الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


كل الألوان فيك عابثة

فطنة بن ضالي
كاتبة، شاعرة

(Fatna Bendali)

2023 / 5 / 2
الادب والفن


"كل الألوان فيك عابثة " قصيدة للشاعرة التونسية فاطمة نصيبي، تنم عن تجربة شعرية شعورية تعيشها الذات الشاعرة عبرت فيها عن معاناة الانسان في الحياة بأسلوب ينحو نحو الاتجاه العبثي، وقد عُرف هذا الاتجاه في الأدب المعاصر تأثرا بفلسفة العبث، إذ عبر" في الأدب تعبيرا وافيا عن انعدام المعنى وراء السلوك الإنساني في العالم المعاصر الذي فقد وحدة تمنح الإحساس بالانسجام والتوافق "1. عالم تضخمت مشاكله وتعقدت الحياة فيه وبدا بأسره بانه أكداس مختلطة من الشظايا الإنسانية وغير الإنسانية. وسنقارب المعنى والأسلوب في القصيدة. تقول الشاعرة :
كامراة اشتد بها الخريف
كفتاة انسكب الربيع منها
كرجل يشد الحزام للغياب
كطفل يودع غضه .
افتتحت الشاعرة قصيدتها بهذه الجملة الشعرية التي تشي بموقفها من الوجود ومما يجري في الواقع ومما آل إليه الوطن والانسان المواطن. حيث تدل الألوان على الواقع النفسي لمن يوظفونها في سياقات معينة حسب الاختيار، فيكون لها تأثير نفسي ما بين العواطف وردود الأفعال : منها مثلا ما يبعث على الفرح والسرور، وما يبعث على القلق والاضطراب ، وآخر على الحزن والكآبة، إلا أنها هنا عند الشاعرة تساوت في حكم واحد وهو الدلالة على العبث و اللاجدوى، وما يبعث ذلك من عدم الرضى من التحولات التغييرات التي شهدها الواقع، فشبهت الشاعرة حالتها وحالة الوطن بامرأة - فتاة -غادرها فصل الربيع وهو رمز العطاء والخصب، وأسلمها للخريف الذي أذبلها، وهي في عز الشباب، وبرجل يتأهب للرحيل والغياب غير آبه بالمسؤولية، حتى أتى الذبول على العنفوان، رامزة إلى عبثية الاقدار في ثورة الياسمين التي ولدت رضيعا لم يعرف شبابه قالت " كطفل يودع غضه" اي صباه ثم شبابه. وتدل "الألوان العابثة " في القصيدة على سلوك وأفعال الانسان. إذ استعارتها للدلالة على الواقع وعلى الرؤية المشوشة المضطربة، التي لا تتحقق معها السلامة النفسية للإنسان الحر، أساس الوجود، وتمكينه من تجويد ظروفه الواقعية بكل مستوياتها وتطورها. تقول في الخاتمة:
كم حاولت أن أكتبك
ضاحكا
فيكتبني الغضب .
غضب عارم واستياء تعيشه الذات الشاعرة، كما يعيشه الانسان المواطن في تفاصيل الحياة. وحيث إن " النص كيان زاخر بالحركة، طافح بالهدير والاندفاعات، يحمل معاني تمنح نفسها للقراءة مهما كانت عادية أو متعجلة، بل هو الذي يبني معانيه ويستلها من صميمه، من حركاته وصوره ورموزه وإيقاعه الشعري "، كما يقول محمد لطفي اليوسفي، فإن هذا النص صرخة من الشاعرة ومن الانسان الحائر عموما إنسان هذا العالم المعاصر الذي يغرق في الفوضى والغموض وعدم الفهم عالم يسوده القلق والخوف، تراكمت مشاكله وتعمقت. ولذلك فالنص محمل بالمعاني الرمزية الدالة على حالة التشظي والتبعثر و اللاجدوى عبرت فيها الشاعرة بشتى الصور الفنية عن معاناتها وقلقها ومعاناة وقلق الإنسان والمواطن التونسي، تجاه المعيش اليومي والمستقبل، حالة من الارتباك وفقدان المعنى وضبابية رؤية المستقبل. تقول:
كل شيء يتناثر
لم يعد للنوء معنى
وجهك مرتبك
وقلبي أخذته الرياح
إلى أن تقول:
أبحث عن طبيب
... يستأصل تاريخ ولادتي
أنا المعبأة بك يا أبي .
فإذا كانت "معاني النص عبارة عن حشود من الأبعاد المتناوبة بعضها يطفح على السطح، فيما يظل البعض الآخر رابضا في العمق مستترا يستعصي على المسك وينتظر الكشف "2، فما يطفح هنا على السطح هو هذا التعبير عن التشتت والضياع الواقعي والرمزي المعنوي قصد الانفلات من تناقضات العصر إلى السبل المؤدية إلى الانسجام والعيش الكريم في ظروف تضمن السلامة والكرامة. ومن الواضح أن أدب العبث من الاتجاهات التي تهدف إلى تخليص حياة الإنسان من التشتيت والتشويه وانعدام الرؤية وفقدان المعنى وكل الرواسب والشوائب والتناقضات والصراعات والهواجس التي تحرم الإنسان من الحياة المتناسقة الزاخرة بالمعاني الإنسانية وظلالها الوارفة 3. تقول الشاعرة:
أنا اكتب التاريخ على عجل
أسابق العواصف
(...)
كيف ألون التاريخ
كيف أرسم على البحر أغنيتي
(...)
كيف أمشي واقفة
كيف أشد أحلامي
كيف ارقص في كم العدم .
استغاثت الشاعرة بالآباء والأجداد محيلة إلى التاريخ باحثة في الضمائر عن الدواء الناجع، متسائلة أسئلة كبرى، كيف يمكنها أن تجابه العدم والعبث واللاجدوى، مبينة دور التاريخ في معالجة الوجود البشري لأن الإنسان كائن تاريخي خاضع للتطور والتفاعل مع المحيط الطبيعي و الاجتماعي ، كما أشارت إلى علاقة التاريخ الوطيدة بالتوثيق والتدوين، مؤكدة أن الانسان فاعل وصانع للتاريخ بقدر ما هو خاضع له، فللتاريخ حسب بن خلدون ظاهر وعمق ، فالظاهر هو مظاهر العمران وسرد الأحداث أما العمق والباطن فهو نظر وتعليل وعلم بالكيفيات والأسباب، لتحقيق التطور العلمي والفكري وما يتبعه من المظاهر المادية الدالة على ظاهر التاريخ، ذلك أن " التاريخ وفلسفة التاريخ تعنى في الوقائع التاريخية بنظرة فلسفية ، فتسعى لاكتشاف العوامل الأساسية التي تؤثر في سير الوقائع وتعمل على استنباط القوانين العامة التي تتطور بموجبها الأمم والدول على مر القرون والأجيال"4. وكأني هنا بالشاعرة تدعو الانسان التونسي والانسان المعاصر عموما إلى صنع التاريخ بمعنييه الظاهر والباطن. إذ للتاريخ دور استقبالي، فهو لا يهتم بالماضي لذاته ولكن للوعي بالمستقبل، وكشف العلات والأسباب المحركة للأحداث في الماضي والواقع تؤدي إلى الوعي بالأنشطة الإنسانية وطبيعة المجتمع في التطور والنمو وتستطيع التأثير في المستقبل. ولذلك تعبر الشاعرة عن هذا الواقع المرفوض معتبرة الانسان كائنا ينخرط ويتفاعل مع مجرى الأحداث و مع محيطه الطبيعي والاجتماعي، مؤكدة دوره كذات فاعلة في التطور وصنع المستقبل . تقول:
أراقص "زوربا "باكية
فيصرخ في
هات يدك.
يرمز "زوربا "5 إلى الانسان البسيط المحب للمهنة والعمل، من أجل العيش رغم التناقضات التي يتصف بها الواقع والحياة، فهو البطل اليوناني الذي قابله الكاتب نيكوس كازانتراكيس، بالحياة الواقعية، وهو أحد الرجال البسطاء يمتلك خبرة واسعة من تجاربه الحياتية، فقد عمل أعمالا لا تعد ولا تحصى، تنقل من مهنة إلى أخرى، حر لأبعد حد مومن بروعة الحياة الإنسانية مغامر زاهد ذو عزيمة، كانت حياته في البداية هادئة، هجر أسرته ، وبدأت رحلته مع رئيسه من اجل مشروع التنقيب عن الفحم بجزيرة كريت اليونانية ، وبعد أن فشل المشروع، يرقصان رقصة أخيرة على الشاطئ. قابلت الشاعرة بين الرقص و البكاء محيلة على التناقض الصارخ في واقع يبعث على الحزن والقلق. حتى قال المتنبي فيهذا المعنى :
لا تحسبوا رقصي بينكم طربا *** فالطير يرقص مذبوحا من الألم
يبدو أن صوت الشاعرة يهيمن على النص في مقابل صوت الانسان عموما والتونسي خاصة، لأن الانسان هو الفاعل في التاريخ، والتاريخ يتداخل فيه الموضوعي بالذاتي، والماضي بالحاضر، وهذا عبرت عنه الشاعرة في هذا النص في انسجام تام بين عالمها الرمزي ووعيها بالواقع، مستغلة الرموز وإحالاتها، في تكثيف المعنى. ويبدو أنها زاوجت بين الأسلوب الخبري والانشائي في نفس طويل في انسجام تام واتساق بين الألفاظ الموحية والصور الأدبية المجازية التي مكنتها من تعميق المعنى، وكذا الاستفهام الانكاري وتكرار بعض الأساليب وبعض التراكيب تأكيدا على رؤية الواقع الحالي الذي يبعث على العبث، وعلى مستقبلية مأمولة تتجاوز هذا الواقع مستعملة الرموز وإحالاتها التاريخية والاجتماعية حملتها بشحنات انفعالية تستشف من التعابير المستعملة التي أثثت عالمها الرمزي المعبر عن مأساة الواقعي في اختيار للأسلوب والصور وتأدية وتركيب المعاني وتعميقها.
الهوامش:
1-المذاهب الأدبية، د نبيل راغب، الهيأة المصرية العامة للكتاب،1977، ص240 .
2- كتاب المتاهات والتلاشي في النقد والشعر ، محمد لطفي اليوسفي ، المؤسسة العربية للدراسات و النشر، ط1،بيروت 2005، ص7.
3- المذاهب الأدبية ، ص250
4- https://books-library.net/files/books-library.online_noo49966b5018df295f3532b3-6211.pdf
5- https://www.arageek.com/bio/zorba-the-greek
مراكش في 27-4-2023.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كيف نجح الأمير الشاعر بدر بن عبدالمحسن طوال نصف قرن في تخليد


.. عمرو يوسف: أحمد فهمي قدم شخصيته بشكل مميز واتمني يشارك في ا




.. رحيل -مهندس الكلمة-.. الشاعر السعودي الأمير بدر بن عبد المحس


.. وفاة الأمير والشاعر بدر بن عبد المحسن عن عمر ناهز الـ 75 عام




.. الفلسطينيين بيستعملوا المياه خمس مرات ! فيلم حقيقي -إعادة تد