الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ثالوث الأقانيم في عراق الأقاليم

ياسر المندلاوي

2006 / 10 / 26
مواضيع وابحاث سياسية


في تعاقب لا يخلو من الشبهة المستدعية للظن السيء، نمت إلى مسامع العراقيين توصيات لجنة بيكر بتقسيم العراق إلى ثلاثة أقاليم، وموافقة البرلمان العراقي على القانون الخاص بإنشائها. ومنذ اللحظة الأولى، يكتشف المرء بأن القانون تجاوز عدديا توصيات لجنة بيكر، فالأقاليم حسب بيكر ولجنته ثلاثة، بينما حسب القانون هي بعدد محافظات العراق في حد أقصى وأقليم واحد في حد أدنى هو حد إنتفاء الحاجة للقانون نفسه. ربما يتوهم أولئك الذين إمتهنوا الوهم، بأن التفارق العددي بين توصيات بيكر وقانون البرلمان، يخص المقدار الكمي دون الكيف النوعي، بينما حقائق الماضي القريب والحاظر الصعيب، تستنطق التمايزات والتوافقات في كل من المظهر والجوهر بين ما هو مطلوب أمريكيا وما هو مطلوب عراقيا في شخص النخب السياسية على إختلاف مشاربها.
إن المتتبع لمجريات الأحداث في العراق لا ينأى بفكره عن الإستنتاج بأن مشروع تقسيم العراق إلى ثلاثة أقاليم، إبتدأ أمريكيا مع نهاية حرب الخليج الثانية، وتحديدا، مع إنشاء مناطق الحظر في الجنوب والشمال لحماية الشيعة والأكراد من بطش نظام صدام الديكتاتوري ظاهرا، ولإستحداث تعارضات طائفية وقومية في النسيج الإجتماعي العراقي هدفا خفيا (وفي معلومة ذات مغزى إن عدد الشيعة والأكراد في بغداد وحدها يفوق عددهم في أية مدينة عراقية كانت مشمولة بقرار الحظر) . ومن تأريخه دأبت السياسة الأمريكية على تحويل مشروع الأقاليم من حاجة أمريكية إلى حاجة عراقية بوسائل سياسية وأخرى عنيفة بالغة القسوة، أدت في النهاية إلى تبلور مشروع الأقاليم في نسخته العراقية كما هو محدد في القانون. ولما كنت من أصحاب الظن السيء بالسياسة الأمريكية في العراق، فإنني لا أجد في الإندفاعة الأمريكية نحو فكرة الأقاليم، إستحضارا لجيمس مادسون في أوراقه الفيدرالية، ولا تلبية لآراء مونتيسيكو في تقسيم السلطات، وإنما خضوعا مطلقا للإستراتيجية الأمريكية الساعية نحو مشروع الشرق الأوسط الكبير، الذي يتطلب ضمن ما يتطلب، تجريد دول المنطقة وفي مقدمتها العراق من مستلزمات قوتها الإستراتيجية بشريا وإقتصاديا. وحيث أن العراق يمتلك كل مقومات الممانعة الإستراتيجية في كلا المجالين، فإن الوجهة الأمريكية كانت ولا تزال تجريد العراق من أسباب الممانعة حاضرا ومستقبلا، وما فكرة تقسيم العراق إلى أقاليم إلا واحدة من أدوات تحقيق الهدف الأمريكي في عراق الدولة والدويلات في آن واحد، وأعني عراق موحد شكلا ومفكك حقيقة، تماما كفكرة الأقانيم المستوحاة من اللاهوت المسيحي، التي تقضي بوجود ثلاثة جواهر(أقاليم) هي تجليات لجوهر واحد (العراق). وفي الطريق إلى هذا الهدف كان على المخططين الإستراتيجيين جعل فكرة تقسيم العراق إلى أقاليم حاجة عراقية، لإستحالة تنفيذها ما بقيت حاجة أمريكية في مواجهة النيسج الإجتماعي العراقي الموحد، فكانت الخطوة اللاحقة بعد مناطق الحظر الجوي، التأسيس للمحاصصة الطائفية والقومية في مؤتمر لندن لقوى المعارضة العراقية الذي إنعقد تحت إشراف أمريكي مباشر، وإستمرت تداعياتها لاحقا مع تأسيس مجلس الحكم وما تلاه من تأسيسات معروفة للعراقيين، ومن ثم تأجيج الصراعات الطائفية لإحداث القطيعة الإجتماعية بين مكونات الشعب العراقي بالشكل الذي يبرر قيام ثلاثة أقاليم، أقليم شيعي وأقليم سني وثالث كردي‘ غير أن جرعة الخراب كانت تفوق الحاجة الفعلية لقيام ثلاثة أقاليم وفق الطموحات الأمريكية، إذ تمكنت قوى محلية عراقية من تجاوز المحددات الأمريكية والإنتقال من فكرة الأقاليم (الأقانيم) الثلاثة تجليات لعراق (جوهر) واحد، إلى فكرة الكيانية شبه المستقلة في فيدراليات تقترب كثيرا من الكونفدراليات المرشحة للإنفصال، الأمر الذي أثار مخاوف دول المنطقة بقدر ما أثار مخاوف أمريكية عبر عنها بوش مؤخرا في معرض تعليقه على فكرة تقسيم العراق إلى ثلاثة أقاليم ورفضه القاطع لها في تحول غير مسبوق يؤكد غياب الثوابت في السياسة الأمريكية لصالح ثابت وحيد هو تحقيق الهيمنة الأمريكية بوسائل براغماتية لا يجيدها بوش بكل تأكيد. ومن هنا ينبغي النظر إلى قانون إنشاء الأقاليم على إنه حصيلة نهائية للتعارضات الفعلية بين الطموحات الأقاليمية للأطراف المتباينة، أمريكية وعراقية، ويبقى القول الفصل في بلوغ القانون لأهدافه وفق طموحات أي طرف من الأطراف المتباينة، رهن المتغيرات الواقعية التي لا تخلو من المفاجآت العاصفة التي قد تعصف بالقانون نفسه.
إن التدهور الأمني في مستوياته الراهنة يعود في بعض تفاصيله إلى حرب الفيدراليات التي ما إنفكت تلتهم الوشائج الإجتماعية بين العراقيين، إلتهامها للدماء التي تسفك على مذبح النزعات الطائفية والإثنية والعشائرية والجهوية، وربما العائلية أيضا. وبهذا المعنى يمكننا القول بأن حرب الفيدراليات في العراق هي بسماركية مقلوبة. فبينما دأب بسمارك على توحيد ألمانيا فيدراليا بالقوة الغاشمة، فإن الفيدراليين الدوليين والمحليين يرومون تمزيق العراق فيدراليا بالإكراه العمد والقتلل الجماعي والتهجير القسري. وهنا تكمن المفارقة الأمريكية - العراقية لوظيفة الفيدرالية في توحيد المجزأ وتجميع المبعثر، كما هي في جميع التجارب العالمية، لصالح وظيفة مغايرة تدل عليها الدماء التي تسقي شجرة الفيدرالية في كل حين.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. عمليات بحث وسط الضباب.. إليكم ما نعرفه حتى الآن عن تحطم مروح


.. استنفار في إيران بحثا عن رئيسي.. حياة الرئيس ووزير الخارجية




.. جهود أميركية لاتمام تطبيع السعودية وإسرائيل في إطار اتفاق اس


.. التلفزيون الإيراني: سقوط طائرة الرئيس الإيراني ناجم عن سوء ا




.. الباحث في مركز الإمارات للسياسات محمد زغول: إيران تواجه أزمة