كم أشعر بالغضب نحوهم يا صديقي!

- يندر وجود من يفهم حقيقتهم يا صديقي.. فهم عند الفقراء والدُهماء أعزاء وأصحاب فضل عليهم! يحتاج المجتمع لأمثالك حتى يتم استعادة العدالة الاجتماعية فيه.. ولا تقلل من شأنك وتترك مجتمعك ينهشه هؤلاء دون جهود منك..

- جعلتني أشعر بهموم الدنيا أكثر وأكثر يا صديقي.. لا أعلم هل تُساعدني على إزالة همومي أم تُزيدها أضعافًا؟

- لن ينتصر أي إنسان على المشاعر السلبية التي تنتابه داخليًا كفرد أكثر من حماسته في أن ينظر إلى خارج نفسه ويَزود بشهامة عن مُحبيه ومجتمعه ضد كل مُعتدي وكل غاصب..

- شكرًا يا صديقي.. أنام حاليًا كل ليلة وكلي طموح وإيجابية بفضلك.. وماذا عن قصة الغد يا صديقي العزيز؟

- ستكون عن امرأة مُسنة فقيرة قد قاربت الجنون من زيادة مشاعر الوحدة التي تعيش فيها.. وأنا أستأذن منك الآن يا صديقي وفي انتظار لقاء الغد..

قاد مدحت صديقه إلى الباب ثم إلى الشارع وأوقف له سيارة أجرة وودعه بكل حُب:

- أراك غدًا يا صديقي.. دُمت لي سعيدًا مُعافىّ!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الجامعات الأميركية... تظاهرات طلابية دعما لغزة | #غرفة_الأخب


.. الجنوب اللبناني... مخاوف من الانزلاق إلى حرب مفتوحة بين حزب 




.. حرب المسيرات تستعر بين موسكو وكييف | #غرفة_الأخبار


.. جماعة الحوثي تهدد... الولايات المتحدة لن تجد طريقا واحدا آمن




.. نشرة إيجاز بلغة الإشارة - كتائب القسام تنشر فيديو لمحتجزين ي